"أناهيد"، هي أقصوصة لعبة الوجوه: تلك الممثِّلة للنّسخة المزوّرة، أو تلك الدّالّة على الأصل السليم ( لم يكن سليما في الحقيقة بل كان مصابا برائحة الماضي العطنة).. تشي النّسخة المزوّرة بما لا يعكسه الأصلُ السّليم.. من هنا ينشأ التّناقض و تنهض المفارقة فيبدأ الوعيُ في التمزّق.. ما بين وجه قديم يُرادُ لملامحه أن تضمحلّ:"الآن لم يبق من وجهها القديم أدنى أثرٍ، لن يتعرّف عليها أحد".،ص122. و بين وجه جديد يراد لصورته الزّور أن تسود و لاستيهاماته أن تتألق.. و وراء ذلك فضل كبير ، ما بين الوجهين حكاية شريدة تصوغها اللغة مفاضلَةً مسكوتا عن المفضّل عليه فيها : "شتّان ما بين الكواكب و ..".. هذا الصمت في النقطتين المتتاليتين هو في حدّ ذاته نصّ مسكوت عنه - لا على الدوام - بل مرجأ سرديّا . يدخل ذلك ضمن الإيماءات الأولى و البارقات الخاطفة تمهيدا لتداعيات آتية . أو تكون أناهيد ".. أل.. بدر ".. و لو أنها كذلك من منظور خيري، فما سرّ التوقف وسرّ النقاط السابقة للمفضّل عليها الممزقة لألف لام تعريفه و التي تتلو التلفظ به ؟!
لنعد إلى مسالة الوجوه ، إلى وجه الآن و وجهِ أمس - وجه الحضرة و المثول و وجه الغيبة والنسيان: تحضر في الوجه النسخة حيث الصورة زائفة مركّبة تركيبا صناعيّا جملة من المعاجم والألفاظ ،و تحتشد أفانين من الصور، لتشير إلماحا إلى الزيّ المفبرك و السحنة الكاذبة: "تخرج كعادتها كل حفل عن نفسها تماما ُيلبس جسدها المرمري اسمها الحجر الماسيّ في طرف الرواق الداخلي المؤدي إلى خارجها فتنسجم أضدادها الخفية" صفحة 124 .و لكن ما الداعي لامتثال أناهيد لوجهها القِناعيّ و صورتها المستعارة ؟ ما الدّاعي لقبول فكرة كونها أكذوبة و مَوْها ؟إنّها نجمة عارية لا عالية، في سطح الفنّ لا في سمائه .. تتحوّل أناهيد/ منسيّة من ركح الحياة الطبيعية المهدورة إلى ركح الفنّ المفرط في فنّيّته إلاّ من تهويمات ذويه و أوهامهم : " فترتفع الآهات و المناديل والشلالات و الأذرع تتطوح في أفضية الخواتم الشبقة تذري الحزن المكوم في بيادر النفوس فيرقص الجمهور ألسنا و أذنا و نهودا و شعورا و خصورا و رغائب ثائرة عن محابسها " ، ص 124 .
تمتَـثلُ أناهيد منسية ( و اخترنا لها لقبا من اسمها و بعثرنا الوجوه و الأصل و النسخة مزجا و تذويبا حتى حلّ الاسم في الكنية و طغت هي عليه ) لنزواتِ جمهورها تطويحًا بأغاني الوله و الولع و ضرام غلمةٍ مستترة : أبفنّ جميل جليل أصيل تجنّ ليالي الجماهير و ينقدح أوار الرغبات أم " بفن" الحبّ الزاني ؟ كأنّ النصّ لبس بعض معناه من رسائل قيان الجاحظ أو مستلهم كثيرا من نبضه الإبداعيّ من قصائد بشّار في وصف المغنية، أو ابن الرومي في قصيدته " المرأة الروضة " ..
