إن المشكلة التي يعاني منها واقع الثقافة في عصرنا الحالي , وفي بلادنا بالتحديد تكن في ازدواجية المثقف , الذي تبعا لنشأته كمثقف , في ظروف اجتماعية وسياسية وتاريخية محددة , يعاني من وقوعه في أسر تراث يتجسم أمامه في كل لحظة من حياته اليومية , وفي نفس الوقت يواجه حداثة تفرض نفسها بقوة على كل مقدرات حياته وهو كمثقف إما أن ينحاز إلي الماضي بشكل أو بآخر , أو يرتبط بالحاضر الذي يتجسد في كل مناحي الحياة , وفي أحيان كثيرة يضطر إلي عملية تلفيقية بين الماضي والحاضر تقوم على انتقائية تحكمها مصالحه وخبرته ومعرفته , وانحيازه الطبيعي والاجتماعي والضغوط الخارجية سواء على المستوي المحلي , أو على المستوي العالمي
ولذا فإننا نجد في واقعنا من المفكرين من يتخذون هذا الموقف أو ذاك , وقد يتبدل موقف الواحد منهم وفقا للتغيرات التي تحدث في المجتمع , أو تلك التي يري أنها تمس حياته أو مصالحه وقد يكون تبديل المواقف في بعض الأحيان تعبيرا عن تغيرات في رؤية المفكر العقلية , ونتيجة لعملية بحث , وإبداع جعلته يتخذ موقفا مغايرا نظرا لاقتناعه بالموقف الجديد أما الحالة الثانية فقد يكون الانتقال من موقف إلي آخر محكوما – بالأساس – بالمصلحة وإن كان المفكر يحاول أن يقدم تبريرا منطقيا لهذا , معلنا هدايته , أو توبته ولكن الفيصل يكون في تحليل هذه المواقف في ضوء الظروف الاجتماعية والسياسية والتاريخية التي حدثت فيها هذه المواقف , وتلك التبديلات 0 كما يمكن البحث أيضاً في ذلك عن دور ما يمكن ان يطلق عليه (سيف المعزّ وذهبه)
وإذا كان الإنسان هو الكائن العاقل الذي يستخدم عقله في كل شيء وان العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين البشر , كما رأي (ديكارت) أبو الفلسفة الحديثة من قرون خلتْ فإن استخدام العقل في الإبداع , والكشف عن الجديد , وخدمة البشرية ، وجعله الميزان الذي نزن به كافة الأمور, في إطار علاقته بالواقع , والظروف المتغيرة , أعني العقل المندمج مع الحياة والذي يغيرها ويتغير معها العقل الذي يقوم بتحليل الظواهر , والوصول إلي النتائج واختبار هذه النتائج في عملية جدلية لا تتوقف إن استخدام العقل في هذه الأمور يختلف كثيراً عن استخدام العقل
(أو المنطق) في التضليل والوقوف مع القضايا الفاسدة , ومع الظلم , خاصة حين يكون ذلك متعلقاً بقضية تتعلق بالسلطة السياسية وذلك مثلما يقوم البعض – بطريق مباشر , أو غير مباشر بالوقوف إلي جانب ذوي الجاه والسلطة على حساب الشعب والحقيقة , والواقع
فالثقافة الحقيقية هي الثقافة التي ترتبط بموقف نظري وعملي في آن والفكر الحقّ الذي يستخدم المنهج العلمي , بحثاً , وإبداعاً , انطلاقاً من الواقع المعيش , ومن أجل حلّ معضلاته , ومشكلاته , وترسيخ العقلانية , ومواجهة الخرافة والأسطورة
وإذا كان المفكر إنساناً يعيش في عصر محدد , وظروف اجتماعية , ومحلية وعالمية محددة , وقد نهل من منابع معينة , فإنه بالضرورة سوف يكون في حالة تتضافر كل هذه العوامل وغيرها لتجعله يتخذ موقفاً محدداً من هذه المشكلة أو تلك فهو – أي الفكر – ليس محايداً , وإن كان يستخدم المنهج العلمي بشكل خالص , أو مع بعض الرواسب غير العلمية التي ما زالت تجثم على عقله نظراً لظروف عالمنا المتخلف وأيضاً لأن ما يخصّ العلوم الإنسانية , وكل ما يتعلق بالإنسان والحياة الإنسانية كسلوك , وثقافة وسياسة لا يمكن الوصول فيه إلي درجة عليا من الحياد كما يحدث في العلوم الطبيعية
