ظهرت قصيدة النثر في الأدب العربي كشكل أدبي تعبيري اكتسب رسوخا وتنظيرا واضحا يعكس ثقافة شعرية واسعة وأفكار فلسفية عميقة الدلالة، فالشاعر يرسم أجواء قصيدته وفق منظوماته الفكرية الخاصة وحسب متطلبات منطقه الخاص. كما يعكس ترسانةً ضخمة من اللغة وتناصا إنسانيا وحضاريا مع نصوص انسانية وحضارات كثيرة.
و النص الذي بين أيدينا للشاعرة المغربية المتألقة والمبدعة ذات طاقة شعرية بارزة الدكتورة خديجة كربوب. وهو ضرب من القصيدة النثرية، قرأته عدة مرات فاستهوتني عرامة الإحساس فيه وأحسست باكتمال ولادته، وجميل إبداعه، معبرا عن ثقافة الشاعرة ومعرفتها الواسعة.
إليكم القصيدة
( الصرصار عاشق النمل
ندوس النمل الأبيض بأقدامنا ....يقال أنه كافر
نرمي بحبات الزرع في طريق النمل الأسود
أول درس تعلمته في حارتنا القديمة
وأيضا تعلمت أن النملة أجمل من الصرصار
أحرقت الناي ونسيت أصابعي بداخله
تئن الناعورة وهي ترمي بالدم الإفريقي
عجلى تريد النسيان
في ليلة كناوية كان الرجل الأبيض يرقص
وفي الصباحات عاد الى لونه
وعدت أثبت النجوم في جسدي الزنجي
وأنتظر الليل لأنه يشبهني
لا أحد يراني وأنا أجر تاريخ الهزائم والرجل الأبيض
وحزن مرقع يدعو الى الازدراء
مزقت الدرس الأول والثاني
وكنت أنا الصرصار الذي يغني للأطفال
ويعشق كل النمل)
العنوان فيه دلالة علائقية ستظهر بجلاء في الأسطر الشعرية، وستعود الشاعرة إلى هذه العلاقة في السطر الرابع لتبين هذه الدلالة. و تقع القصيدة في مقطوعتين من السطور بينها فسحة فراغية. تبدأ المقطوعة الأولى بمطلع حكائي انفعالي، فيه إشارة إلى ثنائية تضادية تتوزع بين الغيرة،والحسد، الغدر، والمنافسة ...( النمل الأبيض)، و الفرج والسرور، والنعمة والخير(النمل الأسود) حيث تقول:
ندوس النمل الأبيض بأقدامنا ....يقال أنه كافر
نرمي بحبات الزرع في طريق النمل الأسود
توسلت الشاعرة بالطباق بدءاً ( النمل الأبيض ≠ النمل الأسود)، لتعكس لنا مدى الصراع في قرارة النفس والغربة الوجدانية و شحن الجمل بالتجربة الشخصية الحيّة، بالإضافة إلى تقديمها الإيقاع الصوتي الموسيقي المتعاقب، لتنتقل بنا الشاعرة إلى تفجير معاناة وجدانية ذاتية تجمع بين الروح الموسيقية واحتراق الأنامل التي تصنع الفرح والبهجة في القلوب المعذبة. وفي استمرار خطية التعب النفسي تمتد الإشارة إلى ربط المعاناة بما يحيل على الفرح والسخاء في العادة ويظهر ذلك بجلاء في ربط نعير (صوتها) الناعورة بهدر الدم الافريقي، غير أن أنين الناعورة له بواعثه وأسبابه في حين كان أنين الدم الافريقي مبهماً لا وجه له، سوى أنه يشجي الحزين، فينثر المدامع على الخدّين إظهاراً لوجده الدفين. فالشاعرة في هذين السطرين اعتمدت تصويرا بيانيا، أظهرت خلاله مقدرتها التوضيحية، فمنحت الناعورة حياة -"تئن" -وجعلتها تتحرك وهي بلا روح.
إن المتأمل في أسطر المقطوعة الثانية من القصيدة سيكتشف أن لها موقفا نقديا من الحياة والمجتمع، وأن الإنسان فيه هو البؤرة التي تشع حلما لحياة أفضل حيث تذهب بنا إلى رمزية الجسد باعتباره خزانا تبلور عبره الذات الإنسانية حسب السياقات التي تتحرك في كنفها، وتمسرح لغاتها بأشكال وصور متعددة التمظهر كالإشارات أو الإيماءات أو الحركات، أو عبر اللمس أو النظر والصراخ أو الغناء، أو بواسطة الرقص ومختلف التعابير الجسدية المعبأة بحمولة ثقافية ما. تقول:
في ليلة كناوية كان الرجل الأبيض يرقص
وفي الصباحات عاد إلى لونه
هنا نلمس طقوس جماعة " كناوة" التي تقيم في ثنايا إشاراتها الراقصة تساؤلات جمة يمررها الجسد المقنع بألوان من الألاعيب الطقوسية، فيعيش الجسد " الكناوي" صورا متعددة روحانية و امتلاكية و جمالية و استعراضية...
