العمدة أحمد الرفاعي ( 2 – 5 )

توقفت بالأمس عند إفادة رفعت السعيد والتي جاءت تحت عنوان ( أحمد الرفاعي .. العمدة ) فبعد ان قدم دكتور رفعت السعيد، العمدة أحمد الرفاعي للقراء يحدثنا عن نشأة الرفاعي في بيت عمودية ( الفتى ابن فلاح ميسور الحال.. العمودية تراوح مكانها في الأسرة، قد تنتقل من بيت لآخر لكنها تبقى قريبة من الاسرة). ( احمد الرفاعي يساري متميز - ص 18)

ويحدثنا الكاتب عن انتماء احمد الرفاعي الباكر لحزب الوفد على خلفية انتماء والده للحزب نفسه ( الأب وفدي. والابن الطفل كان وفدياً ليس فقط مثل ابيه وإنما مثل القرية كلها التي رآها عام 1930 وهي تخرج منتفضة تهتف. (يسقط صدقي .. يحيا الدستور .. النحاس خليفة سعد .. هل هلاك يا نحاس). ( الكتاب – ص 18).

بقرية طناح التي ولد وترعرع فيها العمدة أحمد الرفاعي تجري حادثة في احدى الايام ستترك اثرها العميق بنفس الصبي حينها ( ... العمدة الجديد هو أيضاً عمه. كان الوحيد الذي يدافع عن الطاغية صدقي. أتى إلى العمودية ومعه كرباج موجع إسمه " الأزعر "، لكن كرباجه وجموع الغفر لم يستطيعوا اسكات هتافات الفلاحين " هلا هلاك يا نحاس "، فأتى العمدة بالهجانة الذين أعلنوا حظر التجول من بعد الغروب وحتى الفجر. الفلاحون وجدوا حيلة لفض حظر التجول، نار تشتعل في ركن من أركان القرية. هنا يتوسل العمدة والهجانة للفلاحين أن يخرجوا من بيوتهم كي يساهموا في إطفاء الحريق

ويتكرر المشهد حتى تلقن العمدة الدرس. ويتلقن هو أيضاً دروساً في مقاومة الطغاة دروس ربما تختلف عما هو مكتوب في الكتب). ( الكتاب ص 19)

ننتقل مع السعيد في مقاله ( أحمد الرفاعي .. العمدة ) لمدرسة المنصورة الثانوية لنجد جمعية الخطابة التي انضم لها أحمد الرفاعي. وهناك (خاض زعامة المدرسة في معاركها ومظاهراتها الوطنية. ومنها إلى كلية الحقوق جامعة فؤاد الأول (القاهرة) .. هناك ترتفع درجة الغليان خلال معارك الحرب العالمية الثانية.. كلام كثير عن هتلر وستالين، ومعارك ليننجراد وصمود ستالينجراد وزحف الجيش ليطيح بأحلام النازي .. وعلى طلقات مدافع ستالينجراد تتفتح أعين هذا الجيل من الشباب الذي كان وفدياً بالأساس على رؤى جديدة، وعالم جديد). (الكتاب- ص20)

بالجامعة انتقلت الأيديولجية السياسية لأحمد الرفاعي من وفدية إلى اشتراكية وذلك عندما ( التقى بفتى يحمل ذات الطموح هو مصطفى هيكل.. وينضم إلى تنظيم القلعة. ويصبح شيوعياً، لكنه يظل وثيق الصلة بالشباب الوفدي الذي اندفع يساراً بفعل ذات المؤثرات، وأسس الطليعة الوفدية، ويظل أحمد الرفاعي معهم). (مصدر سابق – ص 20)

يسعى أحمد الرفاعي في الإجازة الصيفية لنشر الفكر الماركسي بقريته طناح وينجح في ذلك إلى حدٍ كبير ( واصبحت طناح – وربما للمرة الأولى في تاريخ مصر الحديث – قرية حمراء. تتردد في حواريها وأجرانها همسات الماركسية وتنعقد حلقات الفلاحين هذه المرة لتقرأ جريدة " الجماهير " التي كانت تصدر عن الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني) ( الكتاب – ص 20)

في عام 1949م بدأت المواجهة مع السلطة حيث شهدت المنصورة أكبر حملة لاعتقال الشيوعيين وكان النصيب المضاعف من هذه الاعتقالات لقرية طناح ومن نافلة القول ان احمد الرفاعي كان على رأس هذه القائمة لكنه افلت ( عندما قبض عليه استقبله مامور سجن الأجانب ساخطاً ما دام حكاية الشيوعية دي وصلت للفلاح أبو رجلين مشققة، يبقى ما عدش فيه فايدة. لقد علقوا على عنقه مسئولية التجاسر بنقل هذا القبس من الضوء إلى ريف مصر). (الكتاب – ص 20)

