محمد محمد الخطابي - فرانز كافكا… الكاتب الذي ملأ الدنيَا وَحَيرَ الناس!

في الثالث من شهر يوليو/ تموز عام 1883 وُلد الكاتب التشيكي فرانز كافكا في برَاغ، على الرغم من الجو السوداوي الذي أحيط به، وبحياته، فإنه منذ بداية تعامله مع الكتابة ظهر ككاتب مُحيِر، وعلى الرغم من الدراسات النقدية والتحليلية المتعددة التي كُتبت عنه، فإنه ليس من السهولة بمكان التعرف على حقيقة حياته. يقول الكاتب الألماني غواشيم أونسيلد «رغم العزلة، والمرارة اللتين طبعتا حياة كافكا فإننا واجدون شيئاً مهماً آخر عنده، وهو جانب الحب، والقدرة على الاستحواذ على الناس، وتحقيق النجاح منذ ظهور كتابه الأول «تأملات» عام 1912.

رسائل براغ الحزينة

«رسائل براغ الحزينة»، كتبت من طرف الطبيب المجري روبير كلوبستوك، ومن طرف خليلة كافكا دورا ديامان داخل مصحة «كيرلينغ» في النمسا، حيث كان الكاتب يعالج فيها من داء السل الذي كان يعاني منه في آخر أيامه وهي رسائل موجهة لأسرته. يُعبرُ فيها عن شكوكه في الطب التقليدي، ويعرب عن ميله للطب الطبيعي، حيث لم يكن يؤمن بالأدوية التي كانت تُعطىَ له، وكان ضد استعمال الحقن، وكان مقابل ذلك يوثر تعاطي وسائل طبيعية التي لا نفع ولا ضرر فيها، هذه الرسائل نُشرت ضمن كتاب بعنوان: «حياة في ظل الموت» للباحث التشيكي جوزيف سيرماك، التي تقدم لنا معلومات مهمة عن كافكا الذي كان يؤمن بأن ما أفسدته الطبيعة يمكن أن تصلحه كذلك».

الحدود بين الفلسفة والدين

نتعرف في هذه المراسلات على المشاغل الفكرية والفلسفية التي كانت تجمع روبير كوبستوك بصديقه فرانز كافكا، وهي تحفل بالمناقشات الكلامية والفلسفية والدينية، التي كانت تدور بين الصديقين اللذين كانا يحاولان من جرائها العثورعلى الحدود الفاصلة بين الفلسفة والدين، حيث يؤكد جوزيف سيرماك على أن اليهودي روبير كوبستوك هجر الديانة اليهودية بعد موت كافكا واعتنق البروتستانتية. إذ بعد مرور أزيد من ثمانية عقود على رحيل كافكا كانت قد نُشرت في مدينة براغ منذ بضع سنوات أول سيرة ذاتية حول كافكا، الذي عني به وبأدبه وإبداعاته على الصعيد العالمي، أكثر مما عني به في بلده الأصلي، هذه السيرة الذاتية تحمل عنوان» الصراع من أجل الكتابة» بقلم بلديه جوزيف سيرماك، الذي حاول تسليط الأضواء على علاقات كافكا مع وسطه التشيكي والعالم. كما أنه يشير إلى أن كافكا كان محظوراً أيام تشيكوسلوفاكيا الإشتراكية لأنه كان في عُرفهم كاتباً رجعياً، وسيرماك نفسه كان مُضطراً لنشر أولى أعماله حول كافكا في ألمانيا باسم مُستعار، ولم يتمكن من ترجمة أعمال كافكا إلى اللغة التشيكية إلا عندما هبت نسائم الديمقراطية على هذا البلد، عندئذ نقل إلى هذه اللغة بعض أعمال كافكا مثل «المفقود»، و«المحاكمة»، و«يوميات».

