ميريام وارنر فييرا - الحــادثـة.. قصة قصيرة

منذ كم ليلة وكم أسبوع وأنا جاثمة في هذا السرير؟ لا أدري. لكن قبل قليل، امتدت يد ناعمة وطرية لتلمس خدي وتقيس ضغطي.

أحسست أن ثمة تياراً يسري في جسدي ويشلُّه مع رئتيّ، إضافة إلى تيبس في حلقي، حتى أنني لم أعد قادرة على التنفس. وبعد ذلك، غطت عينيّ ضبابة، واستقبلني بحر الكاريبي الحار، لتحتضنني موجاته وتأخذني إلى القاع، حيث مملكة المرجان القرمزي، في رقصة بحرية مفعمة بالفرح.

ها أنا الآن خارج المادة السائلة التي تثير في نفسي الاطمئنان. أين أنا؟ بدأ قلبي ينبض بإيقاع متسارع، وبت أشعر بوجود يد، تأخذ بيدي، وتذكرتُ دفأها فوق جسدي عندما كانت تمر من قبل. أجل، كنت أحبها، هي، من كل قلبي. ولكن، أيمكن للمرء أن لايحب من أحبَّه؟ أيمكن أبداً أن يحب من يعتقد أنه يحبه؟ إن اللامعقول الأكثر إثارة للألم هو أن يحبَّ المرء من لن يحبه أبداً.

عاد الماء، وغمرني السكون والهدوء. هناك، كان الأفق لايزال محمراً، وبعد حين، لفّهُ الظلام، فانزلقت السماء بخفة لتغرق في مياه البحر. لفّتني ضبابة خفيفة، وراحت النسيمات تداعب جسدي العاري، فيما أحالني الماء المحيط بي إلى حورية بحر، وأخذني في أعماقه اللجيّة. كان المرجان المسّنن بخفة يبتسم لي، ووجدت بصيص نور في الأعماق السحيقة.

من جديد ابتعد البحر، ولم أعد أرى شيئاً في الأفق. وأحسستُ بالثقل الذي يحيطني، وأنصتُّ لأغنية البحر الذي ينسحب بعيداً، فيما وجدني المد وحيداً على الرمل المبلل. ياللحزن!

فتحت عينيّ، ووجدت أن ثمة شعاعاً للشمس ينعكس على الجدار، وقرب السرير، ظلال شجرة مورقة. كان المكان ندياً، وثمة ورود حُمر وصُفر وبيض تجتمع في مزهرية كرستالية على طاولة يمين السرير، تضفي على المكان جواً من الفرح والانتعاش. وفي اليسار، ثمة أنابيب بلاستيكية شفافة متشابكة مع بعضها تربط جسدي بآلة مضيئة.

أخذتني غفوة ملونة، من الياقوت والزمرد إلى بحر طفولتي الذي يهدهد أحلامي، فجلستُ وقد أخفيت قدميّ في الرمل الحار، ورحت أتابع الموجات البيض المُزبدة وهي تتهاوى من حولي، وتؤرجحني، مع السرطانات الذهبية اللون التي كانت تخرج من ثقب، لتختفي بسرعة في ثقب آخر.

ابتعَد الماء الملحي، وتدفقت أفكاري، فبرزت صورة حمراء، ووصلت سيارة مسرعة، بقيت متسمرة، شاردة الفكر..

كانت الشمس تعلن عن بدء الصباح عندما وصلت هذه السيارة الحمراء المسرعة. ما الذي حدث؟ كنت أنظر إلى المشهد من فوق، كأنني مقذوفة في الفضاء، بفعل قوة غير مرئية كانت تجعلني معلقة. رأيت جسد امرأة وسط الطريق، مع بقع من الدم تغطي ثوبها الأبيض، وثمة سيارتان، إحداهما السيارة الحمراء، تصادمتا لترتمي إحداهما فوق الأخرى، كأنهما في لحظة عناق. وثمة مارّة يعلّقون على الاصطدام بضجة. كنت أسمعهم، كأنني هذه المرأة الملقاة على الطريق.

وصلت سيارة اسعاف تطلق صوتاً حاداً، ونزل منها رجلان بسرعة وأنحيا فوق جسد الضحية. أهي أنا؟ استمعت لصوتيهما من قريب، ثم لصدى تهكمهما وهما يرددان الكلمات نفسها. بعد ذلك قاما بوضع الجريحة على نقّالة وحملاها في سيارة الإسعاف... وحلَّ الصمت.

إنني أطفو مثل ريشة في مهب الريح، وأَصِلُ السحُب. ثم أشعر بالخوف من هذا الفراغ الذي يحطيني. وكان كل أملي هو العودة إلى البحر، وملامسة الموجات المزبِدة التي تكسيني طهارةً رائقة. لكن الماء انسحب، ليترك الساحل مقفراً.

ومن جديد، وصلت الأمواج وراحت تهدهدني وتثير اطمئناني. فشعرت بأنني أذوب في المادة السائلة، ولم أعد سوى موجة خفيفة. عاودتُ رؤية صباحات طفولتي الهادئة، وزهور الربيع المؤطرة بالندى في السهل الذي كنت أرتاده منذ الفجر، لأتأكد مما إذا كان يحبني قليلاً، أو كثيراً، أو بعنف؟

ومن دواخلي، كنت أسمع همس الأمواج توشوشني وتدعوني: "تعالي معنا، سنكسيكِ العدالة والحرية والوقار. وستنامين في سرير الحقيقة الذي يحرسه السلام. تعالي، سيسهر عليك حراس يقظون، حتى قدوم الزوج الذي سيأتيك من الجانب الآخر من الشاطئ، ومن وراء البحار والسهول والجبال الصغيرة، ويأخذ بيدك".



1711193641178.png

* (ولدت ميريام وارنر فييرا في Pointe-a-Pitre في مستعمرة غوادلوبيه الفرنسية في عام 1939، وهناك أمضت حقبة طويلة من طفولتها مع جدتها. وبعد سفرها إلى فرنسا أكملت دراستها الثانوية ثم عادت إلى دكار حيث نالت شهادة الدبلوم في المكتبات. تزوجت من كاتب السيناريو بولين فييرا Paulin Vieyra وهي تعيش في السنغال منذ أكثر من ثلاثين عاماً. لها روايات: "الجائزة الأولى"، "خطيب روزيتا"، "جواز سفر للجنة"، "الظلال القادم من الجسر").

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
في الأدب الإفريقي - ملف
المشاهدات
677
آخر تحديث
أعلى