قبل أن يعتدل خليل في سريره الحديدي القديم، تثاءب، ثمّ تمطى.. ودار بعينيه في أرجاء الغرفة المستطيلة التي تضمّ أفراد العائلة.
كان أبوه جالساً قرب النافذة الخشبية ببجيامته المخططة المهترئة عند الركبة، وقرب الدكة كان أخوته الصغار قد تجمعوا بشكل غير منتظم حول صينية الألمنيوم وعليها صحن كبير من الفول، وكانت أصواتهم خفيضة مخنوقة لا تتوافق وضجيجهم المعهود.. أما أمه فكانت في أقصى الغرفة واقفة تصلي بخشوع.
وسعل أبوه، وكان ذلك كافياً ليذهب عن خليل آخر أثر للخمول الذي بدأ يودع جفنيه بعد سبع ساعات، من النوم متخمة بأحلام سعيدة مختلطة ببعضها بعضاً في دوامة دافئة..
ترك السرير إلى الحائط الأيسر حيث نزع ورقة من التقويم المعلق فبدا أمامه رقمان أسودان يقفان بزهو واعتداد 24 تشرين أول.. هذا هو اليوم الموعود..
بعد شهر من هذا التاريخ سيقبض من المعارف راتباً محترماً يضمن لهذه الأسرة المكومة في الغرفة المستطيلة عيشة أحسن..
وانفتل إلى الخزانة القديمة فأخرج منها بذلته اليتيمة وضعها على الدكّة وراح يزيل عنها البقع بمحلول البنزين لتبدو لائقة بالوظيفة الجديدة.. وكان يفكر بالسعادة لقد عين معلماً في وزارة المعارف براتب يساوي ضعف الذي كان يدفع له في المدرسة الأهلية التي علم فيها طيلة العام الدراسي الماضي.
كان يعلم تلاميذ أكثر الصفوف، ولا ساعة فراغ.. أما الآن، فلن يشكو مثل ذلك الحرمان أن رواتب المعارف جيدة، خاصة بعد أن شملها (مشروع الترفيه).. ومن يعلم.. ربما زادت عما هي عليه الآن...
وابتسم خليل من أعماقه بسعادة كبيرة.. لقد ظل طيلة الصيف يعمل في (المصالح)، يعدُّ أكياس الحنطة والشعير ويركض خلف الحصادة ليل نهار، ولم يقبض سوى ربع الأجر الموعود به، أما السبب فلأن الموسم لم يدر كما كان يتصور المزارعون..
وقد حاول خليل بالاتفاق مع والدته أن يتحايلا على المبلغ الذي قبضه بشتى طرق التقنين ليتدبرا بها أمور معيشتهم خاصة وأن (عبود)، الولد الأوسط للأسرة، سيذهب إلى المدرسة بعد أيام وسيحرم البيت من الليرات التي يقبضها مساء كل يوم من الفران الذي يشتغل عنده…
انقضى الصيف وظهر مع انقضائه أمل جديد.. فقد قرأ خليل في مديرية المعارف إعلاناً عن حاجة المديرية إلى معلمين يحملون شهادة الدراسة الثانوية على أن ينجحوا في فحص "الانتقاء" وطار يومئذٍ إلى البيت ينقل الخبر.. إنها فرصة طيبة فلماذا لا يغتنمها؟ وأسرع بتقديم الأوراق الثبوتية ثمّ جاء موعد الفحص، وكان عليه أن يسافر إلى مركز المحافظة ليقف أمام اللجنة الفاحصة التي تقرر المصير.
وقد أجاد في الامتحان التحريري ثمّ تقدم إلى الامتحان الشفوي، ولم يتوقع أبداً أن توجه إليه أسئلة ثلاثة سهلة بهذا الشكل، الأول كان عن عدد أزرار قميصه، والثاني عن ألوان أحد الأعلام العربية.. والثالث عن الأسبقية في الوجود بين دولتي سبأ وحمير.. ونجح في الإجابة على الجميع بدرجة جيدة ثمّ عاد إلى بلدته ينتظر يوم 27 أيلول ليذهب إلى مديرية المعارف ويتسلم قرار تعيينه في إحدى مدارس البلدة.. أجل، إنه لن يعين في غير البلدة نفسها، لقد كان أول الناجحين ، ومدير المعارف سيقدر ذلك ويعينه في أحسن مدرسة بالبلدة، ثمّ أن صديقه "نايف" الذي يعمل في مديرية المعارف، وعده بأن سيحكي في القصة.