مدينة برَاغ البُوهيمية

يذكرنا سيرماك: إن براغ كانت هي المدينة التي تلقى فيها كافكا تعليمه الأول، والتي جال وصال فيها إبان شبابه، وفي هذه المدينة ذاق مرارة العيش، وبؤس الحياة حتى أصبح الأمر لا يطاق بالنسبة له، كانت هذه المدينة، كذلك الوسط الذي أوحى له بأعماله الأدبية وإبداعاته، والمكان الذي تفتقت فيه عبقريته وعرف فيه الحب الأول، وهيامه المبكر ببعض فتيات هذه المدينة البوهيمية، وجميع علاقاته بحسناوات براغ في هذه الفترة، لم تنته بالزواج، ويشيرسيرماك إلى أن «كل ما وصلنا عن كافكا يعود الفضل فيه لصديقه الكاتب كذلك ماكس بروود، الذي عنى بتراثه عناية فائقة. منذ أن أنقذ بروود أعمال كافكا من النار، كتبت العديد من الدراسات والسير الذاتية عن كافكا، وتظل السيرة الذاتية الأخيرة لسيرماك هي أحدثها جميعاً.

الكاتب الجيد يظهر في الوقت المناسب

كان الكاتب بول فاليري يقول: «لكي يضمنَ الإنسانُ حياته ككاتب ينبغي أن يتوفر لديه أمران اثنان الأول أن يكتب، والثاني القدرة على تحقيق الانتشار الواسع لما يكتبه. ولا يمكن تحقيق المجد الأدبي إلا بتلاحم هذين العاملين، العامل الأول هو تحقيق الابداع ذاته، والثاني هو ضرورة إقناع الناس بفحوى وجدية هذا الإبداع بواسطة الكاتب نفسه، أو عن طريق هؤلاء الذين قرأوا أعماله، وأعْجِبوا بها، بذلك تتحقق الشهرة، ويتأكد النجاح والانتشار.
ويروي لنا الكاتب الألماني غواشيم أونسيلد قصة طريفة عن بداية حياة كافكا الابداعية، فيشير إلى أنه كان قد تقدم لنيل جائزة «فونتان» للقصة القصيرة عام 1915، واتفق الناشر مع حكام هذه المسابقة الأدبية، على أن يعلن بأن إسم الفائز هو كارل سترنهيم على أن يُسلم مبلغ الجائزة لفرانز كافكا اعترافاً بقيمته الأدبية، وكان القصد من هذه العملية هو كسب اسميْن بدل اسم واحد لصالح دار النشر، التي أشرفت على تنظيم هذه المسابقة.
وكان فرانز كافكا قد شارك في هذه المسابقة الأدبية بقصة قصيرة تحت عنوان: «وقاد الآلات البخارية» التي ستصبح في ما بعد الفصل الأول لروايته «أمريكا».

الاندحار العاطفي

اعترف كافكا لصديقه وولف أنه أسعد ما يكون عندما ينصرف للكتابة، بل إن نسبة إنتاجه الأدبي رهين بمدىَ قدرته على التأقلم مع المحيطين به. إن كافكا كان يعمل في بعض الأحيان لمدة خمسة أشهر متوالية، ثم يدخل بعد ذلك في مرحلة من الخمول الأدبي. واتضح أن غِنىَ، وثراء إنتاجه الأدبي وثيق الصلة بمدىَ اندحاره العاطفي أو تألقه، وأنه كلما خمدت عنده جذوة الطاقة الإبداعية، وخبا أوارُها فإن علاقاته الشخصية الخاصة مع فليس باور تزداد قوةً، ومتانةً، وصخباً، وعنفواناً. كان كافكا نباتياً، عكس عائلته التي اشتغلت طوال حياتها بالجزارة، وكان يحب السباحة والرياضة والتجول في الهواء الطلق. إن اتصالاته وانقطاعاته عن فليس باور التي تزوجها عام 1919 كان لها تأثير بليغ على حياته، وعلى الرغم من أنه كان يعرف أنه قد أصيب بداء ذات الرئة فإن مرض السل هذا لم يمنعه، ولم يثنه عن القيام ببعض المغامرات العاطفية الأخرى. كان كافكا خجولاً منعزلاً، إلا أنه لم يكن روحانياً محضاً، كان ساخطاً ناقماً، غير أنه كان يقاوم الاستسلام. كان واثقاً من نفسه، ومن كتاباته، إلا أنه مع ذلك، كان يشعر بنوعٍ من القلق، والارتياب من مدى قبولها، واستحسانها من طرف القراء. كان كافكا في صراعٍ دائمٍ مع نفسه ومجتمعه، ومعاناته الكتابية بشكل خاص. هل كان يكتب ليكون محبوباً؟ أم كان يكتب بهدف تحقيق الشهرة والمجد؟ أم كانت الكتابة عنده نوعاً من إثبات الذات؟ أم لكبح لوم عدم الكتابة؟ هذا النوع من التطلعات هي التي طبعت حياته.

