لقد كان ابتداع الانسان للغة نقطة تحول فى تاريخه الطويل الحافل بالتغيرات والتطورات. وكانت البداية تعنى باستعمال اللغة فى إطار نفعى مباشر. ومع تقدم الانسان وتطور وعيه وحياته، أصبح من الممكن استخدام اللغة جمالياً، فظهر الإبداع الأدبى والشعرى على وجه الخصوص.ولقد كان الشعر بمثابة لغة الكهنة الأُول، وكذلك الفلاسفة والمشرعين الأُول. وكان الشعر يرتبط بعالم أسطورى غيبى، ويوقع على أنغام الآلات الموسيقية. "ففى اليونان كان يوقع على أنغام العود، كما ارتبطت المسرحيات عندهم بأناشيد الجوقة".(1)
لم يكن الشعر فى ذلك الحين مجرد كلام، بل كان ينقل ما يعجز عنه الكلام. كان الشعر شفوياً، ومرتبطاً بالتنغيم والإنشاد، وكان دور الشاعر يختلط مع دور المغنى والمنشد. فكان الشاعر شاعراً وعازفاً فى نفس الوقت أو يرتبط شعره بالعزف بشكل أو بآخر.
يقول "أودونيس" :
"ولد الشعر الجاهلى نشيدا، أعنى أنه نشأ مسموعاً لامقروءاً غناءً لاكتابة. كان الصوت فى هذا الشعر بمثابة النِّسم الحىّ، وكان موسيقى جسدية. كان الكلام وشيئاً آخر يتجاوز الكلام. فهو ينقل الكلام وما يعجز عنه نقله الكلام، وبخاصة المكتوب وفى هذا ما يدلّ على عمق العلاقة وغناها وتعقدها بين الصوت والكلام وبين الشاعر وصوته"(2).
فقد كان الإيقاع وانتظام المقاطع من المقومات الأساسية للشعر، وكانت شخصية الشاعر ذات أهمية كبيرة، وذلك لأنه بإنشاده الشعر، وطريقة تمثيله، بحركات متوائمة مع مراميه من جسمه، يسيطر على المتلقى ويستحوذ على مشاعره.
ويعد السجع هو الشكل الأول للشفوية الشعرية الجاهلية، وقد ارتبط بالكهنة. كما كان الشعر وليد الأساطير، وقوة إشعاع اللغة الأسطورية. على أن هـذه الأساطير لم يكن يراها الأقدمون على أنها اوهام أو خرافات، بل حقائق حدسية، رأوها بعين خيالهم"(3).
وقد ارتبط الشعراء بإلهة الفنون Muses فيما تحكيه أساطير اليونان، كما اشتهر عن العرب فى عهدها الأسطورى أن لكل شاعر شيطاناً يقول على لسانه فمن قول الراجز(4).
إنى وإن كنت صغير السـنّ
وكان فى العين نبــو منّى
فإن شيطانى أميــر الجنّ
يذهب بى فى الشعر كل فنّ
وقد كان الشعر وثيق الصلة بالطقوس الدينية والاحتفالات العامة وكان الدور الذى يلعبه الشاعر فى المجتمعات القديمة دوراً فعالاً ومؤثراً وكان ميلاد شاعر للقبيلة بمثابة عيد.
(1) مفهوم الشعر عند اليونانيين
تنطوى أسطورة "هوميروس" على سمات كثيرة من تلك التى نجد فيها المنشد(5) الضرير الذى ينتمى إلى جزيرة (خيوس Chios) تتألف من ذكريات ترجع إلى العهد الذى كان فيه الشاعر شخصا ملهما - أعنى عرّافاً - له نوع من القداسة ويتلقى الوحى من الآلهة، ولم تكن صفة العمى إلا العلامة الخارجية للنور الداخلى الذى يملأ كيانه ويتيح له أن يرى أشياءً لا يراها الآخرون. بهذه العاهة الجسمية - شـأنها شأن العرج عند الصائغ الإلهى هفا يستوسى" تعبرّ عن فكرة ثانية كانت شائعة فى العصور البدائية: هى أن صانع الأشعار والزخـارف، وغيرها من منتجات الصنعة البدوية، لا يمكن أن يأتى إلا من بين صفوف أولئك الذين لا يصلحون للحرب والغزو. ولكن إذا استثنبنا هذه الصفة، فإن "هوميروس" الأسطورى يكاد يكون مثلا كاملا للشاعر الأسطورى الذى كان لايزال ذا طبيعة إلهية، والذى كان نبيًّا وصانع معجزات(6).
لقد كانت الفكرة الأساسية فى العصور القديمة فى اليونان هى أن الشاعر أو الفنان، هو شخص لا يصلح للفروسية والحرب. وكان ارتباط الشاعر بالعمى، يعنى أن له بصيرة قوية، وأن حاسّة السمع قد تضاعفت بحيث كانت تفوق حاسة السمع لدى أى شخص آخر، وهذا على أساس أن الشاعر يقوم بالإنشاد، والإلقاء وبالتالى تتركز موهبته فى القدرة على التعبير بواسطة الصوت.
وإذا كان المصريون قد اعتقدوا أن لألحانهم أصلا مقدساً، ونسبوها إلى الربة "إيزيس". فإن اليونانيين كانوا ينظرون إلى الموسيقى نظرة شبه أسطورية فقد وصف "أرستوفان" "موزياس" تلميذ "أورفيوس" بأنه طبيب للنفوس توصل إلى علاج مرضاه بسحر الأناشيد التى تنسبها الأساطير إليه(7).
والجدير بالذكر أن "ديمقريطس" قد امتدح "هوميرس" ووصفه بأنه ملهم من الآلهة تعبر أعماله عن روح نشوانة(8).
لقد استمدّ "أورفيوس" قيثارته من "أبولو" وتعلم فن الأغنية من ربة الفن (الموزى Muse ) ذاتها. وكان بوسع "أورفيوس" أن يحرك بموسيقاه الناس والحيوان والصخر، ويستعيد "يوروديسى Euridice" من بين براش الموت(9).
وقد كان الشعر الإغريقي "فى مرحلته البدائية يتألف من صيغ سحرية وأقوال تنبؤية وصلوات وتعاويذ للحرب والعمل(10).
ولقد كان الشعّر والفن من أهم العناصر التى قامت عليها الحضارة الإغريقية. وكان الشاعر والمثّال من أهم من صاغوا الديانة اليونانية.الشاعر بما نظم من أساطير، وصاغ من حكم، وما توخى من العادات أراد أن يجعلها بمثابة قيم أصيلة فى المجتمع. والمثال بتوخيه إعطاء الآلهة أشكالا. وما مجد من أبطال وأعمال.
ومع حلول العصر البطولى، فى القرن الثانى عشر قبل الميلاد، كانت السلطات فى أيدى (الأبطال) وهم اللصوص والقراصنة، الذين كانوا يفخرون بأن يطلقوا على أنفسهمن (نهاّبى المدن). وكانت أغاينهم دنيوية، وليست قصة طروادة، التى هى قمة شهرتهم، سوى تمجيد شعرى للسلب والقرصنة. ولقد كانت روحهم الخارجة على القانون، والتى تهزأ بالمقدّسات، وليدة حالة الحرب التى وجدوا أنفسهم فيها. ومع عصرهم طرأ تغير على تام على الوظيفة الاجتماعية للشاعر ومركزه الاجتماعى. فنجده قد تخلّى عن نسبته المجهولة (Anonymity) وعن انعزاله الكهنوتى، كما فقد الشعر طابعة الشعائرى والجماعى، وقد صارت مهمة الشاعر هى الترويح عن الأبطال بعد انتهاء المعركة. فكان على الشاعر أن ينشد فيهم المدائح، وأن ينوّه بأسمائهم، وينشر أمجادهم ويخلدها(11).
كما ظهر المنشد المتجول أو الراوية، والذى كان وسطا بين الشاعر الخالص والممثل، وكانت عملية الإنشاد بمثابة حلقة بين التمثيل الدرامى، وتلاوة الملحمة. وكان المنشد يشيد بماضى الأمة، ويتغنى بالأحداث الجارية.
أفلاطون
يقول هاوزر:
"ولقد كان أكمل تعبير عن الأوضاع الروحية الشديدة التعقيد فى القرن الرابع - ق. م. هو "أفلاطون" - الذى كان فنه يتّسم بطبيعة تقدمية، على حين أن فلسفته كانت محافظة. وكان الحوار عنده طبيعيا، مستعاراً من فن المحاكاة الشعبى، على حين أن تعاليمه كانت مثالية، ترجع جذورها إلى النظرة الأرستقراطية للحياة"(12).
فمع "أفلاطون" يبدأ بناء الأنساق الفلسفية الكاملة، وإن كان "أفلاطون" لم يصدر كتابا خاصا بالفن والشعر، إلا أن آراءه نجدها مبثوثة فى محاوراته المختلفة، وهذا يؤكد على أن "أفلاطون" لم يكن يرى الفن بعيدا عن نسقه الفلسفى، ولذا جاءت آراؤه فى اتساق تام مع هذا المنسق.
لقد رأى "أفلاطون" أن الشعر لا قيمة له إلا اذا كان "صادرا عـن عاطفة مشبوبة، والهام يعترى الشاعر بما يشبه النشوة الصوفية، أو نشوة النبوّة أو وجْد الحب. فلا تكفى الصنعة وحدها لخلق الشعر، إذْ أن شعر المرء البارد العاطفة يظل دائما لا إشراق فيه إذا قورن بشعر الملهم. على أن هذا الإلهام لا ثمرة له إلا إذا صادف روحاَّ خيرة ساذجة طاهرة يمجد بأناشيدها الفضائل فتربى عليها الأجيال"(13).
ويرى "أفلاطون" أن الشاعر انسان من نمط خاص، فهو لا يستعمل اللّغة استعمالا مألوفا، بل يدخل الإلهام الإلهي، وهو ما يشبه الجنـون، إلى طريقته فى استعمالها. انه كائن يوحى إليه. وهو يقـف فى مرحلة وسطى بين المجنون والعرّاف. انه متحرر من كل القيود أو منفلت منها.
فهو - أى الشاعر - فى رأى "أفلاطون" كائن خفيف الروح، مجنح الخيال، ولا يستطيع أن يبدع الروائع الشعرية إلا عندما تحلّ فيه روح إله. وأن تلك الأشياء اللطيفة التى ينظمها ليست وليدة الصنعة، بل وليدة لطف إلهى، وهو لا يستطيع الإبداع إلا فيما اختارته له ربة الشعر. فروائعه صادرة عن تلك الربة التى أحلّت روحها فيه.
لقد أقام "أفلاطون" نظريته عن الإبداع الشعرى - فى الأساس - على نظرية الإلهام، تلك التى تجعل الشعراء يدينون بعملهم لوحى إلهى لا لبراعة الصنعة وحدها.
إن هذه الفكرة وان رفعت الشاعر إلى مرتبة النبى أو الملهم، إلا أنها - من ناحية أخرى - لا تمجّده، بل توسع الهوة بينه وبين عمله إذْ تجعله مجرد أداة فى يد المقصد الإلهي(14).
وقد كان موقف "أفلاطون" المبكر مع الإلهام، وهو نظرية سقراطية، ما لبث "أفلاطون" أن تخلص منها لأنه رأى تعارضا داخله بين الفلسفة والشعر، أو بين صياغاته العقلية، وروحه التى تتملكها روح الشاعر.
فقد عاد ورأى أن "الإله خيّر كامل، لا يتغير ولا يخدع الناس، ولكن الشعراء يصورونه كثيرا على أنه غير كامل من هاتين الناحيتين. ويرى أن معظم الشعر الموجود فى عصره غير مناسب من الناحية الأخلاقية للأهداف التربوية، وسبب ذلك، من وجهة نظره، أن الشعراء فى قصصهم عن الآلهة وأبطال التاريخ يصورون نواحى متعددة من الضعف الأخلاقى عندهم. وذلك له تأثير سيئ على الشباب"(15).
ولقد كانت بداية ذمّ "أفلاطون" للشعر أن وضعه فى مواجهة الأخلاق والتربية، وهو كفيلسوف يقيم نسقه الفلسفي على أساس أخلاقي يرى تعارض الشعر مع الأخلاق على اعتبار أن الشعراء غير الفلاسفة كائنات غير عاقلة، ولا تملك السيطرة على ما تقول أو تنشد، وبالتالى فلا يمكن محاسبتهم على أقوالهم التى تمثـل ضربا من الهذيان، أو من الأقوال التى يقولها الانسان العاقل وهو فى حالة سكر.
لقد كتب "أفلاطون" فى محاورة أيون على لسان سقراط : " .. "وكما أن (الكوريبانتيين) يغيبون عن حواسهم وهم يرقصون، كذلك يغيب الشعراء الغنائيون عن حواسهم عندما ينظمون مقطوعاتهم الجميلة. ذلك أنهم حين يقعون فى أسر اللحن، ينتشون ويجّن جنونهم مثل كائنات إله الخمر (باخوس) اللاتي يغترفن من الأنهار لبنا وعسلا عندما يقعن تحت تأثير الإله ولا يفعلن ذلك إذا كنّ مالكات عقولهن. وهكذا تفعل روح الشاعر الغنائى، بحسب قولهم لنا، إذُ يخبرنا هؤلاء الشعراء أنهم يرفرفون فى حدائق عرائس الشعر وأوديتهن. ويغترفون أغانيهم من ينابيع تفيض بالعسل، ويرشفون رحيقها كما يفعل النحل حين ينتقل من زهرة إلى زهرة، وحق ما يقولون : لأن الشاعر كائن رقيق محلق مقدس، يعجز عن قرض الشعر حتى يُلهم، ويخرج عن حواسه ويغيب عن عقله"(16).
إن "أفلاطون" رغم لغته التى تحمل فى طياتها روح شاعر، وعبقرية فنان يهاجم الشعراء لأنهم لا يسيطرون على مشاعرهم، ولا يبتدعون ما يقولون، بل هم يرفرفون فى حدائق عرائس الشعر وأوديتهن مغترفين من دنان العسل وينابيعه، ويعجزون عن الإتيان بالشعر إن لم تلهمهم ربة الشعر، وأن الشعر القائم على الإلهام لا يمكـن السيطرة عليه، وبالتالى يصعب توجيهه، ومن ثم استيعابه فى الجمهورية.
لقد ذمّ أفلاطون الشعر لأنه ناتج عن الإلهام، وسلب الشعراء إبداعهم وفنهم، ثم صبّ عليهم جام غضبه لأنهم لا يتبعون المثل الأخلاقية - الصارمة - التى وضعها فى جمهوريته.
وقد طالب "أفلاطون" المشرع بأن يطلب، بل يرغم، الشعراء على أن يجسّدوا الخير، والفضيلة فى ألحانهم وإيقاعاتهم، وإذا لم يمتثلوا، فإن طردهم من المدينة هو الجزاء العادل لهم.
وإذا كان "أفلاطون" قد ذم الشعراء لاعتمادهم على الإلهام ورأى أن الأسلوب المباشر أفضل من الأسلوب الدرامى، ممتدحا شعـر "بندار" التعليمى الذى يمجد البطولة ويتغنى بفضل الآلهة، فإنـه أيضا مرتكزا على نظرية (محاكاة المحاكاة) جعل الشاعر مقلدا للطبيعـة أو العالم المحسوس، الذى هو تقليد لعالم المثل، وبالتالى فإن العالم الحقيقى يتم تزييفه مرتين، فينفصل عن الحقيقة، ويبتعد عن الصدق، ولذا فان ما يقوم به الشاعر لا يعدو كونه تشويها للحقيقة.
ولقد كان دور الشاعر الأخلاقى هو المحور الأساسى لفلسفة "أفلاطـون" الجمالية فى هذا الشأن، وقد أدى ذلك إلى إهمال "أفلاطـون" - لأنه ـ لم يكن على وفاق مع الشعراء - للجانب الشكلى فى الشعر، اللهّـم إلا كلمات تشير الى التصوير والتشبيه، والإيقاع الذى يرفضه "أفلاطون" - كتشبيه الآلهة بالبشر وتصويرهم فى هيئة بشرية، ووقوعهم فى أخطاء، كذلك نبذه للإيقاعات التى تبعث على الطراوة والتراخى والميوعة، واهتمامه بالشعر الحماسى - إذا كان لابد من الشعر ـ والذي يبث الشجاعة ويمجد البطولة.
ولقد كانت نزعة "أفلاطون" المحافظة فى ميدان السياسة هى السبب الأكبر لنظريته التى تدعو إلى صبغ الفن بصبغه آرخية (عتيقة)، فهو يرفض الإتجاهات الإيهامية Illusionist الجديدة ويفضل الأسلوب الكلاسيكى السائد فى عصر "بركليز"، ويبدى إعجابه بالفن المغْرق فى الشكلية عند المصريين القدماء، وهو الفن الذى يبدو خاضعاً لقوانين لا تتبدّل، ويرى فى التجديد أعراض الفوضى والإنحلال. ويحظر على الشعراء دخول مدينته المثلى، إذ أنهم يندمجون كل الاندماج فى الواقع التجريبى، وفى الظواهر المحسوسة التى لا تعدو فى رأيه أن تكون أوهاماً أو أنصاف حقائق، وكذلك لأنهم يثقلون الصور الروحية ويشوّهونها إذْ يحاولون التعبير عنها من خلال الحسّ(17).
وهكذا نجد أن رؤية "أفلاطون" السياسية والأخلاقية، كانت السبب فى هذا الموقف المتشدد من الشعر والشعراء، رغم كون "أفلاطون" نفسه كان يتمتع بحسّ شعرى، وروح فنان فى محاوراته.
• أرسـطـــــــو
أما "أرسطو" فلم يعتد بجانب الإلهام الغيبى فى نقده كما فعل أستاذه "أفلاطون" بل اتّجه شرحه للشعر من وجهة تجريبية، بتحديد معالم الشعر، والبحث عن القوانين الفنية فيه، وأثرها"(18).
لقد كتب "أرسطو" (فن الشعر) كنا قد أدبي ومؤرخ للشعر، ولـم يكن يهتم كثيرا بما تطلبه الدولة من الفن، أو ما يشكل الأسلوب التربوي لديها. "لقد انصبّ بحثه على الأشكال المختلفة للشعر، ونشأتها ونموّها. وقوانين بنائها وتأثيرها على الفكر. وقد حلّل البنى الشعرية Poetical Compositions كما لو كانت صورا للتفكير، هادفا إلى اكتشاف مكنوناتها فى ذاتها، وكيف تنتج آثارا متمايزة"(19).
وقد رأى أرسطو أن الفن هو الذى "يحاكى بواسطة اللغة وحدها، نثـرا أو شعرا - والشعر إما مركبا من أنواع، أو نوعاً واحداً - فليس له اسم حتى يومنا هذا، فليس ثمة اسم مشترك يمكن أن ينطبق بالتواطؤ على تشبيهات (سوفرون) (واكسينر خوس) وعلى المحاورات السقراطية. وعلى المحاكيات المنظومة على أوزان ثلاثية أو إيليجيـة، أو أشباهها. على أن الناس قد اعتادوا أن يقرنوا بين الأثر الشعـرى وبين الوزن فيسمون بعض الشعراء إيليجيين والبعض الأخر شعراء ملاحم. فإطلاق لفظ الشعراء عليهم ليس لأنهم يحاكون، بل لأنهم يستخدمون نفس الوزن.
والواقع أن من ينظم نظرية فى الطبّ أو فى الطبيعة يسمى عادة شاعرا : ورغم ذلك فلا وجه للمقارنة بين "هوميرس" و"أبنادوقليس" إلا فى الوزن. ولهذا يخلق بنا أن نسمى أحدهما (هوميرس) شاعراً، والآخـر طبيعيا أولى منه شاعراً. وكذلك لو أن امرءاً أنشأ عملا من أعمـال المحاكاة وخلط فيه بين الأوزان كما فعل "خيريمون" فى منظومته (قنطورس) وهى رابسودية مؤلفة من أوزان شتى، فيجب أيضا أن يسمى شاعرا"(20).
ولقد انحصر مفهوم الشعر عند "أرسطو" فى المحاكاة، أى تمثيل أفعال الناس ما بين خيرة وشريرة، بحيث تكون مرتبة الأجزاء علـى نحو يعطيها طابع الضرورة أو طابع الاحتمال فى تولد بعضها من بعض. والشعر الحق عند "أرسطو" يتجلى فى الملحمة والمـأساة والملهاة. والمحاكاة لا الوزن هى التى تفرق ما بين الشعر والنثـر. ولقد كان "هوميرس" لدى أرسطو شاعرا كبيرا، لا لأنه برع فى فخامة الديباجة الشعرية فحسب، (بل لأنه جعل محاكياته فى شعره ذات طابع درامى). يقصد تقديم الأفعال تقديما مسرحيا، تتمثل فيه الوقائع حية، ويتعرف بها على حقيقة الأشخاص والأحداث تعريفاً منتظما منسق الأجزاء(21).
وعندما يسخر "أرسطو" من إطلاق الناس لفظ الشاعر على كل من يستخدم الوزن يعلق "عبد الرحمن بدوى"، بأن هذه مسألة خطيرة، وهى مسألة : ماذا نسمى شعرا؟ أهو كل قول موزون ومقفـى، أو الشعر له خصائص مستقلة عن الوزن؟ "فأرسطو" يرى أن الإنسان يمكن أن يكون شاعراً وهو لا يكتب إلا نثرا، وأن يكون ناثراً وهو لا يكتب إلا شعرا أى (نظما). كما هى حال "أنبـادوقليس" : فهو ليس شاعراً لأنه ألف قصيدة فى الطبيعة منظومة على وزن، ولكن لأن له اسلوبا شعريا، أى كان محاكيا. وقد كان استشهاد "أرسطو" بـ(خيريمون) الذى مزج فى "القنطورس" بين الأوزان الجديدة والقديمة مؤكدا على أن الوزن لا يكفى وحده ليجعل من الانسان شاعراً(22).
وهكذا نجد أن "أرسطو" يقيم الشعر على أساس المحاكاة، لا الوزن مخالفاً لما كان سائدا فى عصره، وذلك لأن الناس كانوا يرون أن الشاعر هو الذى يستخدم الوزن حتى ولو كان ما يقوله يتعلق بالطـب أو الطبيعة. وقد كانت مسألة نظم الأفكار الفلسفية أو العلمية مسألة سائدة إلى حد كبير فى اليونان.
وكان "أرسطو" لا يقيم وزنا للشعر الغنائى، لأنه أثر الوعى الفـردى، ثم لأنه يخلو من الفن الحقّ - كما يراه "أرسطو" - فلا نرى فى كتاب الشعر ذكرا لكبار الشعراء الغنائيين من القدماء مثل الشاعرة "سافو(23) Sappho التى ولدت حوالى منتصف القرن السابع قبل الميلاد، والشاعر سيمونديس Semonides. وقد رأى "أرسطو" أن الشعر الغنائى كان مرحلة أولى ممهدة لوجود المأساة والملهاة، اللتين هما أعلى منه شأنا"(24).
وتعد المحاكاة هى السبب الأول الذى يرجع اليه الشعر، أما السبب الثانى فهو أن الناس يستمتعون برؤية واستماع الأشياء من جديد. أى تتيح فرصة الاستدلال والتعرف على الأشياء.
والتراجيديا - انطلاقا من نظرية "أرسطو" فى المحاكاة - هى محاكاة فعل جاد، وتام. والشعر - بالنسبة "لأرسطو" - يمضى فى اتجاهين، وفقا لطبيعة الشاعر. فالشاعر صاحب الروح الطيبة يحاكى الأفعال النبيلة وأفعال الفضلاء من الناس. أما صاحب الروح الشريرة أو النفس التافهة فإنه يحاكى الأدنياء من البشر، ويصوغ الأهـاجى، بينما يرتل الأتقياء فى ابتهال للآلهة، ويمدحون المشاهير(25).
لقد رأى "أرسطو" أن الفعل الإنساني يتأثر بعدة عوامل : مثل شخصية من يقوم بهذا الفعل، والعوامل الوراثية، ومصير الإنسان، والأعمال الماضية التى قام بها الانسان. ومن واجب الشاعر أن يصوغ شعره مُبرزاً الفعل الإنساني على أنه سجلّ حافل بكل هذه الأمور مستعينا فى ذلك بفن المحاكاة واللغة الشعرية.
وإذا كان "أرسطو" قد اهتم بالناحية الشكلية فى الفن الشعرى، وجعل الشعر صنعة فنية، وأن فن الشاعر إنما يتجلى فى صياغته وتنظيمه للعمل الشعرى حتى يكتسب الصفة الشعرية مستندا إلى المحاكاة كعنصر جوهرى فى الشعر، فانه أيضا لم يهمل شخصية الشاعر، إذْ يطلب إليه - وبشكل غير مباشر - أن يكون ملتزما بمواقف أخلاقية تدعو إلى الفضيلة، وتشجع على محاكاة الفضلاء من الناس، وتجنب محاكاة الأدنياء من البشر.
وإذا كان "أرسطو" قد خاض فى مسائل الشكل، وتفاصيل العمل الفنى فى كتابه (فن الشعر) إلا أنه فى كتاباته الأخرى - على سبيل المثال - فى السياسة - نراه يتحدث من وجهة نظر رجل الدولة مطالبا الفن بدور تعليمى، ويسند إليه الإرشاد الأخلاقى، بل ورأى أن بعض الفنون تمثل خطراً على الشباب(26).
وهكذا نجد أن "أرسطو" قد اهتم بالجوانب الجمالية فى الشعر، كما اهتم أيضا بمهمة الشعر دون الشاعر.
وإذا كان "أفلاطون" قد نقد الشعر باسم الحقيقة وباسم الخلق، وجرّد الشعراء من القدرة الحقيقية على الإبداع وجعلهم مجرد أدوات، ورأى أنهم يفسدون الناس بأفكارهم إذْ يصوّرون الآلهة فريسة لأهواء الانسان. فإن "أرسطو" قد أوضح الصلة بين الشعر والواقـع والمعانى الإنسانية والقضايا الكلية التى تبين عنها الحوادث المسوقة فى حكاية الشعر، فالشعر بهذا أوفـر حظا من الفلسفة ومن التاريخ. وبهذا لم يعارض "أرسطو" أستاذه "أفلاطون" فى حملته على الشعر فحسب، بل رفعه الى منزلة فوق الفلسفة والتاريخ(27).
يقول "أرسطو" :
"وواضح كذلك ما قلناه أن مهمة الشاعر الحقيقية ليست فى رواية الأمور كما وثقت فعلاً، بل رواية ما يمكن أن يقع. والأشياء ممكنة: إما بحسب الاحتمال، أو بحسب الضرورة. ذلك أن المؤرخ والشاعر لا يختلفان بكون أحدهما يروى الأحداث شعراً، والآخر يرويها نثراً (فقد كان من الممكن تأليف تاريخ "هيرودوتس" نظمأ، ولكنه كان سيظل مع ذلك تاريخاً سواء كتب نظماً أو نثراً). وإنما يتميزان من حيث أن أحدهما يروى الأحداث التى وقعت فعلاً، بينما يروى الآخر الأحداث التى يمكن أن تقع. ولهذا كان الشعر أوفر حظاً من الفلسفة وأسمى مقاماً من التاريخ لأن الشعر بالأحرى يروى الكلّى بينما التاريخ يروى الجزئى"(28).
ومن هنا يمكننا القول بأن المحاكاة الأرسطية لا تعنى نسخ الواقع، فالشاعر لا يلتزم بالأحداث كما هو الحال بالنسبة للمؤرخ، ولكنه يقدّم رؤية فنية وجمالية لها، وهذا عكس ما ساد لفترات طويلة لدى الكثيرين عن تصور المحاكاة، والذى جعلوه مجرد نسخ للواقع.
(2) الشعـر عنـد العـرب
لقد ارتبط الشعر بالإنشاد، وكان الإنشاد والذاكرة بمثابة الكتاب الذى ينشر الشعر الجاهلى، من جهة، ويحفظه من جهة ثانية. كما كان عرب الجاهلية يعدّون إنشاد الشعر موهبة ذات أهمية قصوى فى امتلاك السمع، أى فى الجذب والتأثير. والإنشاد هو بمثابة شكل من أشكال الغناء(29).
ولقد "ارتبطت موسيقى شعرنا تاريخيا لا بالغناء وحده، بل أيضا بالرقص، أما الغناء فصلته بالشعر لا تزال ماثلة، ومما لا يرقى إليه الشك إنها صلة وثيقة عند قدمائنا. إذْ يقال إن الغناء الجاهلى كان على ثلاثة أوجه هى النصْب والسناد والهزج). أما النصب فكان يخرج من أصل الطويل فى العروض، وكان السناد كثير النغمات والنبرات، أما الهزج فكان يرقص عليه ويصحب بالدفّ والمزْمار. ويعنى ذلك أن اقتران الرقص بالغناء والشعر عريق القدم"(30).
أى أن الشعر الذى بدأ شفويا غير مكتوب كان مصحوبا بالغناء، ويتم إنشاده، والرقص عليه، مصحوبا بالآلات الموسيقية. وهذا يعلل أهمية الإيقاع والوزن فى الشعر العربى القديم.
ويؤكد "ابن خلدون" فى مقدمته ارتباط الشعر بالغناء والإنشاد فيقول : "كان الغناء فى الصدر الأول من أجزاء الفن، لأنه تابع للشعر، إذْ الغناء إنما هو تلحينه. وكان الكتاب والفضلاء من الخـواص فى الدولة العباسية يأخذون أنفسهم به حرصا على تحصيل أساليب الشعر وفنونه"(31).
وقد ارتبط الشعر أيضا بالطقوس الدينية، وكان الرقص أحد هذه الطقوس، كما تطور مع تطور الأغنية الجماعية التى كان المغنون يتبارون من خلالها بارتجال المقطوعات المنظومة(32).
ويرى "أدونيس" "أن الشفوية تفترض السماع. فالصوت يستدعى الأذن، أولا. ولهذا كان للشفوية فن خاص فى القول الشعـرى، لا يقوم فى المعبًّر عنه، بل فى طريقة التعبير. خصوصا أن الشاعر الجاهلى كان يقول إجمالا، ما يعرفه السامع مسبقاً، كان يقول عاداته وتقاليده، حروبه ومآثره، انتصاراته وانهزاماته. وفى هذا ما يوضح كيف أن فرادة الشاعر لم تكن فى ما يفصح عنه، بل فى طريقة إفصاحه، وكيف أن حظّه فى التفرد وبالتالى إعجاب السامع، كان تابعا لمدى ابتكاره المتميز فى هذه الطريقة"(33).
الشعر والشاعر عند الفلاسفة
يقول "الفارابى" "إن الألفاظ لا تخلو من أن تكون : إماّ دالة، واما غير دالة. والألفاظ الدالة : منها ما هى مفردة وما هى مركبة. والمركبة : منها ما هى أقاويل، ومنها ما هى غير أقاويل. والأقاويل: منها ما هى جازمة، ومنها ما هى غير جازمة. والجازمة منها ما هى صادقة، ومنها ما هى كاذبة. والكاذبة منها ما يوقع فى ذهن السامعـين الشيء المعّبر عنه بدل القول، ومنها ما يوقع فيه المحاكى للشيء وهذه هى الأقاويل الشعرية"(34).
أى أن الأقاويل الشعرية هى التى توقع فى ذهن المستمعين المحاكى للشيء، فالمحاكاة هنا هى أساس الشعر. وهذه المحاكاة منها ما هو تام، ومنها ما هو غير تام. وفى مصدر آخر يؤكد أيضا أن الأقـاويل الشعرية هى التى من شأنها أن "تؤلف من أشياء محاكية للأمر الذى فيه القول"(35).
ويقول الفارابى :"إن الأقاويل الشعرية : اما أن تتنوع بأوازنها، و وإما أن تتنوع بمعانيها، فأما تنوعها من جهة الوزن فالقول المستعصى فيه إنما لصاحب الموسيقى والعروضى فى أى لغة كانت تلك الأقاويل، وفى أى طائفة كانت الموسيقى. وأما تنوعها من جهة معانيها على جهة الاستقصاء. فهو للعالم بالرموز والمعبر بالأشعار والناظر فى معانيها والمستنبط لها فى أمّة أمّة وعند طائفة طائفة، مثلما فى أهل زماننا من العلماء بأشعار العرب والفرس الذين صنفوا الكتب فـى ذلك المعنى وقسموا الأشعار إلى الأهاجى والمدائح والمفـاخرات والألغاز والمضحكـات والغزليات والوصفيات وسائر ما دونوه فى الكتـب التى لا يعسر وجودها، مما يستغنى عن الإطناب فى ذكرها"(36).
فاذا كانت المحاكاة هى أساس الشعر، فإن الوزن أيضا هو قوامه، ويمكن أن تتنوع الأقاويل الشعرية إما بتنوع الأوزان أو بتنوع المعانى، هذا ما يراه "الفارابى"، بل ويسرد أيضا أغراض الشعر كما هى معروفة لدى العرب فى ذلك الحين.
وتأكيداً منه على أهمية عنْصرى الشعر الأساسيين : المحاكاة، والوزن، يقول الفارابى :
"فقوام الشعر وجوهره عند القدماء هو أن يكون مؤلفا مما يحاكى الأمر، وأن يكون مقسوما بأجزاء وينطق بها فى أزمنة متساوية، ثم سائر ما فيه، فليس بضروري فى قوام جوهره، وانما هى أشياء يصير بها الشعر أفضل. وأعظم هذين فى قوام الشعر هو المحاكاة، وعلم الأشياء التى بها المحاكاة وأصغرهما هو الوزن"(37).
ويرى أيضا أن كثيرا من الشعراء إنما يرون القول شعرا متى كـان "موزونا مقسوما بأجزاء ينطق بها فى أزمنة متساوية، ولا يبالون بما إذا كانت مؤلفة مما يحاكى الشىء أم لا"(38).
وهو يريد أن يقول أن هذا الذى يقوله الجمهور وكثير من الشعـراء ليس شعراً حقيقيا - من وجهة نظره - لأنه يفتقد إلى عنصر المحاكاة، العنصر الرئيسي فى الشعر. فالقول "إذا كان مؤلفا مما يحاكى الشيء، ولم يكن موزونا بإيقاع فليس يعد شعرا، ولكن يقال هو قول شعرى، فإذا وزن مع ذلك وقسم أجزاء صار شعرا"(39). أى لابد من اكتمال عنصرى الشعر ليكون القول شعرا.
واذا كانت المحاكاة هى إيهام بالشبيه وليس بالنقيض. وقد يقدم الموضوع تقديما مباشرا كما فى التصوير، أو غير مباشر كما فى الشعر. وإذا قلنا إن الشعر مؤلف من كلمات تنتظم فيما بينها انتظاما مخصوصا تبعا لتعاقب الحركات والسكنات مما يصنع للشعر إيقاعه. حينئذ يتشابه الشعر مع الموسيقى وتصبح الألحان مما يصنع للشعر إيقاعه(40).
ويرى الفارابى :"أن نسبة وزن القول فى الحروف كنسبة الإيقاع المفصل فى النغم. فان الإيقاع المفصل هو نقلة منتظمة على النغم ذات الفواصل، ووزن الشعر نقلة منتظمة على الحروف ذات فواصل"(41).
والشعر ليس مجرد تعاقب منتظم فى الزمن بين الحركات والسكون، بل هو يتكون من كلمات، والكلمات لها دلالات، أى أنها تشير إلى مـدركات مرتبطة بالحس. فالشاعر كالمصّور يبدع العالم فى أشكال فنية، وكلاهما يحاكى الأشياء الإرادية - على حد قول الفـارابى(42) ـ ومعنى ذلك أن الشعر متصل بنوعين من الفن، هما الموسيقى والتصوير. بل إن الشاعر يعد أكثر حرية من المصور، لأن المصور يكون ملتزماً بقواعد المنظور الثابت، وبالنقل المباشر - وليس الحرفى - له. أما الشاعر فإنه يحاكى الموضوع بأكثر من طريقة.
ولكن من هو الشاعر فى رأى "الفارابى"؟
يقول "الفارابى" :"إن الشعراء إما أن يكونوا ذوى جبلة وطبيعة متهيئة لحكاية الشعر وقوله، ولهم تأتٍ جيد للتشبيه والتمثيل : إما لأكثـر أنواع الشعر، وإما لنوع واحد من أنواعه، ولا يكونوا عارفين بصناعة الشعر على ما ينبغى، بل هم مقتصرون على أن جودة طباعهم وحسن تأتيهم لما هم ميسرون نحوه. وهؤلاء غير (مسلجسين) بالحقيقة لما عدموا من كمال الرؤية والتثبت من الصنـاعة". ومن سمّاه مسلجساً شعريا فذلك لما يصدر عنه من أفعال الشعراء(43).
إن "الفارابى" عندما يصوغ تعريفه للشاعر، فإنه يبدأ بالشاعر الذى يقرض الشعر بالفطرة، أو الشاعر المطبوع، والذى وهب القدرة على صياغة الشعر، ولكن دون أن يكون عليما ومتبحرا فى صنعة الشعر وهذا الشاعر لا يعد مكتمل النضج لدى "الفارابى". أما الشعراء العارفون "بصناعة الشعر حق المعرفة حتى لا يند عنهم خاصة من خواصها ولا قانون من قوانينها فى أى نوع، شرعوا فيه، ويجوّدون التمثيلات والتشبيهات بالصناعة، وهؤلاء هم المستحقون للشعراء المسلجسين"(44).
أى أن التبحر فى صنعة الشعر هو الأساس فى تكوين الشاعر، أما الذين يقلدون الشعراء من الطائفة الأولى (المطبوعين) أو الثانية (العارفين بالصنعة) فانهم يكونون أكثر زللاً وخطأ.