كان خليل قد انتهى من تنظيف بذلته فطواها باعتناء ووضعها على الفراش ريثما يزيل لحيته ثمّ أتى بماكنة الحلاقة وانهمك في (تنعيم) وجهه وصور من العام الماضي تتراءى أما مخيلته، تذكر كيف أخطأ مرة في درس التاريخ، فقال للتلاميذ عندما كان يشرح لهم احتلال فرنسا للمغرب بالعربي قال لهم أن الجزائر اشترت قمحاً من فرنسة، وماطلت في دفع الثمن حتى ثار (الداي) وضرب السفير الفرنسي بالمروحة مع أن فرنسا هي التي اشترت القمح من الجزائر.
وانداح بتفكيره يتصور حالته في تلك المدرسة الأهلية: تلاميذ كثيرون في الباحة، أصوات، وصخب وضجيج… جرس يدق.. التلاميذ يدخلون الصفوف.. اللوح الأسود غبار كثير يثيره مسح اللوح.. الحوار الأبيض والملون..درس احتلال بريطانيا لطرابلس الغرب.. أصوات.. ضجة في الصف.. يصيح: سكوت.. لا أحد يسمع.. العصا تسكت الجميع.. ويبدأ الدرس حتى نهايته إذ يقول: .. وظل عمر المختار يحارب الإيطاليين مدة طويلة، وكان عمره ثمانين عاماً ـ حتى وقع في أيديهم أخيراً فأعدموه، ولم يكتفوا بذلك بل كانوا يصعدون الطرابلسيين الأحرار في الطائرات إلى الجو ثمّ يرمون بهم في البحر.
وتشهق إحدى التلميذات مشفقة.. ويصيح تلميذ متحمس: وحوش.. وتثور ضجة أخرى في الصف ثمّ يرن الجرس معلناً انتهاء حصة التاريخ..
أما في آخر الشهر فقد كان يتسلم مرتبه الهزيل من مدير المدرسة العجوز، ويوقع بالاستلام ثمّ يخرج في العصر من المدرسة ويتوجه فوراً إلى غريمه أبي حمدي بائع النوفوتيه ليعطيه بعض ماله ويعقد معه هدنة مؤقتة، ويعرج بعد ذلك على موسى الخياط صاحب العينين الرطبتين اللتين بلون الوحل، فيعطيه قسط البذلة التي خاطها له.. أما الحلاق ـ كان آنذاك يحلق في الصالون ـ فكان يدفع له الحساب قبل أن يجلس على الكرسي خوفاً من أن تنقم يده فيسحب الموس على وجهه الناعم بغضب… ويغادر خليل صالون الحلاقة إلى البيت ليرمي بما تبقى من الراتب بين يدي والديه بعد أن يقدم لهما تقريراً شفوياً مفصلاً عن الكمية التي صرفها منها..
إلى هنا… انتهى خليل من إزالة لحيته.. فنهض إلى المغسلة وهو يخاطب نفسه صامتاً: في هذه السنة لن تتكرر هذه الأشياء سأنتبه كثيراً عندما أشرح للتلاميذ أسباب دخول فرنسا إلى الجزائر.. وفي نهاية الشهر سأذهب بنفسي إلى مديرية المعارف وأقبض راتبي من المحاسب… وسيضمن لنا الراتب عيشة أحسن.
واغتسل جيداً، ثمّ عاد فوقف أمام المرأة الكبيرة المكسورة الطرفين، فسرح شعره جيداُ، ثمّ ارتدى البذلة وراح ينظر في المرآة بارتياح.. وفجأة برق في ذهنه خاطر لطيف جعل فمه يفتر عن ابتسامة وهو يحاول أن يحبس ضحكة سعيدة.
ولا يعرف خليل لماذا تذكر كلمات صديقه أحمد الذي كان معلماً من قبل المعارف في قرية "طالعة"،.. حدثه عن السقوف المقعرة، والجدران المتآكلة، والبيوت الطينية التي تشبه القبور، وعن انقطاع المواصلات بينها وبين المدينة أكثر أيام الشتاء حتى أن مفتش المعارف لا يزورها إلا مرة أومرتين طيلة السنة الدراسية ثمّ حدثه عن المدرسة التي هي غرفة واحدة ثمّ وصف له كيف تصبح هذه الغرفة مستنقعاً في الشتاء بعد أن يدلف إليها من الشقوق كل ما تصبه السماء من ماء على سطحها.. ثمّ البركة الطينية التي قرب المدرسة حيث تلعب فيها الجراثيم دورها بكل إتقان وخاصة جراثيم الملاريا الخبيثة التي تهد جسم الإنسان.. وحدثه أيضاً عن الضبع الذي يحوم حول البيوت ليلاً، وعن الذئاب الجائعة التي تهاجم زرائب الأغنام، ولم ينس أن يشرح له بالتفصيل ما عانى من عادات أهل تلك القرية.