أعمال في طياتها بذرة الموت

من أشهر أعمال كافكا قصة بعنوان Die Verwandlung أو «المسخ» التي تتناول قصة بائع يسافر ليجد نفسَه فجأةً قد تحول إلى كائن غير مرغوب فيه، وتحديداً على شكل حشرة قبيحة مُرعبة. أجمع نقاد الأدب على أن هذه القصة تُعتبر من أكثر الأعمال الخيالية إثارةً وتأثيراً في القرن العشرين. واجه فرانز كافكا الموت ليس كموقف درامي، بل إنه حاول استيعاب أو فهم هذا الشعور المأساوي، أو الحدث الدرامي، ولم يجد في الأدب وسيلة فقط لتحقيق ذاته، أو غايته، أو مراده، أو مأربه، بل إنه ألفى في الكتابة نوعاً من الفرار أو الخلاص، أو منفذاً، أو ملاذاً، أو إنقاذاً له من فداحة الموقف الذي يتردى فيه. وأمام هذا الغموض كان على كافكا أن يجد الإجابة بواسطة الغموض بعينه. وهكذا فالأدب عنده نوع من الغموض نفسه مثلما هو الشأن لدى الألماني ريلكه، أو الفرنسي مالارميه، اللذين كانا يريان أن الأدب الغامض، أو الأدب الجيد لا يمكن فهمُه أو إدراكُه أو الوصول إليه إلا بقدرٍ باهظٍ من الذكاء والتفكير والمعاناة، والصبر والمكابدة. فكثير من الأعمال الأدبية العظيمة هي أعمال غير مريحة، أو غير سهلة أو مستساغة الفهم بسهولة ويُسر عند الكثيرين، والتفكك الذي قد تحدثه بعضها لدى قراء هذه الأعمال قد يكون في النهاية «تركيباً» أو بناءً يغدو في آخر المطاف عنصراً نابضاً من عناصر الأمل، أو فسحة منه للتغلب على عذاباته، وهو يرى والحالة هذه أن ذلك «لم يكن ضرباً من ضروب المداهنة أو المصانعة، وإنما كان مجرد شكل خاص من أشكال الإدراك أو الاقتناع مفادهما أنْ لا أحد، بين الأحياء على الأقل، يستطيع أن يتخلص من ذاته».

أعمال كافكا تحمل في طياتها بذرة الموت، والموت عنده هو الجانب السلبي والقسري للحياة. وهو لا يَسلب المرء حياته وحسب، بل يسلبه حريته كذلك، وهكذا تصبح الحياة غارقة في هوة الفراغ والسوداوية، وفي متاهات التفاهة، والعبث، كما أنها تغدو غير ذات مدلول. كان الناقد الفرنسي موريس بلانشو قد قام بمراجعة متأنية لبعض كتابات كافكا مثل «اليوميات» وكتاباته الذاتية في محاولة منه لاستدراك عمقها، واستكناه أسرارها، واستغوار غوامضها، وانتهىَ إلى نتيجة مفادها أن الكتابة عنده كانت بمثابة «مكافأة عذبة»، ولكن كافكا سرعان ما يتساءل: مكافأة على ماذا؟ ويجيب في الآن نفسه: «في الليل كان واضحاً لي أنها مكافأة على خدمة الشيطان».

