منذ أصبت بالسكري ما عدت آكل التين بلا حساب. صرت أشتري الكيلو وأتناول منه حبة أو اثنتين أو ثلاث حبات يوميا، ومنذ استدللت على شجرة تين جارنا "أبو رياض " كففت عن شراء التين. الشجرة مزروعة قرب بيت الجار، ومن يقف أمامها لا يسبب حرجا لنفسه ولا ل "أبو رياض"،فهي في الشارع العام قرب سور المدرسة، ومع ذلك يظل المرء يتحسب ولا بد من استشارة الرجل وأخذ الأذن منه، حتى لا يعد مد اليد سرقة أو اعتداء على حرمة البيت،على الرغم من أننا علمنا الأخلاق الإسلامية التي تجيز لنا تناول الثمار ،من الحقل، لأكلها ولكن لا لأخذها معنا.
أبو رياض سائق سيارة عمومي حسن المعشر ،وأنت إلى جانبه تحدثه ويحدثك بهدوء.
وأنا ألتقط حبات التين عن الشجرة تساءلت: وماذا إن رآني الرجل؟ هل يعد ما أفعله اعتداء على حرمة بيته؟ وما خشيته حدث، فقد أبصرني الرجل وأمسكني بالجرم المشهود.
سألت أبا رياض: أيجوز لي التقاط حبات التين عن الشجرة؟
ابتسم الرجل وقال لي: لقد زرعتها لأجل روح أمي صدقة جارية، فترحمت على روح أمه وحمدت الله أنني نجوت من الذهاب إلى مركز الشرطة أو التعزير، وكنا في صغرنا نذهب إلى حقول القمح المجاورة باحثين عن "السيبعة" غير آبهين لتخريب الحقل والقمح، فإذا ما رآنا الحارس لحق بنا وسلم منا من ألقى القبض عليه إلى مخفر الشرطة في المخيم.
ذكرتني شجرة أبي رياض بقصيدة الشاعر ايليا ابو ماضي "التينة الحمقاء "،وهي قصيدة كانت مقررة في المنهاج المدرسي منذ عقود. والقصيدة قصيرة وذات دلالة رمزية يقولها البيت الأخير:
"من ليس يسخو بما تسخو الحياة به
فإنه أحمق بالحرص ينتحر"
ولم تسخ التينة،خلافا لتينة "أبو رياض "، فقد رأت أنها تعطي الثمار وتجود بها، وأن غيرها يستفيد منها ويستمتع بثمارها وجمالها، وتقرر ألا تثمر وألا تونع إلا بمقدار يعود عليها هي فقط ولا يعود بفائدة على الآخرين، وهكذا ظلت التينة جرداء عارية بلا ثمر، ما ازعج صاحب البستان، فقرر اجتثاثها من جذورها.
وثمة فرق واضح بين منطق "أبو رياض" ورؤية التينة؛ تينة الرجل جلبت الرحمة لأمه والتينة الحمقاء حكمت على نفسها بالموت، وكل يوم أترحم على والدة " أبو رياض ".
التينة قادتني شخصيا إلى التفكير بهذه الفاكهة التي تعد في فصل الصيف نفطا لزارعيها، فأسعار التين جيدة ولن أنسى طالبي فؤاد ابن قرية تل الذي أخبرني، حين سألته عن سبب تغيبه عن بعض المحاضرات، أنه يبيع التين ليحصل على مصروفه واقساطه الجامعية.
في القرآن الكريم ورد ذكر التين مع الزيتون (والتين والزيتون ) وسبق التين الزيتون، ما يعني أن التين ،للمسلمين، فاكهة مقدسة .
وكان الشاعر عبد اللطيف عقل ابن ديراستيا اكثر من ذكر التين في قصائده، ويحتفل أهل قرية تل قرب نابلس بموسم التين، وأصدر أحد أبناء القرية كتابا عن الشجرة.-نشرت صحيفة الأيام الفلسطينية يوم الجمعة 10 آب تقريرا عن موسم التين هذا العام-
وأنا ألتقط حبات التين عن الشجرة أعود إلى الطفولة وحقول التين قرب مخيم عسكر، وأتذكر عادات الناس في الزواج.