وتنبه خليل من أفكاره فتعوذ من الشيطان، ومن كل القرى وخاصة "طالعة".. وبعد أن طرد هذه الأفكار السود من ذهنه عاد إلى حاضره الذي بدأ يستعد لاستقبال السعادة.. ودعته أمه ليصب شيئاً من الفول فلم يفعل، لقد قاربت الساعة الثامنة، ويجب أن يسارع إلىمديرية المعارف في الموعد المحدد ونظر نظرة أخيرة إلى هندامه، وسوى رباط عنقه ثمّ خرج من الدار فتلقفه زقاق ضيق انتهى به إلى الشارع العام، فسار وقلبه يرقص بسعادة في صدره حتى أنه أصبح يود أن يشرح فرحته لكل هذه المخلوقات الآدمية التي يعج بها الشارع الكبير.
ومرّ به بعض التلاميذ الصغار بمراييلهم السود في طريقهم إلى المدرسة، فنظر إليهم وابتسم بغبطة.. من يدري.. ربما سيكون هؤلاء الصغار من عداد تلاميذ المدرسة التي سيعين فيها.
ووصل مديرية المعارف أخيراً فنظر نظرة أخيرة إلى ساعته وهندامه، ثمّ طرق باب المدير ودخل يقدم نفسه، فقال المدير:
ـ أنت خليل خميس؟
ـ نعم..
ـ كنت أود أن أُعينك في المدينة، لكن إشعاراً جاءنا من الوزارة يمنعنا أن نعين في المدن غير المتخرجين من دار المعلمين.. على كل حال لقد اخترت لك قرية من أفضل قرى المحافظة ثمّ أنك في القرية لن تحتاج إلى مصاريف كثيرة، وتستطيع بذلك أن توفر أكثر راتبك. وقدم له المدير قرار تعيينه، وعندما تناوله خليل لطمت وجهه في "خانة" مكان التعيين كلمة كبيرة راحت تتراقص أمام عينيه بتلاعب خبيث.
وبعد يومين، كان خليل يشيع جنازة أحلامه في سيارة شحن كبيرة إلى قرية "طالعة"..
كان أبوه جالساً قرب النافذة الخشبية ببجيامته المخططة المهترئة عند الركبة، وقرب الدكة كان أخوته الصغار قد تجمعوا بشكل غير منتظم حول صينية الألمنيوم وعليها صحن كبير من الفول، وكانت أصواتهم خفيضة مخنوقة لا تتوافق وضجيجهم المعهود.. أما أمه فكانت في أقصى الغرفة واقفة تصلي بخشوع.
وسعل أبوه، وكان ذلك كافياً ليذهب عن خليل آخر أثر للخمول الذي بدأ يودع جفنيه بعد سبع ساعات، من النوم متخمة بأحلام سعيدة مختلطة ببعضها بعضاً في دوامة دافئة..
ترك السرير إلى الحائط الأيسر حيث نزع ورقة من التقويم المعلق فبدا أمامه رقمان أسودان يقفان بزهو واعتداد 24 تشرين أول.. هذا هو اليوم الموعود..
بعد شهر من هذا التاريخ سيقبض من المعارف راتباً محترماً يضمن لهذه الأسرة المكومة في الغرفة المستطيلة عيشة أحسن..
وانفتل إلى الخزانة القديمة فأخرج منها بذلته اليتيمة وضعها على الدكّة وراح يزيل عنها البقع بمحلول البنزين لتبدو لائقة بالوظيفة الجديدة.. وكان يفكر بالسعادة لقد عين معلماً في وزارة المعارف براتب يساوي ضعف الذي كان يدفع له في المدرسة الأهلية التي علم فيها طيلة العام الدراسي الماضي.
كان يعلم تلاميذ أكثر الصفوف، ولا ساعة فراغ.. أما الآن، فلن يشكو مثل ذلك الحرمان أن رواتب المعارف جيدة، خاصة بعد أن شملها (مشروع الترفيه).. ومن يعلم.. ربما زادت عما هي عليه الآن...
وابتسم خليل من أعماقه بسعادة كبيرة.. لقد ظل طيلة الصيف يعمل في (المصالح)، يعدُّ أكياس الحنطة والشعير ويركض خلف الحصادة ليل نهار، ولم يقبض سوى ربع الأجر الموعود به، أما السبب فلأن الموسم لم يدر كما كان يتصور المزارعون..
