في التسعينات تحولت قصيدة النثر إلي ظاهرة , ومع انتشارها بدأت المناقشات حولها , وكأي شيء جديد , كان الهجوم من الأجيال السابقة , وردود الفعل من الجيل الذي يمارس قصيدة النثر كتابة
وإذا كانت المشاحنات في الفترة السابقة تتم من خلال الحوار الشفهي على المقاهي وفي المنتديات الأدبية , أو بصورة مبتسرة على صفحات الصحف غير المتخصصة , فإنها في هذه المرة تبدأ بداية جا دة , وجد مختلفة , فقد بدأ النقاش ناقد كبير وأستاذ في النقد هو الدكتور أحمد كمال زكي , وقد أثارت أفكاره مع رصانتها ردود فعل في الواقع الثقافي متباينة حول قصيدة النثر , وغير قصيدة النثر مما يتصل بها من بعيد أو قريب
ونحن من جانبا نود أن نقول أن هذه المعركة تشبه إلي حد كبير المعركة التي دارت بين أنصار الشعر العمودي (القديم) والشعر الحر (شعر التفعيلة) واستمرت فترات طويلة يعلو ضجيجها ويخفت إلي أن انتقلت المعركة الآن إلي قصيدة النثر
ويرتكز الاتجاه المناوئ لقصيدة النثر علي عدة مرتكزات منها : ثبات القيم , والثوابت التراثية في القول الشعري , ومزج الماضي والحاضر كضرورة في تشكيل العمل الشعري
ونحن نري أن القول بثبات القيم جمالية أو أخلاقية , أو غير ذلك لا يمثل ركيزة قوية يمكن الاستناد إليها 0 ذلك أن القيم متغيرة , ووثيقة الصلة في تغيرها بالتغيرات الاجتماعية , ويمكن ملاحظة نسبيتها بملاحظة الأشكال المختلفة للمجتمعات والتشكيلة الاجتماعية في كل مجتمع , وكذلك بدراسة القيم عبر التاريخ , فالقيم تتطور بتطور المجتمعات وإذا تحدثنا عن القيم الجمالية فإننا نجد الذوق الجمالي والحكم الجمالي يتباينين بتباين المجتمعات , وتباين العصور " فلا وجود لقيم راسخة كالجبال" وتغيير القيم يتم تدريجيا وعلى مراحل وقد تطول الفترة أو تقصر وفقاً لطور المجتمع ودرجة نموه وتقدمه 0 وفي المجتمعات المتقدمة يكون تغير القيم أسرع من المجتمعات المتخلفة
والجدير بالذكر أن هذه القيم ما إن تستقر في فترة معينة و وفي مجتمع محدد , حتى تتحول إلي سلطة يخضع لها أفراد المجتمع , حتى يأتي من يعملون على اختراق هذه القيم وإحلال قيم جديدة , وهذا يكون متوافقا مع تغيرات شتي في الواقع الاجتماعي المحلي , ومتأثرا بكل ما هو محيط به
والقيم الجمالية أكثر القيم عرضة للتغير والتطور , لارتباطها – وارتباط تغيرها – بأكثر المتمردين والثوريين حدة – إلا وهم الفنانون والأدباء
ويمكننا من خلال دراسة التغير في أشكال الفن أو مضامينه أو موضوعاته رصد التغيرات الاجتماعية والثقافية , أو الإرهاص بها , وذلك بعيداً عن التبسيط المخلّ , أو التسطيح , مع مراعاة تباين المجالين الفنّي والاجتماعي
والتغيير في طبيعة القيم الجمالية , يكون كبيرا أو محدودا وفقا لطبيعة التغير الاجتماعي ودور الفرد المبدع الذي يحاول إدخال قيم جديدة وعلى هذا الأساس قد يأتي التغيير في شكل ومضمون العمل الفني (الشعر على سبيل المثال) محدودا , أو انقلابيا , نتيجة لطبيعة التغير أو التراكم الذي حدث من متغيرات سابقة