يأتي أهل العريس بورقة تين خضراء وقطعة عجين ويلصقونها على باب بيت العريس، لتكون العروس حلة خضراء وليكون زواجهما أبديا،فالناس يتفاءلون إن لصقت التينة والعجينة بأعلى الباب/ المدخل لفترة طويلة .
قرب مخيم عسكر القديم، قبل خمسين عاما، كان هناك كرما تين، كرم أم محمود وكرم آخر بين المخيم وقرية عسكر، وغالبا ما كان أهل المخيم يذهبون في نزهة إلى كرم أم محمود ،وغالبا ما كنا نسطو على الكرم الفاصل بين المخيم والقرية، والويل لنا إن ضبطنا. أيام! كانت تلك الأيام أيام شقاءحقا،ولكنا كنا كالطير لنا من أشجار الكرم نصيب، وكنا راضين بأن يكون نصيبنا كنصيب الطير، حتى قبل أن نقرأ قصيدة مظفر النواب "ثلاث أمنيات على بوابة السنة الجديدة "وفيها يتمنى الشاعر أن يكون نصيبه كنصيب الطير .
في الأدب الفلسطيني للتين حضور أيضا، وكما ورد في شعر عبد اللطيف عقل فقد حضر في أعمال روائية وهنا أشير إلى روايتي سامية عيسى "حليب التين "2010 و"خلسة في كوبنهاجن"2014 وكلتاهما صدرت عن دار الآداب في بيروت.
تتشكل صورة غلاف "حليب التين "من بيوت مخيم وشجرة تين ووجه فتاة صارخة الجمال، ومن أقام في المخيم قبل 1978 يعرف بيوتا عديدة كانت شجرة التين جزءا منها.
صديقة زوجة الشهيد تدفعها الظروف إلى ترك لبنان للعمل في دبي، وتمارس الرذيلة كرها، وهي في ذروة التحامها بجاسم، قبل أن تندمج معه،تفكر في حليب شجرة التين لتمسح جسدها وتطهره من لزوجة ثقيل الظل. تتمنى لو أنها تقطع الصحراء وتعود عارية "إلى حيث شجرة التين أمام بيت والدتها التي كانت تتفيا بظلالها ساعات الظهيرة وتقطف الأكواز المنداة بالحليب التيني.تمنت لو تذهب إليها، وتمسح بذلك الحليب عينيها واذنيها وأنفها وجسدها ولسانها بحيث تفقد بصرها وسمعها وقدرتها على تنشق رائحة اللزوجة....رغبت أن تصاب حواسها بالصمم كي تحتمل لزوجة جاسم،ولكن القرف تلبسها ففقدت القدرة على التركيز في إرسال روحها بعيدا كي تظل نقية معفاة من الثقل".
في "خلسة في كوبنهاجن " تبدو صورة الغلاف مختلفة. ثلج أبيض، ومبان أقرب إلى البناء الأوروبي، وأشجار تناسب الدنمرك، وشجرة تين تظهر منها ورقة وثلاث حبات تين وجزء من حبة رابعة.هل ثمة تين في الدنمرك؟
تحلم والدة الشهداء المهاجرة من مخيمات بيروت، بعد 1987، إلى الدنمارك، لتعيش مع أحفادها بشجرة تين تغطي الدنمارك كلها، وتزرع شجرة تين هناك، فهل ستنمو الشجرة في بيئة دولة اسكندنافية مختلفة عن البيئة المعهودة لشجر التين؟والأمر لا يخلو من مدلول رمزي. هل يمكن أن يعيش الفلسطيني في بيئة غربية وينجح فيها أم أنه سيكون عالة ومعتلا وفاشلا؟ "لأننا لا نستطيع أن نقبل بألا نعود وإلا سنصبح مثل شجرة التين التي زرعتها جدتي لكنها لن تكبر لتطرح الثمار أو ترشح الحليب الذي يشتت قدرتنا على الرؤية "و"الناس كمان مثل الشجر إذا بتزرعيهم بغير تربتهم اللي متعودين عليها بيموتوا أو ما بيكبروا. شوفي تينة ستي اللي جابتها معها. بحسها مرا عم تتعذب.حتى لو حطيتلها ضو يدفيها أو غطيتيها بالنايلون حتى ما تبرد، وحتى لو سهرت ستي عليها ليل نهار. شوفيها. بتعيش بس مش عم تكبر. بصراحة بشفق عليها. الشجر مثل البشر. هيك ستي بتقول ".