أناهيد منسيّة هي حكاية منسيّة في الحياة الحقيقيّة، تصنع لها ذاكرة على ركح الفنّ الوهميّ .. يكون خيري حينها رجلا جديدا، يتحكّم في كينونة أنثى و مصيرٍها، مذعنا في ذلك إلى شغف ذكوريّ أصمّ ، شعاره: " أنت لي " ، ص 123 .. "أنت لي " : وريد النصّ بل وتينُه، بموجبه تفقد أناهيد اسمَها و وجهها و تاريخ روحها و تساق إلى عالم جنسيّ بجلاء .. تُذكّرنا أناهيد بريحانة أبي هريرة المسعدي : إمرأة من نار و ضرام و أوار . تلك (ريحانة المسعدي)تلهب القومَ بهبوب جسدِها و عواصف شبقِها ، ثم تُجَوِّعُهم كأشدّ ما يكون تجويع قومٍ . و هذه (أناهيد) تؤسّس أساطير الهيام، و تضخّ الدّم في الأشخاص و الأشياء: " يتفكّك على حروف الغرام المنقّط على ساعة ماء الشهوات ، الجسد الواحد أجسادا صغرى يهتز كل منها على وزن شخصي و لحن جماعي يرعش أرداف اللحن و الحجر و خشب الآلات السّكراء و رؤوس العازفين المنزفة " ، ص 125. فتدفع بهم إلى أن يقترفوا متعةَ الجنون اهتياجا و رقصَ شبقِ و حلمَ وصالٍ و اتّصال .. ما أكبر ما يفعله "الفنّ الناريّ" من امرأة باذخة العريّ في نفوس كسيرة، بيادر الحزن مكوّمة فيها ، و كبتها العميق وشْمٌ بقيعانها ! ثم ما أوهى النفوس تعشى أبصارُها و تُصمّ آذانها فلا تدرك هويّة الفنّ و لا هويّة الفنّانة: " أتنشز أم تنشج أو تجهش بخيباتها الخافية " ص 126 .. أولئك هم الواقفون على "عرفات الوهم" .. في تلك الموجة الدافقة من هدير الشهرة و البهرة و الشهوة و الشوْهة، ينبثق كهلٌ من المعجبين "مُتْحَفيُّ الوجه"ص،127 وجه مطرّز بالرثاثة موشّى بذعر القِدَم :" كأحد أصحاب الرقيم " ص 126، مَعْلَمٌ من معالم منسيّة ، تستفيق على كآبته أناهيد حيث ينتشلها الأصلُ من النسخة، و يسْحبها من بهرة الرّكح الجديد ظلالُ كواليسها القديمة: " كأّني أعرف الرجل ". تلك لحظة اصطدام الأزمنة و الأمكنة والوجوه و الأحداث : لحظة يرقص فيها الوعي جريحا و لا يفضي إلاّ إلى ذَهْـلة مُربكة .. ما تزال اللغة بعد تنجز رسومها، و ما تزال الصّور و الأخيلة و الاحتمالات و الإثارة - كلّ ذلك البهرج مجدولا بالكلام نضيدا نظيما _ فعل غواية هو الكلام في هذا النصّ_ كلّ ذلك مَصْهرٌ لتذويب المعاجم معادن كريمة ومعان باهظة .. أليس شرط الكلام الناجح ،كما يورد الجرجانيّ ، هو ما ينطوي على: "شدة ائتلاف في شدة اختلاف بحيث يريك التئام عين الأضداد و يجمع أعناق المتنافرات و المتباينات في ربقة و تعقد بين أجنبّيات معاقِدَ نسَبٍ و شُبكة " ؟
إنّ لغة القاصّة بسمة شوالي في هذا النصّ و في سواه ( سواء أكانتْ سردا أو وصفا ) هي لغة الكلام المثير المُغوي، الراجّ لسكْنة ما هو رائج في اللغة المعتادة المُعادة .. إنّ في وسع الكاتبة أن تزجّ بنا في مَزَجّ جماليّ مزدحم بأفانين السحر و ضروب الفنّ : فاللغة رسم و اللغة عزف و جُمَلٌ من الموسيقى . وهي إلى ذلك زوومْ مبثوثة في كلّ حقول الرؤية، لاقطة للحركة منتبهة للمرئيّات و المسموعات . أبصِرْ بها وأسمِعْ من لغةِ المشْهد والنّشيد !
في وسع الكاتبة - بلغتها - أن تستدعيك إلى محور من محاور الفتنة المحض . حين تعبث بهدوئك (أكان عفويّا أم مصطنعا ) فتراوغ طمأنينتَك للّغة بمألوفها و مُتداولها المَجيج . ولا تكتفي بذلك لأنها تحرّض ذاتك المكتفية بزادها الجماليّ بأضرب أخرى من جماليّات مُولَّدَةٍ ..إنّ للكاتبة قدرة على منح نصّها هويّة التجدّد بتعبير بشرى موسى صالح : " إذ تنحرف الألفاظ في التشكيل الصوري عن دلالتها المعجمية إلى دلالات خطابية حافة و جديدة و من ثم يمنح النص هويته التي تتجدد ".
كيف انتبهت أناهيد على منسيّة و متى ؟ كان ذلك حين "ارتطم ميناء الساعة بحافة المشهد الصخريّ " ص128، و حين " تدلّى خيري من صفر الزمن المطلّ على الغد كعنكبوت يتأرجح على الهاوية " ص 128 : تلك الآونة هي آونة اصطدام الوجوه : أناهيد /منسية ،خيري / الكهل . و اصطدام الباطن و الظاهر و الحديث و التالد و الركحيّ الحياتيّ و الرّكْحيّ المسرحيّ، و اصطدام لونيْ الضوء المعشي بالدكنة الراسبة حيث ترتطم الذاكرة بالنسيان و تصحو الحقيقة..
في تلك الآونة يتحوّل مقود السرد عبر الالتفات، فيخرج من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم . و تخرج أناهيد من المتحدَّث عنها لتتولّى الإخبار عن نفسها بنفسها :" كان يرى الذاكرة على وشك الرّدة بي إلى الكفر به " ص 128 .. حين صحَت الحقيقة، كان حقيقا بالسرد أن ينبثق من الشخصيّة ذاتها .