وعلى هذا الأساس فاحتفاظ الشعر في فترات سابقة رغم التغيير في شكله أو مضامينه أو موضوعاته ببعض الأسس التي كان يقوم عليها الشعر في العصر الجاهلي جاء نتيجة لأن التغير لم يكن انقلابيا , وأن التراكم لم يحدث بشكل كامل , بالإضافة إلي بطء إيقاع الحياة والواقع الاجتماعي , في العصور السابقة قياسا إلي أيامنا هذه
وهنا – في عصرنا هذا – مع ثورة المعلومات , والتغيرات الاجتماعية التي حدثت – في مصر على الأقل – بشكل متسارع , وتحول العالم إلي قرية صغيرة وسهولة الاتصال , فإن التغير لن يكون أبدا مشابها أو متوازيا لما حدث في عصور سابقة , في الشعر الأندلسي , أو في بداية القرن , بل أن التغير بالضرورة هنا تغير حاد وجارف , فقد ساعدت ظروف العصر , والتراكمات التي حدثت من التغيرات السابقة على تفجيره
والجدير بالذكر أن القول بأن "مزج الماضي بالحاضر ضرورة لتشكيل الأعمال الشعرية الجديدة بما يعني أن الحاضر المتجدد لابد أن يواجه الماضي وإهمال هذه القاعدة يسبب خللاً في السياق الشعري العام" – على حد تعبير الدكتور أحمد كمال زكي – يصبح مناقضا للقول بتغير القيم وتطورها , بل الذي يصبح ضروريا هو التعبير عن العصر , وعن الواقع المعيش , بمشكلاته وما يفرزه من تفاصيل , تختلف كثيراً عما كان في الماضي
وإذا كان الجيل السابق الذي أرسي أركان قصيدة التفعيلة ( الشعر الحر) قد جاء إبداعه تعبيرا عن طموحات قومية , ووطنية , وانصهر في بوتقه واقع اجتماعي نشطت فيه الدعوات إلي العدالة الاجتماعية والحرية , وغيرها من القضايا السياسية والاجتماعية الكبرى , فإن الجيل الحالي الذي يكتب قصيدة النثر قد طحنته عجلة تغيرات اجتماعية سريعة ومفاجئة , أدت إلي تغير في القيم عموما , وكان لابد أن تنسحب على القيمة الجمالية , فبعد سياسة الانفتاح الاقتصادي , وفتور القضايا الوطنية وتحويلها إلي موضوع للثرثرة علي المقاهي أو الصالونات الثقافية أو التنفيس من خلال جريدة أو مجلة قليلة الانتشار , وانتشار السمسرة , وفقدان العمل الجاد لقيمته , وتحول عدد كبير من خريجي الجامعات إلي هامشيين على المقاهي , وانتشار الإثراء غير المشروع ( من وجهة نظر الجيل السابق من العصاميين , والمشروع من وجهة نظر أرباب الثروة الآن) التغيرات التي وصلت إلي درجة مفجعة وقاتلة بالنسبة للجيل السابق , هذه التغيرات , بالإضافة إلي ثورة المعلومات , وثورة المعرفة ، واليقين الراسخ في أذهان الكثيرين بتضاد الثروة مع الثقافة , أو الثروة مع الجدية , كل هذا خلق عالما مغايرا تماما للذي كان موجودا مع جيل الستينيات هذا العالم هو الذي يعيشه الآن جيل يكتب قصيدة النثر
ولذا فإن محاكمة هذا الجيل بمعايير سابقة غير ذي جدوى , فكل شيء قد تغير تماما
لقد كان الشاعر في الجيل الماضي – والإنسان أيضاً يري أن له دورا في الحياة , وأن دوره هذا بالضرورة مؤثر 0 فكنا نجد الشاعر النبي , أو المبشر , الشاعر الذي يدعو إلي التغيير , ويقود المجتمع إلي ما هو أفضل , والذي ينتقد الواقع بما فيه من زيف أو ضلال , كان يهتم بالقضايا الكبرى , قضايا الوطن , والعدالة و والحرية , والتي كان يهتم بها كمواطن بالدرجة الأولي , وكمبدع يؤدي دورا إيجابيا في المجتمع , وكان في إبداعه يحاول أن يصل إلي أكبر عدد من المتلقين حتى يكون تأثيره أكبر– رغم أن وسائله كانت أقل بكثير من المتاح الآن