ثم اقرأ معي باقي المقاطع:
وعدت أثبت النجوم في جسدي الزنجي
وأنتظر الليل لأنه يشبهني
لا أحد يراني وأنا أجر تاريخ الهزائم والرجل الأبيض
وحزن مرقع يدعو الى الازدراء
مزقت الدرس الأول والثاني
وكنت أنا الصرصار الذي يغني للأطفال
ويعشق كل النمل
إنها مقاطع مكثفة بعناية توضح عاطفة الشاعرة الجياشة وحب الإنسان ورغبته في التحرر والانعتاق من القيود
فالجسد الزنجي يلتقي ولفظة الليل في صفة الإظلام ولا سبيل للتخلص من تلك الصفة الحالكة، إلا بتثبيت نجوم تبركا بها وبنورها وهنا نلمس الرغبة الجامحة في الانعتاق.
إن ما يفاجئنا في هذا النص هو تلك القدرة الكبيرة على التكثيف الممض لرسم مستقبل مضيئ. بالإضافة إلى نفي الزمان والمكان وما يرتبط بهما من مفاهيم منطقية ومنح الأولوية للكلمة بشكل عام.
وفي استمرار عملية تأملك وتحليلك للأسطر تجد نفسك تستوحي إيحاءات متولدة من النص أو ملازمة له . وتستشف اللقطات الموصوفة والتي تتراوح بين الواقع المعيش والواقعية الممكنة، كما تلمس تلك الدرامية المعتمدة على المفارقات في الموقف والصورة و الخيال المبني على الواقع. فقد ابتدأت القصيدة بفعل حركي واختتمت بفعل وجداني صورا لنا ندوبا من واقع معاصر وفي ذلك استمرارية وطوافا على الألم. باعتماد جماليات مبتكرة تتأسس على رؤية الشاعرة للواقع المادي الخارجي بمنظور جديد ، تلك التي تنعكس على علاقات الألفاظ ، وبنية التراكيب ، وقوة التخييل ، وجدة الرمز.
و النص الذي بين أيدينا للشاعرة المغربية المتألقة والمبدعة ذات طاقة شعرية بارزة الدكتورة خديجة كربوب. وهو ضرب من القصيدة النثرية، قرأته عدة مرات فاستهوتني عرامة الإحساس فيه وأحسست باكتمال ولادته، وجميل إبداعه، معبرا عن ثقافة الشاعرة ومعرفتها الواسعة.
إليكم القصيدة
( الصرصار عاشق النمل
ندوس النمل الأبيض بأقدامنا ....يقال أنه كافر
نرمي بحبات الزرع في طريق النمل الأسود
أول درس تعلمته في حارتنا القديمة
وأيضا تعلمت أن النملة أجمل من الصرصار
أحرقت الناي ونسيت أصابعي بداخله
تئن الناعورة وهي ترمي بالدم الإفريقي
عجلى تريد النسيان
في ليلة كناوية كان الرجل الأبيض يرقص
وفي الصباحات عاد الى لونه
وعدت أثبت النجوم في جسدي الزنجي
وأنتظر الليل لأنه يشبهني
لا أحد يراني وأنا أجر تاريخ الهزائم والرجل الأبيض
وحزن مرقع يدعو الى الازدراء
مزقت الدرس الأول والثاني
وكنت أنا الصرصار الذي يغني للأطفال
ويعشق كل النمل)
العنوان فيه دلالة علائقية ستظهر بجلاء في الأسطر الشعرية، وستعود الشاعرة إلى هذه العلاقة في السطر الرابع لتبين هذه الدلالة. و تقع القصيدة في مقطوعتين من السطور بينها فسحة فراغية. تبدأ المقطوعة الأولى بمطلع حكائي انفعالي، فيه إشارة إلى ثنائية تضادية تتوزع بين الغيرة،والحسد، الغدر، والمنافسة ...( النمل الأبيض)، و الفرج والسرور، والنعمة والخير(النمل الأسود) حيث تقول:
ندوس النمل الأبيض بأقدامنا ....يقال أنه كافر
نرمي بحبات الزرع في طريق النمل الأسود
