لو سئلت عن رأيي في أجمل دواوين محمود درويش، لأجبت بلا تردد: ورد أقل (1986). هذا اجتهاد شخصي وذائقة شخصية أيضاً. ربما كتب درويش قصائد تلك المجموعة بدم قلبه. وفي المجموعة قصيدة عنوانها: نخاف على حلم: لا تصدق فراشاتنا. والفراشات هن الزوجات، فالقصيدة تنتهي بأسطر تقول لنا إن دال الفراشة يعني الزوجة:
"نخاف عليك ومنك نخاف، اتضحنا معاً، لا تصدق إذن صبر زوجاتنا/ سينسجن ثوبين، ثم يبعن عظام الحبيب ليبتعن كأس الحليب لأطفالنا".
كان درويش يوم كتب القصيدة يقيم في باريس، ولم يكن مضى على الخروج من بيروت سوى أربعة أعوام شهدت مذابح صبرا وشاتيلا واقتتال إخوة الدرب. هل سمع الشاعر حكايا نساء الشهداء، حكايا أطفالهم وبناتهم وأمهاتهم؟ ربما.
سأتذكر قصيدة درويش وأنا أقرأ رواية "حليب التين" لسامية عيسى، الرواية الصادرة هذا العام (2010) عن دار الآداب في بيروت. ولكنني لم أتذكر قصيدة درويش وحسب. لقد تذكرت قصصاً قصيرة وروايات، فالشيء بالشيء يذكر.
في ستينيات ق20 كتبت سميرة عزام القاصة الفلسطينية البارزة قصة "لأنه يحبهم" التي أدرجت في مجموعتها "الساعة والإنسان" (1964). وفي القصة يشعل فلسطيني النار في مخازن وكالة الغوث. لماذا؟ لأنه شاهد أبناء قومه يتساقطون واحداً واحداً إثر النكبة. المزارع الطيب في فلسطين يفقد في المنفى الكرامة، لأنه فقد الأرض. وزوجة الشهيد اضطرت، لمواصلة حياتها، أن تمارس البغاء: "لم يكن لنا سواه" ولما ماتت أمي في هجرتنا لم يبق أمامي إلا هذه الطريق". هل كنا نحن القراء نستسيغ هذا الكلام، حين كنا نقرأه؟
في سبعينيات ق20، ستصدر مجموعة قصصية مشتركة عنوانها: 27 قصة قصيرة من الوطن المحتل، وسينشر القاص جمال بنورة فيها قصة عنوانها: فتاة اسمها فلسطين، وفي القصة تضطر الفتاة لممارسة الجنس بعد أن فقدت معيلها في حرب 1948م. وهي قبل أن تقدم على ذلك لجأت الى أقاربها لتقيم عندهم، غير أن أحد أبناء العائلة استغلها جنسياً، ومن ثم لفظتها العائلة، لتجد نفسها بلا مأوى، وهكذا تضطر لممارسة الرذيلة. هل تقبلنا، يوم ناقشنا المجموعة، في نابلس أو في رام الله أو في غزة – لم أعد أذكر – هل تقبلنا فكرة القصة؟ لا أظن هذا. نعم لا أظن أننا استسغنا أن تمارس زوجة الشهيد البغاء حتى تعيش، ولا أظن أننا وافقنا جمال بنورة رأيه. وقبل أعوام قليلة أصدرت اسطفان فلورا بقلة مذكراتها: مذكرات هانية، وصورت حياتها وحياة جدتها، بعد هجرتهما من يافا وفقدان الرجال. لم تقترب، وهي تصف معاناتها، مما اقترب منه بنورة ومن قبله سميرة عزام، ولكنها أتت على حياة الشقاء والبؤس التي مرت بها.
في العام 2001 صدرت عن دار الأسوار في عكا رواية عنوانها "أجفان عكا" لحنان باكير. وما إن فرغت من قراءة الرواية حتى تذكرت حكايات رويت على مسمعي. أبو محمد ط.. روى لي، ربما ليتطهر، ما كان يحدث في مخيمنا في الخمسينيات والستينيات من ق20. وكنت دونت ما رواه لأكتبه في قصصه، غير أن القصص ضاعت. كان ضباط الشرطة، أحياناً، قساة وبلا رحمة. كانوا كذلك مع بعض النسوة. [تنتظر المرأة التي تأخرت في العودة الى مخيم الفارعة سيارة، ويحل المساء، فيستغل الشرطي الحدث و... و... . والشرطي يتفق مع بعض معارفه ليلاعبوا فلاناً لفترة طويلة، ويذهب الى بيته لـ... ولـ... كلام لا يقال]. حنان باكير تنقد بعض الثوريين الذين غدوا بلا أخلاق. يحاول أحدهم اصطحاب امرأة، ويعرض عليها الخروج معه فترفض، ما يجعله يتهمها بالعمالة: "هذه المرأة مطلوبة للتحقيق بتهمة عمالتها للمخابرات العربية.. كنت أحاول جس نبضها والتحقيق معها بشكل غير مباشر قبل اعتقالها، فلا تفسد عملنا يا أخ ديب" (ص118) وتكون هي أبعد ما تكون عن العمالة. إنها امرأة شريفة نظيفة.