أما من يكتب قصيدة النثر فقد جاء في واقع مغاير لا تشغله قضايا كبرى كالعدالة والحرية وحرية الوطن , فلا حرب , ولا نضال 0 ما يشغله هو واقعه اليومي المعيش , حياته تفاصيلها الدقيقة , ضياعه على المقاهي بلا عمل , وتسكعه فى الشوارع , أصبح غير قادر على الحلم والتخيل , فتحول إلي المسكوت عنه , إلي تحطيم التابوهات , وبالأخص الجنس , لأن السياسة هو لا يمارسها ولا تشغل – أن شغلت - من حياته إلا جانبا محدودا جدا ً, ثم الدين أحيانا
انشغل بالتفاصيل كبديل عن المجاز , والصورة , فكونه لا يحلم , ولا يشغل باله بالقادم , اصبح يتحرك في واقع ساكن ثابت , لا يسعى إلي تغييره – لأنه يعرف أنه غير قادر على ذلك , فصار أكثر واقعية , فجاءت القصيدة تعبيراً عن مشهد يمكن أن يلتقي به أي إنسان في حياته اليومية صار المشهد بديلا للمجاز والصورة وقيمة القصيدة تأتي – رغم لغتها الحيادية والباردة , والبعيدة عن أي شحنة انفعالية – في البوح بما هو مسكوت عنه , في جعلها المألوف غير مألوف أو كأننا نلقاه لأول مرة 0 من القدرة على إثارة الدهشة
وإذن فمطالبة كتاب قصيدة النثر بالخضوع للقواعد السابقة , أو الاغتراف من التراث أمر غير ذي بال سواء كان ذلك علي مستوي الشكل أو المضمون
فالظروف التي جدّتْ جاءت بمضامين جديدة , وموضوعات جديدة , والتراكم الذي حدث في التجديد علي مستوي الشكل عبر القرون الماضية انتهاءا إلي قصيدة التفعيلة جعل الباب مفتوحاً أمام تفجير العمود الشعري , والإيقاع الخليلي , والتفعلية , وهذا يتوافق مع عصر صارت القصيدة تقرا أكثر مما تسمع , وتخضع للتأمل , وتخاطب العقل أكثر من مخاطبة الحواس والوجدان
أما القول بان الشعر لا يقرأ , أو العكس إن قراءه بالملايين أو مئات الألوف , فهو قول لا أهمية له في السجال الدائر الآن , فإذا كان قراء صلاح جاهين ونزار القباني ودرويش بالآلاف , فما عدد قراء صلاح عبد الصبور وحجازي , وعفيفي مطر , وأمل دنقل والبياتي وهم أكثر تمثيلا للشعر الحر بعيداً عن السياسة أو غيرها , أما أنه لا يوجد قارئ بالمرة فهو قول فيه مبالغة القارئ موجود ولكنه نادر أو عدد القراء قليل , لظروف معقدة في الحياة والواقع الاجتماعي , وتطور وسائل الإعلام , والانشغال بالهمّ اليومي للإنسان
ولينتظر الجميع من يكتبون قصيدة النثر و ومن يرفضونها , فما حدث في الأجيال السابقة سوف يحدث , فيتم فرز الغث من الثمين , ويتم تعرية ثرثاري المقاهي والمتعطلين والمفلسين وذوي الصوت العالي الذي لا يمثل شيئا , ويبقي من يكتب قصيدة النثر عن وعي وفهم وموهبة , وإن كان صوته خافتا أو لا يتمتع بما لدي الأشباه
إن علينا أن نتجاوز بيانات الإدانة , وبيانات الرد إلي دراسة النصوص , ودراسة الظاهرة وفرز الإيجابي من السلبي , ووضع المعايير التي يتم تذوق قصيدة النثر عبرها , وعندما ينهي النقاد والمنظرون هذه المهمة , بالضرورة سوف نفاجأ بلون جديد من الشعر تثار حوله نفس المناقشات الحادة لنبدأ من جديد صياغة المعايير وهكذا , وهذه هي طبيعة الإبداع التغير والتطور المستمر