ولذا فإن المفكر , في طرحه لأي فكرة , فإنما يعبر عن مجمل حياته , وعصره, وهو بالضرورة غير محايد وقد يكون رأيه هذا نتيجة عملية معقدة من العلاقة بين ذات المفكر , والواقع , بين المنهج , والحياة و وهذا هو المفكر الذي يصارع الوجود , ويحاول أن يقدّم ما يراه صوابا ومفيداً وعقلانيا وإذا تبدل موقفه بين آن وآن، فإن هذه العملية تكون نتيجة عملية خلق وإبداع , مهما كان الاختلاف مع نتائجها , إلا أنها تكون جديرة بالاحترام والتقدير
أما إذا كان ما يمكن أن نطلق عليه (مفكرا) , بشكل مجازي – ينتقل كالنحلة من موقف إلي موقف , مرتبطاً في ذلك بأوضاع سياسية محددة إذا تغيرت تغير موقفه من النقيض إلي النقيض , أملاً في منصب , أو مصلحة عارضة قد تتغير بتغير آخر , وثالث ورابع فإن هذا يعني أن هذا (المفكر) يفتقد المنهج , وهو بالضرورة ليس بحاجة إليه , كما أنه لا مصداقية له , على المستويين العملي والنظري
ونحن لا نري في التغيير والتبديل – كما هو واضح – شراً دائماً ولا نري في الجمود والتحجر خيراً بأي حال ولكن نري أن دراسة هذه الحالة في الظروف والملابسات هي التي تحدّد الموقف السليم , سواء كان ذلك الموقف انتهازيا أو كان موقفاً إيجابياً
والجدير بالذكر أن المفكر , محكوم بما يسطّره من كلمات تعبر عن موقفه , وبالتالي لايستطيع الإفلات من الحكم لأن ما كتبه هو الشاهد الأكيد عليه , وهو الذي يمثل المستند الذي لا لبس فيه , ولا مراء
وإذا كنا نري أن الإسهام الحقيقي للمفكرين والكتاب وكل المشتغلين بأمور الثقافة إنما هو في تفعيل العقل , وتأكيد دوره ، واستخدام المنهج العلمي , ونبذ الخرافات , والعشوائية في (الفكر!) والحياة فإننا نؤكد علي الدور الإبداعي للعقل , الإبداع الذي يتم على غير مثال و الذي يأتي بالتجديد دائماً , الجديد الذي يتفاعل مع الواقع ويؤثر فيه ويتأثر به الإبداع الذي يقدم في كافة مجالات المعرفة والفن , المدهش المتحرر من أسر التخلف , والردة
والإبداع بالضرورة يقوم على قطيعة مع الماضي لأنه ينجز على غير مثال , سواء كان ذلك في الفن أو العلم وهو لا يقع تحت طائلة التبرير السائد للحاضر من خلال سند من الماضي كما يحدث في كثير من امور حياتنا ومعارفنا , والذي أدي إلي استشراء دور (النصّ) , وأسرنا له إنه – أي الإبداع – يقف في الخندق المضاد (للعنعنة) وقياس الحاضر على الماضي (الشاهد على الغائب) , وأيضاً في مواجهة الاجتهاد الذي يخص (مجال الشرعية) ويعد أحد مصادرها , ويعتمد على تأويل النص , ومحاولة تكييفه وفقا للحاضر 0 هذا الاجتهاد الذي يرى في الإبداع (ضلالا) , وكفرا , ولا يتخطى (أي الاجتهاد) حدود القياس على الماضي
إن القضية الاساسية ليست مجرد التماس العفو والمغفرة من (عبيد النص) وإيجاد موضع قدم للاجتهاد المَرْضي عنه لديهم , بل القضية الأساسية هي تحرير العقل من كل اشكال العبودية , والتخلف , وكسر السلاسل المكبلة له , سواء كانت هذه السلاسل مصدرها (عبيد النص) أو التقاليد التي جرت من أزمنة , وتحولت إلي سلطة تواجه الإبداع والتحرير , بأسم الثبات والاصالة (الزائفة)