يقول "الفارابى" فى إطار رؤيته لمهمة الشعر، إن الأقاويل الشعرية نوعان: "منها ما يستعمل فى الأمور التى هى جدّ، ومنها ما شأنها أن تستعمل فى أصناف اللّعب. وأمور الجدّ هى جميع الأشياء النافعة فى الوصول إلى أكمل المقصودات الإنسانية، وذلك هو السعادة القصوى"(45).
واذا كان "الفارابى" - متأثرا بأفلاطون - يفضل العمل الفنى الذى يستعمل فى أمور الجدّ، من أجل الوصول إلى أكمل المقصودات الإنسانية. ويضعه فوق العمل الذى يكون مقصوداً لذاته (اللعب) أو المتعة الحسية التى لا تهدف إلى غاية نافعة أو تقدم موقفا أخلاقيـا، إلا أنه لا ينكر الشعر الذى جوهره اللّعب أو الذى لا يؤدى إلى مقصد خيّر.
أى أن "الفارابى" يزاوج بين نوعين من الشعر. الشعر الذى يدعـو إلى الفضيلة ويؤدى إلى السعادة - أى الشعر الذى يدعو إلى الخير والمنفعة - والشعر الذى يمتع وإن كان غير مفيد.
وللشاعر دور فعال فى المدينة الفاضلة، وإن كان "الفارابى" لم يرق به إلى مستوى الأفاضل، إلا أنه لم يطرده من مدينته، "فالمدينة الفاضلة أجزاؤها خمسة : الأفاضل وذوو الألسنة والمقدّرون والمجاهدون والماليون. فالأفاضل هم الحكماء والمتعقلون وذوو الآراء فى الأمور العظام. ثم حملة الدين، وذوو الألسنة وهم الخطبـاء والبلغاء والشعراء والملحنون والكتاب ومن يجرى مجراهم وكان فى عدادهم"(46).
ثم يشرح بعد ذلك تكوين الفئات الأخرى من (المقدرين والمجـاهدين والماليين). أى أن "الفارابى" جعل الشعراء يسبقون فئات كثيرة من فئات مجتمع المدينة الفاضلة. فوضعهم فوق الحسّاب والمهندسين والأطباء والمنجمين، وفوق المجاهدين، ومكتسبي المال فى المدينة. وبذلك يكون الشعراء فى مدينته فى وضع أفضل كثيراً منهم فى جمهورية "أفلاطون".
ويفصل "الفاربى" بين وظيفتى الشعر : اللعب، والجد أو اللذة والفائـدة، بحيث يصبح الشعر إما هادفًا إلى تحقيق اللذة أو تحقيق ما هو نافع ومفيد. ومن هنا نجده يدخل الشعر أو الأقاويل المحاكية ضمن ما يستعمله الإنسان ليسعد به، بحيث لا ينال من وراء تحصيله سوى الراحة واللذة. وإن كان "الفارابى" يحدد وبشكل قاطع أفضلية النوع الثانى من الشعر.
والفارابى "قادر - شأنه فى ذلك شأن "أفلاطون" - على أن يخبـرنا بمعاييره الأخلاقية فى الفن لأن هذه المعايير جزء مـن مخطط أخلاقى واضح الصياغة، سواء فى كتبه عن الأخلاق أو السياسات المـدنية أو سبيل تحصيل السعادة. ولا شك أن هذا إنجاز متميز، إذْ أن أى نظرية أخلاقية فى الفن تظل خاوية ما لم تستند إلى مخطط من القيم بغض النظر عن قبولنا أو رفضنا لهذا المخطط"(47).
وهكذا نجد أن "الفارابى" قد جعل الشعر لكى يكون شعرا يجب أن يكون محاكيا - أى أن المحاكاة عنصر أساسي فيه - ثم لابد وأن يكون موزونا ومقسما إلى أجزاء متساوية. وربط بين الشعر والموسيقـى والتصوير. وجعل الشاعر الحق، هو الذى يمتلك صنعة الشعر، وأناط به دورا أخلاقيا جعله فى المقدمة، وان لم ينكر المتعة أو اللذة فى الشعر.
أما "ابن سينا" فقد رأى أن "الشعر هو كلام مخّيل مؤلف من أقـوال موزونة متساوية، وعند العرب مقفاة. ومعنى كونها موزونة أن يكون لها عدد إيقاعي. ومعنى كونها متساوية هو أن يكون كل قول منها مؤلفا من أقوال إيقاعية، فان عدد زمانه مساو لعدد زمان الآخر. ومعنى كونها مقفاة هو أن يكون الحرف الذى يختم به كل منها واحدا"(48).
وبذلك يلح "ابن سينا" على قضية التخييل، ويجعل الوزن من جوهر العمل الشعرى خاصة عند العرب - أو فى الشعر العربى.
ويرى أن "المقدمات الشعرية هى : المقدمات التى من شأنها، إذا قيلتْ أن توقع فى النفس تخييلا، لا تصديقا.
والتخييل هو انفعال من تعجب، أو تعظيم أو تهوين أو تصغير، أو غم أو نشاط من غير أن يكون الغرض بالمنقول ايقاع اعتقـاد ألبتة. وهذه المقدمات ليس من شرطها أن تكون صادقة، ولا كاذبة، ولا ذائعة ولا شنعة، بل أن تكون مخيلة. ويكاد يكون أكثرها محاكيات للأشياء بأشياء من شأنها أن توقع تلك التخيلات. فيحاكى الشجاع بالأسد والجميل بالقمر والجواد بالبحر"(49).
ويؤكد (ابن سينا) على التخييل فيقول : "والمخيل هو الكلام الذى تذعن له النفس فتنبسط عن أمور وتنقبض عن أمور من غير روية وفكر واختيار، وبالجملة تنفعل له انفعالا نفسانيا غير فكرى، سواء كان المقول مصدقا أو غير مصدق. فإن كونه مصدقا به غير كونه مخّيلا أو غير مخيل : فانه قد يصدّق بقول من الأقوال ولا ينفعل عنه، فإن قيل مرة أخرى، انفعلت النفس عنه طاعة للتخييل لا للتصديق. فكثيراً ما يؤثر الانفعال ولا يحدث تصديقا. وربما كان المتيقن كذبه مخيلا"(50).
وإذا كان "ابن سينا" قد أكد على التخييل فى الشعر، وأكد على أن الكلام المخيل هو الذى ينفعل به الانسان انفعالا نفسانيا غير فكرى - أى دون روية واختيار - بل لأنه - أى الكلام - متيقن الكذب. وأكد أيضا على الوزن والقافية، بصورة أقوى من "الفارابى"، فانه أيضا يجعل الشعر صناعة. فالصناعة عنده هى "أعلى درجة من درجات الشعر، .. والصانع الأقدم أرأس من الصانع الذى يخدمه ويتبعه"(51).
بل إن المقدمات المخيلة نفسها التى يتألف منها القول الشعرى، "تكون تارة موجهة بحيلة من الحيل الصناعية نحو التخييل وتارة لذواتها بلا حيلة من الحيل". وهى أن تكون إما فى لفظها مقولة باللفظ البليغ الفصيح بحسب اللغة، أو أن تكون فى معناها ذات معنى بديع فى نفسه لا بحيلة قارنته. مثال ذلك قول القائل:
وما ذرفت عيناك إلا لتضربى بسهميك فى أعشار قلب مقتل(52)
ويوجد "الشعر بأن يجتمع فيه القول المخيّل والوزن، فإن الأقاويل الموزونة التى عملها عدة من الفلاسفة، ومنهم "سقـراط"، قد وزنت بوزن (ايلاجيا) الثالث المؤلف من أربعة عشر رِجْلاً، وإما بوزن (التـروكى الرباعى) المؤلف من ستة عشر رجلا، وغير ذلك. وكذلك التى ليست بالحقيقة أشعاراً. ولكنْ أقوالاً تشبه الأشعار وكالكـلام الذى وزنه (أنبادوقليس) وجعله فى الطبيعيات، فإن ذلك ليس فيه من الشعر إلا الوزن. ولا مشاركة بين "أنبادوقليس" وبين "هوميروس" إلا فى الوزن. و أما ما وقع عليه الوزن من كلام "أنبـادوقليس" فأمور طبيعية، وما يقع عليه الوزن من كلام "هوميروس" فأقوال شعرية فلذلك ليس كلام "أنبادوقليس" شعراً. وكذلك أيضا من نظم كلاماً ليس من وزن واحد، بل كل جزء منه ذو وزن آخر فليس ذلك شعراً، ومن الناس من يقـول "ومن يغنى به بلحن ذى إيقاع"(53).
فالشعر لابد أن يجتمع فيه القول المخيل والوزن، وإلا فقد صفة الشعر بل لابد فى رأى "ابن سينا" أن يكون الوزن واحداً. فوحدة الوزن والتخييل هى أساس الشعر..
ويلاحظ هنا أن "ابن سينا" فى (فن الشعر) كان مدركا لآراء "أرسطو" فى التفرقة بين الشعر وغير الشعر، وأن الشعر ليس مجرد الكلام الموزون المقفى فحسب، بل لابد أن يجتمع إليه التخييل أيضا.
و"السبب المولد للشعر فى قوة الانسان، شيئان : أحدهما الالتذاذ بالمحاكاة واستعمالها منذ الصبا، وبها يفارقون الحيوانات العجْم، من جهة أن الانسان أقوى على المحاكاة من سائر الحيوانات، فإن بعضها لا محاكاة فيه أصلا. وبعضها فيه محاكاة يسيرة : إما بالنغم كالببغاء، و اما بالشمائل كالقرد"(54). "والسبب الثانى حب الناس للتأليف المتفق والألحان طبعا، ثم وجدت الأوزان مناسبة للألحان، فمالت إليها الأنفس وأوجدتها"(55).
فحب المحاكاة، والمتعة المتولدة عنها، وحب الناس للتأليف الموزون بأوزان مناسبة للّحن، هما السبب فى تولّد الشعر فى الإنسان. فإذا كان الإنسان عفيفا طيب النفس مال إلى المحاكاة بالأفعال الجميلة، أما من كان أخسّ فقد مال إلى الهجاء.
وهو هنا يردّد - ترجمةً - أقوال "أرسطو" الذى رأى أن التراجيديا تحاكى الأنقياء من الناس بينما نحاكى الكوميديا الأدنياء من البشر.
ولقد أدرك "ابن سينا" - شأنه شأن "الفارابى" - تلك العلاقة بين الشعر والفنون الأخرى، حين أشار إلى أن كلا من الشاعر والمصـور محاكٍ، غير أنه يختلف عن "الفارابى" فى أنه كان مدركا للنظرية الأرسطية التى ترى أن الفنون كلها بما فيها الأدب والموسيقى والتصوير والرقص تقوم على المحاكاة. وأن التمييز بين فن وآخر إنما يكون (بوسيلة المحاكاة) (56).
فالمحاكاة عند "ابن سينا"(57) تكـون فى ثلاثة أشياء هى اللحن والكلام والوزن، اللحن الذى يتنغم به يؤثر على النفس تأثيراً لا يرتـاب به، والكلام إذا كان مخّيلا محاكياً، وبالوزن وإن كان من الأوزان ما يطيش ومنها ما يوقر وربما اجتمعت هذه كلها، وربما انفرد الوزن والكلام المخيّل.
وإذا كان الشعر عند "الفارابى" يقوم بأداء مهمتين هما اللذّة والفائدة، فإننا نجد أن "ابن سينا" قد أقر بهاتين الوظيفتين، وإن كان لم يجمع بينهما. "فالشعر قد يقال للتعجّب وحده، وقد يقال للأغراض المدنية"(58) فعلى ذلك كانت الأشعار اليونانية.
أما الأشعار العربية فإنها تقال لأمرين : "أحدهما ليؤثر فى النفس أمرا من الأمور تُعَدُّ به نحو فعل أو انفعال، والثانى للعجب فقط، فكانت تشبه كل شىء لتعجب بحس التشبيه"(59) بينمـا اليونانيون - فى رأيه - كانوا يقصدون "أن يحثوا القول على فعل أو يردعوا بالقول عن فعل. وتارة كانوا يفعلون ذلك على سبيل الخطابة، وتارة على سبيل الشعر"(60).
فالعجب الذى يقول فيه العرب الشعر يكاد يكون مقصوداً لذاته بعيداً عن أى مغزى عملى أو نفعي. أو بعيداً عن الفائدة - كما كان لدى "الفارابى" - على حد تعبيره. وهذا يتسق أيضا مع قول "ابن سينا" إن أحد سببي الشعر فى الإنسان هو الإلتذاذ بالمحاكاة، وان السبب الثانى - كما أسلفنا هو حب الناس للتأليف. فصنعة الشعر يمكن أن تكون هنا غاية فى حد ذاتها.
"فابن سينا" يقدر الجانب الممتع فى الفن عموما - وليس الشعر فقط - بل إن اللذة أو المتعة أو الفرحة التى تحققها المحاكاة فى الفن - فى تصوره - هى التى تسوغ للمتلقى الإقبال على هذا الفن وتفضيله على الواقع رغم بعده واختلافه عن هذا الواقع"(61).
واذا كان "ابن سينا" قد اهتم باللذة فى الشعر، فانه أيضا اهتم بالجانب الأخلاقى، وإن كان منفصلا عن حديثه عن اللذة. فهو يرى أن من واجب الشعر "أن يحاكى الأفعال المنسوبة للأفاضل، وإلى الممـدوحين من الأصدقاء بما يليق بهم وبمقابلها للأعداء"(62). وأن يحاكى فى الممدوح" خيريته، ويذكر أنها نافعة وموافقة، وأنها على أشبه ما ينبغى أن تكون به، وأنها معتدلة متناسبة الأحوال"(63).
ولقد ترتب على هذه النظرة الأخلاقية لوظيفة الشعر أن أصبح موضوع المحاكاة فى الشعر يقوم على الواقع، وعلى ما ينبغى وقوعه. فإذا "أسندت التجربة إلى موجود أقنعت أكثر مما تقنع إذا أسندت إلى مخترع، وبعد ذلك إذا أسندت إلى موجود مما يقدر كـونه. وقد كان يستعمل فى طراغوذيا جزئيات فى بعض المواضع مخترعة تسمى على قياس المسّميات الموجودة، ولكن ذلك من النادر القليل(64).
وهكذا ألزم "ابن سينا" الشاعر بالابتعاد عن كل ما هو مبتدع أو مخترع، واشترط ألا تكون الخرافة المخيفة المحزنة (موضوع التراجيديا) موضع شكّ. إلحاحا منه على تأكيد الصلة الوثيقة بين المهمة الأخلاقية للشعر، وموضوع المحاكاة الشعرية.
يقول ابن سينا:
ويجب ألا تكون الخرافة موردة مورد الشك حتى تكون كأنها تفسّر على التخيّل. فإن هذا اولى بأن يخيّل (جيدا) كما كان يفعله فلان. وإن كان فعله غير مخلوط بصناعة تصديقية وشئ يحتاج إلى مقدمات. وقد كان بعضهم يقدّمون مقدّمات شعرية للتعجيب بالتشبيه والمحاكاة فقط دون القول الموجّة نحو الأفعال"(65).
وهكذا نجد أن "ابن سينا" قد جعل الشعر هو الكلام الموزون المقفى والذى يقوم على التخْييل. كما اهتم بدور الشاعر فى اجتلاب المتعـة أواللذة، بالإضافة إلى دوره الأخلاقى والتربوى المنفصل عن دوره الأول وهو فى رأيه ذلك يردّد آراء "أرسطو" فى هذا الشأن.
ويعرف "ابن رشد" الشعر بقوله :
"والأقاويل الشعرية هى الأقاويل المخيلة. وأصناف التشبيه والتخييل ثلاثة : اثنان بسيطان، وثالث مركب منهما"(66) والصناعة المخيلة التى تفعل فعل التخييل ثلاثة : صناعة اللحن، وصناعة الوزن، وصناعة عمل الأقاويل المحاكية(67).
وتوجد هذه العناصر متفرقة، كما توجد مجتمعة، فالمزامير تتميز بالنغم، والرقص بالوزن، واللفظ بالمحاكاة، ومثال اجتماعها الموشحات والأزجال فى بلاد الأندلس. غير أن هذه العناصر عند "أرسطو" - كما أسلفنا - تخص فن التراجيديا. ولكن "ابن رشد" يطبقها على الشعر العربى مباشرة، وذلك بناء على تعريفه بأن كل قول شعرى هو إما هجاء، أومديح، بوضع الهجاء مكان الكوميديا، والمديح مكان الترجيديا.
ثم يكرر "ابن رشد" ما جاء فى "أرسطو" - و"الفارابى" و"ابن سينا" - حول ما ينبغى أن يسمى شعرًا، رافضا وضع أقوال (أنبادوقليس) ضمن الشعر وذلك على العكس من أعمال (هوميروس) التى يتمثل فيها معنى الشعر بشكل كامل.
أمـا "نشأة الشعر فتبدأ من كونه مطلبا فطريا، مؤكداً على أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذى يلنذّ بالتشبيه والمحاكاة، وهو الذى يختص بتذوق الوزن واللحن طبيعيا"(68). مؤكدا ما جاء أيضا عند ابن سينا.
وإذا كان الشعر يقوم على المحاكاة، فإن "ابن رشد" يؤكد على اختلاف المحاكاة بين الفنون المختلفة. فالمحاكاة "فى الأقاويل الشعريـة تكون من قِبل ثلاثة أشياء : من قِبل النغَم المتفقة، ومن قبل الوزن ومن قبل التشبيه نفسه. وهذه قد يوجد كل واحد منها مفردا عن صاحبه مثل وجود النغم فى المزامير، والوزن فى الرقص، والمحاكاة فى اللفظ، أعنى الأقاويل المحاكية غير الموزونة. وقد تجتمع هذه الثلاثة بأسرها، مثلما يوجد فى النوع الذى يسمى الموشحات والأزجال، وهى الأشعار التى استنبطها فى هذا اللسان أهل هذه الجزيرة"(69).
أى أن عناصر قيام الشعر هى اللحن والوزن والمحاكاة، وهى نفسها العناصر التى وضعها "ابن سينا". غير أن "ابن رشد" رأى أن الشعـر العربى - عدا الموشحات والأزجال - لا يتوافر له عنصـر اللحن، وانما يتوافر له إما الوزن فقط أو الوزن والمحاكاة. وهذا ما سبق أن قرّره أيضا "الفارابى"، إذ لا يعّد اللحن من عنـاصر الشعر العربى.
"من هنا يقّر كل من ابن سينا وابن رشد أن المحاكاة والتخييل فى الشعر تكون من قبل اللفظ والوزن فقط، ويصبح الفرق بينهما وبيـن "الفارابى"، أن الأخير يقْصر المحاكاة فى الشعر على اللفظ دون الوزن"(70).
ومما تجدر ملاحظته هنا هو أن "ابن رشد" بذل جهدا كبيرا فى محاولة تطبيق ما جاء فى فن الشعر على الشعر العربى. مستندا إلى معرفة كبيرة بالشعر الجاهلى، والعصور التالية عليه.
واذا كانت العلل المولدة للشعر فى الناس هى : التشبيه والمحاكـاة، والالتذاذ بهذا التشبيه، ثم الالتذاذ أيضا بالوزن والألحـان. فإن هذا يعنى أن تذوق الشعر والتمتع به أمر مطبوع فى الانسان - أى فطرى. وهنا تكمن القيمة الجمالية للشعر التى تجعـل المتعة أساسا لها. غير أن "ابن رشد" لا يغفل الدور التعليمى للشعر. فالشعر هو أحد وسائل الإقناع عند تربية سكان الدولة، لأن الشعر يمكن أن يدركه العامة بينما الأساليب البرهانية لا يدركها غير الخاصة.
والخطابة والشعر من الوسائل التى تستخدم فى تدبير مصالح المدن وأمور العامة.
وإذا كانت اللذة فى الشعر تأتى مصاحبة للمحاكاة حتى لو كانـت المحاكاة موجهة إلى أمور الجد، "فالمحاكاة فى حد ذاتها مُلذّة، غير أن هذه اللّذة تقيم على أساس ما تقدمه من نفع أو ما يقترن به من فائدة ومن هنا يصبح الشعر أداة تعليمية لأنه أكثر قبولاً لديهم من البرهان"(71).
وإذا كان الشعر بطبيعته التخييلية يسهل تمثيل الحقائق، وبطبيعته الجمالية يسهل استيعاب صور الحقائق فى انتظار أن يترقى الصبّى إلى درجة التعليم البرهانى. وذلك لأن الأحداث "من أخلاقهـم أنهم يؤثرون الجميل أكثر من إيثارهم النافع، وانما يؤثرون من النافع ما كان جميلا. فلابد حينئذ من توجيه هذا التوافق بين طبيعة الشعر والحاسّة الجمالية للشباب حتى يحسن تعليمهم(72).
فالأقاويل الشعرية - عند "ابن رشد" - لا تستخدم فقط فى تعليم الكبار، وإنما أيضا فى تعليم الصبية، لأن الأقاويل الشعرية تستخدم فى تعليم من لا يستطيع استيعاب الأساليب البرهانية.
بالإضافة إلى الدور التعليمى للشعر، فان له دورا أخلاقيا، تتحدد غاية الشعر فيه بالكفّ عن فعل، والحثّ على فعل آخر.
يقول "ابن رشد" :
"ولما كان المحاكون والمشبهون إنما يقصدون بذلك أن يحثوا علـى عمل بعض الأفعال الإرادية، وأن يكفّوا عن عمل بعضها، فقد يجب ضرورة أن تكون الأمور التى تقصد محاكاتها : إما فضائل، و إما رذائل .. وذلك أن كل فعل وكل خُلق إنما هو تابع لأحد هذين: أعنى الفضيلة أو الرذيلة، فقد يجب ضرورة أن تكون الفضائل إنما تحاكى بالفضائل والفاضلين، وأن تكون الرذائل تحاكى بالرذائل والأرذلين. وإذا كان كل تشبيه وحكاية إنما تكون بالحسن والقبح. فظاهر أن كل تشبيه وحكاية إنما يقصد به التحسين والتقبيح. وقد يجب مع هذا ضرورة أن يكون المحاكون للفضائل، أعنى المائلين بالطبع إلى محاكاتها، أفاضل، والمحاكون للرذائل أنقص طبعا من هؤلاء وأقرب إلى الرذيلة"(73).
وإذا كان الأفاضل يحثون على الفضيلة، والمحاكون للرذائل أنقص طبعا وأقرب إلى الرذيلة - فى رأى "ابن رشد" - فإنه بذلك يكون محرضا الشعراء للقيام بدور أخلاقي.
وهكذا نجد ابن رشد شأنه شأن غيره من الفلاسفة المسلمين السابقين كان يؤكد على أن الوزن يمثل عنصراً رئيسيا فى الشعر، وأن المحاكاة مما يتقّوم به الشعر. وأن الشعر قد يقصد به المتعة الجمالية الخالصة أو المنفعة، وإن كان يميل إلى إضفاء دور أخلاقي على الشعر، ودور تعليمي خاصة مع الشباب والصغار.
والجدير بالذكر أن آراء الفلاسفة (الفارابى، ابن سينا، ابن رشد) ليست إلا تـرديداً الآراء "أرسطو". مع بعض التعديلات الطفيفة فى محاولة لجعلها مناسبة للشعر العربى. وقد اختلفت درجة هذه الموائمة مع الشعر العربى، من فيلسوف إلى آخر، وكانت فى ذروتها عند ابن رشد.
الشعر والشاعر عند النقاد
(ابن طبا طبا - قدامة بن جعفر - حازم القرطاجى)
يبدأ "ابن طبا طبا" فى (عيار الشعر) تعريفه للشعر على أنه "كلام منظوم، بائن عن المنثور الذى يستخدمه الناس فى مخاطباتهم، بما خُصّ به من النظم الذى إن عدل عن جهته مّجته الأسماع. وفسـد علـى الذوق. ونظمه معلوم محدود، فمن صحّ طبعه وذوقه لم يحتـج إلى الاستعانة على نظم الشعر بالعروض التى هى ميزانه، ومن اضطرب عليه الذوق ولم يستغن عن تصحيحه وتقويمه بمعرفة العروض والحذق به، حتى تعتبر معرفته المستفادة كالطبع الذى لا تكلف معه"(74).
فى هذا التعريف يضع "ابن طباطبا" الوزن أساسا للشعر، كما أنه لا يهتم بالتخييـل أو المحاكاة. فهو لا يضع فى اعتباره غير الشعر فى ذاتـه باعتبـاره بنية لغوية قائمة على أساس الطبع والذوق. أما من لم يستقم ذوقه - فى رأى "ابن طبا طبا" - فإنه لابد محتاج إلى معرفة العروض والحذق به، أى أن الصنعة والدربة تكون هامة بالنسبة له.
وإذا كانت معرفة الشاعر بالصنعة من الأمور الهامة، فإن ثقافته أيضا ذات أهمية كبرى. فيرى "ابن طبا طبا" ضرورة "التوسع فى علم اللغة والبراعة فى فهم الإعراب، والرواية لفنون الآداب، والمعرفة بأيام الناس وأنسابهم ومناقبهم ومثالبهم، والوقوف على مذاهب العرب فى تأسيس الشعر والتصرف فى معانيه، وفى كل فن قالته العرب فيه، وسلوك سُبلها ومناهجها فى صفاتها ومخاطباتها وحكاياتها وأمثالها والسنن المستدله منها، وتعريضها وتصريحها، وإطنابها وجزالة معانيها وحسن مباديها، وحلاوة مقاطعها، وإيفاء كل معنى حظّه من العبارة وإلباسه ما يشاكله من الألفاظ حتى يبرز فى أحسن زى وأبهى صورة"(75).
فالشاعر الحقّ هو الذى استقامت لغته، وكثر حفظه للشعر ومعرفته لفنونه وضروبه، ومن كان واسع الثقافة، عليما بكل ما يتصل بمجاله، وعصره والعصور السابقة.
وكذلك نجد "ابن طبا طبا" ينصح الشاعر بمعرفة سنن العرب، أى المعتقدات الخرافية أو الفلكور العربى : كسقيهم العاشق الماء على خرزة تسمى السلوان، وكضربهم الثور إذا امتنعت البقر عن الماء، وكحذف الصبى سنّه إذا سقطت فى عين الشمس(76).
ويذكر "ابن طباطبا"(77) أمثلة على ذلك إذُ يقول الشاعر - فى شأن موضوع الحززة:
ياليت أنّ لقلبى من يعلّله
أو ساقياً فسقاه اليوم سلواناً
أو قول شاعر آخر :
شربت على سلوانه ماء مُزْنةٍ
فلا وجديد العيش يامىّ ما أسْلُوّ
وكذلك فى إيقادهم النار خلف المسافر الذى لا يحبّون رجوعه، ويقولون:
أبعده الله وأسحقه وأوقد ناراً إثره. وفى ذلك يقول الشاعر:
وذمة أقوام حملتَ ولم تكنْ
لتوقد ناراً إثرهم للتندّمِ
وكضربهم الثور إذا امتنعت البقر من الماء، ويقولون إن الجنّ تركب الثيران فتصدّ البقر عن الشراب. قال الأعشى:
فإنى وما كلفتمونى وربّكم
ليعلم من أُمْسى أحقّ وأحوبــا
لكالثور والجنّىُّ يركب ظره
وما ذنبه أن عافتْ الماء مشربا
وما ذنبه أن عافت الماء باقر
وما إنْ تعاف الماء إلاّ ليضربا
كما يذكر - "ابن طباطبا" - فى هذا الصدد أيضا شعرا لـ "نهشل بن حرّى" .
وكذلك زعم العرب أن الصبى إذا حذف سنّه وسقطت فى عين الشمس. وقوله: ابدلينى بها أحسن منها. وقالت العرب إن فعله ذلك يجعل أسنانه تنبت سليمة لا عوج فيها.
وقد قال "طرفة بن العبيد"
بدلته الشمس من منبته
برداً أبيض مصقول الأشر
إن هذه المعرفة الوثيقة بحكايات العرب وخرافاتهم تجعل الشاعر قادراً على مخاطبة وجدانهم، كما تعّمق رؤيته وتضيف إليها أبعادًا أسطورية وخرافية.
وإذا كانت ثقافة الشاعر الواسعة، ومعرفته سنن العرب ومعتقداتهم وخرافاتهم وأساطيرهم ذات أهمية كبيرة بالنسبة للشاعر حتى يكون شعره عميقا، واسع الأفق، فإن هذا يتطلب أيضا أن يكون الشاعر عالما بفنّه، متمرساً فيه، وقادراً على تطويعه لأغراضه.
يقول ابن طبا طبا :
"للشعر أدوات يجب إعدادها قبل مراسه وتكلف نظمه، فمن تعصت أداة من أدواته، لم يكمل له ما يتكلّف منه وبان الخلل فيما ينظمه، ولحقته العيوب من كل جهة"(78).
ومعنى ذلك أنه علينا أن "نرد استعصاء الأداة إلى استعصاء الطبع، وتفهم الأداة فى الشعر فهماً رحبا، لا يقصر على مجرد التوسـع فى علم اللغة، والبراعة فى فهم الإعراب، والمعرفة بأنساب الناس ومناقبهم، بل تمتد لتشتمل الأداة الشعرية"(79).
ولم يقف "ابن طباطبا" فى حديثه عن الشعر على تعريفه، وما يلزم للشاعر من أدوات أو ثقافة، بل إننا نراه يدخل فى تفاصيل كتابة القصيدة أو صناعتها، فيقول:
"فإذا أراد الشاعر بناء قصيدة مخّض المعنى الذى يريد بناء الشعر عليه فى فكرة نثراً، وأعدله ما يُلبّسه إيّاه من الألفاظ التى تطابقه، والقوافى التى توافقه، والوزن الذى يُسلس له القول عليه"(80).
ثم يتابع "ابن طباطبا" تفاصيل عملية الصناعة هذه، وبشكل آلى فهى تمرّ بمراحل متتالية، وهو بذلك يحول الشاعر من مبدع إلى صانع، وكأن الشاعر يدخل إلى عالمه الشعرى، وبناء القصيدة قصْداً، ولا وجود للالهام أو الوحى، أو اللاوعى فى هذا الشأن.
أما "قدامة بن جعفر" فقد وجد أن ما ينْدرج تحت العلم بالشعر، انما يتمثل فى خمسة أقسام هى : الوزن والعروض، والقوافى والمقاطع، واللغة والغريب، والمعانى ومقصودها، وتمييز الجيد من الرديء. ولاحظ قدامة أن السابقين عليه استقصوا القول فى الأقسام الأربعة الأولى، ولكنهم لم يضعوا كتابا مقنعا فى نقد الشعر وتخليص جيده من رديئه، مع أن هذا القسم أهم من باقى الأقسام وأقربها إلى جوهر العلم بالشعر، ذلك لأن دراسة الغريب والنحو وأغـراض المعانى هى أصل من أصول الكلام العام - أو ما يسميه "الفارابى" علم اللسان - وهو أصل ينطبق على الشعر كما ينطبق على النثر، ومن ثمّ لا يميّز الخصائص الذاتية للشعر. أما دراسة الوزن والقافية فهى - وإن خصّت الشعر وحده - ليست دراسة ملحّة لسهولة وجودها فى طباع أكثر الناس من غير تعلم(81).
لقد كان عدم وجود (نقد الشعر) هو السبب الأساسى فى وضعً قدامة "بن جعفر" لكتابه، وذلك اعتمادًا على أن هذا المجال (النقد) هو الأقرب إلى جوهر العلم بالشعر.
ويلاحظ أن قدامة قد أدرج القوافى - على غير ما فعل "ابن طبا طبا" - ضمن ما يشكل الأقسام الخمسة التى يجب دراستها فى الشعر، وبالتالى جعلها من قوام الشعر.
يقول قدامة عن الشعر أنه :
"قول موزون مقفى يدل على معنى"(82).
وهكذا نجد أن الفارق بين الشعر والنثر قد انحصر فى الجانب الموسيقـى المتحقق فى الوزن والقافية، دون النظر الى البنية اللغوية وخصوصيتها(83).
ويرى "قدامة بن جعفر" "أن الشاعر يحاول الوصول إلى الطرف الأجود من الشعر ولا يعجز عن ذلك إلا إذا ضعفت صناعته، أو انعدمت، فينتهى إلى غاية الرداءة أو يقع بين الغايتين أو النقيضين. وفى كل حال من الأحوال يظلّ يقول كلاما موزونا مقفى يدل على معنى، لكن قيمة القول تتحدد فى النهاية بمدى القرب أو البعد من الغاية المثالية، وهى الشعر الحق، الذى يهدف إلى الوصول إلى صناعة الشعر. ومصطلح العلم بمعناه القديم. فالصناعة هى العلم المتعلق بكيفية العمل(84).
و "قدامة" هنا يؤكد على أن الشعر صناعة، وبذلك يكون ضـروريا أن يحدّد الصفات التى تؤكد على جودته، وتلك التى ينطوى عليها ردئ الشعر. وقد رأى قدامه أن اللفظ، والوزن، والقافية، والمعنى هى ما يتقوم به الشعر، ويمكن الحكم عليه بالجودة أو عدمها بالرجوع إليها.
أما "حازم القرطاجى" فيقول فى تعريفه للشعر
"الشعر كلام موزون مقفى من شأنه أن يحبب إلى النفس ما قصد تحبيبه إليها. ويكره إليها ما قصد تكريهه لتحمل بذلك على طلبـه أو الهرب منه بما يتضمن من حسّ تخييل له، ومحاكاة مستقلة بنفسها أو متصورة بحسن هيأة تأليف الكلام، أو قوة صدقه أو قوة شهرته، أو بمجموع ذلك، وكل ذلك يتأكد بما يقترن به من إغراب. فإن الاستغراب والتعجب حركة للنفس إذا اقترنت بحركتها من الخيالية قوى انفعالها وتأثيرها"(85).
وإذا كان "حازم" قد اتفق مع "ابن طبا طبا" فى أن الشعر كلام موزون مقفى، إلا أنه أضاف إلى هذا العنصر الشكلى عنصر التمثيل والمحاكاة، وهذا يعنى تأثّره بما جاء فى (فن الشعر) لأرسطو، والشروح والملخصات التى أجراها عليه الفلاسفة العرب فى هذا الشأن. كما أنه كشف عن نظرة ثاقبة حين أضاف العنصر الإبداعى - الاستغراب والتعجب - للشعر، وباعد بينه وبين التأثير الساذج.
و"حـازم القرطاجنى" عندما يتكلم عن "علاقة الشاعر بعالمه فإننا نجده أميل إلى استخدام مصطلح المحاكاة وحده. وإذا تحدث عن طاقات الشاعر الإبداعية، وقواه الابتكارية فإنه يستخدم فى هذه الحالة مصطلح التخيل، والمتخيلة أو المخيلة على أساس أن العمل الفنى ينتج عن القوة الإبداعية"(86).
وهكذا نجد أن "حازم القرطاجنى" قد اكتملت على يديه النظرية النقدية، والرؤية الشعرية.
والشاعر الحق عند "حازم" هو الذى خبر الحياة خبرة عميقة وأدرك مجارى أمورها إدراكا واعيا وهو الذى له من قوة التمييز والملاحظة ما يمكنه من الوعى بحقائق الأشياء والأحوال والأزمنة والقضايا(87).
على أن العلاقة بين الشعر والواقع، وعلاقة الشعر بالأخلاق قد اتخذت منحى آخر عند هؤلاء النقاد. فنجد "قدامة بن جعفر" يستعير من (أفلاطون) فضائله الأربع الكبرى : العقل والشجاعة والعدل والعفة ويجعلها أساساً لمعانى الشعر. فى المدح يتم اثباتها وفى الهجـاء يتم سلبها، وفى الرثاء ترد بصيغة الماضى .. الخ ومع ذلك فإن (قدامة) يجيز الفُحش والرفْث فى الشعر لأن الهجاء فن من فنون الشعر يتناول تصوير الجوانب السالبة، ولا يتوجب على الشاعر إذا شرع فى غرض من أغراض الشعر إلا أن يتوخى البلوغ إلى النهاية المطلوبة فى التجويد(88).
والشعـر عند العرب كان يدور حول المديح والهجاء، وان ما يهدف إليه الشاعر سواء فى المديح أو الهجاء، إنما هو الخيـر، وما يخرج على هذا لا يعدّ من الشعر الجيد. ولذلك فإننا نجد أن "ابن طباطبا" يقول عن المثل الأخلاقية عند العرب وبناء المدح والهجاء عليها :
"وأما ماوجدته فى أخلاقها، ومدحت به سواها، وذمّت من كان ضد حاله فيه فخلال مشهورة كثيرة منها فى الخَلقْ الجمال والبسطة، ومنها فى الخلقُ السخاء والشجاعة، والحلم والحزم والعزم، والوفاء، والعفاف، والبر، والعقل، والأمانة والقناعة، والغيرة، والصدق والصبر، والورع، والشّكر، والمداراة، والعفو، والعدل والإحسان، وصلة الرحم، وكتم السر ….."(89).
ولقـد رد "ابن طبا طبا"، عيار الشعر إلى موافقته للحال التى تنظم من أجلها، وفهم "ابن طبا طبا" هذه الحال فهما أخلاقياً مباشراً. وبذلك عارض التصور الذى رأى فى الشعر بعض الشر بتأكيده الغاية الأخلاقية للشعر، وذلك عن طريق ربط الجيد من الشعر بتصوير المثل الأخلاقية التى امتدحها العرب والتى بثها الإسلام. وأهم قيمة أخلاقية يمكن التأكيد عليها - فى ضوء هذا التكييف - هى قيمة الصدق"(90).