في خريف 1912 كتب كافكا إلى خطيبته فليس باور يقول: «الحق أن هذا الكتاب يبطنه تشوش لا يمكن التحكم فيه، بل بالأحرى قد تجدين فيه نظرات ينبغي الدنو أو الاقتراب منها حتى يمكنكِ رؤية شيء. على كل حال إنني أقدر عدم معرفتك بماذا ستفعلين به، إلا أنني مع ذلك لن أفقد الأمل، إذ أنه في لحظة حِلم، أو تسامح، أو أريحية، أو ضعف، أو تواضع من طرفك، عندئذٍ سوف تشعرين بأنك تميلين لمحاولة فهمه، ولن يكون هناك أبداً أحد يعرف ماذا يفعل بكل هذا، إنه شيء لي، ومني، وسيظل واضحاً أمامي، ونصب عينيّ إلى الأبد. إننى لآسف كثيراً عن تضحية ناشر مبذر، وإن مجرد التفكير بأن كل محاولاتي قد باءت بالفشل يسبب لي آلاماً مُبرحة، ولكنني أعزي نفسي بأنني وأنتِ في آخر المطاف لنا قاسم مُشترك، على الرغم من أنه لو أعجبتكِ دراعة ولم ترقني أنا إلا أنه فقط لأنك ترتدينها حينئذٍ يفرحني أن أراها عليك، وهكذا فإن كتابي في حد ذاته حتى إن لم يعجبك، فإنه يكفي أن يكون من تأليفي، عندئذٍ لا أشك في أنه يروقك. ومن غرائب الصدف أن يكون هذا الكتاب من أكثر كتب كافكا، الذي حقق نجاحاتٍ منقطعة النظير، ولم يكن يقصد من تأليفه حث اهتمام الأوساط الأدبية به وحسب، بل كان يسعى كذلك إلى رفع الحجر عن وضعه كموظف إداري بسيط، كان كافكا قد طلب من صديقه ماكس برود بإتلاف أو إحراق مخطوطات كتبه لعدم تحقيقها في حياته النجاح الذي حققته بعد مماته، إلا أن ذلك لم يحدث، بل لقد عمل برود وفاءً لصديقة كافكا على نشر أعماله الإبداعية بعد رحيله.

جمرة الإبداع

تؤكد الدراسات التي كتبت عن كافكا، وعن أعماله أنه قد عانى الكثير من سلطة والده الاستبدادي، وهو ما يبرزه كافكا بصورة خاصة في كتابه «الحكم – Das Urteil» حيث يقبل الشاب حكم الموت الذي أصدره عليه والده، كل هذه المعاناة عاناها كافكا من أجل إبلاغ صوته، وكتبه للقراء ليس في بلده وحسب، بل إن هذه الكتابات تخطت كل الحدود التي كانت تحيط به إلى اكتساب شهرة عالمية واسعة، فضلاً عن معاناته الشديدة ككاتب يتفاعل، وينفعل مع نفسه، ومع ذاته، وكينونته، ومع العالَم المحيط به، وقد اعترف بورخيس في إحدى مقالاته عن فرانز كافكا، بأن هذا الكاتب المُعنى كان أستاذه، ومعلمه في هذا المجال، لقد واجه كافكا الحياة، وصارع الموت، وتحدى الداء قبل أن ينهش جسمه النحيل. لقد كافح بكل ما أوتي من قوة حتى لا يُساق إلى «المُحاكمة» بدون اقترافِ أي جُرمٍ، أو جِنايةٍ، اقتيد إلى حبل المشنقة قهراً وقسراً، بعد أن أُرْغِم على ارتداء ثوب العيْش بدون استشارته. لقد كافح كافكا من أجل تثبيت قيم إنتاجه الأدبي، كما أنه لم يهدأ من خوض هذه المعركة مع نفسه، ومع خصومه، لم يهدأ سوى عندما أُخبِر عام 1917 أنه يعانى من مرضٍ عُضال فتاك لا يُرجى منه شفاء.

......................................
*كاتب من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوتا- كولومبيا.



٭ كاتب من المغرب

المصدر: https://www.alquds.co.uk/فرانز-%D…/

تعليقات

ربما لن تفلح أي كتابة لسيرة كافكا عن فك رموز شخصيته.. أن عينيه ميتتان لأنهما تخفيان عن كثب دماغا مصابا بعصاب الشك..ورسائله لمعشوقته التي لا تختلف عن غيرها كثيرا..حاولت جرها جرا إلى عالم لن يمكنها فهمه ولا حتى القبول به.
الشيء الوحيد الذي يمكننا أن نصف به كافكا..أنه كان وحيدا .. وحيدا جدا .. في مواجهة الكون بأسره. وهذا هو الموت الذي يتنفس.
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...