إنّ لحظة انكسار الذات و استرجاعها لدثارها الأسود، لا يتسنّى للسانٍ غيرٍ لسان صاحبها أن يرويها .. ذلك هو " عنفوان الحكي " ص 129، حيث تتّصل الساردة الجديدة بذاتها القديمة و تنفصل عن ذاتها الراهنة أوهما في الحقيقة تتناظران . هاهنا تماما حدَث التمزق على خطّ من العنف ضارٍ : "ماذا يحدث لي ؟" ص 130 " بلا هوية محدّدة كنتُ . نساء ثلاثا يلبسن جلدي " ص 131 . هاهنا لا بدّ من سرد الاسترجاع و العود إلى الصور التي كتَمها مكياجُ الراهن، فأعماها، و دفنتها مساحيق الشهرة في " حفرة الجنة " ص ،132 أيكسر الجيم أم بفتحها . و إن كان الأمر سيانا أكسرنا أم فتحنا: فالجِنة من الجّن و هو المخفيّ الذي ليس يرى : و هو المستتر من الرعب و الثاوي من التيه الأعمى . والجِنة بعامّيتنا جمع "جنان "، و يَعْنون به حقل دغل متشابك لا ينفذ إليه النور إلّا لماما . و الجَنة (بفتح الجيم) تتبعثر دلالتها الموجبة بما سبقها من دلالة المضاف ( الحفرة ) السالبة و تصبح حينها جنة ضائعة ( و هو احتمال ضعيف ) لأنّ ما كان هو نار لظى : " شواظ صور مزق حداد الحواف ... " ص 132
لا أثر للجنّة . لم توجد جنّة أصلا : تترى متتالياتُ الذاكرة على نسق متسارع ، مختزل مكثّف . و يتواتر المعنى على هيئة مصادر مشتقّات تمسح صفحة 132 ، 133 تستجمع عبرها السّاردة صور طوفانَ الذكرى المنفلتة، ههنا يكون من الضرورة استفتاء المرآة - و اللفظة للكاتبة - و تعكس المرآة البشاعة صافية من تزاويق الحاضر الخادعة فتعرض الومضات المطرزة بالخزي تراثا من الفجيعة .. أناهيد/ منسية بين صوتين : صوت يدعوها أن "أفيقي " و سمُتُـه "شفوقا " ، و صوت آخر يردد "أنت لي" . وبين الصوتين ينهض الهولُ و تتبرّج الحكاية في جراحها، و يأخذ المستورُ في الانكشاف و تصلُ أناهيد حينئذ إلى ضرب من العمى: "لا تعرف أيّا ممن ترى شيئا مما ترى " ن ص 134.
حين يصبح الوعي محاصرا -كما تورد الكاتبة - يتلاشى الفنُّ و تبرد روحُه : يتصدّع المسرح حتما حين تشرئبّ شخوصٌ و حكايا بعيدة من مسارحَ أخرى محجوبة : مسرح الذاكرة : يتجلّى ركُحه بعد عشر ٍ من السنوات : المشهد كوخٌ قصديريّ . و الهويّة الأولى، حسْبُها هذا: مسكن ناء مرتفع و عين ماء منخفضة .. أمّا الحدث البعيد أمسِ ، الخفيض الآن بخفْقه اللاّهبِ، فمأساة منسيّة: في الأثناء يفد السرد الاسترجاعيّ عنيفا لتتحدّد عبره فاجعةُ " حفرة الجنّة " ، إنها لَحُفرة حقا : حيث منسيّة وحيدة -أمّها مطرودة من دار زوجها - و لها إخوة ماتوا منذ ولادتها - و اختير لها اسمُ منسية - و تنكّر لها الأب بدعوى جنوحها عن الانتماء إلى الموطن- و بروز عيفة بجملته – جُملة الحِصار و الأسْرِ: " أنتِ لي " ... أليست هذه حفرةَ النسيان ؟ هكذا كانت الهويّة الأولى مخدوشة ، كانت مفرطة في قبحها . و أناهيد في آنِـــها الخَفّاق بالذكرى، اللاّهبة " تتعرف على نفسها " ص 137 : الفظاعة أن يتعرّف الإنسانُ على نفسه و يرتدّ إلى مرآةِ قهرِه ، حينها لا نتحدّث عن تشظّي للذات فحسب، بل نتحدّث عن لحظة خارجة عن التحديد .. و مرّة أخرى تتعرّى صورة الرّجل الفاحشةُ، حيث يُمثّل "عيفة قرادة في ذيل النظام " ، ص 136. و يمثل خيري سلطة المال المهدّدة بالتبدّد ص 137 .. عيفة و خيري و الأب، ثلاثة وجوه لعملةٍ : " لم تحبّ خيري ، عشقت رداءة إنسانِهِ يستثمر كيانها اللحمّي لغناه و تعتلي كتفيه الى الشعرة ويتصاحبان على انتهازية متبرّجة " ص 137 . هي ذي تواجه خيري باسم جامع، له ملمح عيفة في الصفات، اسم يختصِرُ المعنى الثّقيل الذي تنوء بحملِهِ روحُها : " أنتَ عيفة " ..؟
هكذا تتداخلت الهويّـتان : خيري / عيفة . لا فرق . كلاهما مغتصب: عيفة اغتصب منسيّة في ركح الحياة و هو يردد بعُجبٍ مَغْزى وطَــرَه "أنت لي " . و خيري اغتصب أناهيد فوق ركح المسرح و قد ردّد : "أنت لي " .. و تختزل أناهيد منسيّة صورتيْهما الصنوَ في " أنت عيفة " .. لكنها تتدمّرُ بقسوةٍ مرّتيْن على التّوالي على مسافةٍ من الاتّصالِ مفصولة موصولة..