أ.د. رمضان الصباغ
وإذا كانت المشاحنات في الفترة السابقة تتم من خلال الحوار الشفهي على المقاهي وفي المنتديات الأدبية , أو بصورة مبتسرة على صفحات الصحف غير المتخصصة , فإنها في هذه المرة تبدأ بداية جا دة , وجد مختلفة , فقد بدأ النقاش ناقد كبير وأستاذ في النقد هو الدكتور أحمد كمال زكي , وقد أثارت أفكاره مع رصانتها ردود فعل في الواقع الثقافي متباينة حول قصيدة النثر , وغير قصيدة النثر مما يتصل بها من بعيد أو قريب
ونحن من جانبا نود أن نقول أن هذه المعركة تشبه إلي حد كبير المعركة التي دارت بين أنصار الشعر العمودي (القديم) والشعر الحر (شعر التفعيلة) واستمرت فترات طويلة يعلو ضجيجها ويخفت إلي أن انتقلت المعركة الآن إلي قصيدة النثر
ويرتكز الاتجاه المناوئ لقصيدة النثر علي عدة مرتكزات منها : ثبات القيم , والثوابت التراثية في القول الشعري , ومزج الماضي والحاضر كضرورة في تشكيل العمل الشعري
ونحن نري أن القول بثبات القيم جمالية أو أخلاقية , أو غير ذلك لا يمثل ركيزة قوية يمكن الاستناد إليها 0 ذلك أن القيم متغيرة , ووثيقة الصلة في تغيرها بالتغيرات الاجتماعية , ويمكن ملاحظة نسبيتها بملاحظة الأشكال المختلفة للمجتمعات والتشكيلة الاجتماعية في كل مجتمع , وكذلك بدراسة القيم عبر التاريخ , فالقيم تتطور بتطور المجتمعات وإذا تحدثنا عن القيم الجمالية فإننا نجد الذوق الجمالي والحكم الجمالي يتباينين بتباين المجتمعات , وتباين العصور " فلا وجود لقيم راسخة كالجبال" وتغيير القيم يتم تدريجيا وعلى مراحل وقد تطول الفترة أو تقصر وفقاً لطور المجتمع ودرجة نموه وتقدمه 0 وفي المجتمعات المتقدمة يكون تغير القيم أسرع من المجتمعات المتخلفة
والجدير بالذكر أن هذه القيم ما إن تستقر في فترة معينة و وفي مجتمع محدد , حتى تتحول إلي سلطة يخضع لها أفراد المجتمع , حتى يأتي من يعملون على اختراق هذه القيم وإحلال قيم جديدة , وهذا يكون متوافقا مع تغيرات شتي في الواقع الاجتماعي المحلي , ومتأثرا بكل ما هو محيط به
والقيم الجمالية أكثر القيم عرضة للتغير والتطور , لارتباطها – وارتباط تغيرها – بأكثر المتمردين والثوريين حدة – إلا وهم الفنانون والأدباء
ويمكننا من خلال دراسة التغير في أشكال الفن أو مضامينه أو موضوعاته رصد التغيرات الاجتماعية والثقافية , أو الإرهاص بها , وذلك بعيداً عن التبسيط المخلّ , أو التسطيح , مع مراعاة تباين المجالين الفنّي والاجتماعي
والتغيير في طبيعة القيم الجمالية , يكون كبيرا أو محدودا وفقا لطبيعة التغير الاجتماعي ودور الفرد المبدع الذي يحاول إدخال قيم جديدة وعلى هذا الأساس قد يأتي التغيير في شكل ومضمون العمل الفني (الشعر على سبيل المثال) محدودا , أو انقلابيا , نتيجة لطبيعة التغير أو التراكم الذي حدث من متغيرات سابقة
وعلى هذا الأساس فاحتفاظ الشعر في فترات سابقة رغم التغيير في شكله أو مضامينه أو موضوعاته ببعض الأسس التي كان يقوم عليها الشعر في العصر الجاهلي جاء نتيجة لأن التغير لم يكن انقلابيا , وأن التراكم لم يحدث بشكل كامل , بالإضافة إلي بطء إيقاع الحياة والواقع الاجتماعي , في العصور السابقة قياسا إلي أيامنا هذه