"فابن طبا طبا" يؤسس الشعر على الصدق، ويرى أن "الفهم يأنس من الكلام بالعدل الصواب الحق .. ويستوحش من الكلام الجـائر الخطأ الباطل والمحال، والمجهول، المنكر، وينفر منه ويصدأ له"(91). ويرى أن شعراء الجاهلية والإسلام قد أقاموا أشعارهم على هذا الأساس.
أما "ابن جعفر" فقد كان مع القول السائد (أحسن الشعر أكذبه) ويترخص فى كل أنواع المبالغات من غلو وإفراط حتى إذا وصل الشاعر إلى الحد الممتنع طالب الشاعر بالتوقف. وكان تحديد الممتنع عنده بأنه (لا يكون، ويجوز أن يتصور فى الوهْم) (92).
أما بالنسبة (لحازم القرطاجنى) فإنه إذْ يرى أن الأقاويل الشعرية "القصد بها استجلاب المنافع واستدفاع المضار، ببسطها النفوس إلى ما يراد من ذلك وقبضها عما يراد، بما يخيل لها فيه من خير أو شر"(93).
وبذلك تكون للشعر مهمة أخلاقية مؤثرة فى حياة الانسان، وليس مجرد متعة أو تسلية فارغة.
"إن نجاح الشعر مرتبط بمدى العون الذى يقدمه للإنسان بكل ما ينبغى أن يكون عليه"(94).
وإن فاعلية التحسين والتقبيح فى الشعر - لدى "حازم" - تؤتى ثمرتها من خلال مخطط أخلاقي، "يربط اكتمال الشعر بكمال الإنسان نفسه، أو بعبارة أخرى بمساعدة الانسان على الوصول إلى الكمال. ولذلك تبدو عملية التحسين والتقبيح غير مفارقة للدين والعقل والمروءة"(95).
وهكذا نجد أن النقاد قد رأوا أن الشعر هو الكلام الموزون المقفى، وأضاف بعضهم التخييل والمحاكاة - كما ذكرنا - وأن للشعر مهمة أخلاقية وان كانت الآراء قد تفاوتت حول هذا الدور بين "قدامة" و"حازم". وقد كان تأثير "أفلاطون" كبيرا على "قدامة بن جعفـر" أما "حازم" فقد كان ينهل من فن الشعر "لأرسطو" والشروح التى قـدمها الفلاسفة العرب كما اهتم "ابن طباطبا"، "وقدامه" بصنـاعة اشعر، وكان الدور الأخلاقى للشعر عند "حازم القرطاجنى" واضحا.
الشعر والشاعر عند المحدثين والمعاصرين
ما الشعر؟
سؤال طرحه الشاعر "صلاح عبد الصبور" ثم أردف قائلا : "سؤال لو عرف إجابته أحدنا لقطع الطريق على القبيلة كلها"(96).
ولذا فانه لن يتصدى للإجابة الجامعة المانعة، بل إنه سوف يحكى عن الجانب الذى أدركه هو، فيرى أنّ الشعر هو الصوت المنفعل، والشاعر إنسان يتميز عن الآخرين بقدر ما يتشابه معهم. والانفعال المدرب هو عدة الشاعر. وعلة الموسيقى فى الشعر أن الانفعال عندما يصل إلى مداه لا بد له من التنغيم .. وليس الفرق بين الشعر والنثر إلا فرقاً فى نوعية الموسيقى. فموسيقى الشعر تتركز وتتواتر حتى تصبح لونا من (المصطلح) أما موسيقى النثر فهى مطلقة كإطلاقه(97).
فالشعـر - فى رأى "عبد الصبور" - من الصعب تعريفه تعريفا مانعا جامعا، وكل تعريف إنما هو محاولة من الشاعر أن يعبـر عما أدركه فى الشعر. والشعر صوت منفعل لأن الانفعال هو أداة الشاعـر، وعلة الموسيقى فى الشعر التى تميزت وأصبح هو الفارق الجوهرى بين الشعر والنثر.
والفرق بين الشعر والنثر ليس فى أن الشعر يرتكز على الموسيقـى أما النثر فبلا موسيقى. بل هو فرق فى نوعية الموسيقى. فالنثر الفنى مفعم بالموسيقى، ولكنها غير موسيقى الشعر.
و "الشعر أيضا فن نوعى، بمعنى أن للشاعر وسيلة خاصة فى التعبير، وتصور أن الشعر خاضع لما تخضع له الإبداعات الإنسانية الأخرى، والتشريعية مثلا أو الابتكار الهندسى أو العلمى يعدّ محض خلْط فى مناهج رؤية الأشياء"(98).
إن هذا التميّز للشعر، والناتج عن تميّز وسيلته الخاصة فى التعبيـر، هو الذى يفضله عن كل طرائق الابتكار والإبداع الأخرى. فالشعر فن له خصوصيته فى تعبيره، وفى أدواته.
ويدخل "صلاح عبد الصبور" فى تفاصيل عملية صياغة القصيدة فيرى أن "القصيدة هى نوع من الحوار الثلاثى، فهى تبدأ خاطرة يظنّ من لا يعرفها أنها هابطة من منبع متعال عن البشر"(99). ويشير إلى آراء اليونانيين، ومقولة العرب التى ترى أن الجنّ هو الذى يوحى إلى الشعراء بشعرهم، التى يخلص إلى أن. "هذه الخاطرة الغامضة تأتى ملحة مدوّمة، منتزعة من أى سياق، بحيث أنها لو أخضعت لعالم الفكر الدقيق بدرت قاحلة لا تبشر بتفتح عن زهر وثمر"(100).
ثم يرى أن القصيدة تمر بمراحل ثلاث: هى القصيدة كوارد، ثم القصيدة كفعل، أما المرحلة الثالثة فهى مرحلة العودة - أى حالته العـادية قبل ورود الوارد إليه، وقبل خوضه رحلة التلوين والتمكين، إذ أن الشاعر عندئذ يقطع الحوار ليبدأ المحاكمة، فتتجلّى عندئذ حاسته النقدية حين يعيد قراءة قصيدته ليلتمس ما أخطأ من نفسه وما أصاب"(101).
وتتجلى هنا ثقافة "صلاح عبد الصبور" الصوفية والتى يحيل إليها فى شرح خلق القصيدة، كما أنه هنا يحاول أن يشرح - كما يرى هو نفسه - مراحل الإبداع الشعرى.
والجدير بالذكر أن هذا الرأى، ليس رأيا عاما بالضرورة، بل هو محض رأى شخص، فقد اختلف الكثير من الشعراء فى رأيهم فى خلق القصيدة، وإن حديث الشاعر عن تجربته الشعرية كحديثه عن تجربته فى الحب، كل جميلة بمذاق، وكل قصيدة هى غرام جديد، - على حد تعبير "صلاح عبد الصبور"(102) نفسه.
وقد رأى - "صلاح عبد الصبور" أن علاقة الشاعر بالفكر لا تنبع من إدراكه لبعض القضايا الفكرية، بل من اتخاذه موقفا سلوكيا وحياتنا من هذه القضايا بحيث يتمثل هذا الموقف بشكل عفوى فيما يكتبه. فمما لاشك فيه أن الشاعر إنسان أولاً، وهو بهذه الصفة الأولى يعيش وينفعل ويفكر ويعمل، وتتكون له من خلال هذه المستويات المختلفة من الحياة بنية بشرية تختلف عن غيرها. وهو فى مرحلة الإبـداع الفنى ينظر فى ذاته ليرى من خلالها الكون والكائنات، فلابد عندئذ أن تتحول المؤثرات الفكرية المختلفة إلى دم يجرى فى أوعية نفسه، وهذه المؤثرات ساخنة باطنية كالدّم، لا يراها الإنسان إلا إذا سألت على الأوراق"(103).
فالشاعر لا يعبر بشكل مباشر عن الأفكار والقضايا، فتأتى أشبه بعمل مجرد جامد أو كأنها هيكل عظمى، بل إنه يتمثل الأفكار والقضايا، وتسرى فى أعماقه مسرى الدم، فتصبح جزءًا منه لا ينفصل عن كيانه، فيكون بوسعها إنْ تتسرب إلى شعره كأنها كامنة فيه دون أن تـوحى بأى نشاز أو تجريد، وتبدو جزءاً لا ينفصل عن الكلّ. فالشاعر لا يعبر عن الحياة، بل هو "يخلق حياة أخرى معادلة للحياة، وأكثر صدقاً منها وجمالاً، ولكنه لابد أن يخلق، إذْ أن وقوفه عند التعبير عنها هو قصور فى رؤيته كما أن وقوفه عند التعبير عن نفسه هو عاطفية مرضية"(104).
كما يفصل "صلاح عبد الصور" بين الصدق الفنى والصدق الواقعى إذْ يرى أن البحث عن السيرة الشخصية للشعراء فى شعرهم فحسب هو بمثابة تجنّ على الصدق الواقعى، لأنه إذْ يجعل الصدق الفـنى هو الأساس الوحيد، مع أن له منطقه الخاص، إنما يضرب فى المجهول. وذلك لأن للقصيدة وجوداً مستقلاً عن صاحبها، إنّ لها حياتها الخاصة، فإذا استنبت الشاعر لها رأساً، فلابد أن ينبت لها أذرعا وأقداما(105).
وإذا كان خلق القصيدة حالة خاصة، كما أن الشاعر عندما يبدع لا يعبر عن الحياة، بل يخلق حياة أخرى معادلة لتلك الحياة، ولكـن فى نفس الوقت يرى أن الشعر، ليس مقطوع الصلة بما عداه، بل إن الشعر "ينمو من داخل التراث الشعرى، والحوار الذى يدور فى نفس الشاعر هو حوار بين تراثه الشعرى وبين العالم، وإذا لم يرتبط الشاعر بتراثه الشعرى كما يرتبط بالعالم فلا مجال لعدّه شاعرًا"(106). وبذلك نجده يقف فى مواجهة القول بالقطيعة مع التراث. وقد تمثل التراث فى أشعاره وصاغ قصائده العديدة التى تحيل إلى نصوص أو مواقف تراثية.
وإذا كان "صلاح عبد الصبور" قد رأى أن تعريف الشعر من الصعوبة بمكان، ولا يمكن الوصول إلى تعريف مانع جامع له. فإن "كولن ولسن" يقول : "ليست هناك حاجة إلى أبحاث مطولة عن طبيعة الشعر، فمن حسن الحظ أنه يمكن تعريفه ببساطة معقولة"(107).
ولكن هل حقا يمكن تعريف الشعر ببساطة؟
قد يكون قول "كولن ولسن" هذا هو الذى جعله فعلا لا ينفذ إلى أعماق الشعر حتى حين قال : إن الشعر يمتلك "القدرة على النفاذ إلى تلك الطبقة الأعمق، قدرة إصدار الأمر بالاسترخاء وإلزام الطاعة بتنفيذه"(108). و أن "الشعر يجلب راحة عاطفية عن طريق التخيـل، وهو يعلم الانسان الثناء، لا عن طريق الإشارة إلى عجائب الكون، كما يفعل العلم، بل بفضل خلق خيالات تحقق رغباته"(109) أو "هو ضرب من المْرهم الذى يهدىء الجراح التى تنكّبنابها الحياة، وإن كان يظل عاجزاً عن شفائها"(110).
أى أن الشعر ينفذ إلى أعماق الإنسان، ويجلب للإنسان راحة عاطفية عن طريق الأخذ به إلى عالم الخيال. إنه يهدئ من جراح الإنسان وآلامه، وإن كان لا يجهز على هذه الآلام، أو يشْفى تلك الجراح.
وإذا كـان "كولن ولسن" لم يتطّرق هنا - من الجانب الفنى - إلى الإيقـاع أو الموسيقى، إلا أنه جعل الخيال - وإن كان قد ذكر ذلك عرضاً - من أهم ما يتقوم به الشعر.
يقول ر . م . البيريس:
"حتى عام 1880، كان النثر والشعر خاضعين كلاهما لمنطق النحو، وكان الشعر يفترق عن النحو بضوابط الوزن والإيقاع والقافية. كان التمييز إذن شكلياً…."(111).
ثم يضيف بعد ذلك بأن التمايز الشكلى بات "غير وارد عمليا اليوم. فقد فَقَد الشعر فى العديد من الحالات الإيقاع والوزن والقافية، بل فقد أحيانا الحرارة، كما تحرر بوجه خاص من المنطق الخطابى"(112).
لقد كان التمييز يقوم بين الشعر والنثر فى الماضى على أساس أن الشعر يقوم على الوزن والإيقاع والقافية، غير أن هذا التمييز الشكلى لم يعد ممكنا اليوم، فقد صار الشعر بلا هذه الضوابط، ولكنه مع ذلك مازال هناك نوعان أدبيان، "النوع الذى يحافظ على حب المنطق فى سرد الأفكار وعرضها، والنوع الذى يرفض: بإختصـار النثر والشعر"(113). أى أن منطق النحو هو الذى يميز اليوم - من حيث المظهر الشكلى على الأقل - النثر عن الشعر. "إن الشعر هو اللغة التى تضحى إن كثيراً أو قليلا بالنحو لحساب قيمة الكلمات الذاتية والتقاءاتها، والنثر هو اللغة التى لا يفقد فيها النحو حقوقه"(114).
أن الشعر هو الكلام الذى لا يمكن أن يحدّه منطق، ولا يخضع لقوانيين العقل الصارمة، إنه التعبير "بواسطة اللغة البشرية عن انفعال أو حقيقة لم تخلق اللغة البشرية للتعبير عنه، وبذلك يصبح الشعر مخاتلة، تمردًا، نضالاً ضد اللغة"(115).
ويؤكد "البيريس" بأن الشاعر الحديث لا يجد فائدة فى التعبير شعرا عما يمكن قوله نثراً، فالشعر تعبير على ما يستعصى التعبير عنه. إنه يرفض السرد الدقيق والطريف، والعواطف العامة، والأوصاف الصحيحة. فالشعر يطمح إلى مالا يمكن تحديده. ويشيـر إلى ما يسمى بعبث الفيزياء الحديثة الظاهرى وعبث الشعر. فيرى أن معادلات الفيزياء الحديثة تملك منطقاً باطناً ورياضيات، وهى قابلة علاوة عن الحسّ السليم فهى قد توحى بهذا المنطق الباطنى، كمـا قد تبدو مجانية. أما الشعر فهو التعبير باللغة البشرية وقد أرجعت إلى إيقاعها الأساسى. إيقاع المعنى الغامض لمظاهر الوجود - على حد تعبير "مالارمية" - . إن البحث عن تعريف لشعر خاص بعصرنا يمكن العثور عليه فى وظيفة الممارسة الشعرية. إن هذه الممارسة ترفض السرد، أو الوصف، أو حتى استفزاز العواطف والتـأمل، لتجعل من نفسها بحثاً عن حقيقة خفية يجهلها الحسّ السليم كما تجهلها الملاحظة والمنطق والعلوم وحتى الفلسفة"(116).
لم يعد الشعر هو الكلام الموزون المقفى والمعتمد على الإيقاع، بل هو الكلام الذى يقوم خارج المنطق، والوصف والسرد. إنه التعبير عن عالم خفى بلغة سرّية. إنه البحث عن حقيقة خفية لا تصل إليها العلوم أو المنطق.
"إن الممارسة الشعرية تقوم على رؤية متمايزة كل التمايز عن سائر الرؤى الأخرى، يفلت الشعر بفضلها من الابتذال والتكرار، والحياة الميّتة، حياة مجموع البشرية"(117).
إن الشعر هنا يتم تعريفه بلغة سرية، ويحيل "البيريس" إلى الصوفية، وقد تعلق الهاريون من المعتقدات الدينية بأذيال الشعر وصبّوا فيه مشاغلهم وهمومهم.. فعندما لا يكون هناك من وجود لدين مشترك شبه رسمى له حتماً هراطقته وعلماؤه اللاهوتين، فلابد أن يحلّ الشعر محل هذا الدين: فالشعر يقدّم ممارسات روحية، كنائس وقديسين، ابتهالات وصيغاً، تدفق للقلب وحرارة للفكر.. إنه يقدم ذلك لمـن يشعر بالحاجة إلى التجاوز، ولا يستطيع، لسيب أو آخر، بعامل الجهل أو الرفض، أن يلبّى هذه الحاجة عن طريق مذهب دينى"(118).
إن آراء "البيربس" هذه سوف يتردد صداها بشكل واسع لدى "أدونيس" والـذى سوف يؤسس عليها - بالإضافة إلى آراء أخرى - العلاقة بين السوريالية والصوفية.
كما ينهل "أودنيس" من أفكار "مارتن هيدجر" وآرائه عن الشعر، متخذا فكرة أن الشعر تأسيس للوجود (الكينونة)، وهو بالضرورة تأسيس باللغة التى - هى أكثر المشاغل خطراً وبراءة - فى رأى "هيدجر" - أساساً لوجهة نظره.
يقول "أدونيس":
"أن يكتب الشاعر الجديد قصيدة، لا يعنى أنه يمارس نوعا من الكتابة، وإنما يعنى أنه يحيل العالم إلى شعر : يخلق له فيما يتمثّل صورته القديمة، صورة جديدة. فالقصيدة حدث أو مجيء. والشعر تأسيس، باللغة والرؤيا : تأسيس عالم واتجاه لا عهد لنا بهما، من قبل. لهذا كان الشعر تخطياً يدفع إلى التخطي. وهو، إذن، طاقة لا تغير الحياة وحسب، وانما تزيد إلى ذلك، فى نموها وغناها وفى دفعها إلى للأمام وإلى فوق"(119).
الشعر فعل إيجابي يغير الحياة، ويساعد على تطورها ونموها إنه خلق، وتأسيس باللغة والرؤيا، وتحويل العالم إلى شعر.
لقد أشار (هيلدرلن) فى رسالة إلى أمه كتبها فى يناير 1799 إلى الاشتغال بنظم الشعر، ووصفه بأنه (أكثر المشاغل براءة) وتساءل "مارتن هيدجر" إلى أى حدّ يكون الاشتغال بالشعر أكثر بـراءة؟ وأردف : إن قـرض الشعر يظهر فى الصورة المتواضعة، صورة (اللعب) : الشاعر إذا أطلق له العنان خلق عالمه الخـاص من الأخيلة والرسوم، وبقى مستغرقا فى نطاق ما قد تخيله. وعلى هذا النحو يتجنب اللعب مْسلك الجدّ الذى يقتضيه اتخاذ قرارات يلتزم بها الانسان دائما على نحو أو آخر. ومن ثم كان نظم الشعر مأمون العواقب لا خطر منه، ولا أثر له فى الوقت نفسه، لأنه يظل مجرد كلام لا نصيب له من الفعل الذى يلتحم بالواقع التحاماً مبـاشراً ويغيره تغييراً. الشعر كالحلْم، وليس حقيقة واقعة، إنه لعب ألفاظ، وليس جّد أفعال، والشعر عديم الضرر، عديم الأثر(120).
الشعر أكثر المشاغل براءة، ولا ضرر منه ولا أثر له، إنه كالحلم، وهو فى الصورة المتواضعة يتخذ صورة (اللعب)، إنه لغة خالصة - فاللغة أيضا - فى رأى (هلدرلن) أكثر المشاغل براءة.
فى الشعر يكون الانسان بعيدا عن الجّد، ففى اللعب يكون الإنسان على سجيته بعيدا عن التكلّف، وبعيدا عن إعمال العقل. والشعر هنا مجرد كلام لا نصيب له فى تغيير العالم أو الالتحام بالواقع.
إنها نظرة أخرى تلك التى يقدمها "هيدجر" متّكئاً على نص من رسالة لهلدرين.
الشعر تأسيس للكينونة. فليس الشعر زينة تصحب الوجود الإنساني، ولا حماسة عارضة، ولا فورة طارئة، ولا تسلية مؤقتة. الشعر هو الأساس الذى يسند التاريخ، ولذلك فهو ليس مظهراً من مظاهر الثقافة، وليس من باب أولى (تعبيراً) عن روح ثقافة ما. وكون وجودنا شعريا فى صميمه لا يمكن أخيرا أن يعنى أنه ليس إلا لعبة لا خطر منها … ودعامة الوجود الإنساني هى الحوار، من حيث يعطى اللغة تحققها الصحيح. ولكن اللغة الأصلية هى الشعر من حيث هو إرساء للكينونة، بيد أن اللغة هى (أشد المقتنيات خطراً): وإذن فالشعر أشد الأعمال خطرا، وفى الوقت نفسه (أشد المشاغل براءة) (121).
الشعر تأسيس للوجود، وليس لاحقا للوجود، ولا مظهرا من مظاهره. إنه أكثر المشاغل براءة، وأكثرها خطراً أيضا. ولكن لكى يستمر هذا العمل ذو الخطر البالغ لابد أن يكون الشاعر ملقْى خارج المألوف من حياتنا اليومية.
" والشعر يتبدى للناس لعباً، ولكنه ليس كذلك. إنّ اللعب يقرب ما بين الناس، ولكن على نحو يجعل كل واحد منهم ينسى نفسـه فيه. أما فى الشعر فالإنسان يركز ذاته على وجوده الإنسـانى، ويصل هناك إلى الطمأنينة. لا إلى تلك الطمأنينة الوهمية المتولدة من البطالة ، وفراغ الفكر. بل إلى تلك الطمأنينة الضافية التى يصحبها نشاط فى جميع القوى والعلاقات"(122).
هذا هو الشعر إذن فى رأى - هيدجر(123) - إنه الموقظ للحلم فى مواجهة الواقع الصاخب الملموس الذى نعتقد أننا مطمئنون إليه. وما يفترضه موجودا هو الواقع.
"فماهية الشعر تبدو متأرجحة فى نفس ظهور جانبها الخارجى، ومع ذلك فهى ثابتة رابطة الجأش : فإذا كان الشعر فى ماهيته تأسيسا، فمعنى هذا إرساء أساس وطيدمتين(124).
وفى دراسته لشعر "جورج تراكل" يعمد "هيدجر" إلى القول بأن "الشاعر الكبير ليس كذلك إلا انطلاقا من إملائه لقول شعرى فريد. وتقاس عظمته بمقدار تفانيه فى إظهار هذه الفرادة بحيث يتوصل أن يضمنها قوله، كشاعر فى شكله الخالص"(125).
وهكـذا يتحدّد الشعر بأنه أكثر المشاغل خطراً، وبراءة، وأنـه تأسيس للوجود، وأن الشاعر العظيم هو الملقى خارج المألوف فى حياتنـا اليومية، وهو الذى يقدم قولا شعريا فريداً، وتقاس عظمته بتفانيه فى إظهار هذه الفرادة.
إن الشعر هو أعمق انهما كات الإنسان، وأكثرها أصالة، لأنه أكثرها براءة، وفطرية والتصاقا بدخائل النفس. وباللغة يظهر الإنسان ما هو، وبها يتأسس ويتحقق. إنها ممارسة كيانية للوجود أو هى شكل الوجود. والشاعر لا يكتب عن الشيء، و إنما يكتب الشيء. إن اللغة ليست للإنسان ليقول ما هو واقع فحسب، وإنما ليقـول الوجود - الكينونة. والشعر هو محاولة الشاعر أن يدرك ما يتعذر إدراكه(126).
ويرى "أدونيس " أن الشعر، "موسيقى : لا يقوم على فكرة محدودة واضحة، و إنما يقوم على عناصر تترابط إيقاعيا، فى ما يشبه الترابط الهندسي. والقصيدة هى إيقاع كلمات. والإيقاع الأصلـي : تكرار لعنصر أو أكثر فى مسافة زمنية أو مكانية وتنتظـم فى تدرج صاعد هابط. وهو إيقاع حرّ لا غاية له، أي ليـس له غرض نفعي معين. وهو يقوم على حركية الكلمات، كمثل الإيقاع الأرابيسكى الذى يقوم على حركية الخطوط. ونظام الإيقاع هنا انثناء وانكسار وتقاطع، حينا، وهو حينا آخر تناظر أو تبادل أو تماثل. هكذا يسجن العالم، مادة، ويتحرر طاقة ودلالة"(127).
وهنا يشار إلى الإيقاع على أنه عنصر جوهرى فى الشعر، وهو إيقاع حرّ يقوم على حركية الكلمات مثل الإيقاع الأرابيسكى فى الخطوط :
ولكن ما موقفه إذن من الوزن والقافية؟
يقول أدونيس : "الشعر كلام موزون مقفى - وهذا جواب/ تحديد لم تعد له، كما أرى، قيمة حاسمة فى الفرق النوعى بين الشعر والنثر. وقد تجاوزته المدرسة الشعرية الحديثة. غير أن هناك مفارقة يجب أن نشير إليها : فمع أننا تجاوزناه، بالممارسة، على صعيد الإبداع، يبدو أننا على صعيد البنى الثقافية ومؤسساتها، لم نتجاوزه إلا ظاهريا، وأن معظمنا لا يزال يفكر فى الشعر ويكتبه، ويتذوقه، ويقومه، ضمن المنظورات والمعايير التى ترتبط بهذا الجواب"(128) - أى بأن الشعر كلام موزون ومقفى.
إن الشكـل فى الشعر ليس "مجرد (وزن)، و إنما هو نوع من البناء. لهذا يبقى بناءً قابلا للتجدد والتغير. ولا تنبع الموسيقى فى الشعر الجديد من تناغم بين أجزاء خارجية وأقيسة شكلية، بل تنبع من تناغم داخلى حركى هو أكثر من أن يكون مجرد مقياس. وراء التناغم الشكلى الحسابى، تناغم حركى داخلى هو سر الموسيقى فى الشعر"(129).
إن تحديد الشعر بالوزن تحديد خارجى سطحى، قد يناقض الشعر، إنه تحديد للنظم لا للشعر. فليس كل كلام موزون شعرا بالضرورة، وليس كل نثر خاليا بالضرورة من الشعر(130).
ولكن ما هو الفرق بين النثر والشعر اذن؟
يقول أدونيس
"أول هذه الفروق هو إن النثر اطّراد وتتابع لأفكار ما، فى حين أن هذه الاطراد ليس ضروريا للشعر. وثانيها هو أن النثر يطمح إلى أن ينقل فكرة محددة، ولذلك يطمح أن يكون واضحاً، أما الشعر فيطمح إلى أن ينـقل شعورا أو تجربة أو رؤيا، ولذلك فإن أسلوبه غامض بطبيعته. ثالث الفروق هو أن النثر وصفى تقريري، ذو غاية خارجية معينة ومحدودة. بينما غاية الشعر هى فى نفسه فمعناه يتجدد دائما بتجدد قارئه.
لا يجوز إذن أن يكون التمييز بين الشعر والنثر خاضعا لمعيارية الوزن والقافية، فمثل هذا التمييز كمّي لا نوعى. كذلك ليس الفرق بين الشعر والنثر فرقا فى الدرجة، بل فرق فى الطبيعة"(131).
وهكذا يحسم الفرق بين الشعر والنثر بأنه ليس الوزن والقافية لدى "أدونيس".
إن الشعر كلام يختلف عن غيره بكونه لا ينزلق فوق الأشياء، بل يعيد تأسيسها ويكشف عن أشياء وعلاقات مجهولة . وهـو فى ذلك كله لا يتقبل اللغة كنظام معطى منجز سلفا بل إنه يعيد إليها مهمتها الأولى ويؤصلها من جديد فتستعيد حرارة فعلها وتلتقى من جديد بالسحر. قد يتبقى هنا شئ من اللغة الموروثة يحمل ترابطات فى ذهن الشاعر مستمدة من ثقافته، ولكن جملة اللغة الشعرية ستتغير، وستبدو اللغة مولوداً جديداً وهى تضم إيقاعاتها الخاصة وألوانها المتميزة وما إلى ذلك من جزئيات. إن تركيب الجملة هنا حر، كما أن الإيقاعات بدورها حرة(132).
ولقـد كانت التفرقة بين الشعر والنثر من الموضوعات ذات الأهمية، والتي شغلت كل من اشتغل بالنقد أو الشعر فى هذا المجال. وقد رأى "بول فاليرى" - فى معرض تفرقته بينهما - أن العلاقة بينهما (أى النثر والشعر) "تشبه صلة المشى بالرقص، فالمشى له غاية محددة تتحكم فى إيقاع الخطو وتنظم الخطو وتنظم شكل الخطو المتتابع الذى ينتهى بتمام الغاية منه، أما الرقص فعلى العكس من ذلك بالرغم من استخدامه نفس أجزاء الجسم وأعضائه التى تستخدم فى المشى، له نظام حركات هى غاية فى ذاتها"(133).
إن النثـر هو بمثابة استعمال للغة فى أشد حالاتها نقاءً، بينما هى فى الشعر تكون تعبيراً عن انفعال غير محدد. (134) كما أن الناثر يعرف متى تكون الكلمة صحيحة، ولكن الشاعر يعرف متى تعبر الكلمة عن الحقيقة. (135) والشعراء حين يعبرون عن تجاربهم فإنهم "يضفون العمق على قيم الوجود، فلا ينبئونا بالواقع الذى ينبئنابه الفلاسفة، ورجال العلم، والنقاد .. فالذى نجده دائما هو الحدس بالمستقبل، وما هو متضّمن ومتخيّر، وهم فى ذلك يختلفون فى قصدهم عن الفلاسفة فى تعاملهم مع اللغة"(136).
ويرى "سارتر"(137) أن الاختلاف بين الشعر والنثر ينهض علـى علاقة كل من الشاعر والناثر باللغة. فالشعراء يخدمون اللغة، بينما يستخدمها الناثرون.
وإذا كـان الشعر فى اختلافه عن النثر فى أنه لا ينزلق على الأشياء، أو هو تعبير عن انفعال، أو كما رأى "سارتر" أنه يخدم اللغة بينما يستهلكها أو يستخدمها النثر، فان (جون كوين) يرى - فى نقـده للنظريات التى تناولت موضوع العلاقة بين الشعر والنثر - أن "مجمل النظريات الشعرية المعروفة حتى الآن ترتكز على فرضيـة مشتركة : فهى تختلف منذ أقدم العصور تبعا لتركيزها علـى المحتوى أو الشكل، لكنها فى الحالتين تلتقى حول ملمح أساسى يتمثل فى مقابلة الشعر للاّشعر (النثر) وهو معيار كمى محض - فالشعر - فى رأيه ليس شيئا آخر غير النثر، إنه شئ (مضاف إلى) وقد أوضح (رولان بارت) هذا التصور الذى نقده خلال هذه المعادلة : الشعر = النثر + أ + ب + جـ".(138) والشعر ليس إلا بناءً إضافيا من نوع ما، وإنه تقنين سام للغة الجارية. وهى من بعض الزوايا شكل إضافي(139).
ويؤكد "كوين" على أنه يرفض الخطأ الذى وقعت فيه الدراسات السابقة للشعر والمتمثل فى تعريف الآداب انطلاقا من عتامة اللغة أو عدم شفافيتها. إن فى ذلك إنكارا لذاتية اللغة، إنها رمز، والرمز لا يكون رمزاً إلا إذا انفصل عن ذاته، إلا إذا تفّتت، وفصل لكى يعاد بناؤه كرمز له وجهان وأن يكون وجه الدال فيه يرسل إلى وجه المدلول، لكى يشكّلا فيما وراء الرمز وحدة تختلف عن الرمز ذاته(140).
والنص الشعرى نص يمكن إدراكه لكن لا يمكن التعبير عنه. وان النظرية المقترحة - إذن - تنتمى إلى التقاليد القديمة الإيمـائية : فالشعر كالعلم يصف الدنيا، انه أنثربولوجيا الدنيا، يصفها بلغته الخاصة. لقد قالها "مالا رميه" : "ان الأشياء موجودة ونحن لم نخلقها، إننا التقطنا فقط خيوط العلاقات بينها، وهذه الخيوط هى التى تنسج الشعر وتشكل جوقته الموسيقية(141).
لقد اتسع مجال الشعر الحديث وتنوعت أساليبه وموضوعاته. إننا لا نستطيع أن نضع أيدينا على وصف شامل لما وصل إليه هذا الشعر. وإن الذى يبدو ماثلا أمام أعيننا أن انفجاراً قد حدث على مستوى الشكل، كما اتسعت مجالات مضامينه.
لقد أدى هذا إلى التساؤل حول طبيعة الشعر الحر، خاصة فى عالمنا العربى بعد أن انفجر الشكل القديم.
تقول "نازك الملائكة" - وهى التى تتحدث هنا كرائدة من رواد مدرسة الشعر الحر - "وأكاد اعتقد أن أغلب القراء - وبينهم أدباء - وحتى شعراء أحيانا - ما زالوا لا يملكون فكرة واضحة عن معنى الشعر الحر، فهل هو شعر بلا وزن؟ أم أنه وزن ما يخالف أوزان الشعر العربى؟ و إنما يحسّ بهذه الحيرة ، على الخصوص أولئك الذين لا يملكون أسماعا مرهفة تميّز وزن الشعر تمييزا دقيقا، وهؤلاء قد ألفوا، من قبل، أن يروا الأوزان مرصوصة، على شطـرين متساويين، بحيث يكون تبين موسيقاها أسهل. ولذلك تاهوا وتعبوا حين أصبحت الأشطر غير متساوية فى أطوالها، وعاد الارتكاز إلي التفعيلة بحيث يحتاج الأمر إلى شاعر لكى يتبين الإيقاع والموسيقى"(142).
وتورد الشاعرة والناقدة "نازك الملائكة" قصيدة (إلى العام الجديـد) من ديوانها قرارة الموجة. وهى قصيدة مكتوبة على تفعيلة الكامل (متفاعلن) وتحاول أن تجعلها من قصائد ثلاث : الأولى من مجزوء الكامل، والثانية من مشطوره والثالثة من منهوكه. وتقول بأن هذه القصائد جميعا من البحر الكامل وتفعيلتها جميعا واحدة هى (متفاعلن) وهى إنما تجتمع فى الشعر الحر لأن ذلك لا يخرج على النغم الذى تقبله الأذن العربية. وكل ما هنالك أنه أسلوب يتيح للشاعر تعبيرية أعلى بمنحه الفرصة لإطالة العبارة وتقصيرها بحسب مقتضيات المعنى(143).
والجدير بالذكر هنا أن الشاعرة إنما تحاول أن تربط هذا الشكل بالشكل القديم حتى تدفع عنها شبهة التخلّى عن الوزن. إنها هنا تقف موقفاً وسطا بين الشكل القديم، والشكل الجديد الذى اتخذ مسارا أكثر جرأة، وكان ما يشبه الانفجار بالنسبة للشكل القديم. فهـى ترى أن الشعر الحرّ جاٍر على قواعد العروض العربى، ملتـزم كل الالتزام وكل ما فيه أنه يجمع الوافى بالمجزوء والمشطور والمنهوك جميعا.
فالشعر إذن لدى الشاعرة كلام موزون، وان اختلفت رؤيتها أو حادت قليلا عن آراء القدماء. بل إنها ترى أن الشعر الحرّ "ينبغى له ألا يطغى على شعرنا المعاصر كل الطغيان، لأن أوزانه لا تصلح كلها، بسبب القيود التى تفرضها عليه وحدة التفعيلة وانعدام الوقفات وقابلية التدفق الموسيقى"(144).
وهنا تجد "نازك الملائكة" أن الوزن هو الفيصل فى العلاقة بين الشعر والنثر.
وإذا كانت "نازك الملائكة" قد طرحت مفهوما تم تجاوزه على أيدى الكثير من الشعراء، والنقاد - كما أسلفنا - فإن (زكى نجيب محمود) - كناقد وفيلسوف - والذى ينتمى كناقد للشعر إلى الاتجاه الشكلى الجمالى، والذى يقترب من المدرسة النابعة من تعاليم "اليـوت"، و "رتشاردز" فى العشرينيات. (145) يقدم رأيا مختلفا فى القضية.
فى (مع الشعراء) يقارن "زكى نجيب محمود" بين "صلاح عبد الصبـور"، و"محمود عماد"، و"محمود حسن إسماعيل"، ليخلص بعد نقاشه ومقارنته إلى أن الذي "لا تخطئه العين هو الاختلاف فى الشكل، فى القالب، فى الإطار، فها هنا إذن يجب أن يكون النقاش، فالجديد يتميز بتخفّفـه من الالتزام الشكلى، فهو إن حافظ على شئ من الـوزن، فهو لا يريد أن يلتزم القافية. فمهما يقل الشعراء الجدد ومهما يقسموا بالله العظيـم (كما أقسم صلاح عبد الصبور فى إحدى مقالاته، بل أنه جعل هذا القسم عنوانا لمقاله) أنهم ينظمون شعرا (موزونا) فلا أظنهم ينكرون أن مدى التزامهم أقل من مدى التزام الشاعر الذى يحافظ على عمود الشعر الموروث"(146).
لقد كانت بدايات التجديد محفوفة بالحملات الشعواء ضد الشعـر الحر، مما دفع بعض الشعراء - "كنازك الملائكة"، و"صلاح عبد الصبور"، وغيرهم إلى الدفاع عن التجربة، وان كان هذا الدفاع الذى ارتكزوا فيه على صلة الشكل الجديد بالشكل الموروث بمثابة نقطة ضعف فى مواجهة الرؤى التقليدية.
وقد كان "زكى نجيب محمود" يضع الشكل - كمنتم إلى هذا التيـار الشكلى - فوق كل شئ، وإن كان رأيه يقف موقفا وسطا بين المجدّدين وبين التقليديين، وقد أوضح ذلك عندما كتب عن (العقاد كما عرفته) فقال : "كما خالفت العقاد فى المذهب الفلسفى، خالفته فى وقفته من الشعر الحديث ومن الفن الحديث معا، لأنه تطرف فى رفضهما على حين أنى لا أرفضهما على الإطلاق، ولا أقبلهما على الإطلاق، وكنت من القليلين الذين يحاجّونه، لأن "العقـاد" لم يكن يصبر على المحاجة، لكنى كنت أشعر أنه رحمه الله يطيل الصبر معى ليقينه فى صدق طويتى وسلامة مقصدي"(147).