هي أقصوصة التشرذم الأقصى.. تشتغل المعاجمُ فيها على نحو يذبح بشفرة باردة غير مرئيّة .. و في شكل زخّات تتالى حقول الكلام، تزدحمُ فـتَـهْـمي حتّى تستوفي مختلف الصور المراد نحتُــها وفق مقتضيات السرد و مقتضيات المشهد المذعور..
ترسم الكاتبة بتلاوين اللغة و ببراعة محترفةٍ، أفقا من المتعة الطائرة.. لا يمنحك النصّ نفسه بيُسْرٍ، لا يستسلم لك المعنى ما لم تفكّ تشابكات المعنى .. إنّ قراءة خطيّة تتابعيّة لأقاصيص بسمة الشوالي تشكّل لعبة مبتذلة.. حينئذ، على القارئ، و هو يقرأ، أن يقرأَ - قراءتيْن أقلّها : إحداهما خطيّة. تتهجّى الدلالة المتاحة المباشرة.. أمّا الدلالة الزائغة (حيث تُبَـعْـثر خيوطُ السرد عمْدا ) فتحتاج إلى هندسة قرائيّة تستجيبُ لرؤية الساردة و لهندسة الكِتابة التي تمارس بها نصَّها بتصميم جماليّ مخصوص، ذلك أنّ القراءة الأولى، تمنح مُتاحات الفهمِ الأوّلي، وهو ما لا يُحتاج فيه إلى عناء. و لكن لا يفتأ النصّ أن يشتّتَكَ (ذهنيّا و جماليّا) بلغته و بتراكمها الوظيفي التعبيري الإبلاغيّ، عن طريق ما يسمّيه الجُرجانيّ "مبدأ التباعد و شهوة الإغراب ".. و من هنا تنهض اللغة بوظيفتيْن، وفق ما يسمَّى عند اللسانيّين بمادّةِ المضمون - و هي العناصر الفكريّة والعاطفية التي تتكون منها الدّلالة.. و صورةِ المضمون، و هو التنظيم الشكليّ للمدلولات ..
أما الوظيفة الأولى فهي وظيفة التكثيف الجُمْلي للّغة ، و بواسطتها تمارس الكاتبة لعبة إغراق النصّ ببُنًى لغويّة أسلوبيّة و بلاغيّة غاية في الصنعة، و هو ما يحوّل النصّ إلى مشروع شعري جماليّ محذوق.
و أمّا الوظيفة الثانية فوظيفة التزييغ الدلاليّ ، بحيث لا تمنحك الأقصوصة دلالتها النهائيّة المكتملة إلاّ بعد أن تفكّك نسيج السّرد، و تعيد جدْلَه و جدولةَ نظامِه مرّة أخرى في عمليّة تأليف مميّزة تستوجبها شروط القراءة الدّقيقة.. و هكذا يتمّ عبر قراءة : عموديّة و أفقيّة ، استباقية و استرجاعيّة، و عبر محطات من التوقّف المتأمّلة إعادة بناء النصّ على نحوٍ قرائيّ جديد مختلف، وبطريقة جماليّة مرهفة، يحاول من خلالها القارئ القبضَ على المستتِرات السرديّة أو بعبارة أخرى على المخاتلات السردية (و هو ما يمكن تسميته باللامرئيّ من النصّ، و الذي يقتضي قراءة هادئة حكيمة بأناتِها، حتى تقعَ تَجْليةُ المعاني الثاوية.. و لعلّ مفهوم الكتابة بتعريف درّيدا لها " هو ما لا يمكن حسمه "
يُراد بهِ الكتابةَ ما بين الحضور و الغياب.. و هو ما يشكّل نصيّة النصّ ." و النصية عنده هي عدم إمكانية النصّ على الحسم.. هكذا تكون النصيّةُ شرطا للنصّ و لممارستِهِ على مسرود القاصّة بسمة الشوالي.. ذلك أنّ أقاصيصها / نصوصَها، تُفصح عن أن تكون شيئا أكثر ممّا هي عليه حقيقة .. ذلك أنّ نُصوصها تنزع نحوَ أن تكون مركّبا من الثنائيّات المتضادّة : على مستوى أجناسيّة النصّ: أنثر هو أم شعر ؟ أم جنس ثالث جامع ؟ و على المستوى النَّفَس السّرْديّ ذاته: أ نَفَس روائيّ هو أمْ نفَس أقصوصيّ ؟ و ذلك لتراوحه بين الإطناب و الاختزال: الإيغال تفصيلا و الإلماح إجمالا ..
