لم أدرك أيامها أن صاحب الساقين النحيلين والوجه الضامر الذي يقف بين أعواد الهيش الهائجة فوق البركة الراكدة بوسعه أن يمنح أهل قريتي كل هذه الراحة. كنت أراه في الطلة الأولى للشمس على بيوتنا الخفيضة، يهبط من فوق الجسر متقافزا كأن تحته جمرًا، وفي يده منجل يلمع، ثم يغيب بين الشواشي الخضراء فلا يبين منه شيء، وحين يخرج بعد ساعات من الغياب يكون مخفيًا بين كومة من الديس والهيش، يمضي تحتها إلى بيته الواقف عند أطراف بلدتنا.
كنت أراه أحيانًا ظاهرًا بجلبابه الممزق عند ركبتيه جاثيًا إلي جانب الجسر، يغالب نبات الحلفا، ويغرس المنجل في جذوره المتشبثة بالتراب والقش، فيطيح به صريعًا تحت قدميه، ثم يجمعه أكوامًا متتابعة، مربوطة خلفه بعناية، ويحملها على كتفه اليمني مطوقًا إياها بذراع طويلة نحيلة.
تتجاور أكوام الديس والحلفا، فيفردها في بساط يمتد أمتارًا، ثم يضربها بعصا قطعها من شجرة صفاف عجوز، تهدي فروعها لماء الترعة الشحيح. يمسح جبينه المتصبب عرقًا براحة يده، أو بطرف جلبابه، ويجلس القرفصاء، دافعًا كفيه في أعواد الديس والحلفا يلضمها على مهل، مطلقًا عقيرته بغناء عذب، يسمعه كل العابرين، فيقفون قليلًا، وكل منهم ينتظر هديته، مدفوعة الأجر.
الهدية إما حصيرة لينة من الديس، أو خشنة من الحلفا، ولكل ثمنها وأيامها، فالأولى للصيف القائظ، حين تستلقي عليها الأجساد المكدودة في الغرف المقبضة التي تغالب العتمة والصمت، والثانية لأيام الشتاء القارص حيث يمنح احتكاك الأجساد بها بعض دفء مبتغى.
كان أهل قريتي يسمونه "الحُصَرِي"، وكنت أحسب أن هذا اسمه، لكن أبي قال لي إن اسمه "جابر العراقي"، وأنه غريب، جاء إلينا قبل سنين، ولم يستغن عنه أحد، وأنه قد ورث حرفته عن أـبيه عن جده إلى نهاية الأسماء الخمسة المتتابعة التي يحفظها ويقول:
ـ تربينا على أن نريح خلق الله.
في هذه الأيام كانت فرشتنا من هذه الحصر، لا أسِّرة تحتضن مراتب القطن والأسفنج، ولا أكلمة، ولا سجاجيد مختلفة ألوانها وأشكالها، إنما بُسط من الديس والحلفا، عريضة طويلة، على قدر نومنا العميق أو المتقطع حسب الأحوال التي يمنحنا إياها الكدح في الحقول، وخلف البهائم، وجلسات المصاطب الضاجة بالثرثرة في أول الليل.
لكن أهل قريتي لم يتركوه يصنع راحتهم وحده، فعلى باب الصبا دخلت إلى بيوتنا الحصر المصنوعة من البلاستيك المجدول بين أنياب المكن في مصانع لا نراها. كان صانعوها يتفنون في سبكها وتلوينها، فيتتابع فيها الأخضر والأصفر والأزرق والأحمر وبينها ألوان عوان بين كل هذا، وبعضها كانت تتوسطه صور ورود ورؤوس حمام وفراشات وسنابل قمح ومربعات مُهندسة في عناية.
كنا نرى الآباء والأمهات قادمات من سوق البندر وعلى الرؤوس حصر البلاستيك ملفوفة ومربوطة في إحكام بخيط دوبارة يشاغب طرفه المتدلي الريح الخفيفة، ما إن يُفك حتى ينفرد الحصير ملتصقًا بأرضيات الصالات والغرف متفاوتة الأحجام، لكن سمكه النحيل لم يكن يمنع الأرض غير المستوية من أن تضايق أجسامنا المتعبة، ولم يمنحنا بردًا في الصيف، ولا دفئًا في الشتاء.
كان "العراقي" يتداعى تحت وطأة الأيام، فلا يذهب إلى البركة والجسر إلا نادرًا، وبعد أن يحل الضحى العالي، ثم كفَّ عن الغناء، وراح يتطلع بعينين كليلتين إلى حصر البلاستيك المحمولة فوق الرؤوس، ويردهما حسيرتين إلى حصره الواقفة عند الجدار، تنتظر أولئك الذين قد يجرفهم الحنين إلى فرشات منحتنا إياها الطبيعة سنين، لكننا سرعان ما نسيناها، لاسيما حين عرفنا الأكلمة والسجاد بعد أن دخل البلاط الأسمتني إلى بيوتنا حاجبًا أجسادنا عن الأرض الطيبة.