ولعلني يجب أن أعود إلى روايتي سامية عيسى ثانية وثالثة.
(والتين والزيتون وطور سنين و هذا البلد الأمين)و"إن نزل التين فش عجين ".
الجمعة صباحا 10 آب 2018.
- من صفحة الكاتب على الفيسبوك
أبو رياض سائق سيارة عمومي حسن المعشر ،وأنت إلى جانبه تحدثه ويحدثك بهدوء.
وأنا ألتقط حبات التين عن الشجرة تساءلت: وماذا إن رآني الرجل؟ هل يعد ما أفعله اعتداء على حرمة بيته؟ وما خشيته حدث، فقد أبصرني الرجل وأمسكني بالجرم المشهود.
سألت أبا رياض: أيجوز لي التقاط حبات التين عن الشجرة؟
ابتسم الرجل وقال لي: لقد زرعتها لأجل روح أمي صدقة جارية، فترحمت على روح أمه وحمدت الله أنني نجوت من الذهاب إلى مركز الشرطة أو التعزير، وكنا في صغرنا نذهب إلى حقول القمح المجاورة باحثين عن "السيبعة" غير آبهين لتخريب الحقل والقمح، فإذا ما رآنا الحارس لحق بنا وسلم منا من ألقى القبض عليه إلى مخفر الشرطة في المخيم.
ذكرتني شجرة أبي رياض بقصيدة الشاعر ايليا ابو ماضي "التينة الحمقاء "،وهي قصيدة كانت مقررة في المنهاج المدرسي منذ عقود. والقصيدة قصيرة وذات دلالة رمزية يقولها البيت الأخير:
"من ليس يسخو بما تسخو الحياة به
فإنه أحمق بالحرص ينتحر"
ولم تسخ التينة،خلافا لتينة "أبو رياض "، فقد رأت أنها تعطي الثمار وتجود بها، وأن غيرها يستفيد منها ويستمتع بثمارها وجمالها، وتقرر ألا تثمر وألا تونع إلا بمقدار يعود عليها هي فقط ولا يعود بفائدة على الآخرين، وهكذا ظلت التينة جرداء عارية بلا ثمر، ما ازعج صاحب البستان، فقرر اجتثاثها من جذورها.
وثمة فرق واضح بين منطق "أبو رياض" ورؤية التينة؛ تينة الرجل جلبت الرحمة لأمه والتينة الحمقاء حكمت على نفسها بالموت، وكل يوم أترحم على والدة " أبو رياض ".
التينة قادتني شخصيا إلى التفكير بهذه الفاكهة التي تعد في فصل الصيف نفطا لزارعيها، فأسعار التين جيدة ولن أنسى طالبي فؤاد ابن قرية تل الذي أخبرني، حين سألته عن سبب تغيبه عن بعض المحاضرات، أنه يبيع التين ليحصل على مصروفه واقساطه الجامعية.
في القرآن الكريم ورد ذكر التين مع الزيتون (والتين والزيتون ) وسبق التين الزيتون، ما يعني أن التين ،للمسلمين، فاكهة مقدسة .
وكان الشاعر عبد اللطيف عقل ابن ديراستيا اكثر من ذكر التين في قصائده، ويحتفل أهل قرية تل قرب نابلس بموسم التين، وأصدر أحد أبناء القرية كتابا عن الشجرة.-نشرت صحيفة الأيام الفلسطينية يوم الجمعة 10 آب تقريرا عن موسم التين هذا العام-
وأنا ألتقط حبات التين عن الشجرة أعود إلى الطفولة وحقول التين قرب مخيم عسكر، وأتذكر عادات الناس في الزواج.
يأتي أهل العريس بورقة تين خضراء وقطعة عجين ويلصقونها على باب بيت العريس، لتكون العروس حلة خضراء وليكون زواجهما أبديا،فالناس يتفاءلون إن لصقت التينة والعجينة بأعلى الباب/ المدخل لفترة طويلة .