مؤخراً سأقرأ رواية "حليب التين" لسامية عيسى، وسأقرأ على صفحة الغلاف الأخيرة الأسطر التالية عن المؤلفة: كاتبة وإعلامية فلسطينية، عملت في جريدتي "السفير" و"النهار"، وناشطة في مجال حقوق المرأة، تعمل حالياً منتجة برامج في تلفزيون دبي. وكان ما حفزني على قراءة "حليب التين" ما قرأته من مراجعات لها قام بها فيصل دراج وفاروق وادي. وسأسأل نفسي، بعد الانتهاء من قراءتها السؤال التالي: أين كنا.. أين صرنا؟
سأتذكر رواية غسان كنفاني "أم سعد". كانت أم سعد تعاني من الذل، وكانت تحتمل قسوة حياة المخيم، وقسوة الحياة في بيروت، فقد كانت تنظف البيوت حتى تعيل أسرتها، حين تقاعس الزوج وهرب من مشاكله بشرب الخمر. لم تمارس أم سعد الرذيلة، واختارت الكفاح، وعملت في بيت الراوي/ غسان، ولم يستغلها، وإنما أخذ يتعلم منها. هل تذكرون ما كتبه عنها في مقدمة روايته: أم سعد امرأة حقيقية، أعرفها جيداً، وما زلت أراها دائماً، وأحادثها، وأتعلم منها، وتربطني بها قرابة ما... لقد علمتني أم سعد كثيراً ومع أنها كانت "تقف تحت سقف البؤس الواطئ في الصف العالي من المعركة، وتدفع، وتظل تدفع أكثر من الجميع".
وما بين "أم سعد" (1969) و"حليب التين" (2010) أربعون عاماً وعاماً، فكيف بدت النماذج النسوية في الأخيرة؟
قويت الثورة واشتدت وأحيت الروح في الفلسطيني في لبنان، ثم جاء العام 1982 ليشهد خروجها، وعلى أثره ابتدأت مرحلة قاسية صعبة في حياة الفلسطينيين: المجازر والحصار واستمرار الحرب الأهلية، والتضييق على المخيمات وسكانها في جوانب عديدة، والشتات ثم العودة الى بقايا الوطن الفلسطيني، واندلاع انتفاضة الأقصى. هل غدا حال الفلسطيني حال الناس يوم القيامة: يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت. وهل انشغل الفلسطينيون في كل مكان بأنفسهم ونسوا إخوانهم في لبنان.
تعيش صديقة في لبنان، وتحب شاباً من جيرانها في المخيم، وتتزوج منه، وتقيم في بيت أمه، وتخلف منه ثلاثة أطفال، ثم يستشهد الأب، ويكون على صديقة أن ترعى أطفالها وحماتها ثم تمل من حياة المخيم، وتغادر الى بيروت ومن ثم الى دبي. ما الذي دفعها الى ترك أبنائها وحماتها؟ أهو استغلال مسؤول التنظيم لها، ومحاولته ابتزازها حين يعطيها المخصصات؟ أم أنه شبابها، فما زالت في ريعانه؟
في دبي تستغل صديقة من الكوافير (نوال) التي كان يفترض أن تساعدها وتعمل معها في الصالون. الصالون صالون في الظاهر، لكنه واجهة ليس إلا. ولا تحمي ثقافة صديقة، وهي ثقافة ماركسية إذ كان زوجها مناضلاً مثقفاً عمل على تثقيفها، لا تحمي الجسد وحاجاته، وسرعان ما تمارس البغاء. هل نكرر مع محمود درويش: لا تصدق إذن صبر زوجاتنا؟ هل كان ما كتبته سميرة عزام وجمال بنورة وحنان باكير مبالغاً فيه؟ وهل تبالغ سامية عيسى أيضاً فيما صورت وكتبت؟
في روايته "رجال في الشمس" (1963) يقتل كنفاني أبطالها، لأنهم سافروا إلى الكويت وابتعدوا عن فلسطين التي لم ير حلاً للفلسطينيين خارجها، فالحياة في المنفى بؤس. كان هذا في العام 1963. وفي العام 2010 لا يجد الفلسطيني الحل إلا في الهجرة إلى الدنمارك والسويد. وهكذا تسافر فاطمة، وقبلها أحفادها، ومن ثم صديقة إلى الدنمارك علهم يجدون استقراراً هناك. "حليب التين" رواية صادقة. هل نصدق ما ورد فيها؟ وهل تحقق ما كتبه درويش: لا تصدق إذن صبر زوجاتنا؟ لست أدري.