إن الإبداع الحقيقي لا ينمو إلا إذا اتيح له المناخ الملائم , وهذا المناخ يجب أن تسود فيه حرية التعبير , بكافة الوسائل , وكل السبل , كما يجب أن تسود فيه الرؤية العقلانية , والتي تحترم الرأي الآخر , وتناقشه وتتفق معه أو تدحضه , أو تستفيد منه دونما تعال أو سخرية, أو إدعاء امتلاك الحقيقة فحرية التعبير هي التي يمكن بواسطتها المساعدة على تطوير الإبداع, وتقدمه مما يقدم أسمي الخدمات للبشرية سواء بشكل مباشر أو غير مباشر , بشكل آني أو لاحق لأن العالم, والفنان هما وليدا الحرية , الحرية بأعمق معانيها وأكثرها شمولاً واتساعاً
الإبداع مناهض للتشرنق والتقوقع في إسار الماضي , ذلك أن المبدع الذي يقدم الدهشة , والجدّة , يتعارض بالضرورة مع السلفيّ , أو التراثي , الذي هو أسير النّص , والذي هو في أحسن الأحوال مجتهد يقوم بقياس الحاضر على الماضي , مستأنساً بالنص والسند من التراث , سواء كان ذلك التراث دينياً أو غير ذلك وهو – أي التراثي – في معظم الأحيان الأخرى , نصّي , وحرْفي , لا يقوم بالتأويل , فقد قفل باب الإجتهاد , واحتكم إلي ظاهر النصّ , وذلك بعيداً عن ملابسات الماضي والظروف التي كان النّص تعبيراً عنها
والسلفي هنا لا يقبل ما هو مبدع , أو مدهش , وجديد , وذلك لأنه – سواء كان مجتهداً أو حرفياً – يرى في الإبداع كفراً , وخروجاً على المألوف , والمعتاد وهو بذلك يرى ان القيم ثابتة , وأن العالم انتهي عند نقطة محددة , ولا يخرج عنها أبداً وكل ما ياتي إنما هو من البدع والضلالات
إنه – أي السلفي – لا يرى ما هو جزئي , ونسبي في الحياة , ويرفض نسبية وتغير القيم وفقاً لتغير الظروف والعصور والبني الاجتماعية الخ بل هو يستريح في منطقته المهجورة , مُسلحاً باطمئنان أزلي , بعيداً عن تناقضات الحياة واضطراباتها , وكأن (ليس في الإمكان أبدع مما كان) , وكان السلف – الذين عاشوا في ظروف حضارية متدنية كثيراً , بالقياس إلي الحاضر , قد أوتو كل شيء , وليس لنا إلا نردّد أقوالهم المأثورة , رغم ما ساد الحياة من انقلابات حادة , تجعل المسافة العقلية والعلمية بيننا وبينهم شاسعة إن المشكلة هي في هذا التكلّس الذي يعطي الراحة والكسل , ويصادر على الإبداع ووسائله , ويرى كل ما هو ضروري للإنسان المعاصر (حرية التعبير – المنهج العلمي – التفكير) ترفاً في أحسن الأحوال وبدعاً في أحيان أخرى
إن المعضلة الأساسية تكمن في ان العديد من المثقفين يستريحون لهذا التكلس , والكسل العقلي , والذي يمكن رصد أسبابه في كل حالة , خاصة في بلادنا , في التقلبات المتوائمة أحيانا مع السلطة السياسية على المستوى المحلّي , ومع ما ساد حقبة النفط من متغيرات والمتغيرات على مستوى العالم , وضعف القوى المقاومة للتخلف وفي حالات كثيرة يمكن ان نجد اسباب ما يوصف بالكسل العقلي في أصل نشأة المثقف لدينا , أو إضرابه عن التفكير
أن امتناع العديد من المثقفين عن التفكير – إن جاز هذا التعبير – إنما يكمن في الرغبة في الملاءمة مع الأوضاع السائدة , وعدم الخروج عن المألوف , وتبرير ما هو كائن وعدم البحث فيما يجب ان يكون ويأتي ذلك في الوقوف عند حدّ معين لا يتجاوزه المثقف , مع أن حرية الإبداع بلا حدود , والمثقف الحقيقي هو القلق دائماً ، والذي لا يرضي عن واقعه , ويهدف دائماً إلي تطويره , بل وتعييره , والمفكرون العظام نقّاد لعصورهم ومجتمعاتهم , أنهم يرون اكثر من اللازم , ويقفون دائماً على فوّهة بركان
أن المثقف المنوط به القيام بدور جوهري ورئيسي في الحياة , هو الذي يبدع , ويقدم الجديد , متجاوزاً ما كان ، متفاعلاً مع أحدث إبداعات الإنسان في كل مكان في المعمورة , ومسهماً بإبداعه في إثراء مسيرة الحرية والتقدم...