وقد كان موقف "زكى نجيب محمود" هذا واضحا عندما رفض شعر "أحمد عبد المعطى حجازي"، من خلال نقده لقصيدة واحـدة منه، وكـذلك موقفه من ديوان الناس فى بلادى "لصلاح عبد الصبور" الذى كان مخالفا لموقفه من "أدونيس" فى أغاني مهيار الدمشقى.
وكان موقفه واضحا فى اهتمامه بالشكل، ونقده لهم لاذعا وساخرا لأنهم - فى رأيه - يحطمون الشكل.
يكتب زكى نجيب محمود فى مقاله (الجديد فى الشعر الجديد)
"لو كان الشكل قليل القيمة إلى كل هذا الحد لما خسر الشعر شيئا حين يترجم من لغة إلى لغة أخرى، أو حين تنثر قصيدة إلى نفس اللغة التى نظمت فيها، لأن ما يخسره الشعر بالترجمة أو بالنثر هو هذا وحده : هو الشكل. ولست أدرى ماذا يكون الشكل إن لم يكن ترتيب الكلمات على نسق معلوم بحيث يحقق نغماً، فإذا احتاج هذا النغم إلى رابطة تربطه فى أجزاء القصيدة لجأت إلى القافية، واخترت لهذه القافية نفسها ترتيبا يحقق لى ما أردته منها، وهو ربط الوحدة النغمية فى القصيدة"(148).
وهكذا يتضح أن الشكل لديه هو الوزن والقافية، وأن هذا هو ما يتقوّم به الشعر.
ويسخر من الشعراء الجدد بأن مايكتبونه لا ينتظم إلى قاعدة، وإذا قـيل له إن القاعدة هى جعل الوحدة الوزنية هى التفعيلة، يسخـر من إن يكون ذلك تجديدا قائلا : فهل نسمى الاكتفاء بجزء بما هو قائم فعلا تجديدا؟ ويرى أنه لو كان ذلك كذلك لكان الفقير الذى يكفيه جزء يسير من ثروة الغنى مجددا لأنه اكتفى بالبعض دون الكلّ.
وإذا كان الشعر هو الكلام الموزون المقفى، فإن ما قدمه هؤلاء الشعراء أو نقادهم الذين يسيرون فى ركبهم من محاولات للفصل بين النثر والشعر دون استخدام الوزن والقافية كفيصل، إنما لا يستقيم لديه فيقول : "يستحيل أن يكون ثمة فارق جوهرى بين لغتى النثر والشعر … فكلاهما أداة بعينها، وكلاهما يخاطب عضوا بعينه، ويمكن القول أن ما يكسو كليهما من الجسد قوامه مادة بعينها، ونزعاتهما متقاربتان، بل تكادان تكونان متطابقتين، وليس يلزم بالضرورة أن يختلفا حتى من حيث الدرجة.
إن الشعر لا يهمى من العبرات (ما يشبه عبرات الملائكة) ولكنه يسفح دمعا آدميا طبيعيا، انه لا يستطيع أن يفاخر النثر بأن دمـاءً مقدسة تجرى فى عروقه فميزت دماءه من دماء النثر، إذ يدب فى عروقهما على السواء دم بشرى واحد(149).
إن "زكى نجيب محمود" يذكرنا فى نثره هذا بأسلوب "أفلاطـون" فى محاوراته والتى تتسم بشاعرية عميقة وفى نفس الوقت كان "لأفلاطون" موقفه المضاد للشعراء. وإنه - "أى زكى نجيب محمود" - إذْ يؤكد باللغة المشحونة بالانفعال تارة، والمرتكزة على المنطق تارة أن الشعر والنثر من الناحية اللغوية لا يوجد ما يفرق بينهما، من حيث أنهما كلام منطوق وأنه يشير إلى أن الفارق الوحيد الذى يمكن استنتاجه هو الوزن والقافية(150).
وفى نظرة (محايدة إلى قضية الشعر الحديث) يسخر من القائلين بأن القصيدة القديمة قائمة على الوزن الخارجى بينما تقوم القصيدة الحديثة على الإيقاع الداخلى قائلا : "إن حياة الكائن الحى - كل كائن حى - قائمة على الإيقاع الداخلي، ولكن ذلك لم يمنع أن يصاغ الشكل الخارجى أيضا فى أحسن تقويم .. أهناك تعارض؟! فإما إيقاع داخلى أو وزن خارجى؟ أهو مستحيل عند العقل أن يجتمع الجانبان معا؟ كلا! ليس ذلك مستحيلا، بل إنه هو الذى حدث فى كل قصيدة من الشعر الجيد فى كل آداب العالم"(151).
انه بهذا التعميم يرى أنه دق المسمار الأخير فى نعش القصيدة الجديدة.
وهكذا نجد أن واحداً من أهم مفكرى عصرنا يقف هذا الموقف من قضية الإيقاع والوزن والقافية فى الشعر الحر.
ترى، هل هى مشكلة النسق الفلسفى، والتى وقع فيها العديد مـن المفكرين قديما وحديثا؟ والتى كان المفكر أو الفيلسوف يريد أن يجعل رؤيته الجمالية منسجمة مع نسقه حتى ولو خالف قوانين تطور الفن؟
أم أن الحركة كانت لا تزال غضّة العود، ولم تقدم للناقد الفيلسـوف المادة التى يستطيع باستقرائها أن يصل إلى نتيجة واقعية؟ خاصة إذا علمنا أن دور الناقد ودور المنظر الجمالى يأتى فى نهاية المطاف عندما تكون الظاهرة الفنية والأدبية قد قاربت على إفساح المجال لظاهرة جديدة.
أم أنه الموقف التقليدى الذى يقفه المفكرون والفلاسفة دائما فى مواجهة التجديد؟
أم أنه هذا وذاك أيضا.
إن "زكى نجيب محمود" الذى نما فى بطانة "العقاد"، فى وقت كان "العقاد" فيه قد تمّ تجاوز أفكاره وآرائه، وصار على رأس المحاربين للشعر الحر، وكـانت بطانته من الشعراء ممن حملوا لواء السلفية، بالإضافة إلى الضحالة والافتقار إلى حيوية الروح الشعرية وتدفقها. كما أن "زكى نجيب محمود" الذى انخرط فى ذلك الوقت فى مواقف متباينة، ومتعارضة على المستويين النظرى والعملى لم يكن بوسعه تجاوز الأطر التقليدية كثيراً فى رأيه فى الشعر، تلك الأطر التى جعلته يطرى شعراً جافا للعقاد، وفى نفس الوقت يقدّم (نقداً) لديوان "الناس فى بلادى" لصلاح عبد الصبور" وديوان "مدينة بلا قلب" "لأحمد عبد المعطى حجازى" معتمدا على قصيدة واحدة فى كل ديوان. ساخراً من انفلات الشاعرين من الموروث، والثورة على الشكل التقليدى. وتنصب دراسته فى الديوان الأول على المضمون فحسب محاولاً محاجة الشاعر بأن الناس فى بلادى ليسوا هكذا كما تصفهم فى القصيدة، وكأنه يطلب إلى الشاعر أن يقول ويصوّر ما يراه فى الواقع كما هو، وكما يراه الناقد فحسب. بل ونراه يتحسّر فى نقده للديوان الثانى - صارخاً "أما بعد فواحسرتاه! واخسارة هذه الطاقة الشعرية أن تنسكب هكذا كما ينكسب السائل علـى الأرض فينداح، وتسيل أطرافه هنا وهناك، دون أن يجد القالب الذى يضمه بجدرانه، فيصونه إلى الأجيال الآتية ليقول الناس عندئذ هناك كان شاعر شاب تكلم عن ذات نفسه فجاءت عباراته تعبيراً عن قومه وعن عصره"(152). فقد كانت سطوة "العقاد" قوّية، جعلت الناقد لا يرى - رغم كل شئ - الشعر كشعر.
أما محمد النويهى، فقد رأى أن الشكل القديم الذى يعتمد الوزن والقافية والعمود الشعرى كان يحجز الشعر العربى عن الاتصال بالأشعار الأخرى، سواء عن طريق الترجمة المباشرة أو عن طريق الاقتباس والتأثر المشروع الذى تغْنى به الآداب الإنسانية وتخصب عبقرياتها وتتصل وشائجها. فما دام الشكل بهذا البروز الإيقاعي والتكرار الرتيب، وبهذا الانضباط الصارم والجمود المتحجّر، وبهذه السيمترية البدائية الضيقة، لم يكن يتسع لحمل ما اكتسبه الشاعر من الأفكار والمشاعر والحساسيات الجديدة والقيم الفنية الجديدة من ثقافته الأجنبية … ولم يقتصر دور هذا الشكل على عزل الشعـر العربى عن الآداب الإنسانية الأخرى، بل عزل الشاعر العربى عن الاتصال بروح الأمة العربية نفسها .. فازداد الأسلوب الشعرى اصطناعاً وزيفاً، وظلّ يدور معظمه فى دوائر السلاطين والملوك ولا عجب أن يغلب عليه المديح المداهن القائم على الملق المخزى والاستجداء الدال على صغار النفوس(153).
لقد انتهى دور عمود الشعر، بل صار عائقا أمام تقديم فن الشعـر، وحاجزا أمام إخصابه بالثقافات الأجنبية، ومبعداً للشاعر عـن روح الأمة، ودافعا للتكلف والتزييف. أما الشكل الجديد، والذى يعتمد التفعيلة أساسا له، بعد تهشيم العمود الشعرى فانه "يحقق ارتباطاً عضوياً أكبر بالمضمون، مكّن الشعراء الجدد من أن يتجهوا إلى روح الشعب، وأن يلتقطوا أنغاما حديثة ويتجادلوا مع مزاجه ويهتزوا لنبضاته الدافقة. وبهذا وجدنا شعرهم، وان يكن لا يزال يستعمل اللغة الفصحى قد بدأ يعود إلى السر الخالد لحيوية كل شعر، وهو الاقتراب الوثيق من روح الشعب وعدم الانعزال عن تأثيرها فى أودية مصطنعة من الزيف والافتعال. وهل قرأت قصيدة واحدة على الشكل المنطلق تدور فى مدح أمير من الأمراء أو غنى من الأغنياء أو سيد من الأسياد؟" (154).
لقد كان تحول شكل الشعر أو تغيره وتطوره، تحولاً وتطويـرا وتغييراً لمهمة الشاعر الذى صار أقرب إلى روح الشعب، وبعيداً عن الزيف والافتعال لا يمدح ثريا ولا أميرا أو ملكا. فقد غير شكل الشعر من مهمة الشاعر، الذى صار منخرطا فى الوجود، وفاعلا ومؤثرا، يعيش عصره، يتأثر به ويؤثر فيه ويعى ذلك ويقصد إليه، لقد صار ملتزما.
لقد أثر الشكل الجديد فى الشاعر، حتى لو أنك قارنت بين شعر شاعر ما فى الشكل الجديد، وشعره - لو عاد إلى الشكل التقليدى - "وجدت نفس الشاعر الأصيل الصادق الشاعرية المجدد الجرىء التجديد فى الشكل المنطلق، وقد تبخرت أصالته وصدقه وجرأته التجديدية فى الشكل التقليدى، وانصاع فى مذلّة مرهقة إلى الضريبة التى يفرضها هذا الشكل من تكرار النغم المألوف ورصّ الأكليشيهات المحفوظة واصطناع المواقف وتزييف العواطف وتصيد الحكم وابتذال الأفكار"(155).
لقد كانت هيمنة الشكل - فى رأى "النويهى" - قوية ومؤثرة، وآسرة للشعراء تتغلغل فى روح الشاعر، وتفقده قدرته الابتكارية، وجرأته على التجديد، وتسلبه الروح الثورية.
إن "النويهى" بذلك ينسف العمود الشعرى، ويقطع الطريق على الذين يريدون العودة اليه، لما يمثله - من وجهة نظره - للشعراء من قيد، وعبودية وقد كان ربطه الوثيق بين الشعر الحر، وبين العصر الذى نشأ فيه من حيث الثورة على العبودية، ورفض التمسّح بأعتاب الملوك والأمراء ذا مغزى، فهو بذلك يضع سدّا أمام العودة إلى الشكل التقليدى، وإن كان ما قاله لا يخلو من تعسّف ومن مبالغة.
واذا كان "النويهى" قد جعل عجز الشكل القديم عن التعبير عما هو جديد عجزاً أصيلاً، سببا جوهريا فى ابتكار الشكل الجديد (الشعر المنطلق)، فان "عبد القادر القط" يردّ عليه قائلا بأن "الفن الجديد فى أى عصر من العصور لا ينبع من عجز أصيل فى الفن الذى سبقه، و إنما ينبع من مفهوم حضارى جديد للفن، ومن نظرة جديدة عند الفنان نحو الحياة والعلاقات الإنسانية التى تخالف نظرة الفن السابق المعاصر الذى كان يعبر عن روح حضارة مختلفة ثم فقد وظيفته بانتهاء هذه الحضارة"(156).
كما رأى أيضا أن "تخلص الجديد من سمات القديم صفة سلبية لا تكون من الأهداف الأساسية لحركة التجديد، و إنما تأتى عرضا نتيجة لما يحققه التجديد من مثل وقيم تفرضها طبيعة العصر، ولابد بطبيعة عصريتها أن تخالف القديم"(157).
وهكذا فإن الشكل الجديد قد وجد تبريره فى مقومات العصر التى تتـباين مع العصور السابقة، والتى أنتجت الشكل العمودى. وقد اقتـرح "محمد النويهى" تبنى نظام النبر فى الشعر، كما اقترح "عز الدين إسماعيل" إدخال نظام التوقيعية بوصفه ترجمة للمصطلح الانجليزى (Sone). ولكن الحركة الشعرية لم تأبه بهذين الاقتراحين - على حد تعبير البعض - لأنها كانت تعدّ نفسها لنقلة أكبر تتجاوز لعبة الرقص داخل القيود(158).
وقد رأى "عز الدين إسماعيل أنه قد ظهر فى الشعر الحديث محاولات شتى لتفتيت الصورة الموسيقية التقليدية للقصيدة. وقد انصبت معظم هذه المحاولات على الخروج من إطار وحدة البيت الموسيقية المتكررة فى القصيدة كلها. ومن القافية التى تلتزم فى الأبيـات كلها من حيث هى صوت مفروض على الأبيات فرضا دون أن يكون له مبرر كاف فى كل حالة"(159). ويضرب أمثلة بقصيدة "لإلياس فرحات" يقتطف منها بعض الأبيات :
يا عروس الروض يا ذات الجناح يا حمامة
سافرى مصحوبـة عند الصبـاح بالسلامة
واحْملـى شوق فـؤاد ذى جراح وهيامـه
ثم يضرب مثلا آخر بالعقاد، ونعمة الحاج، وحسن كامل الصيرفى .. (160)
فالشعر لديه لم يعد هو الكلام الموزون المقفى، بل إنه رأى أن "الوحدة الايقاعية فى الوزن العروضى هى التفعيلة الواحدة (فعـولن - مستفعلن - فاعلاتن - … الخ) فهذه التركيبة الصوتية هى التركيبة الأساسية التى تفرق بين الكلام المنثور والكلام المنظـوم، وهى بعد الصورة الزمنية التى تتفق وطبيعة اللغة العربية التى يعول فيها موسيقيا على حجم المقطع دون الاهتمام بنوع الضربة أو كميتها"(161). ولم يجد الشعراء مبررا للالتزام بعدد معين من التفعيلات فى البيت الشعرى، وذلك لأن موسيقى الشعر الجديد فيها مرونة، وهمس وهدوء وتنوع، وتنفذ إلى أعماقنا فتفاجئنا دائما، بما نعده كشفاً روحياً تطمئن له النفوس(162).
وإذن فقد حسمت المعركة لصالح التفعيلة ضد العمود الشعرى، وإن كانت المعركة التى تلت ذلك والتى مازالت دائرة، هى بين القصيدة الحرة، وقصيدة النثر.
"ان فكرة حصر الإيقاعات خاطئة من أساسها، وتنطلق من فهم فى غاية التحديد لطبيعة الإيقاع، فهو ليس سواكن ومتحركات معدودة يمكن حسابها فى معدلات ثابتة ذات طابع أبدى، لكنه كالحياة الواسعة بكل ما فيها من صخب وزخم وحركة وألوان وأصوات. لقد جرت محاولات لربط الإيقاع بحداء الإبل، ومحاولات لربطه بالرقـص والغناء، ومحاولات لاقامة علاقة بينه وبين حركات النفس، وكلها محاولات صحيحة من حيث التوجّه. لكن لم يقيض لها أن تعطى نتائجها، لأنها أهملت فى بحث المسألة فى المنظور الشامل. فلم تنظر للإيقاع بوصفه حركة حية متكاملة توحد الشكل والمضمون والمكان والزمان، فى أرقى صورة للتعبير عن الحياة الإنسانية باللغة والأنغام"(163).
لقد كانت التغييرات الاجتماعية والسياسية، وتعقد العصر، وتحول العالم إلى قرية، هى الأساس الذى انبثق منه التجديد فى الشعر، فقد وجدت مضامين جديدة، كما تغير جذريا دور الشاعر، ولذا كان ضروريا أن ينفجر الشكل القديم، ويأتى شكل جديد.
لقد اتسعت مجالات الشعر، وتنوعت موضوعاته، وتنوع فى لغته، التى تفترق عن لغة النثر فى أنها - أى لغة الشعر - ليست وسيلة للتخاطب، وليس فيها ما فى اللغة النثرية من تحديد صارم للموضـوع، وبتر لكل ما هو زائد وخارجى. "فاللغة الشعرية تصـدر عن المجتمع تماما كما تصدر اللغة النثرية، بل وغايتها تشبـه هذه، فى أنها تريد أن تصل إلى الجمهور، ولا يمكن أن تعيش بمعزل عن الفهم والإدراك والتطلع. فكما أن للنثر حدوداً فكرية تضع إطاراً للكلمات المستخدمة، نجد أن للشعر أيضا مثل هذا الإطار إلا أنه إطار مطّاط يتغلب فيه التطلع نحو عالم تغلب عليه الثقافة والتجرد"(164). بل إن المجتمع الذى لا يقبل من النثر أن يتجاوز حدود الصلات الاجتماعية يسمح للشعر أن يجتاز هذه الحدود، لأنها لحم الشعر وعصبه. واللغة الشعرية تستمد من هذا السماح قدراً كبيراً من خصائصها الرمزية والدلالية، وبدون هذا التجاوز لا يتسنى للشعر أن يحيا ويمارس قدراته(165).
وما هو دور الشاعر إذن ورسالته؟
إن الشعر ذو ملمح اجتماعي، وأن الشاعر يقوم بعملية إبلاغ للآخرين، ولكنه لا يستخدم اللغة الشائعة التى يستخدمها الناثر أو الخطيـب مثـلا، فالتأثير المنطقى والانفعالي أسلحة الناثر والخطيب تلك التى لا يعيرها الشاعر أهمية. وللشاعر رسالة أخرى غير رسالته الاجتماعية، هى رسالة المْنشد أو المغنّى، ورسالة الفنان الذى ينصت فى لغة الجمهور إلى أصوات وأجراس عميقة الصليل والرنين، لا تمسك بها غير أذن ماهرة ومدربة(166).
ماذا يحاول الشاعر المعاصر أن يفعل عندما يكتب قصيدة؟
انه يحـاول أن يستخلص معنى، معنى شعريا من تجربته. إن القصيـدة اكتشاف، والشاعر لا يكتب من أجل إفهام غيره، بل من أجل أن يفهم هو، أو يكتشف شيئا جديداً لم يكن يعرف أنه يبحث عنه. و "القصيدة الجيدة هى التى تعطينا إحساساً بأنها شئ كامل، شئ تام لا يمكن أن يضاف إليه شئ، ولا يمكن أن ينزع منه أى شئ دون النيل من قيمته أو حتى الذهاب بحياته"(167).
والشاعر الجديد ليس هو الشاعر الذى يقحم "أبراج المطارات، واستراحات الطرق، والقنبلة الذرية فى شعره، بل هو الذى يستجيب لمناخ عصره، والدنيا التى يعيش فيها "وقد لازم هذا التوسع فى مجالات الشعر انحسار سيطرة الشعر الغنائى"(168) وظهور نوع من الشعر تبرز فيه العناصر الدرامية و "السخرية". والتركيب والتعقيد فى شكل الشعر.
وإذا كان إنسان العصر قد تغير عن الإنسان التقليدى، فصار "الإنسان العربى الجديد هو الإنسان الذى يخرق العادة، يقتل الماضى التقليدى، ويعانق الحاضر فيما يقف على عتبة المستقبل. وخارق العادة ثائر بالطبيعة"(169).
إذا كان هذا هو التصوّر الجديد للإنسان العربى، فما هو الشاعر، وماذا يكون الشعر، وكيف يبدأ؟
"الشعر يتقدم الفعل. الشعر البرق وما يأتى بعده. لكنهما معا جناحـا هذا الطائر الذى نسميه العالم. والعالم لا يترنح اليوم ويرزح ويتهدم ويحترق إلا لأن الشعر محصور، محبوس، منبوذ.
ولأن الشعر بداية، يجب أن نبدأ أولا بقتل الشعر - النبى الدجال : الشعر الذى هو انعكاس لما يجرى، الشعر الذى يتسلى، الشعر الذى يمدح ويهجو ويلعب. شعر السرد والتعليم والأخلاق والثقافة والسياسة والتفسير والتحليل والمذهب - ذاكرين أنه لن يكون الشاعر شاعر النصف الثانى من القرن العشرين، ما لم يكن فى الوقت ذاته، على طريقته وبحسب استعداده متديناً، ملحدا، سياسيا عالما، وفيلسوفا قائدا، نبيا - ما لم يكن يكون كونيا.
نبـدأ بقتل هذا النبى الدجال، من أجل أن يقوم الشعر - البداية وشعر الحضور الخلاق المغّير، الشعر الذى يتقدم سير الإنسان - الشعر الذى يفجر الفعل - يكون فعلا"(170).
الشعر إذن حرية مطلقة، وابتكار. والشاعر إما أن يكون حراً، و إما لا يكون شاعرا. والشاعر ليس بوسعه إرضاء العالم. وإلا فكيف يرضى بدور المهرج الذى ينشد ويطرب؟ كيف يستطيع أن يسد أذنيه عن صرخات العذاب والجوع؟ أن يزين القصور وينسى الأنقاض والسجون؟
إن الخيانة الكبرى لا تتمثل فى دور الطاغية المستعمر، وأكثر مما تتمثل فى الفنان الذى يسكت على الطاغية المستعمر ويهادنـه، أو يعيش فى الريش والحرير حيث لا وجود لغير المعذبين، ولغير الدم والفقر والعبودية. مثل هذا العالم سجن، ومهمة الشاعر أو الفنان هى أن يقوض جدرانه(171).
إن الشاعر بتمسكه بحرّيته، يجب أن يقف فى مواجهة العبودية والإذلال، وألا يهادن طاغية، أو يرفل فى النعيم على حساب المعذبين. الشاعر الحقيقى إنسان ثائر. وان كان فعله يتقوم بالشعر.
والحدس الشعرى قرين للحدس الدينى - عند "أدونيس" - وقد ذكر "السياب" أن الشعر والدين (توأمان)، وكما تلاشت الحدود بين الغاية والوسيلة فى الدين، تلاشتا هذه الحدود فى الشعر أيضا. فالشعر يكتب بعيداً عن أى منفعة مادية، وإن كنا نعلم أن غايته - أى الشعر - نبيلة. والشعر العربى فى سبيل خلق عالم جديد يفتح نوافد بيته جميعا لكل الرياح -وقد رأى "أنطون سعادة" الذى يتبنى موقفه "أدونيس" أن الأدب لا يحدث بنفسه ومن تلقائه تجديداً، وإنما يمكن أن يحدث هذا التجديد إذا كان مرتبطاً بحركة تجديدية شاملة للمجتمع ذاته، بمستوياته كلها. كما أن البعد الفكرى بعد أساس فى العمل الأدبى، بل هو بُعد يدخل فى صميم تكونيه. فلا يجوز أن تكون القصيدة مجرد انفعال أو عاطفة، وإنّما يجب أن تكون موقفا فكريا - شعوريا فى أن(172).
إن هذا الرأى يعيدنا إلى آراء "البيريس" فى علاقة الشعر بالدين والصوفية، كما أن آراء "أنطون سعادة" تعيدنا إلى علاقة الفن (والشعر بصفة خاصة) بالمجتمع، وإن كان هذا لا يعنى أن الشعر يعكس الأحداث التى تعتمل فى العصر، وإنما الشاعر "(منارة) ينبعث من نتاجه نور يضئ بشكل جديد، ويدل على مكامن المال والقوة فيها"(173).
يقول "صلاح عبد الصبور" - فى إطار حديثه عن تجربته الشعرية - "ويبقى أن نطرح سؤالا هو : هل هناك شعر ضار؟
بمعنى قياس جودة الشعر أو عدم جودته بمقياس النفع والضرر بالإنسان.
وهل نستطيع أن نقول إن أشعار "أوفيد" أو أشعار "أبى نواس" التى يتحدث فيها عن شذوذه الجنسى، أو أشعار "بودلير" التى يرسم فيها صورة مسرفة فى قتامتها للجمال الأنثوي وللجمال الكونى بوجه عام؟
فهل أضّرت هذه الأشعار بالإنسانية؟
لا أظن أننا نجرؤ على القول أن هناك شعرا ضارا، ذلك لأن الشعر لا يقصد إلى المنطقة فى النفس التى تقصد إليها الفلسفة أو القوانين الخلقية أو غيرها"(174).
فليس بوسعنا محاكمة الشعر بالأخلاق، وليس لنا أن نضع المعايير الأخلاقية كمعايير لفصل الشعر جيده عن رديئه. للشعر معاييره، وله دوره، وهذا الدور لا يمكن تقويمه وفقا للأخلاق.
ويكتب "صلاح عبد الصبور"
"الشعر لا يروج لما اصطلح على تسميته بالفضائل، ولكن لما نستطيـع أن نسميه القيم. وهى كلمة أعلى من الفضائل قدرا وأوسع مدلولا، فالفضائل متغيرة وزمنية، أما القيم فثابتة، بمعنى أنها أكثر رسوخا فى النفس من الفضائل. وتظل الفضيلة معيارية خاضعة لزمنها وظروفها، فى حين تبتعد القيمة عن هذا المفهوم. فالحـق والخير والجمال قيم لا يمكن الاختلاف بشأنها تتمتع بقدر من الثبات ولا تتحكم فيها المعيارية أو النسبية"(175).
فالشعر - فى رأيه - لا يروج للفضائل، بمعنى أنه لايناط به دور أخلاقي، ودور إرشادي. هذا ما أراده، أما قوله بأن القيم ثابتة، وأن الشعر يروج لها، ولا يروج للفضائل، فهو وقوع فى المحظور. فالقيم هى القيم الجمالية والأخلاقية والدينية، وقيمة الحق والعدل، وغيرها من القيم التى اتّسع لها المجال فى العصر الحديث وتجـاوزت فيه "الحق والخير والجمال" كما كان التصور "الأفلاطونى" واليونانى القديم. ولذا فالفضيلة تندرج تحت القيمة الخلقيـة. وبالتالي إذا كان الشعر لا يروج للفضيلة، فهل يروج لقيمة أخرى؟ ربما يكون قاصدا القيمة الجمالية وخانه التعبير!
كذلك القول بثبات القيم وعدم معياريتها، إنما يشكل وجهة نظر واتجاها معينا، ولكن القيم، ما دامت متعلقة بالإنسان، فهى ليست مطلقة، أى أنها نسبية، ومعيارية، وغير ثابتة، بل متغيرة، من وجهة نظرنا.
وإذا كـان الشعر لا يروج للفضيلة - بغض النظر عما جاء عن القيم - فهل يعنى ذلك أن الشاعر لا دور له، أو أن دوره ينفصـل عن الأخلاق؟
بعبارة جازمة يؤكد (عبد الصبور) بأن للشاعر دورا أخلاقيا - على غير المتوقع منه - وكذلك فإن لكل الفنون غاية أخلاقية بالمعنى الأشمل للأخلاق - مستدركا بقوله - بأن الأخلاق لا تقاس هنا بمقياس الخطأ والصواب، بل بمقياس الجمال والقبح. بحيث يصبح الكذب قبيحاً، والصدق جميلا، ويصاحب رقىّ الحاسة الجمالية رقى مماثل فى الحاسة الأخلاقية. والحكم على أخلاقية قصيدة ما يكون بمقدار صدق الشاعر فيها مع نفسه، حتى لو لم نتفق معه فى موقفه الأخلاقي. إذ أن تعبير الشاعر عن عذاباته فى صدقه مع نفسه يرسخ فى أذهاننا فضيلة الصدق مع النفس، وليس رذيلة الفعل الّلا أخلاقى الذى يتحدث عنه(176).
أن الأخلاق تبحث فيما هو خير أو شر، صواب أو خطأ. والقول بالاستحسان أو الاستهجان (أى الجمال والقبح) ليس إلا مرادفاً للقول ماهو خير أو شر.. أو صواب أو خطأ. والقول بأن صدق الشاعر مع نفسه بشكل موقفاً أخلاقياً، هو ابعد ما يكون عن التحقق، ذلك أن معنى الصدق هلامى، وغير محدد، بالإضافة إلى أن القول بصدق الشاعر يصعب التحقق منه. إن ما يقال عن الصـدق الفنى، هو بمعنى أصح الإتساق مع ما يمكن أن نسميه منطق الفن لا الواقع والحكم على هذا حكم جمالى وليس حكما أخلاقيا. إن الخلط فى هذا الرأى الذى يقدمة "صلاح عبد الصبور" يعيدنا إلى العصور الأولى للفلسفة حين كان القول بفضائل جميلة، أو العودة إلى القول المرسل بأن هناك منازل طيبة، وسلوكا جميلا - أى الخلط بين ماهو أخلاقى، وما هو جمالى.
ولكن من أين لى أن أتيقن من صدق الشاعر؟
إن الموقف هنا يحاول أن يجعل الشاعر حرا، لكنه مشدود إلى التـراث وإلى محاكمة الشاعر وفقا للواقع. وربما كان هذا هو سبب الخلط فى التعبير عن خيرية (وليست أخلاقية) الشعر - بمعنى أدق، وبين جماليته، كما أن الآثار الأفلاطونية والسقراطية مازالت تفعل فعلها.
"فليتغن الشاعر لنفسه أو لغيره، فهو فى كلتا الحالتين ينشد للناس أناشيد الحقائق الخالدة"(177).
بهـذه العبارة يحاول (زكى نجيب محمود) الاجابة عن سؤال - مضمر - لمن يغنى الشاعر؟ ونحن بدورنا نريد أن نسأل - ما هو دور الشاعر؟ وما موقفه من الأخلاق؟
يجيب "زكى نجيب محمود"
"إن الشعر يظل شعراً، سواء رضيت عنه مبادئ الأخلاق أم لم ترْض، مادام حقق لنا ما تقتضيه طبيعة فنه. فلا فرق عند الفن أن يصـور الشاعر فضيلة، أو أن يصور رذيلة، طالما هو أجاد الفن فى كلتا الحالتين، ان دنيا الشعر ترحب "بأبى نواس" ترحيبها "بزهيـر". وإن "ملتون" فى فردوسه المفقود لشاعر فى الجانب الإلهي من قصيدته، كما هو شاعر فى جانب تصويره الشيطان"(178).
أى أن الوظيفة الأخلاقية للشعر ليست مما يتقوم به الشعر. فالشعر شئ والأخلاق شئ آخر. فإذا كانت مهمة "الأخلاق هى ان تقوم المعوج من سلوكنا، ومهمة الفنون - ومنها الشعر - هى أن تفسر سلوكنا لا أن تقومه"(179) فان هذا يوضح أن الشعر والأخلاق يسلكان دربين مختلفين. ولو "أراد فن الشعر أن يكون رسالة أخلاقية، ضاع منا الفن والأخلاق معا"(180).
فالشعر كاشف عما استتر من لواعج النفس وخلجاتها، لا يفرق فى ذلك بين خير وشر. "والشعر محايد يصور لك العبقرى، فهو كالشمس تشرق على جميع الكائنات بلا تمييز، وإنه لخطأ شائع بيننا أن ُيقال عن الشعر أنه تعبير عن نفس صاحبه، لكن هذا التعريف الضيق قد ينطبق على قلة قليلة من الشعر الغنائى، أما الشعر من الضروب الأخرى فلا شأن له بنفس صاحبه، لأن نفس الشـاعر من حيث هو فرد واحد، ليس لها كل هذه الخطورة فى حياة الناس، وأقرب إلى الصواب أن نقول أن الشاعر بعبقرية الفن فى فطرته يعطينا من نفسه الحالة الخاصة، فإذا هى تصوير للإنسان من حيث هو نوع بشرى متجانس الأفراد"(181). وهنا تنتفى فكرة صدق الشاعر أو كذبه.
وهكذا يؤكد - زكى نجيب محمود - على الابتعاد عن التقويم الأخلاقى للشعر، وتطبيق معايير الأخلاق عليه أو على الشاعر، فالشعر يظل شعراً رضيت عنه مبادئ الأخلاق أم أبت، والشاعر يظل شاعراً مادام حقق فى شعره ما تقضيه طبيعة الشعر.
***
لقد كانت التجربة الشعرية الجديدة بمثابة تعبير عن تغيرات جـذرية وعميقة فى المجتمعات، وفى إنسان العصر، أدت إلى الرفض لما تواضع عليه القدماء، فتهشم عمود الشعر، وتغيرت طبيعة الخطاب الشعرى، وسمحت - فوق ما سمحت - (بتعددية) فى الرؤيا، وتباين فى الامتثال سواء للجديد أو للقديم. فكانت هذه الآراء التى تتفق حينا، وتتعارض أحيانا.
"فالنقطة المركزية التى يمكن استنتاجها حين نقرأ الخيارات الشعريـة، هى أن الإطار قد انكسر داخل التجربة الشعرية الجديدة، وهذا الانكسار لا يمكن أن يفهم إلا إذا وضع داخل جدل التغيير فى بنية اجتماعية تفجرها الصراعات الطبقية والوطنية والاجتماعية المعقدة. فهّم التغيير فى بنية القصيدة هو أساساً همّ استكشاف لغة الجديد أى لغة الصراع"(182). فقد نشأت لغة جديدة، تجاوزت القواعد الجامدة والجاهزة، وصار على الشعر لكى يتجدد أن يستمر فى تجاوز الأطر السابقة، "فلغـة المصلحة وإيقاع الذاكرة لم تعد تستطيع الإجابة على مرحلة تبدو فيها الصراعات فى أعنف لحظاتها"(1183).
لقد تهدّمت الجدران الصمّاء، وانفتح عالم الشعر، وصار لغةً جديدة، لغة "لا تنشأ ضمن قوالب جاهزة أو ضمن فكر محافظ، فلقد استبيح كل شئ. جميع القيم المتوارثة والمستخدمة والجديدة جرت استباحتها إلى درجة التفتيت الاجتماعى الشامل. فلم يعد هناك أفق غير أرض الصراع نفسها، ولم تعد الّلغة الشعرية مجرد صدى، فهى كمؤشر لا تستطيع أن تتقولب فى قوالب جامدة تحافظ على ماض لم يحافظ عليه أحد. بل جرى تدميره"(184). وصار الشعر ثـورة وتمرداً وانقلابا.. لقد تغيّر كل شئ، وصار من الضرورى أن يكون الشعر شعراً حقيقيا.
لقد كانت انعكاسات العصر على التجربة الشعرية، وبالتالى على النقد واضحة، فى إطار من الحوار تارة، والصراع تارة أخرى، وقد واجهت التجربة الجديدة حملة شعواء، وضعت نصب عينيهـا قتلها فى مهدها، لكن التجربة استمرت رغم قسوة الاتهامات، وبشاعة الانتقادات اللآّ فنية واللآّ شعرية، وفى هذا الإطار تمت عملية فرز متأنٍ للغثّ من الثمين ليبقى الشعر الحقيقى.
ولقد كانت رؤى نقاد هذه المرحلة تؤكد على تباين موسيقى الشعر الحر مع الشعر العمودى، فلم تعد القافية، ولا الاعتماد على البحور الخليلية الكاملة قوامه، بل صارت التفعيلة هى الوحدة الأساسية مع تنوع فى نهايات الأبيات. كما خطت "موسيقى الشعر(185) خطوات واسعة تجاوزت مجرد الوحدة التفعيلية. كما تجاوز تعريف الشعر القول بأنه (كلام موزون ومقفى) كما تجاوز دور الشاعر الدور الأخلاقى، أو الدور المحدد الذى كان يرسمه له قدامى النقاد والساسة.
وبعــــد..
ترى بعد هذه الرحلة بين غابات النقد - وإن لم نلج منها إلا اليسير - هل يجدر بنا أن نرى أن مفهوم الشعر قد تطور، وأن دور الشاعر صار مباينا عما كان فى العصور السابقة؟
لقد انفلت الشعر من سجنه القديم، ولم يعد مجرد (وزن) أو قافيـة، بل صار حياة متجددة، مليئة بالصراع، والزخم، وصار حرية ..
وانفلت الشاعر من الأخلاق، ومن الأطر التقليدية التى حددت أغراضه من مدح أو هجاء، أو غزل .. فحسب. فقد صار فاعلا، ومؤثرا، ومخترعا ومبدعا، عندما يكتب قصيدة، فإنما هو يؤسس الوجود، وإذْ يبدع نصا، فانه يبدع العالم.