عادل الأسطة
2010-11-14
"نخاف عليك ومنك نخاف، اتضحنا معاً، لا تصدق إذن صبر زوجاتنا/ سينسجن ثوبين، ثم يبعن عظام الحبيب ليبتعن كأس الحليب لأطفالنا".
كان درويش يوم كتب القصيدة يقيم في باريس، ولم يكن مضى على الخروج من بيروت سوى أربعة أعوام شهدت مذابح صبرا وشاتيلا واقتتال إخوة الدرب. هل سمع الشاعر حكايا نساء الشهداء، حكايا أطفالهم وبناتهم وأمهاتهم؟ ربما.
سأتذكر قصيدة درويش وأنا أقرأ رواية "حليب التين" لسامية عيسى، الرواية الصادرة هذا العام (2010) عن دار الآداب في بيروت. ولكنني لم أتذكر قصيدة درويش وحسب. لقد تذكرت قصصاً قصيرة وروايات، فالشيء بالشيء يذكر.
في ستينيات ق20 كتبت سميرة عزام القاصة الفلسطينية البارزة قصة "لأنه يحبهم" التي أدرجت في مجموعتها "الساعة والإنسان" (1964). وفي القصة يشعل فلسطيني النار في مخازن وكالة الغوث. لماذا؟ لأنه شاهد أبناء قومه يتساقطون واحداً واحداً إثر النكبة. المزارع الطيب في فلسطين يفقد في المنفى الكرامة، لأنه فقد الأرض. وزوجة الشهيد اضطرت، لمواصلة حياتها، أن تمارس البغاء: "لم يكن لنا سواه" ولما ماتت أمي في هجرتنا لم يبق أمامي إلا هذه الطريق". هل كنا نحن القراء نستسيغ هذا الكلام، حين كنا نقرأه؟
في سبعينيات ق20، ستصدر مجموعة قصصية مشتركة عنوانها: 27 قصة قصيرة من الوطن المحتل، وسينشر القاص جمال بنورة فيها قصة عنوانها: فتاة اسمها فلسطين، وفي القصة تضطر الفتاة لممارسة الجنس بعد أن فقدت معيلها في حرب 1948م. وهي قبل أن تقدم على ذلك لجأت الى أقاربها لتقيم عندهم، غير أن أحد أبناء العائلة استغلها جنسياً، ومن ثم لفظتها العائلة، لتجد نفسها بلا مأوى، وهكذا تضطر لممارسة الرذيلة. هل تقبلنا، يوم ناقشنا المجموعة، في نابلس أو في رام الله أو في غزة – لم أعد أذكر – هل تقبلنا فكرة القصة؟ لا أظن هذا. نعم لا أظن أننا استسغنا أن تمارس زوجة الشهيد البغاء حتى تعيش، ولا أظن أننا وافقنا جمال بنورة رأيه. وقبل أعوام قليلة أصدرت اسطفان فلورا بقلة مذكراتها: مذكرات هانية، وصورت حياتها وحياة جدتها، بعد هجرتهما من يافا وفقدان الرجال. لم تقترب، وهي تصف معاناتها، مما اقترب منه بنورة ومن قبله سميرة عزام، ولكنها أتت على حياة الشقاء والبؤس التي مرت بها.
في العام 2001 صدرت عن دار الأسوار في عكا رواية عنوانها "أجفان عكا" لحنان باكير. وما إن فرغت من قراءة الرواية حتى تذكرت حكايات رويت على مسمعي. أبو محمد ط.. روى لي، ربما ليتطهر، ما كان يحدث في مخيمنا في الخمسينيات والستينيات من ق20. وكنت دونت ما رواه لأكتبه في قصصه، غير أن القصص ضاعت. كان ضباط الشرطة، أحياناً، قساة وبلا رحمة. كانوا كذلك مع بعض النسوة. [تنتظر المرأة التي تأخرت في العودة الى مخيم الفارعة سيارة، ويحل المساء، فيستغل الشرطي الحدث و... و... . والشرطي يتفق مع بعض معارفه ليلاعبوا فلاناً لفترة طويلة، ويذهب الى بيته لـ... ولـ... كلام لا يقال]. حنان باكير تنقد بعض الثوريين الذين غدوا بلا أخلاق. يحاول أحدهم اصطحاب امرأة، ويعرض عليها الخروج معه فترفض، ما يجعله يتهمها بالعمالة: "هذه المرأة مطلوبة للتحقيق بتهمة عمالتها للمخابرات العربية.. كنت أحاول جس نبضها والتحقيق معها بشكل غير مباشر قبل اعتقالها، فلا تفسد عملنا يا أخ ديب" (ص118) وتكون هي أبعد ما تكون عن العمالة. إنها امرأة شريفة نظيفة.