ولذا فإننا نجد في واقعنا من المفكرين من يتخذون هذا الموقف أو ذاك , وقد يتبدل موقف الواحد منهم وفقا للتغيرات التي تحدث في المجتمع , أو تلك التي يري أنها تمس حياته أو مصالحه وقد يكون تبديل المواقف في بعض الأحيان تعبيرا عن تغيرات في رؤية المفكر العقلية , ونتيجة لعملية بحث , وإبداع جعلته يتخذ موقفا مغايرا نظرا لاقتناعه بالموقف الجديد أما الحالة الثانية فقد يكون الانتقال من موقف إلي آخر محكوما – بالأساس – بالمصلحة وإن كان المفكر يحاول أن يقدم تبريرا منطقيا لهذا , معلنا هدايته , أو توبته ولكن الفيصل يكون في تحليل هذه المواقف في ضوء الظروف الاجتماعية والسياسية والتاريخية التي حدثت فيها هذه المواقف , وتلك التبديلات 0 كما يمكن البحث أيضاً في ذلك عن دور ما يمكن ان يطلق عليه (سيف المعزّ وذهبه)
وإذا كان الإنسان هو الكائن العاقل الذي يستخدم عقله في كل شيء وان العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين البشر , كما رأي (ديكارت) أبو الفلسفة الحديثة من قرون خلتْ فإن استخدام العقل في الإبداع , والكشف عن الجديد , وخدمة البشرية ، وجعله الميزان الذي نزن به كافة الأمور, في إطار علاقته بالواقع , والظروف المتغيرة , أعني العقل المندمج مع الحياة والذي يغيرها ويتغير معها العقل الذي يقوم بتحليل الظواهر , والوصول إلي النتائج واختبار هذه النتائج في عملية جدلية لا تتوقف إن استخدام العقل في هذه الأمور يختلف كثيراً عن استخدام العقل
(أو المنطق) في التضليل والوقوف مع القضايا الفاسدة , ومع الظلم , خاصة حين يكون ذلك متعلقاً بقضية تتعلق بالسلطة السياسية وذلك مثلما يقوم البعض – بطريق مباشر , أو غير مباشر بالوقوف إلي جانب ذوي الجاه والسلطة على حساب الشعب والحقيقة , والواقع
فالثقافة الحقيقية هي الثقافة التي ترتبط بموقف نظري وعملي في آن والفكر الحقّ الذي يستخدم المنهج العلمي , بحثاً , وإبداعاً , انطلاقاً من الواقع المعيش , ومن أجل حلّ معضلاته , ومشكلاته , وترسيخ العقلانية , ومواجهة الخرافة والأسطورة
وإذا كان المفكر إنساناً يعيش في عصر محدد , وظروف اجتماعية , ومحلية وعالمية محددة , وقد نهل من منابع معينة , فإنه بالضرورة سوف يكون في حالة تتضافر كل هذه العوامل وغيرها لتجعله يتخذ موقفاً محدداً من هذه المشكلة أو تلك فهو – أي الفكر – ليس محايداً , وإن كان يستخدم المنهج العلمي بشكل خالص , أو مع بعض الرواسب غير العلمية التي ما زالت تجثم على عقله نظراً لظروف عالمنا المتخلف وأيضاً لأن ما يخصّ العلوم الإنسانية , وكل ما يتعلق بالإنسان والحياة الإنسانية كسلوك , وثقافة وسياسة لا يمكن الوصول فيه إلي درجة عليا من الحياد كما يحدث في العلوم الطبيعية
ولذا فإن المفكر , في طرحه لأي فكرة , فإنما يعبر عن مجمل حياته , وعصره, وهو بالضرورة غير محايد وقد يكون رأيه هذا نتيجة عملية معقدة من العلاقة بين ذات المفكر , والواقع , بين المنهج , والحياة و وهذا هو المفكر الذي يصارع الوجود , ويحاول أن يقدّم ما يراه صوابا ومفيداً وعقلانيا وإذا تبدل موقفه بين آن وآن، فإن هذه العملية تكون نتيجة عملية خلق وإبداع , مهما كان الاختلاف مع نتائجها , إلا أنها تكون جديرة بالاحترام والتقدير