الهوامش
* منقول للفائدة عن:
www.facebook.com
لم يكن الشعر فى ذلك الحين مجرد كلام، بل كان ينقل ما يعجز عنه الكلام. كان الشعر شفوياً، ومرتبطاً بالتنغيم والإنشاد، وكان دور الشاعر يختلط مع دور المغنى والمنشد. فكان الشاعر شاعراً وعازفاً فى نفس الوقت أو يرتبط شعره بالعزف بشكل أو بآخر.
يقول "أودونيس" :
"ولد الشعر الجاهلى نشيدا، أعنى أنه نشأ مسموعاً لامقروءاً غناءً لاكتابة. كان الصوت فى هذا الشعر بمثابة النِّسم الحىّ، وكان موسيقى جسدية. كان الكلام وشيئاً آخر يتجاوز الكلام. فهو ينقل الكلام وما يعجز عنه نقله الكلام، وبخاصة المكتوب وفى هذا ما يدلّ على عمق العلاقة وغناها وتعقدها بين الصوت والكلام وبين الشاعر وصوته"(2).
فقد كان الإيقاع وانتظام المقاطع من المقومات الأساسية للشعر، وكانت شخصية الشاعر ذات أهمية كبيرة، وذلك لأنه بإنشاده الشعر، وطريقة تمثيله، بحركات متوائمة مع مراميه من جسمه، يسيطر على المتلقى ويستحوذ على مشاعره.
ويعد السجع هو الشكل الأول للشفوية الشعرية الجاهلية، وقد ارتبط بالكهنة. كما كان الشعر وليد الأساطير، وقوة إشعاع اللغة الأسطورية. على أن هـذه الأساطير لم يكن يراها الأقدمون على أنها اوهام أو خرافات، بل حقائق حدسية، رأوها بعين خيالهم"(3).
وقد ارتبط الشعراء بإلهة الفنون Muses فيما تحكيه أساطير اليونان، كما اشتهر عن العرب فى عهدها الأسطورى أن لكل شاعر شيطاناً يقول على لسانه فمن قول الراجز(4).
إنى وإن كنت صغير السـنّ
وكان فى العين نبــو منّى
فإن شيطانى أميــر الجنّ
يذهب بى فى الشعر كل فنّ
وقد كان الشعر وثيق الصلة بالطقوس الدينية والاحتفالات العامة وكان الدور الذى يلعبه الشاعر فى المجتمعات القديمة دوراً فعالاً ومؤثراً وكان ميلاد شاعر للقبيلة بمثابة عيد.
(1) مفهوم الشعر عند اليونانيين
تنطوى أسطورة "هوميروس" على سمات كثيرة من تلك التى نجد فيها المنشد(5) الضرير الذى ينتمى إلى جزيرة (خيوس Chios) تتألف من ذكريات ترجع إلى العهد الذى كان فيه الشاعر شخصا ملهما - أعنى عرّافاً - له نوع من القداسة ويتلقى الوحى من الآلهة، ولم تكن صفة العمى إلا العلامة الخارجية للنور الداخلى الذى يملأ كيانه ويتيح له أن يرى أشياءً لا يراها الآخرون. بهذه العاهة الجسمية - شـأنها شأن العرج عند الصائغ الإلهى هفا يستوسى" تعبرّ عن فكرة ثانية كانت شائعة فى العصور البدائية: هى أن صانع الأشعار والزخـارف، وغيرها من منتجات الصنعة البدوية، لا يمكن أن يأتى إلا من بين صفوف أولئك الذين لا يصلحون للحرب والغزو. ولكن إذا استثنبنا هذه الصفة، فإن "هوميروس" الأسطورى يكاد يكون مثلا كاملا للشاعر الأسطورى الذى كان لايزال ذا طبيعة إلهية، والذى كان نبيًّا وصانع معجزات(6).
لقد كانت الفكرة الأساسية فى العصور القديمة فى اليونان هى أن الشاعر أو الفنان، هو شخص لا يصلح للفروسية والحرب. وكان ارتباط الشاعر بالعمى، يعنى أن له بصيرة قوية، وأن حاسّة السمع قد تضاعفت بحيث كانت تفوق حاسة السمع لدى أى شخص آخر، وهذا على أساس أن الشاعر يقوم بالإنشاد، والإلقاء وبالتالى تتركز موهبته فى القدرة على التعبير بواسطة الصوت.
وإذا كان المصريون قد اعتقدوا أن لألحانهم أصلا مقدساً، ونسبوها إلى الربة "إيزيس". فإن اليونانيين كانوا ينظرون إلى الموسيقى نظرة شبه أسطورية فقد وصف "أرستوفان" "موزياس" تلميذ "أورفيوس" بأنه طبيب للنفوس توصل إلى علاج مرضاه بسحر الأناشيد التى تنسبها الأساطير إليه(7).
والجدير بالذكر أن "ديمقريطس" قد امتدح "هوميرس" ووصفه بأنه ملهم من الآلهة تعبر أعماله عن روح نشوانة(8).
لقد استمدّ "أورفيوس" قيثارته من "أبولو" وتعلم فن الأغنية من ربة الفن (الموزى Muse ) ذاتها. وكان بوسع "أورفيوس" أن يحرك بموسيقاه الناس والحيوان والصخر، ويستعيد "يوروديسى Euridice" من بين براش الموت(9).
وقد كان الشعر الإغريقي "فى مرحلته البدائية يتألف من صيغ سحرية وأقوال تنبؤية وصلوات وتعاويذ للحرب والعمل(10).
ولقد كان الشعّر والفن من أهم العناصر التى قامت عليها الحضارة الإغريقية. وكان الشاعر والمثّال من أهم من صاغوا الديانة اليونانية.الشاعر بما نظم من أساطير، وصاغ من حكم، وما توخى من العادات أراد أن يجعلها بمثابة قيم أصيلة فى المجتمع. والمثال بتوخيه إعطاء الآلهة أشكالا. وما مجد من أبطال وأعمال.
ومع حلول العصر البطولى، فى القرن الثانى عشر قبل الميلاد، كانت السلطات فى أيدى (الأبطال) وهم اللصوص والقراصنة، الذين كانوا يفخرون بأن يطلقوا على أنفسهمن (نهاّبى المدن). وكانت أغاينهم دنيوية، وليست قصة طروادة، التى هى قمة شهرتهم، سوى تمجيد شعرى للسلب والقرصنة. ولقد كانت روحهم الخارجة على القانون، والتى تهزأ بالمقدّسات، وليدة حالة الحرب التى وجدوا أنفسهم فيها. ومع عصرهم طرأ تغير على تام على الوظيفة الاجتماعية للشاعر ومركزه الاجتماعى. فنجده قد تخلّى عن نسبته المجهولة (Anonymity) وعن انعزاله الكهنوتى، كما فقد الشعر طابعة الشعائرى والجماعى، وقد صارت مهمة الشاعر هى الترويح عن الأبطال بعد انتهاء المعركة. فكان على الشاعر أن ينشد فيهم المدائح، وأن ينوّه بأسمائهم، وينشر أمجادهم ويخلدها(11).
كما ظهر المنشد المتجول أو الراوية، والذى كان وسطا بين الشاعر الخالص والممثل، وكانت عملية الإنشاد بمثابة حلقة بين التمثيل الدرامى، وتلاوة الملحمة. وكان المنشد يشيد بماضى الأمة، ويتغنى بالأحداث الجارية.
أفلاطون
يقول هاوزر:
"ولقد كان أكمل تعبير عن الأوضاع الروحية الشديدة التعقيد فى القرن الرابع - ق. م. هو "أفلاطون" - الذى كان فنه يتّسم بطبيعة تقدمية، على حين أن فلسفته كانت محافظة. وكان الحوار عنده طبيعيا، مستعاراً من فن المحاكاة الشعبى، على حين أن تعاليمه كانت مثالية، ترجع جذورها إلى النظرة الأرستقراطية للحياة"(12).
فمع "أفلاطون" يبدأ بناء الأنساق الفلسفية الكاملة، وإن كان "أفلاطون" لم يصدر كتابا خاصا بالفن والشعر، إلا أن آراءه نجدها مبثوثة فى محاوراته المختلفة، وهذا يؤكد على أن "أفلاطون" لم يكن يرى الفن بعيدا عن نسقه الفلسفى، ولذا جاءت آراؤه فى اتساق تام مع هذا المنسق.
لقد رأى "أفلاطون" أن الشعر لا قيمة له إلا اذا كان "صادرا عـن عاطفة مشبوبة، والهام يعترى الشاعر بما يشبه النشوة الصوفية، أو نشوة النبوّة أو وجْد الحب. فلا تكفى الصنعة وحدها لخلق الشعر، إذْ أن شعر المرء البارد العاطفة يظل دائما لا إشراق فيه إذا قورن بشعر الملهم. على أن هذا الإلهام لا ثمرة له إلا إذا صادف روحاَّ خيرة ساذجة طاهرة يمجد بأناشيدها الفضائل فتربى عليها الأجيال"(13).
ويرى "أفلاطون" أن الشاعر انسان من نمط خاص، فهو لا يستعمل اللّغة استعمالا مألوفا، بل يدخل الإلهام الإلهي، وهو ما يشبه الجنـون، إلى طريقته فى استعمالها. انه كائن يوحى إليه. وهو يقـف فى مرحلة وسطى بين المجنون والعرّاف. انه متحرر من كل القيود أو منفلت منها.
فهو - أى الشاعر - فى رأى "أفلاطون" كائن خفيف الروح، مجنح الخيال، ولا يستطيع أن يبدع الروائع الشعرية إلا عندما تحلّ فيه روح إله. وأن تلك الأشياء اللطيفة التى ينظمها ليست وليدة الصنعة، بل وليدة لطف إلهى، وهو لا يستطيع الإبداع إلا فيما اختارته له ربة الشعر. فروائعه صادرة عن تلك الربة التى أحلّت روحها فيه.
لقد أقام "أفلاطون" نظريته عن الإبداع الشعرى - فى الأساس - على نظرية الإلهام، تلك التى تجعل الشعراء يدينون بعملهم لوحى إلهى لا لبراعة الصنعة وحدها.
إن هذه الفكرة وان رفعت الشاعر إلى مرتبة النبى أو الملهم، إلا أنها - من ناحية أخرى - لا تمجّده، بل توسع الهوة بينه وبين عمله إذْ تجعله مجرد أداة فى يد المقصد الإلهي(14).
وقد كان موقف "أفلاطون" المبكر مع الإلهام، وهو نظرية سقراطية، ما لبث "أفلاطون" أن تخلص منها لأنه رأى تعارضا داخله بين الفلسفة والشعر، أو بين صياغاته العقلية، وروحه التى تتملكها روح الشاعر.
فقد عاد ورأى أن "الإله خيّر كامل، لا يتغير ولا يخدع الناس، ولكن الشعراء يصورونه كثيرا على أنه غير كامل من هاتين الناحيتين. ويرى أن معظم الشعر الموجود فى عصره غير مناسب من الناحية الأخلاقية للأهداف التربوية، وسبب ذلك، من وجهة نظره، أن الشعراء فى قصصهم عن الآلهة وأبطال التاريخ يصورون نواحى متعددة من الضعف الأخلاقى عندهم. وذلك له تأثير سيئ على الشباب"(15).
ولقد كانت بداية ذمّ "أفلاطون" للشعر أن وضعه فى مواجهة الأخلاق والتربية، وهو كفيلسوف يقيم نسقه الفلسفي على أساس أخلاقي يرى تعارض الشعر مع الأخلاق على اعتبار أن الشعراء غير الفلاسفة كائنات غير عاقلة، ولا تملك السيطرة على ما تقول أو تنشد، وبالتالى فلا يمكن محاسبتهم على أقوالهم التى تمثـل ضربا من الهذيان، أو من الأقوال التى يقولها الانسان العاقل وهو فى حالة سكر.
لقد كتب "أفلاطون" فى محاورة أيون على لسان سقراط : " .. "وكما أن (الكوريبانتيين) يغيبون عن حواسهم وهم يرقصون، كذلك يغيب الشعراء الغنائيون عن حواسهم عندما ينظمون مقطوعاتهم الجميلة. ذلك أنهم حين يقعون فى أسر اللحن، ينتشون ويجّن جنونهم مثل كائنات إله الخمر (باخوس) اللاتي يغترفن من الأنهار لبنا وعسلا عندما يقعن تحت تأثير الإله ولا يفعلن ذلك إذا كنّ مالكات عقولهن. وهكذا تفعل روح الشاعر الغنائى، بحسب قولهم لنا، إذُ يخبرنا هؤلاء الشعراء أنهم يرفرفون فى حدائق عرائس الشعر وأوديتهن. ويغترفون أغانيهم من ينابيع تفيض بالعسل، ويرشفون رحيقها كما يفعل النحل حين ينتقل من زهرة إلى زهرة، وحق ما يقولون : لأن الشاعر كائن رقيق محلق مقدس، يعجز عن قرض الشعر حتى يُلهم، ويخرج عن حواسه ويغيب عن عقله"(16).
إن "أفلاطون" رغم لغته التى تحمل فى طياتها روح شاعر، وعبقرية فنان يهاجم الشعراء لأنهم لا يسيطرون على مشاعرهم، ولا يبتدعون ما يقولون، بل هم يرفرفون فى حدائق عرائس الشعر وأوديتهن مغترفين من دنان العسل وينابيعه، ويعجزون عن الإتيان بالشعر إن لم تلهمهم ربة الشعر، وأن الشعر القائم على الإلهام لا يمكـن السيطرة عليه، وبالتالى يصعب توجيهه، ومن ثم استيعابه فى الجمهورية.
لقد ذمّ أفلاطون الشعر لأنه ناتج عن الإلهام، وسلب الشعراء إبداعهم وفنهم، ثم صبّ عليهم جام غضبه لأنهم لا يتبعون المثل الأخلاقية - الصارمة - التى وضعها فى جمهوريته.
وقد طالب "أفلاطون" المشرع بأن يطلب، بل يرغم، الشعراء على أن يجسّدوا الخير، والفضيلة فى ألحانهم وإيقاعاتهم، وإذا لم يمتثلوا، فإن طردهم من المدينة هو الجزاء العادل لهم.
وإذا كان "أفلاطون" قد ذم الشعراء لاعتمادهم على الإلهام ورأى أن الأسلوب المباشر أفضل من الأسلوب الدرامى، ممتدحا شعـر "بندار" التعليمى الذى يمجد البطولة ويتغنى بفضل الآلهة، فإنـه أيضا مرتكزا على نظرية (محاكاة المحاكاة) جعل الشاعر مقلدا للطبيعـة أو العالم المحسوس، الذى هو تقليد لعالم المثل، وبالتالى فإن العالم الحقيقى يتم تزييفه مرتين، فينفصل عن الحقيقة، ويبتعد عن الصدق، ولذا فان ما يقوم به الشاعر لا يعدو كونه تشويها للحقيقة.
ولقد كان دور الشاعر الأخلاقى هو المحور الأساسى لفلسفة "أفلاطـون" الجمالية فى هذا الشأن، وقد أدى ذلك إلى إهمال "أفلاطـون" - لأنه ـ لم يكن على وفاق مع الشعراء - للجانب الشكلى فى الشعر، اللهّـم إلا كلمات تشير الى التصوير والتشبيه، والإيقاع الذى يرفضه "أفلاطون" - كتشبيه الآلهة بالبشر وتصويرهم فى هيئة بشرية، ووقوعهم فى أخطاء، كذلك نبذه للإيقاعات التى تبعث على الطراوة والتراخى والميوعة، واهتمامه بالشعر الحماسى - إذا كان لابد من الشعر ـ والذي يبث الشجاعة ويمجد البطولة.
ولقد كانت نزعة "أفلاطون" المحافظة فى ميدان السياسة هى السبب الأكبر لنظريته التى تدعو إلى صبغ الفن بصبغه آرخية (عتيقة)، فهو يرفض الإتجاهات الإيهامية Illusionist الجديدة ويفضل الأسلوب الكلاسيكى السائد فى عصر "بركليز"، ويبدى إعجابه بالفن المغْرق فى الشكلية عند المصريين القدماء، وهو الفن الذى يبدو خاضعاً لقوانين لا تتبدّل، ويرى فى التجديد أعراض الفوضى والإنحلال. ويحظر على الشعراء دخول مدينته المثلى، إذ أنهم يندمجون كل الاندماج فى الواقع التجريبى، وفى الظواهر المحسوسة التى لا تعدو فى رأيه أن تكون أوهاماً أو أنصاف حقائق، وكذلك لأنهم يثقلون الصور الروحية ويشوّهونها إذْ يحاولون التعبير عنها من خلال الحسّ(17).
وهكذا نجد أن رؤية "أفلاطون" السياسية والأخلاقية، كانت السبب فى هذا الموقف المتشدد من الشعر والشعراء، رغم كون "أفلاطون" نفسه كان يتمتع بحسّ شعرى، وروح فنان فى محاوراته.
• أرسـطـــــــو
أما "أرسطو" فلم يعتد بجانب الإلهام الغيبى فى نقده كما فعل أستاذه "أفلاطون" بل اتّجه شرحه للشعر من وجهة تجريبية، بتحديد معالم الشعر، والبحث عن القوانين الفنية فيه، وأثرها"(18).
لقد كتب "أرسطو" (فن الشعر) كنا قد أدبي ومؤرخ للشعر، ولـم يكن يهتم كثيرا بما تطلبه الدولة من الفن، أو ما يشكل الأسلوب التربوي لديها. "لقد انصبّ بحثه على الأشكال المختلفة للشعر، ونشأتها ونموّها. وقوانين بنائها وتأثيرها على الفكر. وقد حلّل البنى الشعرية Poetical Compositions كما لو كانت صورا للتفكير، هادفا إلى اكتشاف مكنوناتها فى ذاتها، وكيف تنتج آثارا متمايزة"(19).
وقد رأى أرسطو أن الفن هو الذى "يحاكى بواسطة اللغة وحدها، نثـرا أو شعرا - والشعر إما مركبا من أنواع، أو نوعاً واحداً - فليس له اسم حتى يومنا هذا، فليس ثمة اسم مشترك يمكن أن ينطبق بالتواطؤ على تشبيهات (سوفرون) (واكسينر خوس) وعلى المحاورات السقراطية. وعلى المحاكيات المنظومة على أوزان ثلاثية أو إيليجيـة، أو أشباهها. على أن الناس قد اعتادوا أن يقرنوا بين الأثر الشعـرى وبين الوزن فيسمون بعض الشعراء إيليجيين والبعض الأخر شعراء ملاحم. فإطلاق لفظ الشعراء عليهم ليس لأنهم يحاكون، بل لأنهم يستخدمون نفس الوزن.
والواقع أن من ينظم نظرية فى الطبّ أو فى الطبيعة يسمى عادة شاعرا : ورغم ذلك فلا وجه للمقارنة بين "هوميرس" و"أبنادوقليس" إلا فى الوزن. ولهذا يخلق بنا أن نسمى أحدهما (هوميرس) شاعراً، والآخـر طبيعيا أولى منه شاعراً. وكذلك لو أن امرءاً أنشأ عملا من أعمـال المحاكاة وخلط فيه بين الأوزان كما فعل "خيريمون" فى منظومته (قنطورس) وهى رابسودية مؤلفة من أوزان شتى، فيجب أيضا أن يسمى شاعرا"(20).
ولقد انحصر مفهوم الشعر عند "أرسطو" فى المحاكاة، أى تمثيل أفعال الناس ما بين خيرة وشريرة، بحيث تكون مرتبة الأجزاء علـى نحو يعطيها طابع الضرورة أو طابع الاحتمال فى تولد بعضها من بعض. والشعر الحق عند "أرسطو" يتجلى فى الملحمة والمـأساة والملهاة. والمحاكاة لا الوزن هى التى تفرق ما بين الشعر والنثـر. ولقد كان "هوميرس" لدى أرسطو شاعرا كبيرا، لا لأنه برع فى فخامة الديباجة الشعرية فحسب، (بل لأنه جعل محاكياته فى شعره ذات طابع درامى). يقصد تقديم الأفعال تقديما مسرحيا، تتمثل فيه الوقائع حية، ويتعرف بها على حقيقة الأشخاص والأحداث تعريفاً منتظما منسق الأجزاء(21).
وعندما يسخر "أرسطو" من إطلاق الناس لفظ الشاعر على كل من يستخدم الوزن يعلق "عبد الرحمن بدوى"، بأن هذه مسألة خطيرة، وهى مسألة : ماذا نسمى شعرا؟ أهو كل قول موزون ومقفـى، أو الشعر له خصائص مستقلة عن الوزن؟ "فأرسطو" يرى أن الإنسان يمكن أن يكون شاعراً وهو لا يكتب إلا نثرا، وأن يكون ناثراً وهو لا يكتب إلا شعرا أى (نظما). كما هى حال "أنبـادوقليس" : فهو ليس شاعراً لأنه ألف قصيدة فى الطبيعة منظومة على وزن، ولكن لأن له اسلوبا شعريا، أى كان محاكيا. وقد كان استشهاد "أرسطو" بـ(خيريمون) الذى مزج فى "القنطورس" بين الأوزان الجديدة والقديمة مؤكدا على أن الوزن لا يكفى وحده ليجعل من الانسان شاعراً(22).
وهكذا نجد أن "أرسطو" يقيم الشعر على أساس المحاكاة، لا الوزن مخالفاً لما كان سائدا فى عصره، وذلك لأن الناس كانوا يرون أن الشاعر هو الذى يستخدم الوزن حتى ولو كان ما يقوله يتعلق بالطـب أو الطبيعة. وقد كانت مسألة نظم الأفكار الفلسفية أو العلمية مسألة سائدة إلى حد كبير فى اليونان.
وكان "أرسطو" لا يقيم وزنا للشعر الغنائى، لأنه أثر الوعى الفـردى، ثم لأنه يخلو من الفن الحقّ - كما يراه "أرسطو" - فلا نرى فى كتاب الشعر ذكرا لكبار الشعراء الغنائيين من القدماء مثل الشاعرة "سافو(23) Sappho التى ولدت حوالى منتصف القرن السابع قبل الميلاد، والشاعر سيمونديس Semonides. وقد رأى "أرسطو" أن الشعر الغنائى كان مرحلة أولى ممهدة لوجود المأساة والملهاة، اللتين هما أعلى منه شأنا"(24).
وتعد المحاكاة هى السبب الأول الذى يرجع اليه الشعر، أما السبب الثانى فهو أن الناس يستمتعون برؤية واستماع الأشياء من جديد. أى تتيح فرصة الاستدلال والتعرف على الأشياء.
والتراجيديا - انطلاقا من نظرية "أرسطو" فى المحاكاة - هى محاكاة فعل جاد، وتام. والشعر - بالنسبة "لأرسطو" - يمضى فى اتجاهين، وفقا لطبيعة الشاعر. فالشاعر صاحب الروح الطيبة يحاكى الأفعال النبيلة وأفعال الفضلاء من الناس. أما صاحب الروح الشريرة أو النفس التافهة فإنه يحاكى الأدنياء من البشر، ويصوغ الأهـاجى، بينما يرتل الأتقياء فى ابتهال للآلهة، ويمدحون المشاهير(25).
لقد رأى "أرسطو" أن الفعل الإنساني يتأثر بعدة عوامل : مثل شخصية من يقوم بهذا الفعل، والعوامل الوراثية، ومصير الإنسان، والأعمال الماضية التى قام بها الانسان. ومن واجب الشاعر أن يصوغ شعره مُبرزاً الفعل الإنساني على أنه سجلّ حافل بكل هذه الأمور مستعينا فى ذلك بفن المحاكاة واللغة الشعرية.
وإذا كان "أرسطو" قد اهتم بالناحية الشكلية فى الفن الشعرى، وجعل الشعر صنعة فنية، وأن فن الشاعر إنما يتجلى فى صياغته وتنظيمه للعمل الشعرى حتى يكتسب الصفة الشعرية مستندا إلى المحاكاة كعنصر جوهرى فى الشعر، فانه أيضا لم يهمل شخصية الشاعر، إذْ يطلب إليه - وبشكل غير مباشر - أن يكون ملتزما بمواقف أخلاقية تدعو إلى الفضيلة، وتشجع على محاكاة الفضلاء من الناس، وتجنب محاكاة الأدنياء من البشر.
وإذا كان "أرسطو" قد خاض فى مسائل الشكل، وتفاصيل العمل الفنى فى كتابه (فن الشعر) إلا أنه فى كتاباته الأخرى - على سبيل المثال - فى السياسة - نراه يتحدث من وجهة نظر رجل الدولة مطالبا الفن بدور تعليمى، ويسند إليه الإرشاد الأخلاقى، بل ورأى أن بعض الفنون تمثل خطراً على الشباب(26).
وهكذا نجد أن "أرسطو" قد اهتم بالجوانب الجمالية فى الشعر، كما اهتم أيضا بمهمة الشعر دون الشاعر.
وإذا كان "أفلاطون" قد نقد الشعر باسم الحقيقة وباسم الخلق، وجرّد الشعراء من القدرة الحقيقية على الإبداع وجعلهم مجرد أدوات، ورأى أنهم يفسدون الناس بأفكارهم إذْ يصوّرون الآلهة فريسة لأهواء الانسان. فإن "أرسطو" قد أوضح الصلة بين الشعر والواقـع والمعانى الإنسانية والقضايا الكلية التى تبين عنها الحوادث المسوقة فى حكاية الشعر، فالشعر بهذا أوفـر حظا من الفلسفة ومن التاريخ. وبهذا لم يعارض "أرسطو" أستاذه "أفلاطون" فى حملته على الشعر فحسب، بل رفعه الى منزلة فوق الفلسفة والتاريخ(27).
يقول "أرسطو" :
"وواضح كذلك ما قلناه أن مهمة الشاعر الحقيقية ليست فى رواية الأمور كما وثقت فعلاً، بل رواية ما يمكن أن يقع. والأشياء ممكنة: إما بحسب الاحتمال، أو بحسب الضرورة. ذلك أن المؤرخ والشاعر لا يختلفان بكون أحدهما يروى الأحداث شعراً، والآخر يرويها نثراً (فقد كان من الممكن تأليف تاريخ "هيرودوتس" نظمأ، ولكنه كان سيظل مع ذلك تاريخاً سواء كتب نظماً أو نثراً). وإنما يتميزان من حيث أن أحدهما يروى الأحداث التى وقعت فعلاً، بينما يروى الآخر الأحداث التى يمكن أن تقع. ولهذا كان الشعر أوفر حظاً من الفلسفة وأسمى مقاماً من التاريخ لأن الشعر بالأحرى يروى الكلّى بينما التاريخ يروى الجزئى"(28).
ومن هنا يمكننا القول بأن المحاكاة الأرسطية لا تعنى نسخ الواقع، فالشاعر لا يلتزم بالأحداث كما هو الحال بالنسبة للمؤرخ، ولكنه يقدّم رؤية فنية وجمالية لها، وهذا عكس ما ساد لفترات طويلة لدى الكثيرين عن تصور المحاكاة، والذى جعلوه مجرد نسخ للواقع.
(2) الشعـر عنـد العـرب
لقد ارتبط الشعر بالإنشاد، وكان الإنشاد والذاكرة بمثابة الكتاب الذى ينشر الشعر الجاهلى، من جهة، ويحفظه من جهة ثانية. كما كان عرب الجاهلية يعدّون إنشاد الشعر موهبة ذات أهمية قصوى فى امتلاك السمع، أى فى الجذب والتأثير. والإنشاد هو بمثابة شكل من أشكال الغناء(29).
ولقد "ارتبطت موسيقى شعرنا تاريخيا لا بالغناء وحده، بل أيضا بالرقص، أما الغناء فصلته بالشعر لا تزال ماثلة، ومما لا يرقى إليه الشك إنها صلة وثيقة عند قدمائنا. إذْ يقال إن الغناء الجاهلى كان على ثلاثة أوجه هى النصْب والسناد والهزج). أما النصب فكان يخرج من أصل الطويل فى العروض، وكان السناد كثير النغمات والنبرات، أما الهزج فكان يرقص عليه ويصحب بالدفّ والمزْمار. ويعنى ذلك أن اقتران الرقص بالغناء والشعر عريق القدم"(30).
أى أن الشعر الذى بدأ شفويا غير مكتوب كان مصحوبا بالغناء، ويتم إنشاده، والرقص عليه، مصحوبا بالآلات الموسيقية. وهذا يعلل أهمية الإيقاع والوزن فى الشعر العربى القديم.
ويؤكد "ابن خلدون" فى مقدمته ارتباط الشعر بالغناء والإنشاد فيقول : "كان الغناء فى الصدر الأول من أجزاء الفن، لأنه تابع للشعر، إذْ الغناء إنما هو تلحينه. وكان الكتاب والفضلاء من الخـواص فى الدولة العباسية يأخذون أنفسهم به حرصا على تحصيل أساليب الشعر وفنونه"(31).
وقد ارتبط الشعر أيضا بالطقوس الدينية، وكان الرقص أحد هذه الطقوس، كما تطور مع تطور الأغنية الجماعية التى كان المغنون يتبارون من خلالها بارتجال المقطوعات المنظومة(32).
ويرى "أدونيس" "أن الشفوية تفترض السماع. فالصوت يستدعى الأذن، أولا. ولهذا كان للشفوية فن خاص فى القول الشعـرى، لا يقوم فى المعبًّر عنه، بل فى طريقة التعبير. خصوصا أن الشاعر الجاهلى كان يقول إجمالا، ما يعرفه السامع مسبقاً، كان يقول عاداته وتقاليده، حروبه ومآثره، انتصاراته وانهزاماته. وفى هذا ما يوضح كيف أن فرادة الشاعر لم تكن فى ما يفصح عنه، بل فى طريقة إفصاحه، وكيف أن حظّه فى التفرد وبالتالى إعجاب السامع، كان تابعا لمدى ابتكاره المتميز فى هذه الطريقة"(33).
الشعر والشاعر عند الفلاسفة
يقول "الفارابى" "إن الألفاظ لا تخلو من أن تكون : إماّ دالة، واما غير دالة. والألفاظ الدالة : منها ما هى مفردة وما هى مركبة. والمركبة : منها ما هى أقاويل، ومنها ما هى غير أقاويل. والأقاويل: منها ما هى جازمة، ومنها ما هى غير جازمة. والجازمة منها ما هى صادقة، ومنها ما هى كاذبة. والكاذبة منها ما يوقع فى ذهن السامعـين الشيء المعّبر عنه بدل القول، ومنها ما يوقع فيه المحاكى للشيء وهذه هى الأقاويل الشعرية"(34).
أى أن الأقاويل الشعرية هى التى توقع فى ذهن المستمعين المحاكى للشيء، فالمحاكاة هنا هى أساس الشعر. وهذه المحاكاة منها ما هو تام، ومنها ما هو غير تام. وفى مصدر آخر يؤكد أيضا أن الأقـاويل الشعرية هى التى من شأنها أن "تؤلف من أشياء محاكية للأمر الذى فيه القول"(35).
ويقول الفارابى :"إن الأقاويل الشعرية : اما أن تتنوع بأوازنها، و وإما أن تتنوع بمعانيها، فأما تنوعها من جهة الوزن فالقول المستعصى فيه إنما لصاحب الموسيقى والعروضى فى أى لغة كانت تلك الأقاويل، وفى أى طائفة كانت الموسيقى. وأما تنوعها من جهة معانيها على جهة الاستقصاء. فهو للعالم بالرموز والمعبر بالأشعار والناظر فى معانيها والمستنبط لها فى أمّة أمّة وعند طائفة طائفة، مثلما فى أهل زماننا من العلماء بأشعار العرب والفرس الذين صنفوا الكتب فـى ذلك المعنى وقسموا الأشعار إلى الأهاجى والمدائح والمفـاخرات والألغاز والمضحكـات والغزليات والوصفيات وسائر ما دونوه فى الكتـب التى لا يعسر وجودها، مما يستغنى عن الإطناب فى ذكرها"(36).
فاذا كانت المحاكاة هى أساس الشعر، فإن الوزن أيضا هو قوامه، ويمكن أن تتنوع الأقاويل الشعرية إما بتنوع الأوزان أو بتنوع المعانى، هذا ما يراه "الفارابى"، بل ويسرد أيضا أغراض الشعر كما هى معروفة لدى العرب فى ذلك الحين.
وتأكيداً منه على أهمية عنْصرى الشعر الأساسيين : المحاكاة، والوزن، يقول الفارابى :
"فقوام الشعر وجوهره عند القدماء هو أن يكون مؤلفا مما يحاكى الأمر، وأن يكون مقسوما بأجزاء وينطق بها فى أزمنة متساوية، ثم سائر ما فيه، فليس بضروري فى قوام جوهره، وانما هى أشياء يصير بها الشعر أفضل. وأعظم هذين فى قوام الشعر هو المحاكاة، وعلم الأشياء التى بها المحاكاة وأصغرهما هو الوزن"(37).
ويرى أيضا أن كثيرا من الشعراء إنما يرون القول شعرا متى كـان "موزونا مقسوما بأجزاء ينطق بها فى أزمنة متساوية، ولا يبالون بما إذا كانت مؤلفة مما يحاكى الشىء أم لا"(38).
وهو يريد أن يقول أن هذا الذى يقوله الجمهور وكثير من الشعـراء ليس شعراً حقيقيا - من وجهة نظره - لأنه يفتقد إلى عنصر المحاكاة، العنصر الرئيسي فى الشعر. فالقول "إذا كان مؤلفا مما يحاكى الشيء، ولم يكن موزونا بإيقاع فليس يعد شعرا، ولكن يقال هو قول شعرى، فإذا وزن مع ذلك وقسم أجزاء صار شعرا"(39). أى لابد من اكتمال عنصرى الشعر ليكون القول شعرا.
واذا كانت المحاكاة هى إيهام بالشبيه وليس بالنقيض. وقد يقدم الموضوع تقديما مباشرا كما فى التصوير، أو غير مباشر كما فى الشعر. وإذا قلنا إن الشعر مؤلف من كلمات تنتظم فيما بينها انتظاما مخصوصا تبعا لتعاقب الحركات والسكنات مما يصنع للشعر إيقاعه. حينئذ يتشابه الشعر مع الموسيقى وتصبح الألحان مما يصنع للشعر إيقاعه(40).
ويرى الفارابى :"أن نسبة وزن القول فى الحروف كنسبة الإيقاع المفصل فى النغم. فان الإيقاع المفصل هو نقلة منتظمة على النغم ذات الفواصل، ووزن الشعر نقلة منتظمة على الحروف ذات فواصل"(41).
والشعر ليس مجرد تعاقب منتظم فى الزمن بين الحركات والسكون، بل هو يتكون من كلمات، والكلمات لها دلالات، أى أنها تشير إلى مـدركات مرتبطة بالحس. فالشاعر كالمصّور يبدع العالم فى أشكال فنية، وكلاهما يحاكى الأشياء الإرادية - على حد قول الفـارابى(42) ـ ومعنى ذلك أن الشعر متصل بنوعين من الفن، هما الموسيقى والتصوير. بل إن الشاعر يعد أكثر حرية من المصور، لأن المصور يكون ملتزماً بقواعد المنظور الثابت، وبالنقل المباشر - وليس الحرفى - له. أما الشاعر فإنه يحاكى الموضوع بأكثر من طريقة.
ولكن من هو الشاعر فى رأى "الفارابى"؟
يقول "الفارابى" :"إن الشعراء إما أن يكونوا ذوى جبلة وطبيعة متهيئة لحكاية الشعر وقوله، ولهم تأتٍ جيد للتشبيه والتمثيل : إما لأكثـر أنواع الشعر، وإما لنوع واحد من أنواعه، ولا يكونوا عارفين بصناعة الشعر على ما ينبغى، بل هم مقتصرون على أن جودة طباعهم وحسن تأتيهم لما هم ميسرون نحوه. وهؤلاء غير (مسلجسين) بالحقيقة لما عدموا من كمال الرؤية والتثبت من الصنـاعة". ومن سمّاه مسلجساً شعريا فذلك لما يصدر عنه من أفعال الشعراء(43).
إن "الفارابى" عندما يصوغ تعريفه للشاعر، فإنه يبدأ بالشاعر الذى يقرض الشعر بالفطرة، أو الشاعر المطبوع، والذى وهب القدرة على صياغة الشعر، ولكن دون أن يكون عليما ومتبحرا فى صنعة الشعر وهذا الشاعر لا يعد مكتمل النضج لدى "الفارابى". أما الشعراء العارفون "بصناعة الشعر حق المعرفة حتى لا يند عنهم خاصة من خواصها ولا قانون من قوانينها فى أى نوع، شرعوا فيه، ويجوّدون التمثيلات والتشبيهات بالصناعة، وهؤلاء هم المستحقون للشعراء المسلجسين"(44).
أى أن التبحر فى صنعة الشعر هو الأساس فى تكوين الشاعر، أما الذين يقلدون الشعراء من الطائفة الأولى (المطبوعين) أو الثانية (العارفين بالصنعة) فانهم يكونون أكثر زللاً وخطأ.
يقول "الفارابى" فى إطار رؤيته لمهمة الشعر، إن الأقاويل الشعرية نوعان: "منها ما يستعمل فى الأمور التى هى جدّ، ومنها ما شأنها أن تستعمل فى أصناف اللّعب. وأمور الجدّ هى جميع الأشياء النافعة فى الوصول إلى أكمل المقصودات الإنسانية، وذلك هو السعادة القصوى"(45).