يفرج حزب الوفد عن الرفاعي عندما يصل للسلطة عام 1950 لكنه يعود مرة أخرى للحبس. ولأترك المجال لرفعت السعيد ليحدثنا بقلمه الرشيق حتى تلك الفترة ( ولا تمضى سوى أيام قليلة حتى يأتيه خبر مفزع، مات الرفيق السوداني صلاح بشرى في السجن
عاش أياماً جميلة مع صلاح بشرى الذي كان يعاني وهو في السجن من مرض السل، رفضوا تقديم علاج حقيقي له، ورفضوا الإفراج عنه. واستشهد الفتى الغض. وارتبكت الحكومة التي كانت لم تزل تحلم بعلاقات حسنة مع الشعب السوداني، وارتبك القصر الملكي الذي لم يزل يحلم بلقب " فاروق ملك مصر والسودان" ) ( الكتاب – ص21).

الجماهير الغاضبة من الشيوعيين والسودانيين اندفعت إلى قلب المطار لتحمل جثمان الشهيد الذي قررت حكومة الوفد نقل جثمانه بطائرة خاصة من مدينة القاهرة إلى مدينة عطبرة مسقط راس صلاح بشرى. ويقرر القصر الملكي ان يرافق أحمد الرفاعي الطائرة كمندوب من قبل القصر.

( في الطائرة وجد نفسه مع ارستقراطي أحمر الوجه ضخم الجثة قالوا انه الممثل الشخصي لجلالة الملك أوفده ليحمل التعازي لأسرة الفقيد. في الطائرة تنازل الباشا وسأل الولد: هل تعرف الخطابة. فأجاب الفلاح الماكر " لا ". أتى الباشا بورقة وقلم وأملاه " أن جلالة الفاروق أعز الله ملكه، وحمى عرشه، يعزي شعبه في السودان في وفاة إبنه صلاح"). ( الكتاب – ص 21)

يوافق احمد الرفاعي على قراءة ما جاء في الورقة بعد هبوط الطائرة. وعند هبوطها بمطار عطبرة وبعد أن يفتح بابها رأى ركاب الطائرة ( الباشا، وأحمد الرفاعي ) رأوا بأم أعينهم، العطبرواين - ( نسبة لمدينة عطبرة ذات الثقل الشيوعي) – محتشدين في غضب بارض مطار عطبرة منتظرين استقبال جثمان ابنهم. فيحثه الباشا من خلفه على تلاوة الخطاب على الجموع المتحشدة.

ولكن العمدة يفاجيء الباشا ، فعندما ( تقدم أحمد الرفاعي وهتف " يسقط فاروق قاتل صلاح" " يسقط فاروق عدو الشعب" إنها المرة الأولى التي يصعد فيها هذا الهتاف علناً. الجماهير السمراء رددت الهتاف بحماس. وظلت طوال مسيرتها تردده). ( الكتاب ص 21)
ودفع العمدة الثمن غالياً حين ان الباشا ابلغ مطار القاهرة بضرورة استدعاء البوليس السياسي لاعتقال العمدة أحمد الرفاعي. ولكن تجرى الرياح بما لا تشتهي السفن – كما يقول عجز البيت الشهير للمتنبئ - ( عندما وصلت الطائرة، اسرع احمد الرفاعي ليتصل تليفونياً بالمنزل. قالوا إن رجال البوليس السياسي ينتظرونه. وهرب من جديد). ( الكتاب- ص21)

ننتقل مع رفعت السعيد وبطل حكايتنا احمد الرفاعي ابان ثورة يوليو التي أيدها بحماس بعد ان اقامت دولة الجمهورية ووزع الارض على الفلاحين . ولكن حكومة عبد الناصر رغم تطبيقها للمفاهيم الاشتراكية بشأن الأرض، غير أنها عادت الديمقراطية وقتلت خميس والبقري بطلي إضراب عمال كفر الدوار، وحلت الاحزاب ثم فرضت حكماً ديكتاتورياً بعد ذلك عم جميع البلاد.