وهنا – في عصرنا هذا – مع ثورة المعلومات , والتغيرات الاجتماعية التي حدثت – في مصر على الأقل – بشكل متسارع , وتحول العالم إلي قرية صغيرة وسهولة الاتصال , فإن التغير لن يكون أبدا مشابها أو متوازيا لما حدث في عصور سابقة , في الشعر الأندلسي , أو في بداية القرن , بل أن التغير بالضرورة هنا تغير حاد وجارف , فقد ساعدت ظروف العصر , والتراكمات التي حدثت من التغيرات السابقة على تفجيره
والجدير بالذكر أن القول بأن "مزج الماضي بالحاضر ضرورة لتشكيل الأعمال الشعرية الجديدة بما يعني أن الحاضر المتجدد لابد أن يواجه الماضي وإهمال هذه القاعدة يسبب خللاً في السياق الشعري العام" – على حد تعبير الدكتور أحمد كمال زكي – يصبح مناقضا للقول بتغير القيم وتطورها , بل الذي يصبح ضروريا هو التعبير عن العصر , وعن الواقع المعيش , بمشكلاته وما يفرزه من تفاصيل , تختلف كثيراً عما كان في الماضي
وإذا كان الجيل السابق الذي أرسي أركان قصيدة التفعيلة ( الشعر الحر) قد جاء إبداعه تعبيرا عن طموحات قومية , ووطنية , وانصهر في بوتقه واقع اجتماعي نشطت فيه الدعوات إلي العدالة الاجتماعية والحرية , وغيرها من القضايا السياسية والاجتماعية الكبرى , فإن الجيل الحالي الذي يكتب قصيدة النثر قد طحنته عجلة تغيرات اجتماعية سريعة ومفاجئة , أدت إلي تغير في القيم عموما , وكان لابد أن تنسحب على القيمة الجمالية , فبعد سياسة الانفتاح الاقتصادي , وفتور القضايا الوطنية وتحويلها إلي موضوع للثرثرة علي المقاهي أو الصالونات الثقافية أو التنفيس من خلال جريدة أو مجلة قليلة الانتشار , وانتشار السمسرة , وفقدان العمل الجاد لقيمته , وتحول عدد كبير من خريجي الجامعات إلي هامشيين على المقاهي , وانتشار الإثراء غير المشروع ( من وجهة نظر الجيل السابق من العصاميين , والمشروع من وجهة نظر أرباب الثروة الآن) التغيرات التي وصلت إلي درجة مفجعة وقاتلة بالنسبة للجيل السابق , هذه التغيرات , بالإضافة إلي ثورة المعلومات , وثورة المعرفة ، واليقين الراسخ في أذهان الكثيرين بتضاد الثروة مع الثقافة , أو الثروة مع الجدية , كل هذا خلق عالما مغايرا تماما للذي كان موجودا مع جيل الستينيات هذا العالم هو الذي يعيشه الآن جيل يكتب قصيدة النثر
ولذا فإن محاكمة هذا الجيل بمعايير سابقة غير ذي جدوى , فكل شيء قد تغير تماما
لقد كان الشاعر في الجيل الماضي – والإنسان أيضاً يري أن له دورا في الحياة , وأن دوره هذا بالضرورة مؤثر 0 فكنا نجد الشاعر النبي , أو المبشر , الشاعر الذي يدعو إلي التغيير , ويقود المجتمع إلي ما هو أفضل , والذي ينتقد الواقع بما فيه من زيف أو ضلال , كان يهتم بالقضايا الكبرى , قضايا الوطن , والعدالة و والحرية , والتي كان يهتم بها كمواطن بالدرجة الأولي , وكمبدع يؤدي دورا إيجابيا في المجتمع , وكان في إبداعه يحاول أن يصل إلي أكبر عدد من المتلقين حتى يكون تأثيره أكبر– رغم أن وسائله كانت أقل بكثير من المتاح الآن