واذا كان "الفارابى" - متأثرا بأفلاطون - يفضل العمل الفنى الذى يستعمل فى أمور الجدّ، من أجل الوصول إلى أكمل المقصودات الإنسانية. ويضعه فوق العمل الذى يكون مقصوداً لذاته (اللعب) أو المتعة الحسية التى لا تهدف إلى غاية نافعة أو تقدم موقفا أخلاقيـا، إلا أنه لا ينكر الشعر الذى جوهره اللّعب أو الذى لا يؤدى إلى مقصد خيّر.
أى أن "الفارابى" يزاوج بين نوعين من الشعر. الشعر الذى يدعـو إلى الفضيلة ويؤدى إلى السعادة - أى الشعر الذى يدعو إلى الخير والمنفعة - والشعر الذى يمتع وإن كان غير مفيد.
وللشاعر دور فعال فى المدينة الفاضلة، وإن كان "الفارابى" لم يرق به إلى مستوى الأفاضل، إلا أنه لم يطرده من مدينته، "فالمدينة الفاضلة أجزاؤها خمسة : الأفاضل وذوو الألسنة والمقدّرون والمجاهدون والماليون. فالأفاضل هم الحكماء والمتعقلون وذوو الآراء فى الأمور العظام. ثم حملة الدين، وذوو الألسنة وهم الخطبـاء والبلغاء والشعراء والملحنون والكتاب ومن يجرى مجراهم وكان فى عدادهم"(46).
ثم يشرح بعد ذلك تكوين الفئات الأخرى من (المقدرين والمجـاهدين والماليين). أى أن "الفارابى" جعل الشعراء يسبقون فئات كثيرة من فئات مجتمع المدينة الفاضلة. فوضعهم فوق الحسّاب والمهندسين والأطباء والمنجمين، وفوق المجاهدين، ومكتسبي المال فى المدينة. وبذلك يكون الشعراء فى مدينته فى وضع أفضل كثيراً منهم فى جمهورية "أفلاطون".
ويفصل "الفاربى" بين وظيفتى الشعر : اللعب، والجد أو اللذة والفائـدة، بحيث يصبح الشعر إما هادفًا إلى تحقيق اللذة أو تحقيق ما هو نافع ومفيد. ومن هنا نجده يدخل الشعر أو الأقاويل المحاكية ضمن ما يستعمله الإنسان ليسعد به، بحيث لا ينال من وراء تحصيله سوى الراحة واللذة. وإن كان "الفارابى" يحدد وبشكل قاطع أفضلية النوع الثانى من الشعر.
والفارابى "قادر - شأنه فى ذلك شأن "أفلاطون" - على أن يخبـرنا بمعاييره الأخلاقية فى الفن لأن هذه المعايير جزء مـن مخطط أخلاقى واضح الصياغة، سواء فى كتبه عن الأخلاق أو السياسات المـدنية أو سبيل تحصيل السعادة. ولا شك أن هذا إنجاز متميز، إذْ أن أى نظرية أخلاقية فى الفن تظل خاوية ما لم تستند إلى مخطط من القيم بغض النظر عن قبولنا أو رفضنا لهذا المخطط"(47).
وهكذا نجد أن "الفارابى" قد جعل الشعر لكى يكون شعرا يجب أن يكون محاكيا - أى أن المحاكاة عنصر أساسي فيه - ثم لابد وأن يكون موزونا ومقسما إلى أجزاء متساوية. وربط بين الشعر والموسيقـى والتصوير. وجعل الشاعر الحق، هو الذى يمتلك صنعة الشعر، وأناط به دورا أخلاقيا جعله فى المقدمة، وان لم ينكر المتعة أو اللذة فى الشعر.
أما "ابن سينا" فقد رأى أن "الشعر هو كلام مخّيل مؤلف من أقـوال موزونة متساوية، وعند العرب مقفاة. ومعنى كونها موزونة أن يكون لها عدد إيقاعي. ومعنى كونها متساوية هو أن يكون كل قول منها مؤلفا من أقوال إيقاعية، فان عدد زمانه مساو لعدد زمان الآخر. ومعنى كونها مقفاة هو أن يكون الحرف الذى يختم به كل منها واحدا"(48).
وبذلك يلح "ابن سينا" على قضية التخييل، ويجعل الوزن من جوهر العمل الشعرى خاصة عند العرب - أو فى الشعر العربى.
ويرى أن "المقدمات الشعرية هى : المقدمات التى من شأنها، إذا قيلتْ أن توقع فى النفس تخييلا، لا تصديقا.
والتخييل هو انفعال من تعجب، أو تعظيم أو تهوين أو تصغير، أو غم أو نشاط من غير أن يكون الغرض بالمنقول ايقاع اعتقـاد ألبتة. وهذه المقدمات ليس من شرطها أن تكون صادقة، ولا كاذبة، ولا ذائعة ولا شنعة، بل أن تكون مخيلة. ويكاد يكون أكثرها محاكيات للأشياء بأشياء من شأنها أن توقع تلك التخيلات. فيحاكى الشجاع بالأسد والجميل بالقمر والجواد بالبحر"(49).
ويؤكد (ابن سينا) على التخييل فيقول : "والمخيل هو الكلام الذى تذعن له النفس فتنبسط عن أمور وتنقبض عن أمور من غير روية وفكر واختيار، وبالجملة تنفعل له انفعالا نفسانيا غير فكرى، سواء كان المقول مصدقا أو غير مصدق. فإن كونه مصدقا به غير كونه مخّيلا أو غير مخيل : فانه قد يصدّق بقول من الأقوال ولا ينفعل عنه، فإن قيل مرة أخرى، انفعلت النفس عنه طاعة للتخييل لا للتصديق. فكثيراً ما يؤثر الانفعال ولا يحدث تصديقا. وربما كان المتيقن كذبه مخيلا"(50).
وإذا كان "ابن سينا" قد أكد على التخييل فى الشعر، وأكد على أن الكلام المخيل هو الذى ينفعل به الانسان انفعالا نفسانيا غير فكرى - أى دون روية واختيار - بل لأنه - أى الكلام - متيقن الكذب. وأكد أيضا على الوزن والقافية، بصورة أقوى من "الفارابى"، فانه أيضا يجعل الشعر صناعة. فالصناعة عنده هى "أعلى درجة من درجات الشعر، .. والصانع الأقدم أرأس من الصانع الذى يخدمه ويتبعه"(51).
بل إن المقدمات المخيلة نفسها التى يتألف منها القول الشعرى، "تكون تارة موجهة بحيلة من الحيل الصناعية نحو التخييل وتارة لذواتها بلا حيلة من الحيل". وهى أن تكون إما فى لفظها مقولة باللفظ البليغ الفصيح بحسب اللغة، أو أن تكون فى معناها ذات معنى بديع فى نفسه لا بحيلة قارنته. مثال ذلك قول القائل:
وما ذرفت عيناك إلا لتضربى بسهميك فى أعشار قلب مقتل(52)
ويوجد "الشعر بأن يجتمع فيه القول المخيّل والوزن، فإن الأقاويل الموزونة التى عملها عدة من الفلاسفة، ومنهم "سقـراط"، قد وزنت بوزن (ايلاجيا) الثالث المؤلف من أربعة عشر رِجْلاً، وإما بوزن (التـروكى الرباعى) المؤلف من ستة عشر رجلا، وغير ذلك. وكذلك التى ليست بالحقيقة أشعاراً. ولكنْ أقوالاً تشبه الأشعار وكالكـلام الذى وزنه (أنبادوقليس) وجعله فى الطبيعيات، فإن ذلك ليس فيه من الشعر إلا الوزن. ولا مشاركة بين "أنبادوقليس" وبين "هوميروس" إلا فى الوزن. و أما ما وقع عليه الوزن من كلام "أنبـادوقليس" فأمور طبيعية، وما يقع عليه الوزن من كلام "هوميروس" فأقوال شعرية فلذلك ليس كلام "أنبادوقليس" شعراً. وكذلك أيضا من نظم كلاماً ليس من وزن واحد، بل كل جزء منه ذو وزن آخر فليس ذلك شعراً، ومن الناس من يقـول "ومن يغنى به بلحن ذى إيقاع"(53).
فالشعر لابد أن يجتمع فيه القول المخيل والوزن، وإلا فقد صفة الشعر بل لابد فى رأى "ابن سينا" أن يكون الوزن واحداً. فوحدة الوزن والتخييل هى أساس الشعر..
ويلاحظ هنا أن "ابن سينا" فى (فن الشعر) كان مدركا لآراء "أرسطو" فى التفرقة بين الشعر وغير الشعر، وأن الشعر ليس مجرد الكلام الموزون المقفى فحسب، بل لابد أن يجتمع إليه التخييل أيضا.
و"السبب المولد للشعر فى قوة الانسان، شيئان : أحدهما الالتذاذ بالمحاكاة واستعمالها منذ الصبا، وبها يفارقون الحيوانات العجْم، من جهة أن الانسان أقوى على المحاكاة من سائر الحيوانات، فإن بعضها لا محاكاة فيه أصلا. وبعضها فيه محاكاة يسيرة : إما بالنغم كالببغاء، و اما بالشمائل كالقرد"(54). "والسبب الثانى حب الناس للتأليف المتفق والألحان طبعا، ثم وجدت الأوزان مناسبة للألحان، فمالت إليها الأنفس وأوجدتها"(55).
فحب المحاكاة، والمتعة المتولدة عنها، وحب الناس للتأليف الموزون بأوزان مناسبة للّحن، هما السبب فى تولّد الشعر فى الإنسان. فإذا كان الإنسان عفيفا طيب النفس مال إلى المحاكاة بالأفعال الجميلة، أما من كان أخسّ فقد مال إلى الهجاء.
وهو هنا يردّد - ترجمةً - أقوال "أرسطو" الذى رأى أن التراجيديا تحاكى الأنقياء من الناس بينما نحاكى الكوميديا الأدنياء من البشر.
ولقد أدرك "ابن سينا" - شأنه شأن "الفارابى" - تلك العلاقة بين الشعر والفنون الأخرى، حين أشار إلى أن كلا من الشاعر والمصـور محاكٍ، غير أنه يختلف عن "الفارابى" فى أنه كان مدركا للنظرية الأرسطية التى ترى أن الفنون كلها بما فيها الأدب والموسيقى والتصوير والرقص تقوم على المحاكاة. وأن التمييز بين فن وآخر إنما يكون (بوسيلة المحاكاة) (56).
فالمحاكاة عند "ابن سينا"(57) تكـون فى ثلاثة أشياء هى اللحن والكلام والوزن، اللحن الذى يتنغم به يؤثر على النفس تأثيراً لا يرتـاب به، والكلام إذا كان مخّيلا محاكياً، وبالوزن وإن كان من الأوزان ما يطيش ومنها ما يوقر وربما اجتمعت هذه كلها، وربما انفرد الوزن والكلام المخيّل.
وإذا كان الشعر عند "الفارابى" يقوم بأداء مهمتين هما اللذّة والفائدة، فإننا نجد أن "ابن سينا" قد أقر بهاتين الوظيفتين، وإن كان لم يجمع بينهما. "فالشعر قد يقال للتعجّب وحده، وقد يقال للأغراض المدنية"(58) فعلى ذلك كانت الأشعار اليونانية.
أما الأشعار العربية فإنها تقال لأمرين : "أحدهما ليؤثر فى النفس أمرا من الأمور تُعَدُّ به نحو فعل أو انفعال، والثانى للعجب فقط، فكانت تشبه كل شىء لتعجب بحس التشبيه"(59) بينمـا اليونانيون - فى رأيه - كانوا يقصدون "أن يحثوا القول على فعل أو يردعوا بالقول عن فعل. وتارة كانوا يفعلون ذلك على سبيل الخطابة، وتارة على سبيل الشعر"(60).
فالعجب الذى يقول فيه العرب الشعر يكاد يكون مقصوداً لذاته بعيداً عن أى مغزى عملى أو نفعي. أو بعيداً عن الفائدة - كما كان لدى "الفارابى" - على حد تعبيره. وهذا يتسق أيضا مع قول "ابن سينا" إن أحد سببي الشعر فى الإنسان هو الإلتذاذ بالمحاكاة، وان السبب الثانى - كما أسلفنا هو حب الناس للتأليف. فصنعة الشعر يمكن أن تكون هنا غاية فى حد ذاتها.
"فابن سينا" يقدر الجانب الممتع فى الفن عموما - وليس الشعر فقط - بل إن اللذة أو المتعة أو الفرحة التى تحققها المحاكاة فى الفن - فى تصوره - هى التى تسوغ للمتلقى الإقبال على هذا الفن وتفضيله على الواقع رغم بعده واختلافه عن هذا الواقع"(61).
واذا كان "ابن سينا" قد اهتم باللذة فى الشعر، فانه أيضا اهتم بالجانب الأخلاقى، وإن كان منفصلا عن حديثه عن اللذة. فهو يرى أن من واجب الشعر "أن يحاكى الأفعال المنسوبة للأفاضل، وإلى الممـدوحين من الأصدقاء بما يليق بهم وبمقابلها للأعداء"(62). وأن يحاكى فى الممدوح" خيريته، ويذكر أنها نافعة وموافقة، وأنها على أشبه ما ينبغى أن تكون به، وأنها معتدلة متناسبة الأحوال"(63).
ولقد ترتب على هذه النظرة الأخلاقية لوظيفة الشعر أن أصبح موضوع المحاكاة فى الشعر يقوم على الواقع، وعلى ما ينبغى وقوعه. فإذا "أسندت التجربة إلى موجود أقنعت أكثر مما تقنع إذا أسندت إلى مخترع، وبعد ذلك إذا أسندت إلى موجود مما يقدر كـونه. وقد كان يستعمل فى طراغوذيا جزئيات فى بعض المواضع مخترعة تسمى على قياس المسّميات الموجودة، ولكن ذلك من النادر القليل(64).
وهكذا ألزم "ابن سينا" الشاعر بالابتعاد عن كل ما هو مبتدع أو مخترع، واشترط ألا تكون الخرافة المخيفة المحزنة (موضوع التراجيديا) موضع شكّ. إلحاحا منه على تأكيد الصلة الوثيقة بين المهمة الأخلاقية للشعر، وموضوع المحاكاة الشعرية.
يقول ابن سينا:
ويجب ألا تكون الخرافة موردة مورد الشك حتى تكون كأنها تفسّر على التخيّل. فإن هذا اولى بأن يخيّل (جيدا) كما كان يفعله فلان. وإن كان فعله غير مخلوط بصناعة تصديقية وشئ يحتاج إلى مقدمات. وقد كان بعضهم يقدّمون مقدّمات شعرية للتعجيب بالتشبيه والمحاكاة فقط دون القول الموجّة نحو الأفعال"(65).
وهكذا نجد أن "ابن سينا" قد جعل الشعر هو الكلام الموزون المقفى والذى يقوم على التخْييل. كما اهتم بدور الشاعر فى اجتلاب المتعـة أواللذة، بالإضافة إلى دوره الأخلاقى والتربوى المنفصل عن دوره الأول وهو فى رأيه ذلك يردّد آراء "أرسطو" فى هذا الشأن.
ويعرف "ابن رشد" الشعر بقوله :
"والأقاويل الشعرية هى الأقاويل المخيلة. وأصناف التشبيه والتخييل ثلاثة : اثنان بسيطان، وثالث مركب منهما"(66) والصناعة المخيلة التى تفعل فعل التخييل ثلاثة : صناعة اللحن، وصناعة الوزن، وصناعة عمل الأقاويل المحاكية(67).
وتوجد هذه العناصر متفرقة، كما توجد مجتمعة، فالمزامير تتميز بالنغم، والرقص بالوزن، واللفظ بالمحاكاة، ومثال اجتماعها الموشحات والأزجال فى بلاد الأندلس. غير أن هذه العناصر عند "أرسطو" - كما أسلفنا - تخص فن التراجيديا. ولكن "ابن رشد" يطبقها على الشعر العربى مباشرة، وذلك بناء على تعريفه بأن كل قول شعرى هو إما هجاء، أومديح، بوضع الهجاء مكان الكوميديا، والمديح مكان الترجيديا.
ثم يكرر "ابن رشد" ما جاء فى "أرسطو" - و"الفارابى" و"ابن سينا" - حول ما ينبغى أن يسمى شعرًا، رافضا وضع أقوال (أنبادوقليس) ضمن الشعر وذلك على العكس من أعمال (هوميروس) التى يتمثل فيها معنى الشعر بشكل كامل.
أمـا "نشأة الشعر فتبدأ من كونه مطلبا فطريا، مؤكداً على أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذى يلنذّ بالتشبيه والمحاكاة، وهو الذى يختص بتذوق الوزن واللحن طبيعيا"(68). مؤكدا ما جاء أيضا عند ابن سينا.
وإذا كان الشعر يقوم على المحاكاة، فإن "ابن رشد" يؤكد على اختلاف المحاكاة بين الفنون المختلفة. فالمحاكاة "فى الأقاويل الشعريـة تكون من قِبل ثلاثة أشياء : من قِبل النغَم المتفقة، ومن قبل الوزن ومن قبل التشبيه نفسه. وهذه قد يوجد كل واحد منها مفردا عن صاحبه مثل وجود النغم فى المزامير، والوزن فى الرقص، والمحاكاة فى اللفظ، أعنى الأقاويل المحاكية غير الموزونة. وقد تجتمع هذه الثلاثة بأسرها، مثلما يوجد فى النوع الذى يسمى الموشحات والأزجال، وهى الأشعار التى استنبطها فى هذا اللسان أهل هذه الجزيرة"(69).
أى أن عناصر قيام الشعر هى اللحن والوزن والمحاكاة، وهى نفسها العناصر التى وضعها "ابن سينا". غير أن "ابن رشد" رأى أن الشعـر العربى - عدا الموشحات والأزجال - لا يتوافر له عنصـر اللحن، وانما يتوافر له إما الوزن فقط أو الوزن والمحاكاة. وهذا ما سبق أن قرّره أيضا "الفارابى"، إذ لا يعّد اللحن من عنـاصر الشعر العربى.
"من هنا يقّر كل من ابن سينا وابن رشد أن المحاكاة والتخييل فى الشعر تكون من قبل اللفظ والوزن فقط، ويصبح الفرق بينهما وبيـن "الفارابى"، أن الأخير يقْصر المحاكاة فى الشعر على اللفظ دون الوزن"(70).
ومما تجدر ملاحظته هنا هو أن "ابن رشد" بذل جهدا كبيرا فى محاولة تطبيق ما جاء فى فن الشعر على الشعر العربى. مستندا إلى معرفة كبيرة بالشعر الجاهلى، والعصور التالية عليه.
واذا كانت العلل المولدة للشعر فى الناس هى : التشبيه والمحاكـاة، والالتذاذ بهذا التشبيه، ثم الالتذاذ أيضا بالوزن والألحـان. فإن هذا يعنى أن تذوق الشعر والتمتع به أمر مطبوع فى الانسان - أى فطرى. وهنا تكمن القيمة الجمالية للشعر التى تجعـل المتعة أساسا لها. غير أن "ابن رشد" لا يغفل الدور التعليمى للشعر. فالشعر هو أحد وسائل الإقناع عند تربية سكان الدولة، لأن الشعر يمكن أن يدركه العامة بينما الأساليب البرهانية لا يدركها غير الخاصة.
والخطابة والشعر من الوسائل التى تستخدم فى تدبير مصالح المدن وأمور العامة.
وإذا كانت اللذة فى الشعر تأتى مصاحبة للمحاكاة حتى لو كانـت المحاكاة موجهة إلى أمور الجد، "فالمحاكاة فى حد ذاتها مُلذّة، غير أن هذه اللّذة تقيم على أساس ما تقدمه من نفع أو ما يقترن به من فائدة ومن هنا يصبح الشعر أداة تعليمية لأنه أكثر قبولاً لديهم من البرهان"(71).
وإذا كان الشعر بطبيعته التخييلية يسهل تمثيل الحقائق، وبطبيعته الجمالية يسهل استيعاب صور الحقائق فى انتظار أن يترقى الصبّى إلى درجة التعليم البرهانى. وذلك لأن الأحداث "من أخلاقهـم أنهم يؤثرون الجميل أكثر من إيثارهم النافع، وانما يؤثرون من النافع ما كان جميلا. فلابد حينئذ من توجيه هذا التوافق بين طبيعة الشعر والحاسّة الجمالية للشباب حتى يحسن تعليمهم(72).
فالأقاويل الشعرية - عند "ابن رشد" - لا تستخدم فقط فى تعليم الكبار، وإنما أيضا فى تعليم الصبية، لأن الأقاويل الشعرية تستخدم فى تعليم من لا يستطيع استيعاب الأساليب البرهانية.
بالإضافة إلى الدور التعليمى للشعر، فان له دورا أخلاقيا، تتحدد غاية الشعر فيه بالكفّ عن فعل، والحثّ على فعل آخر.
يقول "ابن رشد" :
"ولما كان المحاكون والمشبهون إنما يقصدون بذلك أن يحثوا علـى عمل بعض الأفعال الإرادية، وأن يكفّوا عن عمل بعضها، فقد يجب ضرورة أن تكون الأمور التى تقصد محاكاتها : إما فضائل، و إما رذائل .. وذلك أن كل فعل وكل خُلق إنما هو تابع لأحد هذين: أعنى الفضيلة أو الرذيلة، فقد يجب ضرورة أن تكون الفضائل إنما تحاكى بالفضائل والفاضلين، وأن تكون الرذائل تحاكى بالرذائل والأرذلين. وإذا كان كل تشبيه وحكاية إنما تكون بالحسن والقبح. فظاهر أن كل تشبيه وحكاية إنما يقصد به التحسين والتقبيح. وقد يجب مع هذا ضرورة أن يكون المحاكون للفضائل، أعنى المائلين بالطبع إلى محاكاتها، أفاضل، والمحاكون للرذائل أنقص طبعا من هؤلاء وأقرب إلى الرذيلة"(73).
وإذا كان الأفاضل يحثون على الفضيلة، والمحاكون للرذائل أنقص طبعا وأقرب إلى الرذيلة - فى رأى "ابن رشد" - فإنه بذلك يكون محرضا الشعراء للقيام بدور أخلاقي.
وهكذا نجد ابن رشد شأنه شأن غيره من الفلاسفة المسلمين السابقين كان يؤكد على أن الوزن يمثل عنصراً رئيسيا فى الشعر، وأن المحاكاة مما يتقّوم به الشعر. وأن الشعر قد يقصد به المتعة الجمالية الخالصة أو المنفعة، وإن كان يميل إلى إضفاء دور أخلاقي على الشعر، ودور تعليمي خاصة مع الشباب والصغار.
والجدير بالذكر أن آراء الفلاسفة (الفارابى، ابن سينا، ابن رشد) ليست إلا تـرديداً الآراء "أرسطو". مع بعض التعديلات الطفيفة فى محاولة لجعلها مناسبة للشعر العربى. وقد اختلفت درجة هذه الموائمة مع الشعر العربى، من فيلسوف إلى آخر، وكانت فى ذروتها عند ابن رشد.
الشعر والشاعر عند النقاد
(ابن طبا طبا - قدامة بن جعفر - حازم القرطاجى)
يبدأ "ابن طبا طبا" فى (عيار الشعر) تعريفه للشعر على أنه "كلام منظوم، بائن عن المنثور الذى يستخدمه الناس فى مخاطباتهم، بما خُصّ به من النظم الذى إن عدل عن جهته مّجته الأسماع. وفسـد علـى الذوق. ونظمه معلوم محدود، فمن صحّ طبعه وذوقه لم يحتـج إلى الاستعانة على نظم الشعر بالعروض التى هى ميزانه، ومن اضطرب عليه الذوق ولم يستغن عن تصحيحه وتقويمه بمعرفة العروض والحذق به، حتى تعتبر معرفته المستفادة كالطبع الذى لا تكلف معه"(74).
فى هذا التعريف يضع "ابن طباطبا" الوزن أساسا للشعر، كما أنه لا يهتم بالتخييـل أو المحاكاة. فهو لا يضع فى اعتباره غير الشعر فى ذاتـه باعتبـاره بنية لغوية قائمة على أساس الطبع والذوق. أما من لم يستقم ذوقه - فى رأى "ابن طبا طبا" - فإنه لابد محتاج إلى معرفة العروض والحذق به، أى أن الصنعة والدربة تكون هامة بالنسبة له.
وإذا كانت معرفة الشاعر بالصنعة من الأمور الهامة، فإن ثقافته أيضا ذات أهمية كبرى. فيرى "ابن طبا طبا" ضرورة "التوسع فى علم اللغة والبراعة فى فهم الإعراب، والرواية لفنون الآداب، والمعرفة بأيام الناس وأنسابهم ومناقبهم ومثالبهم، والوقوف على مذاهب العرب فى تأسيس الشعر والتصرف فى معانيه، وفى كل فن قالته العرب فيه، وسلوك سُبلها ومناهجها فى صفاتها ومخاطباتها وحكاياتها وأمثالها والسنن المستدله منها، وتعريضها وتصريحها، وإطنابها وجزالة معانيها وحسن مباديها، وحلاوة مقاطعها، وإيفاء كل معنى حظّه من العبارة وإلباسه ما يشاكله من الألفاظ حتى يبرز فى أحسن زى وأبهى صورة"(75).
فالشاعر الحقّ هو الذى استقامت لغته، وكثر حفظه للشعر ومعرفته لفنونه وضروبه، ومن كان واسع الثقافة، عليما بكل ما يتصل بمجاله، وعصره والعصور السابقة.
وكذلك نجد "ابن طبا طبا" ينصح الشاعر بمعرفة سنن العرب، أى المعتقدات الخرافية أو الفلكور العربى : كسقيهم العاشق الماء على خرزة تسمى السلوان، وكضربهم الثور إذا امتنعت البقر عن الماء، وكحذف الصبى سنّه إذا سقطت فى عين الشمس(76).
ويذكر "ابن طباطبا"(77) أمثلة على ذلك إذُ يقول الشاعر - فى شأن موضوع الحززة:
ياليت أنّ لقلبى من يعلّله
أو ساقياً فسقاه اليوم سلواناً
أو قول شاعر آخر :
شربت على سلوانه ماء مُزْنةٍ
فلا وجديد العيش يامىّ ما أسْلُوّ
وكذلك فى إيقادهم النار خلف المسافر الذى لا يحبّون رجوعه، ويقولون:
أبعده الله وأسحقه وأوقد ناراً إثره. وفى ذلك يقول الشاعر:
وذمة أقوام حملتَ ولم تكنْ
لتوقد ناراً إثرهم للتندّمِ
وكضربهم الثور إذا امتنعت البقر من الماء، ويقولون إن الجنّ تركب الثيران فتصدّ البقر عن الشراب. قال الأعشى:
فإنى وما كلفتمونى وربّكم
ليعلم من أُمْسى أحقّ وأحوبــا
لكالثور والجنّىُّ يركب ظره
وما ذنبه أن عافتْ الماء مشربا
وما ذنبه أن عافت الماء باقر
وما إنْ تعاف الماء إلاّ ليضربا
كما يذكر - "ابن طباطبا" - فى هذا الصدد أيضا شعرا لـ "نهشل بن حرّى" .
وكذلك زعم العرب أن الصبى إذا حذف سنّه وسقطت فى عين الشمس. وقوله: ابدلينى بها أحسن منها. وقالت العرب إن فعله ذلك يجعل أسنانه تنبت سليمة لا عوج فيها.
وقد قال "طرفة بن العبيد"
بدلته الشمس من منبته
برداً أبيض مصقول الأشر
إن هذه المعرفة الوثيقة بحكايات العرب وخرافاتهم تجعل الشاعر قادراً على مخاطبة وجدانهم، كما تعّمق رؤيته وتضيف إليها أبعادًا أسطورية وخرافية.
وإذا كانت ثقافة الشاعر الواسعة، ومعرفته سنن العرب ومعتقداتهم وخرافاتهم وأساطيرهم ذات أهمية كبيرة بالنسبة للشاعر حتى يكون شعره عميقا، واسع الأفق، فإن هذا يتطلب أيضا أن يكون الشاعر عالما بفنّه، متمرساً فيه، وقادراً على تطويعه لأغراضه.
يقول ابن طبا طبا :
"للشعر أدوات يجب إعدادها قبل مراسه وتكلف نظمه، فمن تعصت أداة من أدواته، لم يكمل له ما يتكلّف منه وبان الخلل فيما ينظمه، ولحقته العيوب من كل جهة"(78).
ومعنى ذلك أنه علينا أن "نرد استعصاء الأداة إلى استعصاء الطبع، وتفهم الأداة فى الشعر فهماً رحبا، لا يقصر على مجرد التوسـع فى علم اللغة، والبراعة فى فهم الإعراب، والمعرفة بأنساب الناس ومناقبهم، بل تمتد لتشتمل الأداة الشعرية"(79).
ولم يقف "ابن طباطبا" فى حديثه عن الشعر على تعريفه، وما يلزم للشاعر من أدوات أو ثقافة، بل إننا نراه يدخل فى تفاصيل كتابة القصيدة أو صناعتها، فيقول:
"فإذا أراد الشاعر بناء قصيدة مخّض المعنى الذى يريد بناء الشعر عليه فى فكرة نثراً، وأعدله ما يُلبّسه إيّاه من الألفاظ التى تطابقه، والقوافى التى توافقه، والوزن الذى يُسلس له القول عليه"(80).
ثم يتابع "ابن طباطبا" تفاصيل عملية الصناعة هذه، وبشكل آلى فهى تمرّ بمراحل متتالية، وهو بذلك يحول الشاعر من مبدع إلى صانع، وكأن الشاعر يدخل إلى عالمه الشعرى، وبناء القصيدة قصْداً، ولا وجود للالهام أو الوحى، أو اللاوعى فى هذا الشأن.
أما "قدامة بن جعفر" فقد وجد أن ما ينْدرج تحت العلم بالشعر، انما يتمثل فى خمسة أقسام هى : الوزن والعروض، والقوافى والمقاطع، واللغة والغريب، والمعانى ومقصودها، وتمييز الجيد من الرديء. ولاحظ قدامة أن السابقين عليه استقصوا القول فى الأقسام الأربعة الأولى، ولكنهم لم يضعوا كتابا مقنعا فى نقد الشعر وتخليص جيده من رديئه، مع أن هذا القسم أهم من باقى الأقسام وأقربها إلى جوهر العلم بالشعر، ذلك لأن دراسة الغريب والنحو وأغـراض المعانى هى أصل من أصول الكلام العام - أو ما يسميه "الفارابى" علم اللسان - وهو أصل ينطبق على الشعر كما ينطبق على النثر، ومن ثمّ لا يميّز الخصائص الذاتية للشعر. أما دراسة الوزن والقافية فهى - وإن خصّت الشعر وحده - ليست دراسة ملحّة لسهولة وجودها فى طباع أكثر الناس من غير تعلم(81).
لقد كان عدم وجود (نقد الشعر) هو السبب الأساسى فى وضعً قدامة "بن جعفر" لكتابه، وذلك اعتمادًا على أن هذا المجال (النقد) هو الأقرب إلى جوهر العلم بالشعر.
ويلاحظ أن قدامة قد أدرج القوافى - على غير ما فعل "ابن طبا طبا" - ضمن ما يشكل الأقسام الخمسة التى يجب دراستها فى الشعر، وبالتالى جعلها من قوام الشعر.
يقول قدامة عن الشعر أنه :
"قول موزون مقفى يدل على معنى"(82).
وهكذا نجد أن الفارق بين الشعر والنثر قد انحصر فى الجانب الموسيقـى المتحقق فى الوزن والقافية، دون النظر الى البنية اللغوية وخصوصيتها(83).
ويرى "قدامة بن جعفر" "أن الشاعر يحاول الوصول إلى الطرف الأجود من الشعر ولا يعجز عن ذلك إلا إذا ضعفت صناعته، أو انعدمت، فينتهى إلى غاية الرداءة أو يقع بين الغايتين أو النقيضين. وفى كل حال من الأحوال يظلّ يقول كلاما موزونا مقفى يدل على معنى، لكن قيمة القول تتحدد فى النهاية بمدى القرب أو البعد من الغاية المثالية، وهى الشعر الحق، الذى يهدف إلى الوصول إلى صناعة الشعر. ومصطلح العلم بمعناه القديم. فالصناعة هى العلم المتعلق بكيفية العمل(84).
و "قدامة" هنا يؤكد على أن الشعر صناعة، وبذلك يكون ضـروريا أن يحدّد الصفات التى تؤكد على جودته، وتلك التى ينطوى عليها ردئ الشعر. وقد رأى قدامه أن اللفظ، والوزن، والقافية، والمعنى هى ما يتقوم به الشعر، ويمكن الحكم عليه بالجودة أو عدمها بالرجوع إليها.
أما "حازم القرطاجى" فيقول فى تعريفه للشعر
"الشعر كلام موزون مقفى من شأنه أن يحبب إلى النفس ما قصد تحبيبه إليها. ويكره إليها ما قصد تكريهه لتحمل بذلك على طلبـه أو الهرب منه بما يتضمن من حسّ تخييل له، ومحاكاة مستقلة بنفسها أو متصورة بحسن هيأة تأليف الكلام، أو قوة صدقه أو قوة شهرته، أو بمجموع ذلك، وكل ذلك يتأكد بما يقترن به من إغراب. فإن الاستغراب والتعجب حركة للنفس إذا اقترنت بحركتها من الخيالية قوى انفعالها وتأثيرها"(85).
وإذا كان "حازم" قد اتفق مع "ابن طبا طبا" فى أن الشعر كلام موزون مقفى، إلا أنه أضاف إلى هذا العنصر الشكلى عنصر التمثيل والمحاكاة، وهذا يعنى تأثّره بما جاء فى (فن الشعر) لأرسطو، والشروح والملخصات التى أجراها عليه الفلاسفة العرب فى هذا الشأن. كما أنه كشف عن نظرة ثاقبة حين أضاف العنصر الإبداعى - الاستغراب والتعجب - للشعر، وباعد بينه وبين التأثير الساذج.
و"حـازم القرطاجنى" عندما يتكلم عن "علاقة الشاعر بعالمه فإننا نجده أميل إلى استخدام مصطلح المحاكاة وحده. وإذا تحدث عن طاقات الشاعر الإبداعية، وقواه الابتكارية فإنه يستخدم فى هذه الحالة مصطلح التخيل، والمتخيلة أو المخيلة على أساس أن العمل الفنى ينتج عن القوة الإبداعية"(86).
وهكذا نجد أن "حازم القرطاجنى" قد اكتملت على يديه النظرية النقدية، والرؤية الشعرية.
والشاعر الحق عند "حازم" هو الذى خبر الحياة خبرة عميقة وأدرك مجارى أمورها إدراكا واعيا وهو الذى له من قوة التمييز والملاحظة ما يمكنه من الوعى بحقائق الأشياء والأحوال والأزمنة والقضايا(87).
على أن العلاقة بين الشعر والواقع، وعلاقة الشعر بالأخلاق قد اتخذت منحى آخر عند هؤلاء النقاد. فنجد "قدامة بن جعفر" يستعير من (أفلاطون) فضائله الأربع الكبرى : العقل والشجاعة والعدل والعفة ويجعلها أساساً لمعانى الشعر. فى المدح يتم اثباتها وفى الهجـاء يتم سلبها، وفى الرثاء ترد بصيغة الماضى .. الخ ومع ذلك فإن (قدامة) يجيز الفُحش والرفْث فى الشعر لأن الهجاء فن من فنون الشعر يتناول تصوير الجوانب السالبة، ولا يتوجب على الشاعر إذا شرع فى غرض من أغراض الشعر إلا أن يتوخى البلوغ إلى النهاية المطلوبة فى التجويد(88).
والشعـر عند العرب كان يدور حول المديح والهجاء، وان ما يهدف إليه الشاعر سواء فى المديح أو الهجاء، إنما هو الخيـر، وما يخرج على هذا لا يعدّ من الشعر الجيد. ولذلك فإننا نجد أن "ابن طباطبا" يقول عن المثل الأخلاقية عند العرب وبناء المدح والهجاء عليها :
"وأما ماوجدته فى أخلاقها، ومدحت به سواها، وذمّت من كان ضد حاله فيه فخلال مشهورة كثيرة منها فى الخَلقْ الجمال والبسطة، ومنها فى الخلقُ السخاء والشجاعة، والحلم والحزم والعزم، والوفاء، والعفاف، والبر، والعقل، والأمانة والقناعة، والغيرة، والصدق والصبر، والورع، والشّكر، والمداراة، والعفو، والعدل والإحسان، وصلة الرحم، وكتم السر ….."(89).
ولقـد رد "ابن طبا طبا"، عيار الشعر إلى موافقته للحال التى تنظم من أجلها، وفهم "ابن طبا طبا" هذه الحال فهما أخلاقياً مباشراً. وبذلك عارض التصور الذى رأى فى الشعر بعض الشر بتأكيده الغاية الأخلاقية للشعر، وذلك عن طريق ربط الجيد من الشعر بتصوير المثل الأخلاقية التى امتدحها العرب والتى بثها الإسلام. وأهم قيمة أخلاقية يمكن التأكيد عليها - فى ضوء هذا التكييف - هى قيمة الصدق"(90).
"فابن طبا طبا" يؤسس الشعر على الصدق، ويرى أن "الفهم يأنس من الكلام بالعدل الصواب الحق .. ويستوحش من الكلام الجـائر الخطأ الباطل والمحال، والمجهول، المنكر، وينفر منه ويصدأ له"(91). ويرى أن شعراء الجاهلية والإسلام قد أقاموا أشعارهم على هذا الأساس.