يصطدم احمد الرفاعي بالسلطة لتجازيه بالاعتقالات المتكررة ولكن التجربة في عهد عبد الناصر تصبح اكثر وحشية بتعذيب لا يوصف وارهاب لا يتوقع من حكومة وطنية. ( وذات يوم ينادون اسمه.. لينتقل من سجن بني سويف إلى حيث لا يدري. الحراسة مشددة، طوال الطريق من السجن إلى القطار المشحون بالجند .. الأمر إذن خطير. في عربة القطار حيث الحراس يحيطون به في عصبية ظاهرة. أتى شخص لا يعرفه. لكن ظابط الحراسة حياه بحماس. جلس القادم إلى جواره. انتهز فرصة انشغال ضابط الحراسة وناداه هامساً: " يا رفيق عاكف. انت رايح السجن الحربي" حاول ان يحتج: مين عاكف، أنا معرفش حد بالاسم ده.. لكن الضابط المدرب واصل: في السجن الحربي رفاق كثيرون زكي مراد – محمد شطا – يوسف حلمي – أبوبكر حمدي سيف النصر – محمد خليل قاسم – ألبير أربيه – حليم طوسون – مصطفى كمال صدقي .. تملل الفلاح الماكر قال: لا أعرف أحداً من هؤلاء. صمم الضابط أن يلقنه ما تبقى من معلومات، بعض المقبوض عليهم إعترف عليك.. إستعد، الوضع في السجن الحربي وحش). ( الكتاب ص 22)

لم يكمل الضيف المشوار فقد استأذن ونزل في المحطة القادمة ( بعد فترة التقيا معاً في السجن.. ليس مسجوناً وسجاناً وإنما مسجونين. كان الضابط شيوعياً هو الرفيق يوسف صبري وكان في ذلك الحين مأمور مركز بوش محافظة بني سويف. فيما بعد عمل صحفياً في روز اليوسف). (الكتاب ص23).

ثم يحدثنا رفعت السعيد عن الزنزانة واصفاً اياها بالمظلمة ويصف لنا طعام المساجين واشكال التعذيب القاسي المستمر الذي تعرض له العمدة أحمد الرفاعي والتعذيب النفسي بشأن اعدامه والتحقيقات التي لا تمل ادارة السجن ان تجريها معه. هذا غير موقف جماعة الإخوان - التي كانت بالسجن ايضاً – من الشيوعيين ( .. الشيخ فرغلي مفتي الإخوان أفتى بأن الشيوعيين رجس وأنه لا يجوز محادثتهم ولا ملامستهم لكن البعض بدأ الحوار. كانت مشكلة الإخوان: هل أنتم مع جمال أم مع نجيب. وإذ يجيب الشيوعيين: نحن مع حكم ديمقراطي. تبدو اللغة غير متسقة ويستحيل التفاهم) ( الكتاب ص 24).

تتواصل معارك احمد الرفاعي ورفاقه في سبيل التحول الديمقراطي ويتواصل هروبه من الاعتقال كلما ( أحس باتجاه الريح ) حتى يحل العام الميلادي الجديد (1956م) حيث كلفة قيادة الحزب احمد الرفاعي ليقود مقاومة أهل بورسعيد للاحتلال في مبادرة هي الأولى من نوعياً للمواجهة الشعبية للاحتلال.

يذكر رفعت السعيد عدداً من الاسماء الخالدة التي قاومت المستعمر في بورسعيد واستميح القراء ان انقل الفقرة بحذافيرها فمن حقهم ان تخلد اسماؤهم : ( وتلمع في الذاكرة الأسماء التي سطعت في سماء نضال بورسعيد ضد الاحتلال الشيخ عبد السلام الخشان – الضابط منير موافي – ابراهيم هاجوج – سعد رحمي – عبد المنعم شتله – فتحي مجاهد – عبد المنعم القصاص – محسن لطفي السيد – وغيرهم .. ثم ضباط من رجال عبد الناصر – عبد الفتاح أبو الفضل – صلاح زعزوع – سمير هريدى ..
واسم أكثر سطوعا من هؤلاء " خالتي أم الضوي " التي افترشت بجسدها الكهل مساحة على حافة البحيرة خدعت الإنجليز ومخابراتهم وكانت في عشتها الصغيرة التي يحيط بها عشرات من البط مرصداً ومحطاً للدخول والخروج من بورسعيد). ( الكتاب ص 25)