وقد حاول خليل بالاتفاق مع والدته أن يتحايلا على المبلغ الذي قبضه بشتى طرق التقنين ليتدبرا بها أمور معيشتهم خاصة وأن (عبود)، الولد الأوسط للأسرة، سيذهب إلى المدرسة بعد أيام وسيحرم البيت من الليرات التي يقبضها مساء كل يوم من الفران الذي يشتغل عنده…
انقضى الصيف وظهر مع انقضائه أمل جديد.. فقد قرأ خليل في مديرية المعارف إعلاناً عن حاجة المديرية إلى معلمين يحملون شهادة الدراسة الثانوية على أن ينجحوا في فحص "الانتقاء" وطار يومئذٍ إلى البيت ينقل الخبر.. إنها فرصة طيبة فلماذا لا يغتنمها؟ وأسرع بتقديم الأوراق الثبوتية ثمّ جاء موعد الفحص، وكان عليه أن يسافر إلى مركز المحافظة ليقف أمام اللجنة الفاحصة التي تقرر المصير.
وقد أجاد في الامتحان التحريري ثمّ تقدم إلى الامتحان الشفوي، ولم يتوقع أبداً أن توجه إليه أسئلة ثلاثة سهلة بهذا الشكل، الأول كان عن عدد أزرار قميصه، والثاني عن ألوان أحد الأعلام العربية.. والثالث عن الأسبقية في الوجود بين دولتي سبأ وحمير.. ونجح في الإجابة على الجميع بدرجة جيدة ثمّ عاد إلى بلدته ينتظر يوم 27 أيلول ليذهب إلى مديرية المعارف ويتسلم قرار تعيينه في إحدى مدارس البلدة.. أجل، إنه لن يعين في غير البلدة نفسها، لقد كان أول الناجحين ، ومدير المعارف سيقدر ذلك ويعينه في أحسن مدرسة بالبلدة، ثمّ أن صديقه "نايف" الذي يعمل في مديرية المعارف، وعده بأن سيحكي في القصة.
كان خليل قد انتهى من تنظيف بذلته فطواها باعتناء ووضعها على الفراش ريثما يزيل لحيته ثمّ أتى بماكنة الحلاقة وانهمك في (تنعيم) وجهه وصور من العام الماضي تتراءى أما مخيلته، تذكر كيف أخطأ مرة في درس التاريخ، فقال للتلاميذ عندما كان يشرح لهم احتلال فرنسا للمغرب بالعربي قال لهم أن الجزائر اشترت قمحاً من فرنسة، وماطلت في دفع الثمن حتى ثار (الداي) وضرب السفير الفرنسي بالمروحة مع أن فرنسا هي التي اشترت القمح من الجزائر.
وانداح بتفكيره يتصور حالته في تلك المدرسة الأهلية: تلاميذ كثيرون في الباحة، أصوات، وصخب وضجيج… جرس يدق.. التلاميذ يدخلون الصفوف.. اللوح الأسود غبار كثير يثيره مسح اللوح.. الحوار الأبيض والملون..درس احتلال بريطانيا لطرابلس الغرب.. أصوات.. ضجة في الصف.. يصيح: سكوت.. لا أحد يسمع.. العصا تسكت الجميع.. ويبدأ الدرس حتى نهايته إذ يقول: .. وظل عمر المختار يحارب الإيطاليين مدة طويلة، وكان عمره ثمانين عاماً ـ حتى وقع في أيديهم أخيراً فأعدموه، ولم يكتفوا بذلك بل كانوا يصعدون الطرابلسيين الأحرار في الطائرات إلى الجو ثمّ يرمون بهم في البحر.
وتشهق إحدى التلميذات مشفقة.. ويصيح تلميذ متحمس: وحوش.. وتثور ضجة أخرى في الصف ثمّ يرن الجرس معلناً انتهاء حصة التاريخ..
أما في آخر الشهر فقد كان يتسلم مرتبه الهزيل من مدير المدرسة العجوز، ويوقع بالاستلام ثمّ يخرج في العصر من المدرسة ويتوجه فوراً إلى غريمه أبي حمدي بائع النوفوتيه ليعطيه بعض ماله ويعقد معه هدنة مؤقتة، ويعرج بعد ذلك على موسى الخياط صاحب العينين الرطبتين اللتين بلون الوحل، فيعطيه قسط البذلة التي خاطها له.. أما الحلاق ـ كان آنذاك يحلق في الصالون ـ فكان يدفع له الحساب قبل أن يجلس على الكرسي خوفاً من أن تنقم يده فيسحب الموس على وجهه الناعم بغضب… ويغادر خليل صالون الحلاقة إلى البيت ليرمي بما تبقى من الراتب بين يدي والديه بعد أن يقدم لهما تقريراً شفوياً مفصلاً عن الكمية التي صرفها منها..