أما "ابن جعفر" فقد كان مع القول السائد (أحسن الشعر أكذبه) ويترخص فى كل أنواع المبالغات من غلو وإفراط حتى إذا وصل الشاعر إلى الحد الممتنع طالب الشاعر بالتوقف. وكان تحديد الممتنع عنده بأنه (لا يكون، ويجوز أن يتصور فى الوهْم) (92).
أما بالنسبة (لحازم القرطاجنى) فإنه إذْ يرى أن الأقاويل الشعرية "القصد بها استجلاب المنافع واستدفاع المضار، ببسطها النفوس إلى ما يراد من ذلك وقبضها عما يراد، بما يخيل لها فيه من خير أو شر"(93).
وبذلك تكون للشعر مهمة أخلاقية مؤثرة فى حياة الانسان، وليس مجرد متعة أو تسلية فارغة.
"إن نجاح الشعر مرتبط بمدى العون الذى يقدمه للإنسان بكل ما ينبغى أن يكون عليه"(94).
وإن فاعلية التحسين والتقبيح فى الشعر - لدى "حازم" - تؤتى ثمرتها من خلال مخطط أخلاقي، "يربط اكتمال الشعر بكمال الإنسان نفسه، أو بعبارة أخرى بمساعدة الانسان على الوصول إلى الكمال. ولذلك تبدو عملية التحسين والتقبيح غير مفارقة للدين والعقل والمروءة"(95).
وهكذا نجد أن النقاد قد رأوا أن الشعر هو الكلام الموزون المقفى، وأضاف بعضهم التخييل والمحاكاة - كما ذكرنا - وأن للشعر مهمة أخلاقية وان كانت الآراء قد تفاوتت حول هذا الدور بين "قدامة" و"حازم". وقد كان تأثير "أفلاطون" كبيرا على "قدامة بن جعفـر" أما "حازم" فقد كان ينهل من فن الشعر "لأرسطو" والشروح التى قـدمها الفلاسفة العرب كما اهتم "ابن طباطبا"، "وقدامه" بصنـاعة اشعر، وكان الدور الأخلاقى للشعر عند "حازم القرطاجنى" واضحا.
الشعر والشاعر عند المحدثين والمعاصرين
ما الشعر؟
سؤال طرحه الشاعر "صلاح عبد الصبور" ثم أردف قائلا : "سؤال لو عرف إجابته أحدنا لقطع الطريق على القبيلة كلها"(96).
ولذا فانه لن يتصدى للإجابة الجامعة المانعة، بل إنه سوف يحكى عن الجانب الذى أدركه هو، فيرى أنّ الشعر هو الصوت المنفعل، والشاعر إنسان يتميز عن الآخرين بقدر ما يتشابه معهم. والانفعال المدرب هو عدة الشاعر. وعلة الموسيقى فى الشعر أن الانفعال عندما يصل إلى مداه لا بد له من التنغيم .. وليس الفرق بين الشعر والنثر إلا فرقاً فى نوعية الموسيقى. فموسيقى الشعر تتركز وتتواتر حتى تصبح لونا من (المصطلح) أما موسيقى النثر فهى مطلقة كإطلاقه(97).
فالشعـر - فى رأى "عبد الصبور" - من الصعب تعريفه تعريفا مانعا جامعا، وكل تعريف إنما هو محاولة من الشاعر أن يعبـر عما أدركه فى الشعر. والشعر صوت منفعل لأن الانفعال هو أداة الشاعـر، وعلة الموسيقى فى الشعر التى تميزت وأصبح هو الفارق الجوهرى بين الشعر والنثر.
والفرق بين الشعر والنثر ليس فى أن الشعر يرتكز على الموسيقـى أما النثر فبلا موسيقى. بل هو فرق فى نوعية الموسيقى. فالنثر الفنى مفعم بالموسيقى، ولكنها غير موسيقى الشعر.
و "الشعر أيضا فن نوعى، بمعنى أن للشاعر وسيلة خاصة فى التعبير، وتصور أن الشعر خاضع لما تخضع له الإبداعات الإنسانية الأخرى، والتشريعية مثلا أو الابتكار الهندسى أو العلمى يعدّ محض خلْط فى مناهج رؤية الأشياء"(98).
إن هذا التميّز للشعر، والناتج عن تميّز وسيلته الخاصة فى التعبيـر، هو الذى يفضله عن كل طرائق الابتكار والإبداع الأخرى. فالشعر فن له خصوصيته فى تعبيره، وفى أدواته.
ويدخل "صلاح عبد الصبور" فى تفاصيل عملية صياغة القصيدة فيرى أن "القصيدة هى نوع من الحوار الثلاثى، فهى تبدأ خاطرة يظنّ من لا يعرفها أنها هابطة من منبع متعال عن البشر"(99). ويشير إلى آراء اليونانيين، ومقولة العرب التى ترى أن الجنّ هو الذى يوحى إلى الشعراء بشعرهم، التى يخلص إلى أن. "هذه الخاطرة الغامضة تأتى ملحة مدوّمة، منتزعة من أى سياق، بحيث أنها لو أخضعت لعالم الفكر الدقيق بدرت قاحلة لا تبشر بتفتح عن زهر وثمر"(100).
ثم يرى أن القصيدة تمر بمراحل ثلاث: هى القصيدة كوارد، ثم القصيدة كفعل، أما المرحلة الثالثة فهى مرحلة العودة - أى حالته العـادية قبل ورود الوارد إليه، وقبل خوضه رحلة التلوين والتمكين، إذ أن الشاعر عندئذ يقطع الحوار ليبدأ المحاكمة، فتتجلّى عندئذ حاسته النقدية حين يعيد قراءة قصيدته ليلتمس ما أخطأ من نفسه وما أصاب"(101).
وتتجلى هنا ثقافة "صلاح عبد الصبور" الصوفية والتى يحيل إليها فى شرح خلق القصيدة، كما أنه هنا يحاول أن يشرح - كما يرى هو نفسه - مراحل الإبداع الشعرى.
والجدير بالذكر أن هذا الرأى، ليس رأيا عاما بالضرورة، بل هو محض رأى شخص، فقد اختلف الكثير من الشعراء فى رأيهم فى خلق القصيدة، وإن حديث الشاعر عن تجربته الشعرية كحديثه عن تجربته فى الحب، كل جميلة بمذاق، وكل قصيدة هى غرام جديد، - على حد تعبير "صلاح عبد الصبور"(102) نفسه.
وقد رأى - "صلاح عبد الصبور" أن علاقة الشاعر بالفكر لا تنبع من إدراكه لبعض القضايا الفكرية، بل من اتخاذه موقفا سلوكيا وحياتنا من هذه القضايا بحيث يتمثل هذا الموقف بشكل عفوى فيما يكتبه. فمما لاشك فيه أن الشاعر إنسان أولاً، وهو بهذه الصفة الأولى يعيش وينفعل ويفكر ويعمل، وتتكون له من خلال هذه المستويات المختلفة من الحياة بنية بشرية تختلف عن غيرها. وهو فى مرحلة الإبـداع الفنى ينظر فى ذاته ليرى من خلالها الكون والكائنات، فلابد عندئذ أن تتحول المؤثرات الفكرية المختلفة إلى دم يجرى فى أوعية نفسه، وهذه المؤثرات ساخنة باطنية كالدّم، لا يراها الإنسان إلا إذا سألت على الأوراق"(103).
فالشاعر لا يعبر بشكل مباشر عن الأفكار والقضايا، فتأتى أشبه بعمل مجرد جامد أو كأنها هيكل عظمى، بل إنه يتمثل الأفكار والقضايا، وتسرى فى أعماقه مسرى الدم، فتصبح جزءًا منه لا ينفصل عن كيانه، فيكون بوسعها إنْ تتسرب إلى شعره كأنها كامنة فيه دون أن تـوحى بأى نشاز أو تجريد، وتبدو جزءاً لا ينفصل عن الكلّ. فالشاعر لا يعبر عن الحياة، بل هو "يخلق حياة أخرى معادلة للحياة، وأكثر صدقاً منها وجمالاً، ولكنه لابد أن يخلق، إذْ أن وقوفه عند التعبير عنها هو قصور فى رؤيته كما أن وقوفه عند التعبير عن نفسه هو عاطفية مرضية"(104).
كما يفصل "صلاح عبد الصور" بين الصدق الفنى والصدق الواقعى إذْ يرى أن البحث عن السيرة الشخصية للشعراء فى شعرهم فحسب هو بمثابة تجنّ على الصدق الواقعى، لأنه إذْ يجعل الصدق الفـنى هو الأساس الوحيد، مع أن له منطقه الخاص، إنما يضرب فى المجهول. وذلك لأن للقصيدة وجوداً مستقلاً عن صاحبها، إنّ لها حياتها الخاصة، فإذا استنبت الشاعر لها رأساً، فلابد أن ينبت لها أذرعا وأقداما(105).
وإذا كان خلق القصيدة حالة خاصة، كما أن الشاعر عندما يبدع لا يعبر عن الحياة، بل يخلق حياة أخرى معادلة لتلك الحياة، ولكـن فى نفس الوقت يرى أن الشعر، ليس مقطوع الصلة بما عداه، بل إن الشعر "ينمو من داخل التراث الشعرى، والحوار الذى يدور فى نفس الشاعر هو حوار بين تراثه الشعرى وبين العالم، وإذا لم يرتبط الشاعر بتراثه الشعرى كما يرتبط بالعالم فلا مجال لعدّه شاعرًا"(106). وبذلك نجده يقف فى مواجهة القول بالقطيعة مع التراث. وقد تمثل التراث فى أشعاره وصاغ قصائده العديدة التى تحيل إلى نصوص أو مواقف تراثية.
وإذا كان "صلاح عبد الصبور" قد رأى أن تعريف الشعر من الصعوبة بمكان، ولا يمكن الوصول إلى تعريف مانع جامع له. فإن "كولن ولسن" يقول : "ليست هناك حاجة إلى أبحاث مطولة عن طبيعة الشعر، فمن حسن الحظ أنه يمكن تعريفه ببساطة معقولة"(107).
ولكن هل حقا يمكن تعريف الشعر ببساطة؟
قد يكون قول "كولن ولسن" هذا هو الذى جعله فعلا لا ينفذ إلى أعماق الشعر حتى حين قال : إن الشعر يمتلك "القدرة على النفاذ إلى تلك الطبقة الأعمق، قدرة إصدار الأمر بالاسترخاء وإلزام الطاعة بتنفيذه"(108). و أن "الشعر يجلب راحة عاطفية عن طريق التخيـل، وهو يعلم الانسان الثناء، لا عن طريق الإشارة إلى عجائب الكون، كما يفعل العلم، بل بفضل خلق خيالات تحقق رغباته"(109) أو "هو ضرب من المْرهم الذى يهدىء الجراح التى تنكّبنابها الحياة، وإن كان يظل عاجزاً عن شفائها"(110).
أى أن الشعر ينفذ إلى أعماق الإنسان، ويجلب للإنسان راحة عاطفية عن طريق الأخذ به إلى عالم الخيال. إنه يهدئ من جراح الإنسان وآلامه، وإن كان لا يجهز على هذه الآلام، أو يشْفى تلك الجراح.
وإذا كـان "كولن ولسن" لم يتطّرق هنا - من الجانب الفنى - إلى الإيقـاع أو الموسيقى، إلا أنه جعل الخيال - وإن كان قد ذكر ذلك عرضاً - من أهم ما يتقوم به الشعر.
يقول ر . م . البيريس:
"حتى عام 1880، كان النثر والشعر خاضعين كلاهما لمنطق النحو، وكان الشعر يفترق عن النحو بضوابط الوزن والإيقاع والقافية. كان التمييز إذن شكلياً…."(111).
ثم يضيف بعد ذلك بأن التمايز الشكلى بات "غير وارد عمليا اليوم. فقد فَقَد الشعر فى العديد من الحالات الإيقاع والوزن والقافية، بل فقد أحيانا الحرارة، كما تحرر بوجه خاص من المنطق الخطابى"(112).
لقد كان التمييز يقوم بين الشعر والنثر فى الماضى على أساس أن الشعر يقوم على الوزن والإيقاع والقافية، غير أن هذا التمييز الشكلى لم يعد ممكنا اليوم، فقد صار الشعر بلا هذه الضوابط، ولكنه مع ذلك مازال هناك نوعان أدبيان، "النوع الذى يحافظ على حب المنطق فى سرد الأفكار وعرضها، والنوع الذى يرفض: بإختصـار النثر والشعر"(113). أى أن منطق النحو هو الذى يميز اليوم - من حيث المظهر الشكلى على الأقل - النثر عن الشعر. "إن الشعر هو اللغة التى تضحى إن كثيراً أو قليلا بالنحو لحساب قيمة الكلمات الذاتية والتقاءاتها، والنثر هو اللغة التى لا يفقد فيها النحو حقوقه"(114).
أن الشعر هو الكلام الذى لا يمكن أن يحدّه منطق، ولا يخضع لقوانيين العقل الصارمة، إنه التعبير "بواسطة اللغة البشرية عن انفعال أو حقيقة لم تخلق اللغة البشرية للتعبير عنه، وبذلك يصبح الشعر مخاتلة، تمردًا، نضالاً ضد اللغة"(115).
ويؤكد "البيريس" بأن الشاعر الحديث لا يجد فائدة فى التعبير شعرا عما يمكن قوله نثراً، فالشعر تعبير على ما يستعصى التعبير عنه. إنه يرفض السرد الدقيق والطريف، والعواطف العامة، والأوصاف الصحيحة. فالشعر يطمح إلى مالا يمكن تحديده. ويشيـر إلى ما يسمى بعبث الفيزياء الحديثة الظاهرى وعبث الشعر. فيرى أن معادلات الفيزياء الحديثة تملك منطقاً باطناً ورياضيات، وهى قابلة علاوة عن الحسّ السليم فهى قد توحى بهذا المنطق الباطنى، كمـا قد تبدو مجانية. أما الشعر فهو التعبير باللغة البشرية وقد أرجعت إلى إيقاعها الأساسى. إيقاع المعنى الغامض لمظاهر الوجود - على حد تعبير "مالارمية" - . إن البحث عن تعريف لشعر خاص بعصرنا يمكن العثور عليه فى وظيفة الممارسة الشعرية. إن هذه الممارسة ترفض السرد، أو الوصف، أو حتى استفزاز العواطف والتـأمل، لتجعل من نفسها بحثاً عن حقيقة خفية يجهلها الحسّ السليم كما تجهلها الملاحظة والمنطق والعلوم وحتى الفلسفة"(116).
لم يعد الشعر هو الكلام الموزون المقفى والمعتمد على الإيقاع، بل هو الكلام الذى يقوم خارج المنطق، والوصف والسرد. إنه التعبير عن عالم خفى بلغة سرّية. إنه البحث عن حقيقة خفية لا تصل إليها العلوم أو المنطق.
"إن الممارسة الشعرية تقوم على رؤية متمايزة كل التمايز عن سائر الرؤى الأخرى، يفلت الشعر بفضلها من الابتذال والتكرار، والحياة الميّتة، حياة مجموع البشرية"(117).
إن الشعر هنا يتم تعريفه بلغة سرية، ويحيل "البيريس" إلى الصوفية، وقد تعلق الهاريون من المعتقدات الدينية بأذيال الشعر وصبّوا فيه مشاغلهم وهمومهم.. فعندما لا يكون هناك من وجود لدين مشترك شبه رسمى له حتماً هراطقته وعلماؤه اللاهوتين، فلابد أن يحلّ الشعر محل هذا الدين: فالشعر يقدّم ممارسات روحية، كنائس وقديسين، ابتهالات وصيغاً، تدفق للقلب وحرارة للفكر.. إنه يقدم ذلك لمـن يشعر بالحاجة إلى التجاوز، ولا يستطيع، لسيب أو آخر، بعامل الجهل أو الرفض، أن يلبّى هذه الحاجة عن طريق مذهب دينى"(118).
إن آراء "البيربس" هذه سوف يتردد صداها بشكل واسع لدى "أدونيس" والـذى سوف يؤسس عليها - بالإضافة إلى آراء أخرى - العلاقة بين السوريالية والصوفية.
كما ينهل "أودنيس" من أفكار "مارتن هيدجر" وآرائه عن الشعر، متخذا فكرة أن الشعر تأسيس للوجود (الكينونة)، وهو بالضرورة تأسيس باللغة التى - هى أكثر المشاغل خطراً وبراءة - فى رأى "هيدجر" - أساساً لوجهة نظره.
يقول "أدونيس":
"أن يكتب الشاعر الجديد قصيدة، لا يعنى أنه يمارس نوعا من الكتابة، وإنما يعنى أنه يحيل العالم إلى شعر : يخلق له فيما يتمثّل صورته القديمة، صورة جديدة. فالقصيدة حدث أو مجيء. والشعر تأسيس، باللغة والرؤيا : تأسيس عالم واتجاه لا عهد لنا بهما، من قبل. لهذا كان الشعر تخطياً يدفع إلى التخطي. وهو، إذن، طاقة لا تغير الحياة وحسب، وانما تزيد إلى ذلك، فى نموها وغناها وفى دفعها إلى للأمام وإلى فوق"(119).
الشعر فعل إيجابي يغير الحياة، ويساعد على تطورها ونموها إنه خلق، وتأسيس باللغة والرؤيا، وتحويل العالم إلى شعر.
لقد أشار (هيلدرلن) فى رسالة إلى أمه كتبها فى يناير 1799 إلى الاشتغال بنظم الشعر، ووصفه بأنه (أكثر المشاغل براءة) وتساءل "مارتن هيدجر" إلى أى حدّ يكون الاشتغال بالشعر أكثر بـراءة؟ وأردف : إن قـرض الشعر يظهر فى الصورة المتواضعة، صورة (اللعب) : الشاعر إذا أطلق له العنان خلق عالمه الخـاص من الأخيلة والرسوم، وبقى مستغرقا فى نطاق ما قد تخيله. وعلى هذا النحو يتجنب اللعب مْسلك الجدّ الذى يقتضيه اتخاذ قرارات يلتزم بها الانسان دائما على نحو أو آخر. ومن ثم كان نظم الشعر مأمون العواقب لا خطر منه، ولا أثر له فى الوقت نفسه، لأنه يظل مجرد كلام لا نصيب له من الفعل الذى يلتحم بالواقع التحاماً مبـاشراً ويغيره تغييراً. الشعر كالحلْم، وليس حقيقة واقعة، إنه لعب ألفاظ، وليس جّد أفعال، والشعر عديم الضرر، عديم الأثر(120).
الشعر أكثر المشاغل براءة، ولا ضرر منه ولا أثر له، إنه كالحلم، وهو فى الصورة المتواضعة يتخذ صورة (اللعب)، إنه لغة خالصة - فاللغة أيضا - فى رأى (هلدرلن) أكثر المشاغل براءة.
فى الشعر يكون الانسان بعيدا عن الجّد، ففى اللعب يكون الإنسان على سجيته بعيدا عن التكلّف، وبعيدا عن إعمال العقل. والشعر هنا مجرد كلام لا نصيب له فى تغيير العالم أو الالتحام بالواقع.
إنها نظرة أخرى تلك التى يقدمها "هيدجر" متّكئاً على نص من رسالة لهلدرين.
الشعر تأسيس للكينونة. فليس الشعر زينة تصحب الوجود الإنساني، ولا حماسة عارضة، ولا فورة طارئة، ولا تسلية مؤقتة. الشعر هو الأساس الذى يسند التاريخ، ولذلك فهو ليس مظهراً من مظاهر الثقافة، وليس من باب أولى (تعبيراً) عن روح ثقافة ما. وكون وجودنا شعريا فى صميمه لا يمكن أخيرا أن يعنى أنه ليس إلا لعبة لا خطر منها … ودعامة الوجود الإنساني هى الحوار، من حيث يعطى اللغة تحققها الصحيح. ولكن اللغة الأصلية هى الشعر من حيث هو إرساء للكينونة، بيد أن اللغة هى (أشد المقتنيات خطراً): وإذن فالشعر أشد الأعمال خطرا، وفى الوقت نفسه (أشد المشاغل براءة) (121).
الشعر تأسيس للوجود، وليس لاحقا للوجود، ولا مظهرا من مظاهره. إنه أكثر المشاغل براءة، وأكثرها خطراً أيضا. ولكن لكى يستمر هذا العمل ذو الخطر البالغ لابد أن يكون الشاعر ملقْى خارج المألوف من حياتنا اليومية.
" والشعر يتبدى للناس لعباً، ولكنه ليس كذلك. إنّ اللعب يقرب ما بين الناس، ولكن على نحو يجعل كل واحد منهم ينسى نفسـه فيه. أما فى الشعر فالإنسان يركز ذاته على وجوده الإنسـانى، ويصل هناك إلى الطمأنينة. لا إلى تلك الطمأنينة الوهمية المتولدة من البطالة ، وفراغ الفكر. بل إلى تلك الطمأنينة الضافية التى يصحبها نشاط فى جميع القوى والعلاقات"(122).
هذا هو الشعر إذن فى رأى - هيدجر(123) - إنه الموقظ للحلم فى مواجهة الواقع الصاخب الملموس الذى نعتقد أننا مطمئنون إليه. وما يفترضه موجودا هو الواقع.
"فماهية الشعر تبدو متأرجحة فى نفس ظهور جانبها الخارجى، ومع ذلك فهى ثابتة رابطة الجأش : فإذا كان الشعر فى ماهيته تأسيسا، فمعنى هذا إرساء أساس وطيدمتين(124).
وفى دراسته لشعر "جورج تراكل" يعمد "هيدجر" إلى القول بأن "الشاعر الكبير ليس كذلك إلا انطلاقا من إملائه لقول شعرى فريد. وتقاس عظمته بمقدار تفانيه فى إظهار هذه الفرادة بحيث يتوصل أن يضمنها قوله، كشاعر فى شكله الخالص"(125).
وهكـذا يتحدّد الشعر بأنه أكثر المشاغل خطراً، وبراءة، وأنـه تأسيس للوجود، وأن الشاعر العظيم هو الملقى خارج المألوف فى حياتنـا اليومية، وهو الذى يقدم قولا شعريا فريداً، وتقاس عظمته بتفانيه فى إظهار هذه الفرادة.
إن الشعر هو أعمق انهما كات الإنسان، وأكثرها أصالة، لأنه أكثرها براءة، وفطرية والتصاقا بدخائل النفس. وباللغة يظهر الإنسان ما هو، وبها يتأسس ويتحقق. إنها ممارسة كيانية للوجود أو هى شكل الوجود. والشاعر لا يكتب عن الشيء، و إنما يكتب الشيء. إن اللغة ليست للإنسان ليقول ما هو واقع فحسب، وإنما ليقـول الوجود - الكينونة. والشعر هو محاولة الشاعر أن يدرك ما يتعذر إدراكه(126).
ويرى "أدونيس " أن الشعر، "موسيقى : لا يقوم على فكرة محدودة واضحة، و إنما يقوم على عناصر تترابط إيقاعيا، فى ما يشبه الترابط الهندسي. والقصيدة هى إيقاع كلمات. والإيقاع الأصلـي : تكرار لعنصر أو أكثر فى مسافة زمنية أو مكانية وتنتظـم فى تدرج صاعد هابط. وهو إيقاع حرّ لا غاية له، أي ليـس له غرض نفعي معين. وهو يقوم على حركية الكلمات، كمثل الإيقاع الأرابيسكى الذى يقوم على حركية الخطوط. ونظام الإيقاع هنا انثناء وانكسار وتقاطع، حينا، وهو حينا آخر تناظر أو تبادل أو تماثل. هكذا يسجن العالم، مادة، ويتحرر طاقة ودلالة"(127).
وهنا يشار إلى الإيقاع على أنه عنصر جوهرى فى الشعر، وهو إيقاع حرّ يقوم على حركية الكلمات مثل الإيقاع الأرابيسكى فى الخطوط :
ولكن ما موقفه إذن من الوزن والقافية؟
يقول أدونيس : "الشعر كلام موزون مقفى - وهذا جواب/ تحديد لم تعد له، كما أرى، قيمة حاسمة فى الفرق النوعى بين الشعر والنثر. وقد تجاوزته المدرسة الشعرية الحديثة. غير أن هناك مفارقة يجب أن نشير إليها : فمع أننا تجاوزناه، بالممارسة، على صعيد الإبداع، يبدو أننا على صعيد البنى الثقافية ومؤسساتها، لم نتجاوزه إلا ظاهريا، وأن معظمنا لا يزال يفكر فى الشعر ويكتبه، ويتذوقه، ويقومه، ضمن المنظورات والمعايير التى ترتبط بهذا الجواب"(128) - أى بأن الشعر كلام موزون ومقفى.
إن الشكـل فى الشعر ليس "مجرد (وزن)، و إنما هو نوع من البناء. لهذا يبقى بناءً قابلا للتجدد والتغير. ولا تنبع الموسيقى فى الشعر الجديد من تناغم بين أجزاء خارجية وأقيسة شكلية، بل تنبع من تناغم داخلى حركى هو أكثر من أن يكون مجرد مقياس. وراء التناغم الشكلى الحسابى، تناغم حركى داخلى هو سر الموسيقى فى الشعر"(129).
إن تحديد الشعر بالوزن تحديد خارجى سطحى، قد يناقض الشعر، إنه تحديد للنظم لا للشعر. فليس كل كلام موزون شعرا بالضرورة، وليس كل نثر خاليا بالضرورة من الشعر(130).
ولكن ما هو الفرق بين النثر والشعر اذن؟
يقول أدونيس
"أول هذه الفروق هو إن النثر اطّراد وتتابع لأفكار ما، فى حين أن هذه الاطراد ليس ضروريا للشعر. وثانيها هو أن النثر يطمح إلى أن ينقل فكرة محددة، ولذلك يطمح أن يكون واضحاً، أما الشعر فيطمح إلى أن ينـقل شعورا أو تجربة أو رؤيا، ولذلك فإن أسلوبه غامض بطبيعته. ثالث الفروق هو أن النثر وصفى تقريري، ذو غاية خارجية معينة ومحدودة. بينما غاية الشعر هى فى نفسه فمعناه يتجدد دائما بتجدد قارئه.
لا يجوز إذن أن يكون التمييز بين الشعر والنثر خاضعا لمعيارية الوزن والقافية، فمثل هذا التمييز كمّي لا نوعى. كذلك ليس الفرق بين الشعر والنثر فرقا فى الدرجة، بل فرق فى الطبيعة"(131).
وهكذا يحسم الفرق بين الشعر والنثر بأنه ليس الوزن والقافية لدى "أدونيس".
إن الشعر كلام يختلف عن غيره بكونه لا ينزلق فوق الأشياء، بل يعيد تأسيسها ويكشف عن أشياء وعلاقات مجهولة . وهـو فى ذلك كله لا يتقبل اللغة كنظام معطى منجز سلفا بل إنه يعيد إليها مهمتها الأولى ويؤصلها من جديد فتستعيد حرارة فعلها وتلتقى من جديد بالسحر. قد يتبقى هنا شئ من اللغة الموروثة يحمل ترابطات فى ذهن الشاعر مستمدة من ثقافته، ولكن جملة اللغة الشعرية ستتغير، وستبدو اللغة مولوداً جديداً وهى تضم إيقاعاتها الخاصة وألوانها المتميزة وما إلى ذلك من جزئيات. إن تركيب الجملة هنا حر، كما أن الإيقاعات بدورها حرة(132).
ولقـد كانت التفرقة بين الشعر والنثر من الموضوعات ذات الأهمية، والتي شغلت كل من اشتغل بالنقد أو الشعر فى هذا المجال. وقد رأى "بول فاليرى" - فى معرض تفرقته بينهما - أن العلاقة بينهما (أى النثر والشعر) "تشبه صلة المشى بالرقص، فالمشى له غاية محددة تتحكم فى إيقاع الخطو وتنظم الخطو وتنظم شكل الخطو المتتابع الذى ينتهى بتمام الغاية منه، أما الرقص فعلى العكس من ذلك بالرغم من استخدامه نفس أجزاء الجسم وأعضائه التى تستخدم فى المشى، له نظام حركات هى غاية فى ذاتها"(133).
إن النثـر هو بمثابة استعمال للغة فى أشد حالاتها نقاءً، بينما هى فى الشعر تكون تعبيراً عن انفعال غير محدد. (134) كما أن الناثر يعرف متى تكون الكلمة صحيحة، ولكن الشاعر يعرف متى تعبر الكلمة عن الحقيقة. (135) والشعراء حين يعبرون عن تجاربهم فإنهم "يضفون العمق على قيم الوجود، فلا ينبئونا بالواقع الذى ينبئنابه الفلاسفة، ورجال العلم، والنقاد .. فالذى نجده دائما هو الحدس بالمستقبل، وما هو متضّمن ومتخيّر، وهم فى ذلك يختلفون فى قصدهم عن الفلاسفة فى تعاملهم مع اللغة"(136).
ويرى "سارتر"(137) أن الاختلاف بين الشعر والنثر ينهض علـى علاقة كل من الشاعر والناثر باللغة. فالشعراء يخدمون اللغة، بينما يستخدمها الناثرون.
وإذا كـان الشعر فى اختلافه عن النثر فى أنه لا ينزلق على الأشياء، أو هو تعبير عن انفعال، أو كما رأى "سارتر" أنه يخدم اللغة بينما يستهلكها أو يستخدمها النثر، فان (جون كوين) يرى - فى نقـده للنظريات التى تناولت موضوع العلاقة بين الشعر والنثر - أن "مجمل النظريات الشعرية المعروفة حتى الآن ترتكز على فرضيـة مشتركة : فهى تختلف منذ أقدم العصور تبعا لتركيزها علـى المحتوى أو الشكل، لكنها فى الحالتين تلتقى حول ملمح أساسى يتمثل فى مقابلة الشعر للاّشعر (النثر) وهو معيار كمى محض - فالشعر - فى رأيه ليس شيئا آخر غير النثر، إنه شئ (مضاف إلى) وقد أوضح (رولان بارت) هذا التصور الذى نقده خلال هذه المعادلة : الشعر = النثر + أ + ب + جـ".(138) والشعر ليس إلا بناءً إضافيا من نوع ما، وإنه تقنين سام للغة الجارية. وهى من بعض الزوايا شكل إضافي(139).
ويؤكد "كوين" على أنه يرفض الخطأ الذى وقعت فيه الدراسات السابقة للشعر والمتمثل فى تعريف الآداب انطلاقا من عتامة اللغة أو عدم شفافيتها. إن فى ذلك إنكارا لذاتية اللغة، إنها رمز، والرمز لا يكون رمزاً إلا إذا انفصل عن ذاته، إلا إذا تفّتت، وفصل لكى يعاد بناؤه كرمز له وجهان وأن يكون وجه الدال فيه يرسل إلى وجه المدلول، لكى يشكّلا فيما وراء الرمز وحدة تختلف عن الرمز ذاته(140).
والنص الشعرى نص يمكن إدراكه لكن لا يمكن التعبير عنه. وان النظرية المقترحة - إذن - تنتمى إلى التقاليد القديمة الإيمـائية : فالشعر كالعلم يصف الدنيا، انه أنثربولوجيا الدنيا، يصفها بلغته الخاصة. لقد قالها "مالا رميه" : "ان الأشياء موجودة ونحن لم نخلقها، إننا التقطنا فقط خيوط العلاقات بينها، وهذه الخيوط هى التى تنسج الشعر وتشكل جوقته الموسيقية(141).
لقد اتسع مجال الشعر الحديث وتنوعت أساليبه وموضوعاته. إننا لا نستطيع أن نضع أيدينا على وصف شامل لما وصل إليه هذا الشعر. وإن الذى يبدو ماثلا أمام أعيننا أن انفجاراً قد حدث على مستوى الشكل، كما اتسعت مجالات مضامينه.
لقد أدى هذا إلى التساؤل حول طبيعة الشعر الحر، خاصة فى عالمنا العربى بعد أن انفجر الشكل القديم.
تقول "نازك الملائكة" - وهى التى تتحدث هنا كرائدة من رواد مدرسة الشعر الحر - "وأكاد اعتقد أن أغلب القراء - وبينهم أدباء - وحتى شعراء أحيانا - ما زالوا لا يملكون فكرة واضحة عن معنى الشعر الحر، فهل هو شعر بلا وزن؟ أم أنه وزن ما يخالف أوزان الشعر العربى؟ و إنما يحسّ بهذه الحيرة ، على الخصوص أولئك الذين لا يملكون أسماعا مرهفة تميّز وزن الشعر تمييزا دقيقا، وهؤلاء قد ألفوا، من قبل، أن يروا الأوزان مرصوصة، على شطـرين متساويين، بحيث يكون تبين موسيقاها أسهل. ولذلك تاهوا وتعبوا حين أصبحت الأشطر غير متساوية فى أطوالها، وعاد الارتكاز إلي التفعيلة بحيث يحتاج الأمر إلى شاعر لكى يتبين الإيقاع والموسيقى"(142).
وتورد الشاعرة والناقدة "نازك الملائكة" قصيدة (إلى العام الجديـد) من ديوانها قرارة الموجة. وهى قصيدة مكتوبة على تفعيلة الكامل (متفاعلن) وتحاول أن تجعلها من قصائد ثلاث : الأولى من مجزوء الكامل، والثانية من مشطوره والثالثة من منهوكه. وتقول بأن هذه القصائد جميعا من البحر الكامل وتفعيلتها جميعا واحدة هى (متفاعلن) وهى إنما تجتمع فى الشعر الحر لأن ذلك لا يخرج على النغم الذى تقبله الأذن العربية. وكل ما هنالك أنه أسلوب يتيح للشاعر تعبيرية أعلى بمنحه الفرصة لإطالة العبارة وتقصيرها بحسب مقتضيات المعنى(143).
والجدير بالذكر هنا أن الشاعرة إنما تحاول أن تربط هذا الشكل بالشكل القديم حتى تدفع عنها شبهة التخلّى عن الوزن. إنها هنا تقف موقفاً وسطا بين الشكل القديم، والشكل الجديد الذى اتخذ مسارا أكثر جرأة، وكان ما يشبه الانفجار بالنسبة للشكل القديم. فهـى ترى أن الشعر الحرّ جاٍر على قواعد العروض العربى، ملتـزم كل الالتزام وكل ما فيه أنه يجمع الوافى بالمجزوء والمشطور والمنهوك جميعا.
فالشعر إذن لدى الشاعرة كلام موزون، وان اختلفت رؤيتها أو حادت قليلا عن آراء القدماء. بل إنها ترى أن الشعر الحرّ "ينبغى له ألا يطغى على شعرنا المعاصر كل الطغيان، لأن أوزانه لا تصلح كلها، بسبب القيود التى تفرضها عليه وحدة التفعيلة وانعدام الوقفات وقابلية التدفق الموسيقى"(144).
وهنا تجد "نازك الملائكة" أن الوزن هو الفيصل فى العلاقة بين الشعر والنثر.
وإذا كانت "نازك الملائكة" قد طرحت مفهوما تم تجاوزه على أيدى الكثير من الشعراء، والنقاد - كما أسلفنا - فإن (زكى نجيب محمود) - كناقد وفيلسوف - والذى ينتمى كناقد للشعر إلى الاتجاه الشكلى الجمالى، والذى يقترب من المدرسة النابعة من تعاليم "اليـوت"، و "رتشاردز" فى العشرينيات. (145) يقدم رأيا مختلفا فى القضية.
فى (مع الشعراء) يقارن "زكى نجيب محمود" بين "صلاح عبد الصبـور"، و"محمود عماد"، و"محمود حسن إسماعيل"، ليخلص بعد نقاشه ومقارنته إلى أن الذي "لا تخطئه العين هو الاختلاف فى الشكل، فى القالب، فى الإطار، فها هنا إذن يجب أن يكون النقاش، فالجديد يتميز بتخفّفـه من الالتزام الشكلى، فهو إن حافظ على شئ من الـوزن، فهو لا يريد أن يلتزم القافية. فمهما يقل الشعراء الجدد ومهما يقسموا بالله العظيـم (كما أقسم صلاح عبد الصبور فى إحدى مقالاته، بل أنه جعل هذا القسم عنوانا لمقاله) أنهم ينظمون شعرا (موزونا) فلا أظنهم ينكرون أن مدى التزامهم أقل من مدى التزام الشاعر الذى يحافظ على عمود الشعر الموروث"(146).
لقد كانت بدايات التجديد محفوفة بالحملات الشعواء ضد الشعـر الحر، مما دفع بعض الشعراء - "كنازك الملائكة"، و"صلاح عبد الصبور"، وغيرهم إلى الدفاع عن التجربة، وان كان هذا الدفاع الذى ارتكزوا فيه على صلة الشكل الجديد بالشكل الموروث بمثابة نقطة ضعف فى مواجهة الرؤى التقليدية.
وقد كان "زكى نجيب محمود" يضع الشكل - كمنتم إلى هذا التيـار الشكلى - فوق كل شئ، وإن كان رأيه يقف موقفا وسطا بين المجدّدين وبين التقليديين، وقد أوضح ذلك عندما كتب عن (العقاد كما عرفته) فقال : "كما خالفت العقاد فى المذهب الفلسفى، خالفته فى وقفته من الشعر الحديث ومن الفن الحديث معا، لأنه تطرف فى رفضهما على حين أنى لا أرفضهما على الإطلاق، ولا أقبلهما على الإطلاق، وكنت من القليلين الذين يحاجّونه، لأن "العقـاد" لم يكن يصبر على المحاجة، لكنى كنت أشعر أنه رحمه الله يطيل الصبر معى ليقينه فى صدق طويتى وسلامة مقصدي"(147).
وقد كان موقف "زكى نجيب محمود" هذا واضحا عندما رفض شعر "أحمد عبد المعطى حجازي"، من خلال نقده لقصيدة واحـدة منه، وكـذلك موقفه من ديوان الناس فى بلادى "لصلاح عبد الصبور" الذى كان مخالفا لموقفه من "أدونيس" فى أغاني مهيار الدمشقى.