قرب مخيم عسكر القديم، قبل خمسين عاما، كان هناك كرما تين، كرم أم محمود وكرم آخر بين المخيم وقرية عسكر، وغالبا ما كان أهل المخيم يذهبون في نزهة إلى كرم أم محمود ،وغالبا ما كنا نسطو على الكرم الفاصل بين المخيم والقرية، والويل لنا إن ضبطنا. أيام! كانت تلك الأيام أيام شقاءحقا،ولكنا كنا كالطير لنا من أشجار الكرم نصيب، وكنا راضين بأن يكون نصيبنا كنصيب الطير، حتى قبل أن نقرأ قصيدة مظفر النواب "ثلاث أمنيات على بوابة السنة الجديدة "وفيها يتمنى الشاعر أن يكون نصيبه كنصيب الطير .
في الأدب الفلسطيني للتين حضور أيضا، وكما ورد في شعر عبد اللطيف عقل فقد حضر في أعمال روائية وهنا أشير إلى روايتي سامية عيسى "حليب التين "2010 و"خلسة في كوبنهاجن"2014 وكلتاهما صدرت عن دار الآداب في بيروت.
تتشكل صورة غلاف "حليب التين "من بيوت مخيم وشجرة تين ووجه فتاة صارخة الجمال، ومن أقام في المخيم قبل 1978 يعرف بيوتا عديدة كانت شجرة التين جزءا منها.
صديقة زوجة الشهيد تدفعها الظروف إلى ترك لبنان للعمل في دبي، وتمارس الرذيلة كرها، وهي في ذروة التحامها بجاسم، قبل أن تندمج معه،تفكر في حليب شجرة التين لتمسح جسدها وتطهره من لزوجة ثقيل الظل. تتمنى لو أنها تقطع الصحراء وتعود عارية "إلى حيث شجرة التين أمام بيت والدتها التي كانت تتفيا بظلالها ساعات الظهيرة وتقطف الأكواز المنداة بالحليب التيني.تمنت لو تذهب إليها، وتمسح بذلك الحليب عينيها واذنيها وأنفها وجسدها ولسانها بحيث تفقد بصرها وسمعها وقدرتها على تنشق رائحة اللزوجة....رغبت أن تصاب حواسها بالصمم كي تحتمل لزوجة جاسم،ولكن القرف تلبسها ففقدت القدرة على التركيز في إرسال روحها بعيدا كي تظل نقية معفاة من الثقل".
في "خلسة في كوبنهاجن " تبدو صورة الغلاف مختلفة. ثلج أبيض، ومبان أقرب إلى البناء الأوروبي، وأشجار تناسب الدنمرك، وشجرة تين تظهر منها ورقة وثلاث حبات تين وجزء من حبة رابعة.هل ثمة تين في الدنمرك؟
تحلم والدة الشهداء المهاجرة من مخيمات بيروت، بعد 1987، إلى الدنمارك، لتعيش مع أحفادها بشجرة تين تغطي الدنمارك كلها، وتزرع شجرة تين هناك، فهل ستنمو الشجرة في بيئة دولة اسكندنافية مختلفة عن البيئة المعهودة لشجر التين؟والأمر لا يخلو من مدلول رمزي. هل يمكن أن يعيش الفلسطيني في بيئة غربية وينجح فيها أم أنه سيكون عالة ومعتلا وفاشلا؟ "لأننا لا نستطيع أن نقبل بألا نعود وإلا سنصبح مثل شجرة التين التي زرعتها جدتي لكنها لن تكبر لتطرح الثمار أو ترشح الحليب الذي يشتت قدرتنا على الرؤية "و"الناس كمان مثل الشجر إذا بتزرعيهم بغير تربتهم اللي متعودين عليها بيموتوا أو ما بيكبروا. شوفي تينة ستي اللي جابتها معها. بحسها مرا عم تتعذب.حتى لو حطيتلها ضو يدفيها أو غطيتيها بالنايلون حتى ما تبرد، وحتى لو سهرت ستي عليها ليل نهار. شوفيها. بتعيش بس مش عم تكبر. بصراحة بشفق عليها. الشجر مثل البشر. هيك ستي بتقول ".
ولعلني يجب أن أعود إلى روايتي سامية عيسى ثانية وثالثة.
(والتين والزيتون وطور سنين و هذا البلد الأمين)و"إن نزل التين فش عجين ".
الجمعة صباحا 10 آب 2018.
- من صفحة الكاتب على الفيسبوك