أما إذا كان ما يمكن أن نطلق عليه (مفكرا) , بشكل مجازي – ينتقل كالنحلة من موقف إلي موقف , مرتبطاً في ذلك بأوضاع سياسية محددة إذا تغيرت تغير موقفه من النقيض إلي النقيض , أملاً في منصب , أو مصلحة عارضة قد تتغير بتغير آخر , وثالث ورابع فإن هذا يعني أن هذا (المفكر) يفتقد المنهج , وهو بالضرورة ليس بحاجة إليه , كما أنه لا مصداقية له , على المستويين العملي والنظري
ونحن لا نري في التغيير والتبديل – كما هو واضح – شراً دائماً ولا نري في الجمود والتحجر خيراً بأي حال ولكن نري أن دراسة هذه الحالة في الظروف والملابسات هي التي تحدّد الموقف السليم , سواء كان ذلك الموقف انتهازيا أو كان موقفاً إيجابياً
والجدير بالذكر أن المفكر , محكوم بما يسطّره من كلمات تعبر عن موقفه , وبالتالي لايستطيع الإفلات من الحكم لأن ما كتبه هو الشاهد الأكيد عليه , وهو الذي يمثل المستند الذي لا لبس فيه , ولا مراء
وإذا كنا نري أن الإسهام الحقيقي للمفكرين والكتاب وكل المشتغلين بأمور الثقافة إنما هو في تفعيل العقل , وتأكيد دوره ، واستخدام المنهج العلمي , ونبذ الخرافات , والعشوائية في (الفكر!) والحياة فإننا نؤكد علي الدور الإبداعي للعقل , الإبداع الذي يتم على غير مثال و الذي يأتي بالتجديد دائماً , الجديد الذي يتفاعل مع الواقع ويؤثر فيه ويتأثر به الإبداع الذي يقدم في كافة مجالات المعرفة والفن , المدهش المتحرر من أسر التخلف , والردة
والإبداع بالضرورة يقوم على قطيعة مع الماضي لأنه ينجز على غير مثال , سواء كان ذلك في الفن أو العلم وهو لا يقع تحت طائلة التبرير السائد للحاضر من خلال سند من الماضي كما يحدث في كثير من امور حياتنا ومعارفنا , والذي أدي إلي استشراء دور (النصّ) , وأسرنا له إنه – أي الإبداع – يقف في الخندق المضاد (للعنعنة) وقياس الحاضر على الماضي (الشاهد على الغائب) , وأيضاً في مواجهة الاجتهاد الذي يخص (مجال الشرعية) ويعد أحد مصادرها , ويعتمد على تأويل النص , ومحاولة تكييفه وفقا للحاضر 0 هذا الاجتهاد الذي يرى في الإبداع (ضلالا) , وكفرا , ولا يتخطى (أي الاجتهاد) حدود القياس على الماضي
إن القضية الاساسية ليست مجرد التماس العفو والمغفرة من (عبيد النص) وإيجاد موضع قدم للاجتهاد المَرْضي عنه لديهم , بل القضية الأساسية هي تحرير العقل من كل اشكال العبودية , والتخلف , وكسر السلاسل المكبلة له , سواء كانت هذه السلاسل مصدرها (عبيد النص) أو التقاليد التي جرت من أزمنة , وتحولت إلي سلطة تواجه الإبداع والتحرير , بأسم الثبات والاصالة (الزائفة)
إن الإبداع الحقيقي لا ينمو إلا إذا اتيح له المناخ الملائم , وهذا المناخ يجب أن تسود فيه حرية التعبير , بكافة الوسائل , وكل السبل , كما يجب أن تسود فيه الرؤية العقلانية , والتي تحترم الرأي الآخر , وتناقشه وتتفق معه أو تدحضه , أو تستفيد منه دونما تعال أو سخرية, أو إدعاء امتلاك الحقيقة فحرية التعبير هي التي يمكن بواسطتها المساعدة على تطوير الإبداع, وتقدمه مما يقدم أسمي الخدمات للبشرية سواء بشكل مباشر أو غير مباشر , بشكل آني أو لاحق لأن العالم, والفنان هما وليدا الحرية , الحرية بأعمق معانيها وأكثرها شمولاً واتساعاً