كنت أراه أحيانًا ظاهرًا بجلبابه الممزق عند ركبتيه جاثيًا إلي جانب الجسر، يغالب نبات الحلفا، ويغرس المنجل في جذوره المتشبثة بالتراب والقش، فيطيح به صريعًا تحت قدميه، ثم يجمعه أكوامًا متتابعة، مربوطة خلفه بعناية، ويحملها على كتفه اليمني مطوقًا إياها بذراع طويلة نحيلة.
تتجاور أكوام الديس والحلفا، فيفردها في بساط يمتد أمتارًا، ثم يضربها بعصا قطعها من شجرة صفاف عجوز، تهدي فروعها لماء الترعة الشحيح. يمسح جبينه المتصبب عرقًا براحة يده، أو بطرف جلبابه، ويجلس القرفصاء، دافعًا كفيه في أعواد الديس والحلفا يلضمها على مهل، مطلقًا عقيرته بغناء عذب، يسمعه كل العابرين، فيقفون قليلًا، وكل منهم ينتظر هديته، مدفوعة الأجر.
الهدية إما حصيرة لينة من الديس، أو خشنة من الحلفا، ولكل ثمنها وأيامها، فالأولى للصيف القائظ، حين تستلقي عليها الأجساد المكدودة في الغرف المقبضة التي تغالب العتمة والصمت، والثانية لأيام الشتاء القارص حيث يمنح احتكاك الأجساد بها بعض دفء مبتغى.
كان أهل قريتي يسمونه "الحُصَرِي"، وكنت أحسب أن هذا اسمه، لكن أبي قال لي إن اسمه "جابر العراقي"، وأنه غريب، جاء إلينا قبل سنين، ولم يستغن عنه أحد، وأنه قد ورث حرفته عن أـبيه عن جده إلى نهاية الأسماء الخمسة المتتابعة التي يحفظها ويقول:
ـ تربينا على أن نريح خلق الله.
في هذه الأيام كانت فرشتنا من هذه الحصر، لا أسِّرة تحتضن مراتب القطن والأسفنج، ولا أكلمة، ولا سجاجيد مختلفة ألوانها وأشكالها، إنما بُسط من الديس والحلفا، عريضة طويلة، على قدر نومنا العميق أو المتقطع حسب الأحوال التي يمنحنا إياها الكدح في الحقول، وخلف البهائم، وجلسات المصاطب الضاجة بالثرثرة في أول الليل.
لكن أهل قريتي لم يتركوه يصنع راحتهم وحده، فعلى باب الصبا دخلت إلى بيوتنا الحصر المصنوعة من البلاستيك المجدول بين أنياب المكن في مصانع لا نراها. كان صانعوها يتفنون في سبكها وتلوينها، فيتتابع فيها الأخضر والأصفر والأزرق والأحمر وبينها ألوان عوان بين كل هذا، وبعضها كانت تتوسطه صور ورود ورؤوس حمام وفراشات وسنابل قمح ومربعات مُهندسة في عناية.
كنا نرى الآباء والأمهات قادمات من سوق البندر وعلى الرؤوس حصر البلاستيك ملفوفة ومربوطة في إحكام بخيط دوبارة يشاغب طرفه المتدلي الريح الخفيفة، ما إن يُفك حتى ينفرد الحصير ملتصقًا بأرضيات الصالات والغرف متفاوتة الأحجام، لكن سمكه النحيل لم يكن يمنع الأرض غير المستوية من أن تضايق أجسامنا المتعبة، ولم يمنحنا بردًا في الصيف، ولا دفئًا في الشتاء.
كان "العراقي" يتداعى تحت وطأة الأيام، فلا يذهب إلى البركة والجسر إلا نادرًا، وبعد أن يحل الضحى العالي، ثم كفَّ عن الغناء، وراح يتطلع بعينين كليلتين إلى حصر البلاستيك المحمولة فوق الرؤوس، ويردهما حسيرتين إلى حصره الواقفة عند الجدار، تنتظر أولئك الذين قد يجرفهم الحنين إلى فرشات منحتنا إياها الطبيعة سنين، لكننا سرعان ما نسيناها، لاسيما حين عرفنا الأكلمة والسجاد بعد أن دخل البلاط الأسمتني إلى بيوتنا حاجبًا أجسادنا عن الأرض الطيبة.