إلى هنا… انتهى خليل من إزالة لحيته.. فنهض إلى المغسلة وهو يخاطب نفسه صامتاً: في هذه السنة لن تتكرر هذه الأشياء سأنتبه كثيراً عندما أشرح للتلاميذ أسباب دخول فرنسا إلى الجزائر.. وفي نهاية الشهر سأذهب بنفسي إلى مديرية المعارف وأقبض راتبي من المحاسب… وسيضمن لنا الراتب عيشة أحسن.
واغتسل جيداً، ثمّ عاد فوقف أمام المرأة الكبيرة المكسورة الطرفين، فسرح شعره جيداُ، ثمّ ارتدى البذلة وراح ينظر في المرآة بارتياح.. وفجأة برق في ذهنه خاطر لطيف جعل فمه يفتر عن ابتسامة وهو يحاول أن يحبس ضحكة سعيدة.
ولا يعرف خليل لماذا تذكر كلمات صديقه أحمد الذي كان معلماً من قبل المعارف في قرية "طالعة"،.. حدثه عن السقوف المقعرة، والجدران المتآكلة، والبيوت الطينية التي تشبه القبور، وعن انقطاع المواصلات بينها وبين المدينة أكثر أيام الشتاء حتى أن مفتش المعارف لا يزورها إلا مرة أومرتين طيلة السنة الدراسية ثمّ حدثه عن المدرسة التي هي غرفة واحدة ثمّ وصف له كيف تصبح هذه الغرفة مستنقعاً في الشتاء بعد أن يدلف إليها من الشقوق كل ما تصبه السماء من ماء على سطحها.. ثمّ البركة الطينية التي قرب المدرسة حيث تلعب فيها الجراثيم دورها بكل إتقان وخاصة جراثيم الملاريا الخبيثة التي تهد جسم الإنسان.. وحدثه أيضاً عن الضبع الذي يحوم حول البيوت ليلاً، وعن الذئاب الجائعة التي تهاجم زرائب الأغنام، ولم ينس أن يشرح له بالتفصيل ما عانى من عادات أهل تلك القرية.
وتنبه خليل من أفكاره فتعوذ من الشيطان، ومن كل القرى وخاصة "طالعة".. وبعد أن طرد هذه الأفكار السود من ذهنه عاد إلى حاضره الذي بدأ يستعد لاستقبال السعادة.. ودعته أمه ليصب شيئاً من الفول فلم يفعل، لقد قاربت الساعة الثامنة، ويجب أن يسارع إلىمديرية المعارف في الموعد المحدد ونظر نظرة أخيرة إلى هندامه، وسوى رباط عنقه ثمّ خرج من الدار فتلقفه زقاق ضيق انتهى به إلى الشارع العام، فسار وقلبه يرقص بسعادة في صدره حتى أنه أصبح يود أن يشرح فرحته لكل هذه المخلوقات الآدمية التي يعج بها الشارع الكبير.
ومرّ به بعض التلاميذ الصغار بمراييلهم السود في طريقهم إلى المدرسة، فنظر إليهم وابتسم بغبطة.. من يدري.. ربما سيكون هؤلاء الصغار من عداد تلاميذ المدرسة التي سيعين فيها.
ووصل مديرية المعارف أخيراً فنظر نظرة أخيرة إلى ساعته وهندامه، ثمّ طرق باب المدير ودخل يقدم نفسه، فقال المدير:
ـ أنت خليل خميس؟
ـ نعم..
ـ كنت أود أن أُعينك في المدينة، لكن إشعاراً جاءنا من الوزارة يمنعنا أن نعين في المدن غير المتخرجين من دار المعلمين.. على كل حال لقد اخترت لك قرية من أفضل قرى المحافظة ثمّ أنك في القرية لن تحتاج إلى مصاريف كثيرة، وتستطيع بذلك أن توفر أكثر راتبك. وقدم له المدير قرار تعيينه، وعندما تناوله خليل لطمت وجهه في "خانة" مكان التعيين كلمة كبيرة راحت تتراقص أمام عينيه بتلاعب خبيث.
وبعد يومين، كان خليل يشيع جنازة أحلامه في سيارة شحن كبيرة إلى قرية "طالعة"..