الإبداع مناهض للتشرنق والتقوقع في إسار الماضي , ذلك أن المبدع الذي يقدم الدهشة , والجدّة , يتعارض بالضرورة مع السلفيّ , أو التراثي , الذي هو أسير النّص , والذي هو في أحسن الأحوال مجتهد يقوم بقياس الحاضر على الماضي , مستأنساً بالنص والسند من التراث , سواء كان ذلك التراث دينياً أو غير ذلك وهو – أي التراثي – في معظم الأحيان الأخرى , نصّي , وحرْفي , لا يقوم بالتأويل , فقد قفل باب الإجتهاد , واحتكم إلي ظاهر النصّ , وذلك بعيداً عن ملابسات الماضي والظروف التي كان النّص تعبيراً عنها
والسلفي هنا لا يقبل ما هو مبدع , أو مدهش , وجديد , وذلك لأنه – سواء كان مجتهداً أو حرفياً – يرى في الإبداع كفراً , وخروجاً على المألوف , والمعتاد وهو بذلك يرى ان القيم ثابتة , وأن العالم انتهي عند نقطة محددة , ولا يخرج عنها أبداً وكل ما ياتي إنما هو من البدع والضلالات
إنه – أي السلفي – لا يرى ما هو جزئي , ونسبي في الحياة , ويرفض نسبية وتغير القيم وفقاً لتغير الظروف والعصور والبني الاجتماعية الخ بل هو يستريح في منطقته المهجورة , مُسلحاً باطمئنان أزلي , بعيداً عن تناقضات الحياة واضطراباتها , وكأن (ليس في الإمكان أبدع مما كان) , وكان السلف – الذين عاشوا في ظروف حضارية متدنية كثيراً , بالقياس إلي الحاضر , قد أوتو كل شيء , وليس لنا إلا نردّد أقوالهم المأثورة , رغم ما ساد الحياة من انقلابات حادة , تجعل المسافة العقلية والعلمية بيننا وبينهم شاسعة إن المشكلة هي في هذا التكلّس الذي يعطي الراحة والكسل , ويصادر على الإبداع ووسائله , ويرى كل ما هو ضروري للإنسان المعاصر (حرية التعبير – المنهج العلمي – التفكير) ترفاً في أحسن الأحوال وبدعاً في أحيان أخرى
إن المعضلة الأساسية تكمن في ان العديد من المثقفين يستريحون لهذا التكلس , والكسل العقلي , والذي يمكن رصد أسبابه في كل حالة , خاصة في بلادنا , في التقلبات المتوائمة أحيانا مع السلطة السياسية على المستوى المحلّي , ومع ما ساد حقبة النفط من متغيرات والمتغيرات على مستوى العالم , وضعف القوى المقاومة للتخلف وفي حالات كثيرة يمكن ان نجد اسباب ما يوصف بالكسل العقلي في أصل نشأة المثقف لدينا , أو إضرابه عن التفكير
أن امتناع العديد من المثقفين عن التفكير – إن جاز هذا التعبير – إنما يكمن في الرغبة في الملاءمة مع الأوضاع السائدة , وعدم الخروج عن المألوف , وتبرير ما هو كائن وعدم البحث فيما يجب ان يكون ويأتي ذلك في الوقوف عند حدّ معين لا يتجاوزه المثقف , مع أن حرية الإبداع بلا حدود , والمثقف الحقيقي هو القلق دائماً ، والذي لا يرضي عن واقعه , ويهدف دائماً إلي تطويره , بل وتعييره , والمفكرون العظام نقّاد لعصورهم ومجتمعاتهم , أنهم يرون اكثر من اللازم , ويقفون دائماً على فوّهة بركان
أن المثقف المنوط به القيام بدور جوهري ورئيسي في الحياة , هو الذي يبدع , ويقدم الجديد , متجاوزاً ما كان ، متفاعلاً مع أحدث إبداعات الإنسان في كل مكان في المعمورة , ومسهماً بإبداعه في إثراء مسيرة الحرية والتقدم...