أما من يكتب قصيدة النثر فقد جاء في واقع مغاير لا تشغله قضايا كبرى كالعدالة والحرية وحرية الوطن , فلا حرب , ولا نضال 0 ما يشغله هو واقعه اليومي المعيش , حياته تفاصيلها الدقيقة , ضياعه على المقاهي بلا عمل , وتسكعه فى الشوارع , أصبح غير قادر على الحلم والتخيل , فتحول إلي المسكوت عنه , إلي تحطيم التابوهات , وبالأخص الجنس , لأن السياسة هو لا يمارسها ولا تشغل – أن شغلت - من حياته إلا جانبا محدودا جدا ً, ثم الدين أحيانا
انشغل بالتفاصيل كبديل عن المجاز , والصورة , فكونه لا يحلم , ولا يشغل باله بالقادم , اصبح يتحرك في واقع ساكن ثابت , لا يسعى إلي تغييره – لأنه يعرف أنه غير قادر على ذلك , فصار أكثر واقعية , فجاءت القصيدة تعبيراً عن مشهد يمكن أن يلتقي به أي إنسان في حياته اليومية صار المشهد بديلا للمجاز والصورة وقيمة القصيدة تأتي – رغم لغتها الحيادية والباردة , والبعيدة عن أي شحنة انفعالية – في البوح بما هو مسكوت عنه , في جعلها المألوف غير مألوف أو كأننا نلقاه لأول مرة 0 من القدرة على إثارة الدهشة
وإذن فمطالبة كتاب قصيدة النثر بالخضوع للقواعد السابقة , أو الاغتراف من التراث أمر غير ذي بال سواء كان ذلك علي مستوي الشكل أو المضمون
فالظروف التي جدّتْ جاءت بمضامين جديدة , وموضوعات جديدة , والتراكم الذي حدث في التجديد علي مستوي الشكل عبر القرون الماضية انتهاءا إلي قصيدة التفعيلة جعل الباب مفتوحاً أمام تفجير العمود الشعري , والإيقاع الخليلي , والتفعلية , وهذا يتوافق مع عصر صارت القصيدة تقرا أكثر مما تسمع , وتخضع للتأمل , وتخاطب العقل أكثر من مخاطبة الحواس والوجدان
أما القول بان الشعر لا يقرأ , أو العكس إن قراءه بالملايين أو مئات الألوف , فهو قول لا أهمية له في السجال الدائر الآن , فإذا كان قراء صلاح جاهين ونزار القباني ودرويش بالآلاف , فما عدد قراء صلاح عبد الصبور وحجازي , وعفيفي مطر , وأمل دنقل والبياتي وهم أكثر تمثيلا للشعر الحر بعيداً عن السياسة أو غيرها , أما أنه لا يوجد قارئ بالمرة فهو قول فيه مبالغة القارئ موجود ولكنه نادر أو عدد القراء قليل , لظروف معقدة في الحياة والواقع الاجتماعي , وتطور وسائل الإعلام , والانشغال بالهمّ اليومي للإنسان
ولينتظر الجميع من يكتبون قصيدة النثر و ومن يرفضونها , فما حدث في الأجيال السابقة سوف يحدث , فيتم فرز الغث من الثمين , ويتم تعرية ثرثاري المقاهي والمتعطلين والمفلسين وذوي الصوت العالي الذي لا يمثل شيئا , ويبقي من يكتب قصيدة النثر عن وعي وفهم وموهبة , وإن كان صوته خافتا أو لا يتمتع بما لدي الأشباه
إن علينا أن نتجاوز بيانات الإدانة , وبيانات الرد إلي دراسة النصوص , ودراسة الظاهرة وفرز الإيجابي من السلبي , ووضع المعايير التي يتم تذوق قصيدة النثر عبرها , وعندما ينهي النقاد والمنظرون هذه المهمة , بالضرورة سوف نفاجأ بلون جديد من الشعر تثار حوله نفس المناقشات الحادة لنبدأ من جديد صياغة المعايير وهكذا , وهذه هي طبيعة الإبداع التغير والتطور المستمر
أ.د. رمضان الصباغ