توسلت الشاعرة بالطباق بدءاً ( النمل الأبيض ≠ النمل الأسود)، لتعكس لنا مدى الصراع في قرارة النفس والغربة الوجدانية و شحن الجمل بالتجربة الشخصية الحيّة، بالإضافة إلى تقديمها الإيقاع الصوتي الموسيقي المتعاقب، لتنتقل بنا الشاعرة إلى تفجير معاناة وجدانية ذاتية تجمع بين الروح الموسيقية واحتراق الأنامل التي تصنع الفرح والبهجة في القلوب المعذبة. وفي استمرار خطية التعب النفسي تمتد الإشارة إلى ربط المعاناة بما يحيل على الفرح والسخاء في العادة ويظهر ذلك بجلاء في ربط نعير (صوتها) الناعورة بهدر الدم الافريقي، غير أن أنين الناعورة له بواعثه وأسبابه في حين كان أنين الدم الافريقي مبهماً لا وجه له، سوى أنه يشجي الحزين، فينثر المدامع على الخدّين إظهاراً لوجده الدفين. فالشاعرة في هذين السطرين اعتمدت تصويرا بيانيا، أظهرت خلاله مقدرتها التوضيحية، فمنحت الناعورة حياة -"تئن" -وجعلتها تتحرك وهي بلا روح.
إن المتأمل في أسطر المقطوعة الثانية من القصيدة سيكتشف أن لها موقفا نقديا من الحياة والمجتمع، وأن الإنسان فيه هو البؤرة التي تشع حلما لحياة أفضل حيث تذهب بنا إلى رمزية الجسد باعتباره خزانا تبلور عبره الذات الإنسانية حسب السياقات التي تتحرك في كنفها، وتمسرح لغاتها بأشكال وصور متعددة التمظهر كالإشارات أو الإيماءات أو الحركات، أو عبر اللمس أو النظر والصراخ أو الغناء، أو بواسطة الرقص ومختلف التعابير الجسدية المعبأة بحمولة ثقافية ما. تقول:
في ليلة كناوية كان الرجل الأبيض يرقص
وفي الصباحات عاد إلى لونه
هنا نلمس طقوس جماعة " كناوة" التي تقيم في ثنايا إشاراتها الراقصة تساؤلات جمة يمررها الجسد المقنع بألوان من الألاعيب الطقوسية، فيعيش الجسد " الكناوي" صورا متعددة روحانية و امتلاكية و جمالية و استعراضية...
ثم اقرأ معي باقي المقاطع:
وعدت أثبت النجوم في جسدي الزنجي
وأنتظر الليل لأنه يشبهني
لا أحد يراني وأنا أجر تاريخ الهزائم والرجل الأبيض
وحزن مرقع يدعو الى الازدراء
مزقت الدرس الأول والثاني
وكنت أنا الصرصار الذي يغني للأطفال
ويعشق كل النمل
إنها مقاطع مكثفة بعناية توضح عاطفة الشاعرة الجياشة وحب الإنسان ورغبته في التحرر والانعتاق من القيود
فالجسد الزنجي يلتقي ولفظة الليل في صفة الإظلام ولا سبيل للتخلص من تلك الصفة الحالكة، إلا بتثبيت نجوم تبركا بها وبنورها وهنا نلمس الرغبة الجامحة في الانعتاق.
إن ما يفاجئنا في هذا النص هو تلك القدرة الكبيرة على التكثيف الممض لرسم مستقبل مضيئ. بالإضافة إلى نفي الزمان والمكان وما يرتبط بهما من مفاهيم منطقية ومنح الأولوية للكلمة بشكل عام.
وفي استمرار عملية تأملك وتحليلك للأسطر تجد نفسك تستوحي إيحاءات متولدة من النص أو ملازمة له . وتستشف اللقطات الموصوفة والتي تتراوح بين الواقع المعيش والواقعية الممكنة، كما تلمس تلك الدرامية المعتمدة على المفارقات في الموقف والصورة و الخيال المبني على الواقع. فقد ابتدأت القصيدة بفعل حركي واختتمت بفعل وجداني صورا لنا ندوبا من واقع معاصر وفي ذلك استمرارية وطوافا على الألم. باعتماد جماليات مبتكرة تتأسس على رؤية الشاعرة للواقع المادي الخارجي بمنظور جديد ، تلك التي تنعكس على علاقات الألفاظ ، وبنية التراكيب ، وقوة التخييل ، وجدة الرمز.