يقول دريدا : كلما أدرِكَ شيءٌ ما يدور حول النصّ ، كانت هناك تفصيلاتٌ تدور حول شيء " غير موجود " .. و هكذا يميل نصّ القاصّة بسمة الشوّالي إلى عدم التصريح (التّصريحَ المباشرَ المبذولَ) بنصّيّـته التي يعلن عنها جنسُ الكتابة التي ضمنها تندرج كتابتُـها . إنّه نصّ "يموّه تخومه"، بتعبير هبو سلفرمان.
___________
سيف الدّين العلوي
https://www.facebook.com/chaoualibesma.chaouali/posts/2324246647644022
لنعد إلى مسالة الوجوه ، إلى وجه الآن و وجهِ أمس - وجه الحضرة و المثول و وجه الغيبة والنسيان: تحضر في الوجه النسخة حيث الصورة زائفة مركّبة تركيبا صناعيّا جملة من المعاجم والألفاظ ،و تحتشد أفانين من الصور، لتشير إلماحا إلى الزيّ المفبرك و السحنة الكاذبة: "تخرج كعادتها كل حفل عن نفسها تماما ُيلبس جسدها المرمري اسمها الحجر الماسيّ في طرف الرواق الداخلي المؤدي إلى خارجها فتنسجم أضدادها الخفية" صفحة 124 .و لكن ما الداعي لامتثال أناهيد لوجهها القِناعيّ و صورتها المستعارة ؟ ما الدّاعي لقبول فكرة كونها أكذوبة و مَوْها ؟إنّها نجمة عارية لا عالية، في سطح الفنّ لا في سمائه .. تتحوّل أناهيد/ منسيّة من ركح الحياة الطبيعية المهدورة إلى ركح الفنّ المفرط في فنّيّته إلاّ من تهويمات ذويه و أوهامهم : " فترتفع الآهات و المناديل والشلالات و الأذرع تتطوح في أفضية الخواتم الشبقة تذري الحزن المكوم في بيادر النفوس فيرقص الجمهور ألسنا و أذنا و نهودا و شعورا و خصورا و رغائب ثائرة عن محابسها " ، ص 124 .
تمتَـثلُ أناهيد منسية ( و اخترنا لها لقبا من اسمها و بعثرنا الوجوه و الأصل و النسخة مزجا و تذويبا حتى حلّ الاسم في الكنية و طغت هي عليه ) لنزواتِ جمهورها تطويحًا بأغاني الوله و الولع و ضرام غلمةٍ مستترة : أبفنّ جميل جليل أصيل تجنّ ليالي الجماهير و ينقدح أوار الرغبات أم " بفن" الحبّ الزاني ؟ كأنّ النصّ لبس بعض معناه من رسائل قيان الجاحظ أو مستلهم كثيرا من نبضه الإبداعيّ من قصائد بشّار في وصف المغنية، أو ابن الرومي في قصيدته " المرأة الروضة " ..
أناهيد منسيّة هي حكاية منسيّة في الحياة الحقيقيّة، تصنع لها ذاكرة على ركح الفنّ الوهميّ .. يكون خيري حينها رجلا جديدا، يتحكّم في كينونة أنثى و مصيرٍها، مذعنا في ذلك إلى شغف ذكوريّ أصمّ ، شعاره: " أنت لي " ، ص 123 .. "أنت لي " : وريد النصّ بل وتينُه، بموجبه تفقد أناهيد اسمَها و وجهها و تاريخ روحها و تساق إلى عالم جنسيّ بجلاء .. تُذكّرنا أناهيد بريحانة أبي هريرة المسعدي : إمرأة من نار و ضرام و أوار . تلك (ريحانة المسعدي)تلهب القومَ بهبوب جسدِها و عواصف شبقِها ، ثم تُجَوِّعُهم كأشدّ ما يكون تجويع قومٍ . و هذه (أناهيد) تؤسّس أساطير الهيام، و تضخّ الدّم في الأشخاص و الأشياء: " يتفكّك على حروف الغرام المنقّط على ساعة ماء الشهوات ، الجسد الواحد أجسادا صغرى يهتز كل منها على وزن شخصي و لحن جماعي يرعش أرداف اللحن و الحجر و خشب الآلات السّكراء و رؤوس العازفين المنزفة " ، ص 125. فتدفع بهم إلى أن يقترفوا متعةَ الجنون اهتياجا و رقصَ شبقِ و حلمَ وصالٍ و اتّصال .. ما أكبر ما يفعله "الفنّ الناريّ" من امرأة باذخة العريّ في نفوس كسيرة، بيادر الحزن مكوّمة فيها ، و