ناهد محمد الحسن - (تلك الرائحة…!)..

لطالما كنت أنظر للروائي صنع الله ابراهيم كشخص قادر على إبداع النصوص القصصية ومداخلها كأثرى ما يكون فروايته التي تحمل عنوان (تلك الرائحة)..تقدم تسمية ثرية جدا لنص مختلف… وعنوان كهذا يمكن ان نعتبره نصا قائما بذاته… لقدرته على خلق المناخات المختلفة واستدراج المتأملين الى مخازن ذكرياتهم العصية على البوح… إن سألني احدهم عن اسم للتجارب التي مررت بها هذا العام او هذا الأسبوع بالذات لقلت .. (آه …تلك الرائحة)..! مهاتفة جديدة ,سرقتني لصالح زمن قديم,ذكرياته كانت حانية لا تعرف إثارة الأتربة ولا الزكام.. ولكنها ترسم ابتسامات الرضا والوفاء بكل يسر.. صوت الزميل اسامة السماني من ابناء القرشي .. وما ادراك ما القرشي..؟! بعض المدن نسكها وبعضها يسكننا ولايغادر…
رحّلني صوته عبر سنوات عديدة ليحطّ بي في رحاب مدرسة الجنوبية الإبتدائية المختلطة حيث كان شقيقه وآخرين يسوقوننا عبر الأبجدية والعلوم , الى رحاب الذات والآخر نضع الملامح لطريقنا في التفكير والحياة.. لازلت أذكره ,عبدالكريم السماني بعبارته التهديدية الشهيرة في هذا الوقت من السنة: (كرّب علمك يافتى فإن مارس قد أتى).. ولم يكن اي منا يحب مارس المذكور آنفا ولا سيرته بالطبع .. لكن كنا جميعنا نحب استاذ عبدالكريم وحصص التاريخ كما ترويها ذاكرته الخصبة.. في تلك المدينة البسيطة الوادعة حيث رائحة الطين والمطر وحقول القطن ومزارع قصب السكر وعمال السكة حديد .. تلقينا تعليما راقيا على أيادي معلمين مخلصين ومميزين.. لم نكن بالطبع ندفع شيئا للمدرسة ,في زمن مجانية التعليم وقداسة المعلم.. لكننا تمتعنا بكل مزايا التعليم الراقي لآخر ميدان رياضة ومسرح مدرسي ومعارض وغيرها .. تلك الأشياء التي باتت في زمن الهلع الأكاديمي والتعليم التجاري مثل العنقاء والخل الوفي.. لهذا شعرت بدهشة كبيرة وأنا أعايش تجربة مدرسة الخرطوم التحضيرية العالمية المعروفة (بكبس).. والتي تعيد لك تلك الرائحة بكل عراقتها وأصالتها وزهوها.. بإلتزامها بتنشئة شخصية الطالب/ة عبر المناشط التربوية المختلفة بالإضافة للعلوم الأكاديمية .. وتجربة هذه المدرسة والقائمين عليها يجب ان تكون مثالا يحتذى في كل السودان .. دعوني اعرفكم بالمدرسة واقص عليكم ما حدث…