مؤخراً سأقرأ رواية "حليب التين" لسامية عيسى، وسأقرأ على صفحة الغلاف الأخيرة الأسطر التالية عن المؤلفة: كاتبة وإعلامية فلسطينية، عملت في جريدتي "السفير" و"النهار"، وناشطة في مجال حقوق المرأة، تعمل حالياً منتجة برامج في تلفزيون دبي. وكان ما حفزني على قراءة "حليب التين" ما قرأته من مراجعات لها قام بها فيصل دراج وفاروق وادي. وسأسأل نفسي، بعد الانتهاء من قراءتها السؤال التالي: أين كنا.. أين صرنا؟
سأتذكر رواية غسان كنفاني "أم سعد". كانت أم سعد تعاني من الذل، وكانت تحتمل قسوة حياة المخيم، وقسوة الحياة في بيروت، فقد كانت تنظف البيوت حتى تعيل أسرتها، حين تقاعس الزوج وهرب من مشاكله بشرب الخمر. لم تمارس أم سعد الرذيلة، واختارت الكفاح، وعملت في بيت الراوي/ غسان، ولم يستغلها، وإنما أخذ يتعلم منها. هل تذكرون ما كتبه عنها في مقدمة روايته: أم سعد امرأة حقيقية، أعرفها جيداً، وما زلت أراها دائماً، وأحادثها، وأتعلم منها، وتربطني بها قرابة ما... لقد علمتني أم سعد كثيراً ومع أنها كانت "تقف تحت سقف البؤس الواطئ في الصف العالي من المعركة، وتدفع، وتظل تدفع أكثر من الجميع".
وما بين "أم سعد" (1969) و"حليب التين" (2010) أربعون عاماً وعاماً، فكيف بدت النماذج النسوية في الأخيرة؟
قويت الثورة واشتدت وأحيت الروح في الفلسطيني في لبنان، ثم جاء العام 1982 ليشهد خروجها، وعلى أثره ابتدأت مرحلة قاسية صعبة في حياة الفلسطينيين: المجازر والحصار واستمرار الحرب الأهلية، والتضييق على المخيمات وسكانها في جوانب عديدة، والشتات ثم العودة الى بقايا الوطن الفلسطيني، واندلاع انتفاضة الأقصى. هل غدا حال الفلسطيني حال الناس يوم القيامة: يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت. وهل انشغل الفلسطينيون في كل مكان بأنفسهم ونسوا إخوانهم في لبنان.
تعيش صديقة في لبنان، وتحب شاباً من جيرانها في المخيم، وتتزوج منه، وتقيم في بيت أمه، وتخلف منه ثلاثة أطفال، ثم يستشهد الأب، ويكون على صديقة أن ترعى أطفالها وحماتها ثم تمل من حياة المخيم، وتغادر الى بيروت ومن ثم الى دبي. ما الذي دفعها الى ترك أبنائها وحماتها؟ أهو استغلال مسؤول التنظيم لها، ومحاولته ابتزازها حين يعطيها المخصصات؟ أم أنه شبابها، فما زالت في ريعانه؟
في دبي تستغل صديقة من الكوافير (نوال) التي كان يفترض أن تساعدها وتعمل معها في الصالون. الصالون صالون في الظاهر، لكنه واجهة ليس إلا. ولا تحمي ثقافة صديقة، وهي ثقافة ماركسية إذ كان زوجها مناضلاً مثقفاً عمل على تثقيفها، لا تحمي الجسد وحاجاته، وسرعان ما تمارس البغاء. هل نكرر مع محمود درويش: لا تصدق إذن صبر زوجاتنا؟ هل كان ما كتبته سميرة عزام وجمال بنورة وحنان باكير مبالغاً فيه؟ وهل تبالغ سامية عيسى أيضاً فيما صورت وكتبت؟
في روايته "رجال في الشمس" (1963) يقتل كنفاني أبطالها، لأنهم سافروا إلى الكويت وابتعدوا عن فلسطين التي لم ير حلاً للفلسطينيين خارجها، فالحياة في المنفى بؤس. كان هذا في العام 1963. وفي العام 2010 لا يجد الفلسطيني الحل إلا في الهجرة إلى الدنمارك والسويد. وهكذا تسافر فاطمة، وقبلها أحفادها، ومن ثم صديقة إلى الدنمارك علهم يجدون استقراراً هناك. "حليب التين" رواية صادقة. هل نصدق ما ورد فيها؟ وهل تحقق ما كتبه درويش: لا تصدق إذن صبر زوجاتنا؟ لست أدري.
عادل الأسطة
2010-11-14