ثم يحدثنا رفعت السعيد عن اسهامات العمدة احمد الرفاعي في كل ذلك من مقاومة شعبية مسلحة، اصدار مجلة "الانتصار"، التظاهرات الصاخبة ضد الاحتلال، العمل المشترك بين الشيوعيين ورجال عبد الناصر تحت وطأة الاحتلال. ولكن حادثة بعينها تستوقف السعيد ليذكرها بشيء من التفصيل: ( فقط واقعة واحدة تبقى لتلح في أن تسجل.. كان أحمد الرفاعي ينام في مخبأ سري في بورسعيد. ذات ليلة أتاه ضابط مخابرات مصري ومعه حقيبة مليئة بالأموال. سأل: لماذا؟ الاجابة: لتصرف منها. قال لسنا بحاجة إلى أموال من القاهرة فالناس هنا في بورسعيد تعطينا من خبزها ما نريد). ( الكتاب ص26)

جراء ما حدث بالفقرة أعلاه يسجن الرفاعي ورفاقه ويكون التعذيب والسجن لمدة ثمانية سنوات متواصلة. ولكن بعض انقضائها يبسم القدر للعمدة احمد الرفاعي ( .. ويخرج لينغمس في عمل نقابي مبهر، سريعاً يصبح رئيساً لنقابة عمال الزراعة لرئيس الاتحاد العام للعمال. وسريعاً يقررون التخلص منه فيصدر تعديل للقانون يعلن شروط توافر صفة العامل ليحرم منها أحمد الرفاعي ومن ثم يحرم من المادة ترشيح نفسه .. العمال يسمون القانون "قانون أحمد الرفاعي"
وتمضي سنوات أخرى .. يقضي بعضها منها في عدن ليصبح هناك أيضاً – ويا الدهشة – عمدة يرمقه الجميع باحترام .. وبشدة الحنين إلى الأرض .. النبات.
ويعود من جديد فلاحاً يستصلح لمصر بعضاً من ترابها لينبت فيه ما يفيد الناس. الناس الذين وهبوه القدرة على التمسك بمحبتهم .. ووهبهم هو كل شيء). ( الكتاب ص 26).

انتهت افادة دكتور رفعت السعيد التي حاولت كثيراً ان اتفادى نقلها بحذافيرها وأظنني لم انجح في ذلك كثيراً حيث ان لغة رفعت السعيد لشدة جمالها فهي أشبه بالرمال المتحركة التي كلما حاولت ان تخرج منها زدت انغماسها فيها. ونفس هذا الشيء ينطبق على لغة دكتور شريف حتاتة، الذي تجاور افادته إفادة رفعت السعيد في كتاب ( أحمد الرفاعي .. يساري متميز ) الذي هو محور هذه المقالات.

من مذكرات شريف حتاتة التي عنونها بنوافذ مفتوحة ومن جزئها الثاني الصادر عن ذات الدار ولكن بتاريخ متأخر (1992م) تنتزع تسعة اوراق تحمل عنوان ( نوافذ مفتوحة ) يتحدث فيها الكاتب عن ذكرياته مع العمدة، فيبدأ مقاله او لعلها مذكراته بمشهد قيادته لسيارة في شوارع القاهرة وبرفقته سيدة ( تتدفق حيوية في الكلمات، وبريق العينين السوداوين، وحركة الأصابع المتوترة حول حقيبة اليد الجلدية الكبيرة تعلقها على الكتف). ( الكتاب ص27).

وتتسع رفقة الطريق ( .. وفجأة المحه هو بقامته الطويلة تخطو بخطوة بطيئة فيها اعتداد. لا تتفادى الناس ولا تصطدم بهم كأنه جزء من الحياة مرفوع على تيارها سائر، وسهل. أوقفت السيارة بالقرب منه وسألت:
" يا أحمد رايح فين؟ "
التفت. نظر إلي، وإليها ثم قال:
" أهلا شريف. إزيك. إزيك؟"
عيناه العسليتان فيها ذلك الشعاع من الضوء لا يغادرهما إلا نادرا. كأن لديه مصدرا يشع دفئاً وسعادة في داخله.
قلت:
" ما تركب، يا أحمد .. "الدكتورة نوال السعداوي". " الاستاذ أحمد الرفاعي".
قال:
" أهلا وسهلا" وركب خلفنا.
قدت السيارة. أسمعه يتحدث إليها واسمعها ترد عليه. يتحدثان بيسر كأنهما يعرفنا بعضهما منذ زمن. تسأله، ويسأله ) ( احمد الرفاعي .. يساري متميز - ص 28)

اتوقف ها هنا واترك ابطال قصة شريف حتاته يتجاذبون اطراف الحديث، على أن اواصل لاحقاً بإذن الله في الجزئية الثالثة من مقالي عن العمدة أحمد الرفاعي.
التفاعلات: نقوس المهدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...