(2) كبس KIPS لكل مدينة في العالم ماتفتخر به وتقدمه بإعتزاز..جزء من تاريخها وعراقتها .. بعض الأماكن الأثرية والبيوت العريقة التي مضى على بنيانها مئات السنين..فتلك الأبنية القديمة لا يتم التعامل معها بلغة البناء الحديثة كحيطان خربة ونشاز لا يناغم الفن الحديث في العمارة ولكن كجزء من تاريخ العمارة نفسه له رائحة وطعم..فالجمال ليس حيطان من الأسمنت المسلح وغابات من الحديد والصلب بقدر ما أنها الطبيعة كماخلقها الله المبدع وألهمها للإنسان في لحظات تجلياته الفنية المختلفة فوضع عليها بعض افكاره لتكمل زينة المكان…لكننا على وشك ان نفقد اماكن تاريخية كثيرة في هذا البلد كانت جزءا من أغانينا وحكاياتنا كنادي الأسرة القديم الموثق في الأغنيات بميدان عبدالمنعم وبقربه سينما جنوب القديمة التي صارت أثرا بعد عين..وغيرها كثير من المؤسسات التي صارت قفرا لا يحظى حتى بشجرة طندب شيطانية على شواهد القبور تنتظر مطامع أخرى تتلبس الأسمنت وتشهق في الفساد…لكل هذا بدت مدرسة (كبس).. مزيجا من العراقة والحداثة والإلتزام بماض مجيد…حيث انشأت كمدرسة كنسية في العام 1928 لتعليم أبناء البريطانيين المقيمين بالسودان والسودانيين الذين كانوا يقيمون في الخارج او لهم زوجات بريطانيات.. كانت المدرسة تقوم بتعليم الأطفال دون السابعة قبل ان ينتقلوا لتلقي التعليم الداخلي بإنجلترا.. السبب الذي انشأت به مدرسة الإتحاد لتدريس البنات بعد مرحلة الأساس. وسرعان ماصار من الضروري وجود قسم ثانوي .. والذي جاء حاملا اسم (كبس) الذي لازال ملازما لتاريخ هذه المدرسة العريقة.وهذه المدرسة كانت ولازالت مؤسسة خيرية غير ربحية.. بها مكتبة من اعرق المكتبات في السودان وقد تجاوزت يوبيلها الماسي بثمانية سنوات بها العديد من الكتب العربية والإنجليزية وارشيف للصحف ومشتل مميز زرعت به اكثر من 200 شجرة كجزء من المنهج التدريبي العلمي ومسرحا لنشاط جمعية الفلاحة المدرسية والدراما والموسيقى جزء اساسي من المنهج التعليمي المدرسي… قطعا مدارس قليلة جدا إن لم تكن معدومة هي التي لازالت تحرص على المناشط التربوية والمعارض السنوية… توقفت كثيرا امام لوحات الطلاب في المراحل المختلفة .. وقد فاتني المعرض الحي المسرحي للتراث السوداني الذي رأيت صوره وبقاياه على جدران وأراضي الفصول… وشهدت مسرحا عريقا لا يقل في عراقته عن اي مسرح عالمي او قومي له تاريخ واتجاه.. تعاقبت على خشبته فقرات واعية وطلاب وطالبات بمختلف الأعمار.. اشعار والحان كثيرة وجدت طريقها لقلوبنا ذلك اليوم مليئة بالهم العام يحمله صبية صغار في السن .. يغنون لمصر المؤمنة ويحلمون بمدينة النظام التي لاتهتم فقط بالمهن الأكاديمية ولكن تعلي من شأن الحرفيين الذين هم عصب المدنية والنظام .. تم تكريم الطالب أحمد الصديق محمد صالح لإحرازه المرتبة الرابعة على مستوى العالم في اليوسي ماس.. فالمدرسة تعي أن من شأنها ان تخلق قادة وتدعم خيارات طلابها ومواهبهم .. حتى تلك التي تجري في ساحة خارج المدرسة … حين غنى الطلاب الخريجون (لن ننسى اياما خلت لن ننسى ذكراها) بكى المعلمون والمعلمات والطلاب جميعا … فمدرسة كهذي وأساتذة كهؤلاء يجب ان تبكي جدا لمفارقتهم … ففي وحشة الخارج …سيعرف البعض من أبنائناوبناتنا .. أن هنالك نفر قد حزموا أمرهم على ان يصنعوا من أنفسهم ظلاّ ظليلا يتفيأه أبناءنا حتى يستوي عودهم .. ظلّ يدرك تماما التضحية التي يقدمها كل يوم بصبر ووطنية عالية وتفان .. بعضه ظل يعرّش هناك لأكثر من ربع قرن…تحايا للجميلات والجميلين .. الذين حملت الحيطان صورهم وهم بعد صبية وصبيات لكنهم اختاروا ان يكبروا مع هذه المؤسسة يوما بعد يوم.. من يزور تلك المدرسة عليه ان يسأل عن قنيش.. عن صبية من أرض الحبشة قضت ربع قرن في هذه المدرسة .. فهي تعرف كل قصص المكان… وترويها بكل الحب والوفاء .. فهذا مكان له رائحة خاصة جدا .. تلك الرائحة..!

(3) قبل الخروج.. من الطرائف المضحكة المبكية.. أنني عدت ذات يوم لأجد بنتي ذات الخمسة سنوات تتدرب على نص مسرحي تقدمه في تخريجها من التمهيدي هذا العام .. وسمعتها تردّد: (يا سيادة الرئيس.. يا سيادة الرئيس) .. همست لنفسي : يا ربي البت دي بقت مؤتمر وطني ولا شنو؟! ولكنها واصلت بثقة مسئولة في وزارة الصحة : نحن في وزارة الصحة , عملنا على توفير العلاجات وتقديم التوعية والإرشادات ...الخ.. قلت لنفسي: أخيرا هنالك شخص ما في هذا الكون يعرف ماذا يفعل بالمقلب المدعو وزارة صحة.. وأنا احسب مرتبي الذي تم خصم 130 جنيها من جنيهاته التي تعاني سوء تغذية حاد بمضاعفات غلاء أسعار … طفلة في التمهيدي تعرف كيف ترتب أولويات وزارة الصحة.. إذن الإحجام عن إيجاد حلول لمشاكل الأطباء المتراكمة ومفاقمتها إمّا (ثقالة) بالسوداني البسيط او درجة اقل من عشرة على مقياس اختبار الذكاء(صعوبات تعلّم وكده ..!) … محطة اخيرة: عابر وطفلة ومطرة / عاطف خيري لما السحاب كوَم.. فوق السما إتلملم شلع البرق ضوا.. من وجعوا إتكلم وطلعنا نجري هناك فوق الدروب صايحين يا مطرة صبي.. ويا هبوووب … هبي والمطرة وقتين تنقط تطلع الطفلة وتنطط تبني فوق الرملة قبة وتمسح القبة وتشخبط وفوق أرض مبلولة دابا بي إيديها تشيل تجلبط وتبدأ تتهجي الكتابة وتكتب أحلي حروف وتنسج كلمة إسمها .. يمه.. يابا جارين وفرحانين.. جارين وما عارفين إنو المطر ببكي.. من شوقو للأنهار دمعا عويناتو .. ما برضو عندو هو دار إشتاق ملاقاتو.. رسل جواب للنيل والطابعة دمعاتو وأهلك ينادولك..يا بت تعالي البيت ما تحومي في الحلة سيبي اللعب في الطين.. فستانك إتبل!! وتفوتي زعلانة .. والمطرة فوق خديك… مرسومة ألوانا و… وأتمني في سري.. أرجع معاكي البيت نشرب كبابي الشاي.. أرقد كمان وأبيت نقرأ القصص بالليل الأرنب الطيب.. الأرض والشجرة وننوم غتانا الشوق.. لي بكرة والمطرة لي بكرة والمطرة
التفاعلات: سلمى الزياني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...