كبتها العميق وشْمٌ بقيعانها ! ثم ما أوهى النفوس تعشى أبصارُها و تُصمّ آذانها فلا تدرك هويّة الفنّ و لا هويّة الفنّانة: " أتنشز أم تنشج أو تجهش بخيباتها الخافية " ص 126 .. أولئك هم الواقفون على "عرفات الوهم" .. في تلك الموجة الدافقة من هدير الشهرة و البهرة و الشهوة و الشوْهة، ينبثق كهلٌ من المعجبين "مُتْحَفيُّ الوجه"ص،127 وجه مطرّز بالرثاثة موشّى بذعر القِدَم :" كأحد أصحاب الرقيم " ص 126، مَعْلَمٌ من معالم منسيّة ، تستفيق على كآبته أناهيد حيث ينتشلها الأصلُ من النسخة، و يسْحبها من بهرة الرّكح الجديد ظلالُ كواليسها القديمة: " كأّني أعرف الرجل ". تلك لحظة اصطدام الأزمنة و الأمكنة والوجوه و الأحداث : لحظة يرقص فيها الوعي جريحا و لا يفضي إلاّ إلى ذَهْـلة مُربكة .. ما تزال اللغة بعد تنجز رسومها، و ما تزال الصّور و الأخيلة و الاحتمالات و الإثارة - كلّ ذلك البهرج مجدولا بالكلام نضيدا نظيما _ فعل غواية هو الكلام في هذا النصّ_ كلّ ذلك مَصْهرٌ لتذويب المعاجم معادن كريمة ومعان باهظة .. أليس شرط الكلام الناجح ،كما يورد الجرجانيّ ، هو ما ينطوي على: "شدة ائتلاف في شدة اختلاف بحيث يريك التئام عين الأضداد و يجمع أعناق المتنافرات و المتباينات في ربقة و تعقد بين أجنبّيات معاقِدَ نسَبٍ و شُبكة " ؟
إنّ لغة القاصّة بسمة شوالي في هذا النصّ و في سواه ( سواء أكانتْ سردا أو وصفا ) هي لغة الكلام المثير المُغوي، الراجّ لسكْنة ما هو رائج في اللغة المعتادة المُعادة .. إنّ في وسع الكاتبة أن تزجّ بنا في مَزَجّ جماليّ مزدحم بأفانين السحر و ضروب الفنّ : فاللغة رسم و اللغة عزف و جُمَلٌ من الموسيقى . وهي إلى ذلك زوومْ مبثوثة في كلّ حقول الرؤية، لاقطة للحركة منتبهة للمرئيّات و المسموعات . أبصِرْ بها وأسمِعْ من لغةِ المشْهد والنّشيد !
في وسع الكاتبة - بلغتها - أن تستدعيك إلى محور من محاور الفتنة المحض . حين تعبث بهدوئك (أكان عفويّا أم مصطنعا ) فتراوغ طمأنينتَك للّغة بمألوفها و مُتداولها المَجيج . ولا تكتفي بذلك لأنها تحرّض ذاتك المكتفية بزادها الجماليّ بأضرب أخرى من جماليّات مُولَّدَةٍ ..إنّ للكاتبة قدرة على منح نصّها هويّة التجدّد بتعبير بشرى موسى صالح : " إذ تنحرف الألفاظ في التشكيل الصوري عن دلالتها المعجمية إلى دلالات خطابية حافة و جديدة و من ثم يمنح النص هويته التي تتجدد ".
كيف انتبهت أناهيد على منسيّة و متى ؟ كان ذلك حين "ارتطم ميناء الساعة بحافة المشهد الصخريّ " ص128، و حين " تدلّى خيري من صفر الزمن المطلّ على الغد كعنكبوت يتأرجح على الهاوية " ص 128 : تلك الآونة هي آونة اصطدام الوجوه : أناهيد /منسية ،خيري / الكهل . و اصطدام الباطن و الظاهر و الحديث و التالد و الركحيّ الحياتيّ و الرّكْحيّ المسرحيّ، و اصطدام لونيْ الضوء المعشي بالدكنة الراسبة حيث ترتطم الذاكرة بالنسيان و تصحو الحقيقة..
في تلك الآونة يتحوّل مقود السرد عبر الالتفات، فيخرج من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم . و تخرج أناهيد من المتحدَّث عنها لتتولّى الإخبار عن نفسها بنفسها :" كان يرى الذاكرة على وشك الرّدة بي إلى الكفر به " ص 128 .. حين صحَت الحقيقة، كان حقيقا بالسرد أن ينبثق من الشخصيّة ذاتها .