وكان موقفه واضحا فى اهتمامه بالشكل، ونقده لهم لاذعا وساخرا لأنهم - فى رأيه - يحطمون الشكل.
يكتب زكى نجيب محمود فى مقاله (الجديد فى الشعر الجديد)
"لو كان الشكل قليل القيمة إلى كل هذا الحد لما خسر الشعر شيئا حين يترجم من لغة إلى لغة أخرى، أو حين تنثر قصيدة إلى نفس اللغة التى نظمت فيها، لأن ما يخسره الشعر بالترجمة أو بالنثر هو هذا وحده : هو الشكل. ولست أدرى ماذا يكون الشكل إن لم يكن ترتيب الكلمات على نسق معلوم بحيث يحقق نغماً، فإذا احتاج هذا النغم إلى رابطة تربطه فى أجزاء القصيدة لجأت إلى القافية، واخترت لهذه القافية نفسها ترتيبا يحقق لى ما أردته منها، وهو ربط الوحدة النغمية فى القصيدة"(148).
وهكذا يتضح أن الشكل لديه هو الوزن والقافية، وأن هذا هو ما يتقوّم به الشعر.
ويسخر من الشعراء الجدد بأن مايكتبونه لا ينتظم إلى قاعدة، وإذا قـيل له إن القاعدة هى جعل الوحدة الوزنية هى التفعيلة، يسخـر من إن يكون ذلك تجديدا قائلا : فهل نسمى الاكتفاء بجزء بما هو قائم فعلا تجديدا؟ ويرى أنه لو كان ذلك كذلك لكان الفقير الذى يكفيه جزء يسير من ثروة الغنى مجددا لأنه اكتفى بالبعض دون الكلّ.
وإذا كان الشعر هو الكلام الموزون المقفى، فإن ما قدمه هؤلاء الشعراء أو نقادهم الذين يسيرون فى ركبهم من محاولات للفصل بين النثر والشعر دون استخدام الوزن والقافية كفيصل، إنما لا يستقيم لديه فيقول : "يستحيل أن يكون ثمة فارق جوهرى بين لغتى النثر والشعر … فكلاهما أداة بعينها، وكلاهما يخاطب عضوا بعينه، ويمكن القول أن ما يكسو كليهما من الجسد قوامه مادة بعينها، ونزعاتهما متقاربتان، بل تكادان تكونان متطابقتين، وليس يلزم بالضرورة أن يختلفا حتى من حيث الدرجة.
إن الشعر لا يهمى من العبرات (ما يشبه عبرات الملائكة) ولكنه يسفح دمعا آدميا طبيعيا، انه لا يستطيع أن يفاخر النثر بأن دمـاءً مقدسة تجرى فى عروقه فميزت دماءه من دماء النثر، إذ يدب فى عروقهما على السواء دم بشرى واحد(149).
إن "زكى نجيب محمود" يذكرنا فى نثره هذا بأسلوب "أفلاطـون" فى محاوراته والتى تتسم بشاعرية عميقة وفى نفس الوقت كان "لأفلاطون" موقفه المضاد للشعراء. وإنه - "أى زكى نجيب محمود" - إذْ يؤكد باللغة المشحونة بالانفعال تارة، والمرتكزة على المنطق تارة أن الشعر والنثر من الناحية اللغوية لا يوجد ما يفرق بينهما، من حيث أنهما كلام منطوق وأنه يشير إلى أن الفارق الوحيد الذى يمكن استنتاجه هو الوزن والقافية(150).
وفى نظرة (محايدة إلى قضية الشعر الحديث) يسخر من القائلين بأن القصيدة القديمة قائمة على الوزن الخارجى بينما تقوم القصيدة الحديثة على الإيقاع الداخلى قائلا : "إن حياة الكائن الحى - كل كائن حى - قائمة على الإيقاع الداخلي، ولكن ذلك لم يمنع أن يصاغ الشكل الخارجى أيضا فى أحسن تقويم .. أهناك تعارض؟! فإما إيقاع داخلى أو وزن خارجى؟ أهو مستحيل عند العقل أن يجتمع الجانبان معا؟ كلا! ليس ذلك مستحيلا، بل إنه هو الذى حدث فى كل قصيدة من الشعر الجيد فى كل آداب العالم"(151).
انه بهذا التعميم يرى أنه دق المسمار الأخير فى نعش القصيدة الجديدة.
وهكذا نجد أن واحداً من أهم مفكرى عصرنا يقف هذا الموقف من قضية الإيقاع والوزن والقافية فى الشعر الحر.
ترى، هل هى مشكلة النسق الفلسفى، والتى وقع فيها العديد مـن المفكرين قديما وحديثا؟ والتى كان المفكر أو الفيلسوف يريد أن يجعل رؤيته الجمالية منسجمة مع نسقه حتى ولو خالف قوانين تطور الفن؟
أم أن الحركة كانت لا تزال غضّة العود، ولم تقدم للناقد الفيلسـوف المادة التى يستطيع باستقرائها أن يصل إلى نتيجة واقعية؟ خاصة إذا علمنا أن دور الناقد ودور المنظر الجمالى يأتى فى نهاية المطاف عندما تكون الظاهرة الفنية والأدبية قد قاربت على إفساح المجال لظاهرة جديدة.
أم أنه الموقف التقليدى الذى يقفه المفكرون والفلاسفة دائما فى مواجهة التجديد؟
أم أنه هذا وذاك أيضا.
إن "زكى نجيب محمود" الذى نما فى بطانة "العقاد"، فى وقت كان "العقاد" فيه قد تمّ تجاوز أفكاره وآرائه، وصار على رأس المحاربين للشعر الحر، وكـانت بطانته من الشعراء ممن حملوا لواء السلفية، بالإضافة إلى الضحالة والافتقار إلى حيوية الروح الشعرية وتدفقها. كما أن "زكى نجيب محمود" الذى انخرط فى ذلك الوقت فى مواقف متباينة، ومتعارضة على المستويين النظرى والعملى لم يكن بوسعه تجاوز الأطر التقليدية كثيراً فى رأيه فى الشعر، تلك الأطر التى جعلته يطرى شعراً جافا للعقاد، وفى نفس الوقت يقدّم (نقداً) لديوان "الناس فى بلادى" لصلاح عبد الصبور" وديوان "مدينة بلا قلب" "لأحمد عبد المعطى حجازى" معتمدا على قصيدة واحدة فى كل ديوان. ساخراً من انفلات الشاعرين من الموروث، والثورة على الشكل التقليدى. وتنصب دراسته فى الديوان الأول على المضمون فحسب محاولاً محاجة الشاعر بأن الناس فى بلادى ليسوا هكذا كما تصفهم فى القصيدة، وكأنه يطلب إلى الشاعر أن يقول ويصوّر ما يراه فى الواقع كما هو، وكما يراه الناقد فحسب. بل ونراه يتحسّر فى نقده للديوان الثانى - صارخاً "أما بعد فواحسرتاه! واخسارة هذه الطاقة الشعرية أن تنسكب هكذا كما ينكسب السائل علـى الأرض فينداح، وتسيل أطرافه هنا وهناك، دون أن يجد القالب الذى يضمه بجدرانه، فيصونه إلى الأجيال الآتية ليقول الناس عندئذ هناك كان شاعر شاب تكلم عن ذات نفسه فجاءت عباراته تعبيراً عن قومه وعن عصره"(152). فقد كانت سطوة "العقاد" قوّية، جعلت الناقد لا يرى - رغم كل شئ - الشعر كشعر.
أما محمد النويهى، فقد رأى أن الشكل القديم الذى يعتمد الوزن والقافية والعمود الشعرى كان يحجز الشعر العربى عن الاتصال بالأشعار الأخرى، سواء عن طريق الترجمة المباشرة أو عن طريق الاقتباس والتأثر المشروع الذى تغْنى به الآداب الإنسانية وتخصب عبقرياتها وتتصل وشائجها. فما دام الشكل بهذا البروز الإيقاعي والتكرار الرتيب، وبهذا الانضباط الصارم والجمود المتحجّر، وبهذه السيمترية البدائية الضيقة، لم يكن يتسع لحمل ما اكتسبه الشاعر من الأفكار والمشاعر والحساسيات الجديدة والقيم الفنية الجديدة من ثقافته الأجنبية … ولم يقتصر دور هذا الشكل على عزل الشعـر العربى عن الآداب الإنسانية الأخرى، بل عزل الشاعر العربى عن الاتصال بروح الأمة العربية نفسها .. فازداد الأسلوب الشعرى اصطناعاً وزيفاً، وظلّ يدور معظمه فى دوائر السلاطين والملوك ولا عجب أن يغلب عليه المديح المداهن القائم على الملق المخزى والاستجداء الدال على صغار النفوس(153).
لقد انتهى دور عمود الشعر، بل صار عائقا أمام تقديم فن الشعـر، وحاجزا أمام إخصابه بالثقافات الأجنبية، ومبعداً للشاعر عـن روح الأمة، ودافعا للتكلف والتزييف. أما الشكل الجديد، والذى يعتمد التفعيلة أساسا له، بعد تهشيم العمود الشعرى فانه "يحقق ارتباطاً عضوياً أكبر بالمضمون، مكّن الشعراء الجدد من أن يتجهوا إلى روح الشعب، وأن يلتقطوا أنغاما حديثة ويتجادلوا مع مزاجه ويهتزوا لنبضاته الدافقة. وبهذا وجدنا شعرهم، وان يكن لا يزال يستعمل اللغة الفصحى قد بدأ يعود إلى السر الخالد لحيوية كل شعر، وهو الاقتراب الوثيق من روح الشعب وعدم الانعزال عن تأثيرها فى أودية مصطنعة من الزيف والافتعال. وهل قرأت قصيدة واحدة على الشكل المنطلق تدور فى مدح أمير من الأمراء أو غنى من الأغنياء أو سيد من الأسياد؟" (154).
لقد كان تحول شكل الشعر أو تغيره وتطوره، تحولاً وتطويـرا وتغييراً لمهمة الشاعر الذى صار أقرب إلى روح الشعب، وبعيداً عن الزيف والافتعال لا يمدح ثريا ولا أميرا أو ملكا. فقد غير شكل الشعر من مهمة الشاعر، الذى صار منخرطا فى الوجود، وفاعلا ومؤثرا، يعيش عصره، يتأثر به ويؤثر فيه ويعى ذلك ويقصد إليه، لقد صار ملتزما.
لقد أثر الشكل الجديد فى الشاعر، حتى لو أنك قارنت بين شعر شاعر ما فى الشكل الجديد، وشعره - لو عاد إلى الشكل التقليدى - "وجدت نفس الشاعر الأصيل الصادق الشاعرية المجدد الجرىء التجديد فى الشكل المنطلق، وقد تبخرت أصالته وصدقه وجرأته التجديدية فى الشكل التقليدى، وانصاع فى مذلّة مرهقة إلى الضريبة التى يفرضها هذا الشكل من تكرار النغم المألوف ورصّ الأكليشيهات المحفوظة واصطناع المواقف وتزييف العواطف وتصيد الحكم وابتذال الأفكار"(155).
لقد كانت هيمنة الشكل - فى رأى "النويهى" - قوية ومؤثرة، وآسرة للشعراء تتغلغل فى روح الشاعر، وتفقده قدرته الابتكارية، وجرأته على التجديد، وتسلبه الروح الثورية.
إن "النويهى" بذلك ينسف العمود الشعرى، ويقطع الطريق على الذين يريدون العودة اليه، لما يمثله - من وجهة نظره - للشعراء من قيد، وعبودية وقد كان ربطه الوثيق بين الشعر الحر، وبين العصر الذى نشأ فيه من حيث الثورة على العبودية، ورفض التمسّح بأعتاب الملوك والأمراء ذا مغزى، فهو بذلك يضع سدّا أمام العودة إلى الشكل التقليدى، وإن كان ما قاله لا يخلو من تعسّف ومن مبالغة.
واذا كان "النويهى" قد جعل عجز الشكل القديم عن التعبير عما هو جديد عجزاً أصيلاً، سببا جوهريا فى ابتكار الشكل الجديد (الشعر المنطلق)، فان "عبد القادر القط" يردّ عليه قائلا بأن "الفن الجديد فى أى عصر من العصور لا ينبع من عجز أصيل فى الفن الذى سبقه، و إنما ينبع من مفهوم حضارى جديد للفن، ومن نظرة جديدة عند الفنان نحو الحياة والعلاقات الإنسانية التى تخالف نظرة الفن السابق المعاصر الذى كان يعبر عن روح حضارة مختلفة ثم فقد وظيفته بانتهاء هذه الحضارة"(156).
كما رأى أيضا أن "تخلص الجديد من سمات القديم صفة سلبية لا تكون من الأهداف الأساسية لحركة التجديد، و إنما تأتى عرضا نتيجة لما يحققه التجديد من مثل وقيم تفرضها طبيعة العصر، ولابد بطبيعة عصريتها أن تخالف القديم"(157).
وهكذا فإن الشكل الجديد قد وجد تبريره فى مقومات العصر التى تتـباين مع العصور السابقة، والتى أنتجت الشكل العمودى. وقد اقتـرح "محمد النويهى" تبنى نظام النبر فى الشعر، كما اقترح "عز الدين إسماعيل" إدخال نظام التوقيعية بوصفه ترجمة للمصطلح الانجليزى (Sone). ولكن الحركة الشعرية لم تأبه بهذين الاقتراحين - على حد تعبير البعض - لأنها كانت تعدّ نفسها لنقلة أكبر تتجاوز لعبة الرقص داخل القيود(158).
وقد رأى "عز الدين إسماعيل أنه قد ظهر فى الشعر الحديث محاولات شتى لتفتيت الصورة الموسيقية التقليدية للقصيدة. وقد انصبت معظم هذه المحاولات على الخروج من إطار وحدة البيت الموسيقية المتكررة فى القصيدة كلها. ومن القافية التى تلتزم فى الأبيـات كلها من حيث هى صوت مفروض على الأبيات فرضا دون أن يكون له مبرر كاف فى كل حالة"(159). ويضرب أمثلة بقصيدة "لإلياس فرحات" يقتطف منها بعض الأبيات :
يا عروس الروض يا ذات الجناح يا حمامة
سافرى مصحوبـة عند الصبـاح بالسلامة
واحْملـى شوق فـؤاد ذى جراح وهيامـه
ثم يضرب مثلا آخر بالعقاد، ونعمة الحاج، وحسن كامل الصيرفى .. (160)
فالشعر لديه لم يعد هو الكلام الموزون المقفى، بل إنه رأى أن "الوحدة الايقاعية فى الوزن العروضى هى التفعيلة الواحدة (فعـولن - مستفعلن - فاعلاتن - … الخ) فهذه التركيبة الصوتية هى التركيبة الأساسية التى تفرق بين الكلام المنثور والكلام المنظـوم، وهى بعد الصورة الزمنية التى تتفق وطبيعة اللغة العربية التى يعول فيها موسيقيا على حجم المقطع دون الاهتمام بنوع الضربة أو كميتها"(161). ولم يجد الشعراء مبررا للالتزام بعدد معين من التفعيلات فى البيت الشعرى، وذلك لأن موسيقى الشعر الجديد فيها مرونة، وهمس وهدوء وتنوع، وتنفذ إلى أعماقنا فتفاجئنا دائما، بما نعده كشفاً روحياً تطمئن له النفوس(162).
وإذن فقد حسمت المعركة لصالح التفعيلة ضد العمود الشعرى، وإن كانت المعركة التى تلت ذلك والتى مازالت دائرة، هى بين القصيدة الحرة، وقصيدة النثر.
"ان فكرة حصر الإيقاعات خاطئة من أساسها، وتنطلق من فهم فى غاية التحديد لطبيعة الإيقاع، فهو ليس سواكن ومتحركات معدودة يمكن حسابها فى معدلات ثابتة ذات طابع أبدى، لكنه كالحياة الواسعة بكل ما فيها من صخب وزخم وحركة وألوان وأصوات. لقد جرت محاولات لربط الإيقاع بحداء الإبل، ومحاولات لربطه بالرقـص والغناء، ومحاولات لاقامة علاقة بينه وبين حركات النفس، وكلها محاولات صحيحة من حيث التوجّه. لكن لم يقيض لها أن تعطى نتائجها، لأنها أهملت فى بحث المسألة فى المنظور الشامل. فلم تنظر للإيقاع بوصفه حركة حية متكاملة توحد الشكل والمضمون والمكان والزمان، فى أرقى صورة للتعبير عن الحياة الإنسانية باللغة والأنغام"(163).
لقد كانت التغييرات الاجتماعية والسياسية، وتعقد العصر، وتحول العالم إلى قرية، هى الأساس الذى انبثق منه التجديد فى الشعر، فقد وجدت مضامين جديدة، كما تغير جذريا دور الشاعر، ولذا كان ضروريا أن ينفجر الشكل القديم، ويأتى شكل جديد.
لقد اتسعت مجالات الشعر، وتنوعت موضوعاته، وتنوع فى لغته، التى تفترق عن لغة النثر فى أنها - أى لغة الشعر - ليست وسيلة للتخاطب، وليس فيها ما فى اللغة النثرية من تحديد صارم للموضـوع، وبتر لكل ما هو زائد وخارجى. "فاللغة الشعرية تصـدر عن المجتمع تماما كما تصدر اللغة النثرية، بل وغايتها تشبـه هذه، فى أنها تريد أن تصل إلى الجمهور، ولا يمكن أن تعيش بمعزل عن الفهم والإدراك والتطلع. فكما أن للنثر حدوداً فكرية تضع إطاراً للكلمات المستخدمة، نجد أن للشعر أيضا مثل هذا الإطار إلا أنه إطار مطّاط يتغلب فيه التطلع نحو عالم تغلب عليه الثقافة والتجرد"(164). بل إن المجتمع الذى لا يقبل من النثر أن يتجاوز حدود الصلات الاجتماعية يسمح للشعر أن يجتاز هذه الحدود، لأنها لحم الشعر وعصبه. واللغة الشعرية تستمد من هذا السماح قدراً كبيراً من خصائصها الرمزية والدلالية، وبدون هذا التجاوز لا يتسنى للشعر أن يحيا ويمارس قدراته(165).
وما هو دور الشاعر إذن ورسالته؟
إن الشعر ذو ملمح اجتماعي، وأن الشاعر يقوم بعملية إبلاغ للآخرين، ولكنه لا يستخدم اللغة الشائعة التى يستخدمها الناثر أو الخطيـب مثـلا، فالتأثير المنطقى والانفعالي أسلحة الناثر والخطيب تلك التى لا يعيرها الشاعر أهمية. وللشاعر رسالة أخرى غير رسالته الاجتماعية، هى رسالة المْنشد أو المغنّى، ورسالة الفنان الذى ينصت فى لغة الجمهور إلى أصوات وأجراس عميقة الصليل والرنين، لا تمسك بها غير أذن ماهرة ومدربة(166).
ماذا يحاول الشاعر المعاصر أن يفعل عندما يكتب قصيدة؟
انه يحـاول أن يستخلص معنى، معنى شعريا من تجربته. إن القصيـدة اكتشاف، والشاعر لا يكتب من أجل إفهام غيره، بل من أجل أن يفهم هو، أو يكتشف شيئا جديداً لم يكن يعرف أنه يبحث عنه. و "القصيدة الجيدة هى التى تعطينا إحساساً بأنها شئ كامل، شئ تام لا يمكن أن يضاف إليه شئ، ولا يمكن أن ينزع منه أى شئ دون النيل من قيمته أو حتى الذهاب بحياته"(167).
والشاعر الجديد ليس هو الشاعر الذى يقحم "أبراج المطارات، واستراحات الطرق، والقنبلة الذرية فى شعره، بل هو الذى يستجيب لمناخ عصره، والدنيا التى يعيش فيها "وقد لازم هذا التوسع فى مجالات الشعر انحسار سيطرة الشعر الغنائى"(168) وظهور نوع من الشعر تبرز فيه العناصر الدرامية و "السخرية". والتركيب والتعقيد فى شكل الشعر.
وإذا كان إنسان العصر قد تغير عن الإنسان التقليدى، فصار "الإنسان العربى الجديد هو الإنسان الذى يخرق العادة، يقتل الماضى التقليدى، ويعانق الحاضر فيما يقف على عتبة المستقبل. وخارق العادة ثائر بالطبيعة"(169).
إذا كان هذا هو التصوّر الجديد للإنسان العربى، فما هو الشاعر، وماذا يكون الشعر، وكيف يبدأ؟
"الشعر يتقدم الفعل. الشعر البرق وما يأتى بعده. لكنهما معا جناحـا هذا الطائر الذى نسميه العالم. والعالم لا يترنح اليوم ويرزح ويتهدم ويحترق إلا لأن الشعر محصور، محبوس، منبوذ.
ولأن الشعر بداية، يجب أن نبدأ أولا بقتل الشعر - النبى الدجال : الشعر الذى هو انعكاس لما يجرى، الشعر الذى يتسلى، الشعر الذى يمدح ويهجو ويلعب. شعر السرد والتعليم والأخلاق والثقافة والسياسة والتفسير والتحليل والمذهب - ذاكرين أنه لن يكون الشاعر شاعر النصف الثانى من القرن العشرين، ما لم يكن فى الوقت ذاته، على طريقته وبحسب استعداده متديناً، ملحدا، سياسيا عالما، وفيلسوفا قائدا، نبيا - ما لم يكن يكون كونيا.
نبـدأ بقتل هذا النبى الدجال، من أجل أن يقوم الشعر - البداية وشعر الحضور الخلاق المغّير، الشعر الذى يتقدم سير الإنسان - الشعر الذى يفجر الفعل - يكون فعلا"(170).
الشعر إذن حرية مطلقة، وابتكار. والشاعر إما أن يكون حراً، و إما لا يكون شاعرا. والشاعر ليس بوسعه إرضاء العالم. وإلا فكيف يرضى بدور المهرج الذى ينشد ويطرب؟ كيف يستطيع أن يسد أذنيه عن صرخات العذاب والجوع؟ أن يزين القصور وينسى الأنقاض والسجون؟
إن الخيانة الكبرى لا تتمثل فى دور الطاغية المستعمر، وأكثر مما تتمثل فى الفنان الذى يسكت على الطاغية المستعمر ويهادنـه، أو يعيش فى الريش والحرير حيث لا وجود لغير المعذبين، ولغير الدم والفقر والعبودية. مثل هذا العالم سجن، ومهمة الشاعر أو الفنان هى أن يقوض جدرانه(171).
إن الشاعر بتمسكه بحرّيته، يجب أن يقف فى مواجهة العبودية والإذلال، وألا يهادن طاغية، أو يرفل فى النعيم على حساب المعذبين. الشاعر الحقيقى إنسان ثائر. وان كان فعله يتقوم بالشعر.
والحدس الشعرى قرين للحدس الدينى - عند "أدونيس" - وقد ذكر "السياب" أن الشعر والدين (توأمان)، وكما تلاشت الحدود بين الغاية والوسيلة فى الدين، تلاشتا هذه الحدود فى الشعر أيضا. فالشعر يكتب بعيداً عن أى منفعة مادية، وإن كنا نعلم أن غايته - أى الشعر - نبيلة. والشعر العربى فى سبيل خلق عالم جديد يفتح نوافد بيته جميعا لكل الرياح -وقد رأى "أنطون سعادة" الذى يتبنى موقفه "أدونيس" أن الأدب لا يحدث بنفسه ومن تلقائه تجديداً، وإنما يمكن أن يحدث هذا التجديد إذا كان مرتبطاً بحركة تجديدية شاملة للمجتمع ذاته، بمستوياته كلها. كما أن البعد الفكرى بعد أساس فى العمل الأدبى، بل هو بُعد يدخل فى صميم تكونيه. فلا يجوز أن تكون القصيدة مجرد انفعال أو عاطفة، وإنّما يجب أن تكون موقفا فكريا - شعوريا فى أن(172).
إن هذا الرأى يعيدنا إلى آراء "البيريس" فى علاقة الشعر بالدين والصوفية، كما أن آراء "أنطون سعادة" تعيدنا إلى علاقة الفن (والشعر بصفة خاصة) بالمجتمع، وإن كان هذا لا يعنى أن الشعر يعكس الأحداث التى تعتمل فى العصر، وإنما الشاعر "(منارة) ينبعث من نتاجه نور يضئ بشكل جديد، ويدل على مكامن المال والقوة فيها"(173).
يقول "صلاح عبد الصبور" - فى إطار حديثه عن تجربته الشعرية - "ويبقى أن نطرح سؤالا هو : هل هناك شعر ضار؟
بمعنى قياس جودة الشعر أو عدم جودته بمقياس النفع والضرر بالإنسان.
وهل نستطيع أن نقول إن أشعار "أوفيد" أو أشعار "أبى نواس" التى يتحدث فيها عن شذوذه الجنسى، أو أشعار "بودلير" التى يرسم فيها صورة مسرفة فى قتامتها للجمال الأنثوي وللجمال الكونى بوجه عام؟
فهل أضّرت هذه الأشعار بالإنسانية؟
لا أظن أننا نجرؤ على القول أن هناك شعرا ضارا، ذلك لأن الشعر لا يقصد إلى المنطقة فى النفس التى تقصد إليها الفلسفة أو القوانين الخلقية أو غيرها"(174).
فليس بوسعنا محاكمة الشعر بالأخلاق، وليس لنا أن نضع المعايير الأخلاقية كمعايير لفصل الشعر جيده عن رديئه. للشعر معاييره، وله دوره، وهذا الدور لا يمكن تقويمه وفقا للأخلاق.
ويكتب "صلاح عبد الصبور"
"الشعر لا يروج لما اصطلح على تسميته بالفضائل، ولكن لما نستطيـع أن نسميه القيم. وهى كلمة أعلى من الفضائل قدرا وأوسع مدلولا، فالفضائل متغيرة وزمنية، أما القيم فثابتة، بمعنى أنها أكثر رسوخا فى النفس من الفضائل. وتظل الفضيلة معيارية خاضعة لزمنها وظروفها، فى حين تبتعد القيمة عن هذا المفهوم. فالحـق والخير والجمال قيم لا يمكن الاختلاف بشأنها تتمتع بقدر من الثبات ولا تتحكم فيها المعيارية أو النسبية"(175).
فالشعر - فى رأيه - لا يروج للفضائل، بمعنى أنه لايناط به دور أخلاقي، ودور إرشادي. هذا ما أراده، أما قوله بأن القيم ثابتة، وأن الشعر يروج لها، ولا يروج للفضائل، فهو وقوع فى المحظور. فالقيم هى القيم الجمالية والأخلاقية والدينية، وقيمة الحق والعدل، وغيرها من القيم التى اتّسع لها المجال فى العصر الحديث وتجـاوزت فيه "الحق والخير والجمال" كما كان التصور "الأفلاطونى" واليونانى القديم. ولذا فالفضيلة تندرج تحت القيمة الخلقيـة. وبالتالي إذا كان الشعر لا يروج للفضيلة، فهل يروج لقيمة أخرى؟ ربما يكون قاصدا القيمة الجمالية وخانه التعبير!
كذلك القول بثبات القيم وعدم معياريتها، إنما يشكل وجهة نظر واتجاها معينا، ولكن القيم، ما دامت متعلقة بالإنسان، فهى ليست مطلقة، أى أنها نسبية، ومعيارية، وغير ثابتة، بل متغيرة، من وجهة نظرنا.
وإذا كـان الشعر لا يروج للفضيلة - بغض النظر عما جاء عن القيم - فهل يعنى ذلك أن الشاعر لا دور له، أو أن دوره ينفصـل عن الأخلاق؟
بعبارة جازمة يؤكد (عبد الصبور) بأن للشاعر دورا أخلاقيا - على غير المتوقع منه - وكذلك فإن لكل الفنون غاية أخلاقية بالمعنى الأشمل للأخلاق - مستدركا بقوله - بأن الأخلاق لا تقاس هنا بمقياس الخطأ والصواب، بل بمقياس الجمال والقبح. بحيث يصبح الكذب قبيحاً، والصدق جميلا، ويصاحب رقىّ الحاسة الجمالية رقى مماثل فى الحاسة الأخلاقية. والحكم على أخلاقية قصيدة ما يكون بمقدار صدق الشاعر فيها مع نفسه، حتى لو لم نتفق معه فى موقفه الأخلاقي. إذ أن تعبير الشاعر عن عذاباته فى صدقه مع نفسه يرسخ فى أذهاننا فضيلة الصدق مع النفس، وليس رذيلة الفعل الّلا أخلاقى الذى يتحدث عنه(176).
أن الأخلاق تبحث فيما هو خير أو شر، صواب أو خطأ. والقول بالاستحسان أو الاستهجان (أى الجمال والقبح) ليس إلا مرادفاً للقول ماهو خير أو شر.. أو صواب أو خطأ. والقول بأن صدق الشاعر مع نفسه بشكل موقفاً أخلاقياً، هو ابعد ما يكون عن التحقق، ذلك أن معنى الصدق هلامى، وغير محدد، بالإضافة إلى أن القول بصدق الشاعر يصعب التحقق منه. إن ما يقال عن الصـدق الفنى، هو بمعنى أصح الإتساق مع ما يمكن أن نسميه منطق الفن لا الواقع والحكم على هذا حكم جمالى وليس حكما أخلاقيا. إن الخلط فى هذا الرأى الذى يقدمة "صلاح عبد الصبور" يعيدنا إلى العصور الأولى للفلسفة حين كان القول بفضائل جميلة، أو العودة إلى القول المرسل بأن هناك منازل طيبة، وسلوكا جميلا - أى الخلط بين ماهو أخلاقى، وما هو جمالى.
ولكن من أين لى أن أتيقن من صدق الشاعر؟
إن الموقف هنا يحاول أن يجعل الشاعر حرا، لكنه مشدود إلى التـراث وإلى محاكمة الشاعر وفقا للواقع. وربما كان هذا هو سبب الخلط فى التعبير عن خيرية (وليست أخلاقية) الشعر - بمعنى أدق، وبين جماليته، كما أن الآثار الأفلاطونية والسقراطية مازالت تفعل فعلها.
"فليتغن الشاعر لنفسه أو لغيره، فهو فى كلتا الحالتين ينشد للناس أناشيد الحقائق الخالدة"(177).
بهـذه العبارة يحاول (زكى نجيب محمود) الاجابة عن سؤال - مضمر - لمن يغنى الشاعر؟ ونحن بدورنا نريد أن نسأل - ما هو دور الشاعر؟ وما موقفه من الأخلاق؟
يجيب "زكى نجيب محمود"
"إن الشعر يظل شعراً، سواء رضيت عنه مبادئ الأخلاق أم لم ترْض، مادام حقق لنا ما تقتضيه طبيعة فنه. فلا فرق عند الفن أن يصـور الشاعر فضيلة، أو أن يصور رذيلة، طالما هو أجاد الفن فى كلتا الحالتين، ان دنيا الشعر ترحب "بأبى نواس" ترحيبها "بزهيـر". وإن "ملتون" فى فردوسه المفقود لشاعر فى الجانب الإلهي من قصيدته، كما هو شاعر فى جانب تصويره الشيطان"(178).
أى أن الوظيفة الأخلاقية للشعر ليست مما يتقوم به الشعر. فالشعر شئ والأخلاق شئ آخر. فإذا كانت مهمة "الأخلاق هى ان تقوم المعوج من سلوكنا، ومهمة الفنون - ومنها الشعر - هى أن تفسر سلوكنا لا أن تقومه"(179) فان هذا يوضح أن الشعر والأخلاق يسلكان دربين مختلفين. ولو "أراد فن الشعر أن يكون رسالة أخلاقية، ضاع منا الفن والأخلاق معا"(180).
فالشعر كاشف عما استتر من لواعج النفس وخلجاتها، لا يفرق فى ذلك بين خير وشر. "والشعر محايد يصور لك العبقرى، فهو كالشمس تشرق على جميع الكائنات بلا تمييز، وإنه لخطأ شائع بيننا أن ُيقال عن الشعر أنه تعبير عن نفس صاحبه، لكن هذا التعريف الضيق قد ينطبق على قلة قليلة من الشعر الغنائى، أما الشعر من الضروب الأخرى فلا شأن له بنفس صاحبه، لأن نفس الشـاعر من حيث هو فرد واحد، ليس لها كل هذه الخطورة فى حياة الناس، وأقرب إلى الصواب أن نقول أن الشاعر بعبقرية الفن فى فطرته يعطينا من نفسه الحالة الخاصة، فإذا هى تصوير للإنسان من حيث هو نوع بشرى متجانس الأفراد"(181). وهنا تنتفى فكرة صدق الشاعر أو كذبه.
وهكذا يؤكد - زكى نجيب محمود - على الابتعاد عن التقويم الأخلاقى للشعر، وتطبيق معايير الأخلاق عليه أو على الشاعر، فالشعر يظل شعراً رضيت عنه مبادئ الأخلاق أم أبت، والشاعر يظل شاعراً مادام حقق فى شعره ما تقضيه طبيعة الشعر.
***
لقد كانت التجربة الشعرية الجديدة بمثابة تعبير عن تغيرات جـذرية وعميقة فى المجتمعات، وفى إنسان العصر، أدت إلى الرفض لما تواضع عليه القدماء، فتهشم عمود الشعر، وتغيرت طبيعة الخطاب الشعرى، وسمحت - فوق ما سمحت - (بتعددية) فى الرؤيا، وتباين فى الامتثال سواء للجديد أو للقديم. فكانت هذه الآراء التى تتفق حينا، وتتعارض أحيانا.
"فالنقطة المركزية التى يمكن استنتاجها حين نقرأ الخيارات الشعريـة، هى أن الإطار قد انكسر داخل التجربة الشعرية الجديدة، وهذا الانكسار لا يمكن أن يفهم إلا إذا وضع داخل جدل التغيير فى بنية اجتماعية تفجرها الصراعات الطبقية والوطنية والاجتماعية المعقدة. فهّم التغيير فى بنية القصيدة هو أساساً همّ استكشاف لغة الجديد أى لغة الصراع"(182). فقد نشأت لغة جديدة، تجاوزت القواعد الجامدة والجاهزة، وصار على الشعر لكى يتجدد أن يستمر فى تجاوز الأطر السابقة، "فلغـة المصلحة وإيقاع الذاكرة لم تعد تستطيع الإجابة على مرحلة تبدو فيها الصراعات فى أعنف لحظاتها"(1183).
لقد تهدّمت الجدران الصمّاء، وانفتح عالم الشعر، وصار لغةً جديدة، لغة "لا تنشأ ضمن قوالب جاهزة أو ضمن فكر محافظ، فلقد استبيح كل شئ. جميع القيم المتوارثة والمستخدمة والجديدة جرت استباحتها إلى درجة التفتيت الاجتماعى الشامل. فلم يعد هناك أفق غير أرض الصراع نفسها، ولم تعد الّلغة الشعرية مجرد صدى، فهى كمؤشر لا تستطيع أن تتقولب فى قوالب جامدة تحافظ على ماض لم يحافظ عليه أحد. بل جرى تدميره"(184). وصار الشعر ثـورة وتمرداً وانقلابا.. لقد تغيّر كل شئ، وصار من الضرورى أن يكون الشعر شعراً حقيقيا.
لقد كانت انعكاسات العصر على التجربة الشعرية، وبالتالى على النقد واضحة، فى إطار من الحوار تارة، والصراع تارة أخرى، وقد واجهت التجربة الجديدة حملة شعواء، وضعت نصب عينيهـا قتلها فى مهدها، لكن التجربة استمرت رغم قسوة الاتهامات، وبشاعة الانتقادات اللآّ فنية واللآّ شعرية، وفى هذا الإطار تمت عملية فرز متأنٍ للغثّ من الثمين ليبقى الشعر الحقيقى.
ولقد كانت رؤى نقاد هذه المرحلة تؤكد على تباين موسيقى الشعر الحر مع الشعر العمودى، فلم تعد القافية، ولا الاعتماد على البحور الخليلية الكاملة قوامه، بل صارت التفعيلة هى الوحدة الأساسية مع تنوع فى نهايات الأبيات. كما خطت "موسيقى الشعر(185) خطوات واسعة تجاوزت مجرد الوحدة التفعيلية. كما تجاوز تعريف الشعر القول بأنه (كلام موزون ومقفى) كما تجاوز دور الشاعر الدور الأخلاقى، أو الدور المحدد الذى كان يرسمه له قدامى النقاد والساسة.
وبعــــد..
ترى بعد هذه الرحلة بين غابات النقد - وإن لم نلج منها إلا اليسير - هل يجدر بنا أن نرى أن مفهوم الشعر قد تطور، وأن دور الشاعر صار مباينا عما كان فى العصور السابقة؟
لقد انفلت الشعر من سجنه القديم، ولم يعد مجرد (وزن) أو قافيـة، بل صار حياة متجددة، مليئة بالصراع، والزخم، وصار حرية ..
وانفلت الشاعر من الأخلاق، ومن الأطر التقليدية التى حددت أغراضه من مدح أو هجاء، أو غزل .. فحسب. فقد صار فاعلا، ومؤثرا، ومخترعا ومبدعا، عندما يكتب قصيدة، فإنما هو يؤسس الوجود، وإذْ يبدع نصا، فانه يبدع العالم.
الهوامش
* منقول للفائدة عن:
عُشّاق المفكر والأديب الفنان أ.د/ رمضان الصبّاغ
تهدف هذه المجموعة إلى إلقاء الضوء على أحد أهم المفكرين المعاصرين في مصر والعالم العربي, إنه الأستاذ الدكتور/ رمضان الصباغ "أستاذ علم الجمال بآداب سوهاج مصر".