إنّ لحظة انكسار الذات و استرجاعها لدثارها الأسود، لا يتسنّى للسانٍ غيرٍ لسان صاحبها أن يرويها .. ذلك هو " عنفوان الحكي " ص 129، حيث تتّصل الساردة الجديدة بذاتها القديمة و تنفصل عن ذاتها الراهنة أوهما في الحقيقة تتناظران . هاهنا تماما حدَث التمزق على خطّ من العنف ضارٍ : "ماذا يحدث لي ؟" ص 130 " بلا هوية محدّدة كنتُ . نساء ثلاثا يلبسن جلدي " ص 131 . هاهنا لا بدّ من سرد الاسترجاع و العود إلى الصور التي كتَمها مكياجُ الراهن، فأعماها، و دفنتها مساحيق الشهرة في " حفرة الجنة " ص ،132 أيكسر الجيم أم بفتحها . و إن كان الأمر سيانا أكسرنا أم فتحنا: فالجِنة من الجّن و هو المخفيّ الذي ليس يرى : و هو المستتر من الرعب و الثاوي من التيه الأعمى . والجِنة بعامّيتنا جمع "جنان "، و يَعْنون به حقل دغل متشابك لا ينفذ إليه النور إلّا لماما . و الجَنة (بفتح الجيم) تتبعثر دلالتها الموجبة بما سبقها من دلالة المضاف ( الحفرة ) السالبة و تصبح حينها جنة ضائعة ( و هو احتمال ضعيف ) لأنّ ما كان هو نار لظى : " شواظ صور مزق حداد الحواف ... " ص 132
لا أثر للجنّة . لم توجد جنّة أصلا : تترى متتالياتُ الذاكرة على نسق متسارع ، مختزل مكثّف . و يتواتر المعنى على هيئة مصادر مشتقّات تمسح صفحة 132 ، 133 تستجمع عبرها السّاردة صور طوفانَ الذكرى المنفلتة، ههنا يكون من الضرورة استفتاء المرآة - و اللفظة للكاتبة - و تعكس المرآة البشاعة صافية من تزاويق الحاضر الخادعة فتعرض الومضات المطرزة بالخزي تراثا من الفجيعة .. أناهيد/ منسية بين صوتين : صوت يدعوها أن "أفيقي " و سمُتُـه "شفوقا " ، و صوت آخر يردد "أنت لي" . وبين الصوتين ينهض الهولُ و تتبرّج الحكاية في جراحها، و يأخذ المستورُ في الانكشاف و تصلُ أناهيد حينئذ إلى ضرب من العمى: "لا تعرف أيّا ممن ترى شيئا مما ترى " ن ص 134.
حين يصبح الوعي محاصرا -كما تورد الكاتبة - يتلاشى الفنُّ و تبرد روحُه : يتصدّع المسرح حتما حين تشرئبّ شخوصٌ و حكايا بعيدة من مسارحَ أخرى محجوبة : مسرح الذاكرة : يتجلّى ركُحه بعد عشر ٍ من السنوات : المشهد كوخٌ قصديريّ . و الهويّة الأولى، حسْبُها هذا: مسكن ناء مرتفع و عين ماء منخفضة .. أمّا الحدث البعيد أمسِ ، الخفيض الآن بخفْقه اللاّهبِ، فمأساة منسيّة: في الأثناء يفد السرد الاسترجاعيّ عنيفا لتتحدّد عبره فاجعةُ " حفرة الجنّة " ، إنها لَحُفرة حقا : حيث منسيّة وحيدة -أمّها مطرودة من دار زوجها - و لها إخوة ماتوا منذ ولادتها - و اختير لها اسمُ منسية - و تنكّر لها الأب بدعوى جنوحها عن الانتماء إلى الموطن- و بروز عيفة بجملته – جُملة الحِصار و الأسْرِ: " أنتِ لي " ... أليست هذه حفرةَ النسيان ؟ هكذا كانت الهويّة الأولى مخدوشة ، كانت مفرطة في قبحها . و أناهيد في آنِـــها الخَفّاق بالذكرى، اللاّهبة " تتعرف على نفسها " ص 137 : الفظاعة أن يتعرّف الإنسانُ على نفسه و يرتدّ إلى مرآةِ قهرِه ، حينها لا نتحدّث عن تشظّي للذات فحسب، بل نتحدّث عن لحظة خارجة عن التحديد .. و مرّة أخرى تتعرّى صورة الرّجل الفاحشةُ، حيث يُمثّل "عيفة قرادة في ذيل النظام " ، ص 136. و يمثل خيري سلطة المال المهدّدة بالتبدّد ص 137 .. عيفة و خيري و الأب، ثلاثة وجوه لعملةٍ : " لم تحبّ خيري ، عشقت رداءة إنسانِهِ يستثمر كيانها اللحمّي لغناه و تعتلي كتفيه الى الشعرة ويتصاحبان على انتهازية متبرّجة " ص 137 . هي ذي تواجه خيري باسم جامع، له ملمح عيفة في الصفات، اسم يختصِرُ المعنى الثّقيل الذي تنوء بحملِهِ روحُها : " أنتَ عيفة " ..؟
هكذا تتداخلت الهويّـتان : خيري / عيفة . لا فرق . كلاهما مغتصب: عيفة اغتصب منسيّة في ركح الحياة و هو يردد بعُجبٍ مَغْزى وطَــرَه "أنت لي " . و خيري اغتصب أناهيد فوق ركح المسرح و قد ردّد : "أنت لي " .. و تختزل أناهيد منسيّة صورتيْهما الصنوَ في " أنت عيفة " .. لكنها تتدمّرُ بقسوةٍ مرّتيْن على التّوالي على مسافةٍ من الاتّصالِ مفصولة موصولة..
هي أقصوصة التشرذم الأقصى.. تشتغل المعاجمُ فيها على نحو يذبح بشفرة باردة غير مرئيّة .. و في شكل زخّات تتالى حقول الكلام، تزدحمُ فـتَـهْـمي حتّى تستوفي مختلف الصور المراد نحتُــها وفق مقتضيات السرد و مقتضيات المشهد المذعور..
ترسم الكاتبة بتلاوين اللغة و ببراعة محترفةٍ، أفقا من المتعة الطائرة.. لا يمنحك النصّ نفسه بيُسْرٍ، لا يستسلم لك المعنى ما لم تفكّ تشابكات المعنى .. إنّ قراءة خطيّة تتابعيّة لأقاصيص بسمة الشوالي تشكّل لعبة مبتذلة.. حينئذ، على القارئ، و هو يقرأ، أن يقرأَ - قراءتيْن أقلّها : إحداهما خطيّة. تتهجّى الدلالة المتاحة المباشرة.. أمّا الدلالة الزائغة (حيث تُبَـعْـثر خيوطُ السرد عمْدا ) فتحتاج إلى هندسة قرائيّة تستجيبُ لرؤية الساردة و لهندسة الكِتابة التي تمارس بها نصَّها بتصميم جماليّ مخصوص، ذلك أنّ القراءة الأولى، تمنح مُتاحات الفهمِ الأوّلي، وهو ما لا يُحتاج فيه إلى عناء. و لكن لا يفتأ النصّ أن يشتّتَكَ (ذهنيّا و جماليّا) بلغته و بتراكمها الوظيفي التعبيري الإبلاغيّ، عن طريق ما يسمّيه الجُرجانيّ "مبدأ التباعد و شهوة الإغراب ".. و من هنا تنهض اللغة بوظيفتيْن، وفق ما يسمَّى عند اللسانيّين بمادّةِ المضمون - و هي العناصر الفكريّة والعاطفية التي تتكون منها الدّلالة.. و صورةِ المضمون، و هو التنظيم الشكليّ للمدلولات ..
أما الوظيفة الأولى فهي وظيفة التكثيف الجُمْلي للّغة ، و بواسطتها تمارس الكاتبة لعبة إغراق النصّ ببُنًى لغويّة أسلوبيّة و بلاغيّة غاية في الصنعة، و هو ما يحوّل النصّ إلى مشروع شعري جماليّ محذوق.
و أمّا الوظيفة الثانية فوظيفة التزييغ الدلاليّ ، بحيث لا تمنحك الأقصوصة دلالتها النهائيّة المكتملة إلاّ بعد أن تفكّك نسيج السّرد، و تعيد جدْلَه و جدولةَ نظامِه مرّة أخرى في عمليّة تأليف مميّزة تستوجبها شروط القراءة الدّقيقة.. و هكذا يتمّ عبر قراءة : عموديّة و أفقيّة ، استباقية و استرجاعيّة، و عبر محطات من التوقّف المتأمّلة إعادة بناء النصّ على نحوٍ قرائيّ جديد مختلف، وبطريقة جماليّة مرهفة، يحاول من خلالها القارئ القبضَ على المستتِرات السرديّة أو بعبارة أخرى على المخاتلات السردية (و هو ما يمكن تسميته باللامرئيّ من النصّ، و الذي يقتضي قراءة هادئة حكيمة بأناتِها، حتى تقعَ تَجْليةُ المعاني الثاوية.. و لعلّ مفهوم الكتابة بتعريف درّيدا لها " هو ما لا يمكن حسمه "
يُراد بهِ الكتابةَ ما بين الحضور و الغياب.. و هو ما يشكّل نصيّة النصّ ." و النصية عنده هي عدم إمكانية النصّ على الحسم.. هكذا تكون النصيّةُ شرطا للنصّ و لممارستِهِ على مسرود القاصّة بسمة الشوالي.. ذلك أنّ أقاصيصها / نصوصَها، تُفصح عن أن تكون شيئا أكثر ممّا هي عليه حقيقة .. ذلك أنّ نُصوصها تنزع نحوَ أن تكون مركّبا من الثنائيّات المتضادّة : على مستوى أجناسيّة النصّ: أنثر هو أم شعر ؟ أم جنس ثالث جامع ؟ و على المستوى النَّفَس السّرْديّ ذاته: أ نَفَس روائيّ هو أمْ نفَس أقصوصيّ ؟ و ذلك لتراوحه بين الإطناب و الاختزال: الإيغال تفصيلا و الإلماح إجمالا ..
يقول دريدا : كلما أدرِكَ شيءٌ ما يدور حول النصّ ، كانت هناك تفصيلاتٌ تدور حول شيء " غير موجود " .. و هكذا يميل نصّ القاصّة بسمة الشوّالي إلى عدم التصريح (التّصريحَ المباشرَ المبذولَ) بنصّيّـته التي يعلن عنها جنسُ الكتابة التي ضمنها تندرج كتابتُـها . إنّه نصّ "يموّه تخومه"، بتعبير هبو سلفرمان.
___________
سيف الدّين العلوي
https://www.facebook.com/chaoualibesma.chaouali/posts/2324246647644022