علامة الخلود لأي أدب، أن يتصف – دوما – بسمتين أساسيتين، أولاهما: انطلاقه من رحابة فكر الإنسانية المطلق؛ فيتخلص من كل ما هو محليّ وعصريّ وطائفي ومذهبي، وهذا أساس خلود الأدب، وإن اتخذ من بيئة ما بشخصياتها وثقافتها وما فيها من خصوصيات تميزها، ولكن تظل القيم الإنسانية هي العلامات الأبرز في هذا الأدب. فالأدب الإنساني يتعامل مع الإنسان كقيمة فضلى في الوجود، بدون الأخذ بعين الاعتبار الحدود التي تفصل الشعوب بعضها عن بعض أو القوميات أو الطوائف الدينية، ويكون هدفه التخلص من الغلاف القومي الضيق لينادي أعمق أعماق الوجدان البشري العام، فيصبح أقرب إلى نبضات القلب المختنق، أو الداء البيّن في علاماته، فلا يختلف طبيب بشأنه أيا كانت جنسيته. فكما أنه لا جنسية للطب الذي يعالج مختلف أمراض البشرية وإن انتمى الطبيب إلى بلد صغير أو افتخر بحضارة كبيرة، ولكن يظل الدواء واحدا للمرض، بدون النظر إلى جنسية من يطببه، وهذا يصدق على الأدب الإنساني، الذي يحمل في طياته من الحكمة ما يثري كل شعب، ويضيف لكل فرد، على امتداد التاريخ البشري. وقد توافر هذا البعد الإنساني في كتاب «كليلة ودمنة»، حيث جمع الحكمة في تجرّدها الإنسانيّ، وحسن السرد الذي تكاد الأذواق الإنسانية تتفق عليه.
وثانيهما: أن يُقَدَّمُ من خلال بنية فنية وقالب جذاب؛ شعرا كان أو قصًا، ما يجعل من الفلسفة والحكمة اللتين يقدمهما وعاء يلتصق بذهن القارئ، ولا يغادره متى مرت عليه الأزمنة وتباعدت الأمكنة؛ فالآداب الإنسانية حين تكون إنسانية تتجاوز حدود الزمان والمكان، وتحفظ لذاتها سيرورة وخلودا، فإنها يجب أن تمتلك قدرا من الفنية إذ أن نبل الموضوع وحده لا يكفي لاستمرار العمل الفني وتجاوزه لأبعاد الواقع.
لأن النفس الإنسانية مجبولة على ترديد الأشعار والانجذاب إلى القصص والحكايات، والأخيرة تتصف بالبقاء في العقول، والرسوخ في الأفئدة، وقد تمتزج حكمتها بسرعة مع السلوك اليومي. فمازالت حواديت الجدّات والأمهات عالقة في نفوسنا، خاصة إذا ارتبطت بحكمة ومُثُل، ونقوم بترديدها لصغارنا، ضمن سيرورة التواصل الشفهي الإنساني، ويكون الأمر أكثر رسوخا لو كان أدبا مدونا، فيصبح تلقيّه من معينه الأوّلي، بقراءة النص الأصلي بلغته المصاغ بها أو المترجم عنها، وفي كلٍ يكون العقل متأملا فاحصا لما أبدعه المؤلّف نفسه، بدون زيادة أو حذف أو تعديل أو تغيير، على نحو ما نجد في القصص الشعبي عندما يروى لفظا، فتنتابه أعراض الشفاهية من نسيان أو تبديل أو إضافة لهوى الراوي، أو رغبات السامع. أما في حالة التدوين المُحَقَّق، فإن النص الأصلي يظل كما هو، مفتوحا على كل تأويل، النابع من فهم المتلقي المباشر للنص .
عندما نقرأ أي قصة من كتاب «كليلة ودمنة»، سرعان ما تلتصق بأذهاننا؛ لأن الحكمة تعلقت بحدث درامي، والحدث جارٍ على ألسنة من عالم الحيوانات والطيور.
وقد اشتمل كتاب «كليلة ودمنة» على السمتين المتقدمتين، وبات الكتاب ضمن التراث الأدبي العالمي، وحظي بترجمات كثيرة، فقد قدّم خلاصة الحكمة والتجربة الإنسانية، التي استقاها مؤلفه من تراكمات الخبرة الحياتية به وممن سبقه من الفلاسفة والمفكرون، فكأن «بيدبا» الفيلسوف اعتصر كتب السابقين عليه اعتصارًا، وهضمها هضمًا، وأضاف عليها ما حنّكته الحياة به، وما أخذه من طلابه ومريديه، فهي حكمة وعصارة مصفاة، ثم جعل الشكل الذي احتوته تلك الحكمة قصصًا شائقة بجودة فنية عالية ؛ فالعمل الأدبي العالمي هو أولا، وقبل أي شيء آخر عمل متطور أو متقدم في شكله الفني، فالجودة الفنية للعمل الأدبي تجعله أكثر قدرة على اجتياز حدوده اللغوية والثقافية القومية، وعلى دخول دائرة العالمية فقد جاءت قصص الكتاب جاريةً على ألسنة البهائم والطير، فكأنه ابتعد عن حياة البشر بكل زخمها وقسوتها وصراعاتها، ليجعلها متدفقة في أجواء الغابات وما فيها من مخلوقات: طيور وحيوانات وزواحف، تجذب الإنسان لمرآها، ويعجب لما فيها من غرائب وأحداث، تقف في منزلة بينية، بين عالم الإنسان والحيوان من جهة، والواقع المعيش في عصرها والعصور التالية من جهة أخرى، مما جعلها تنتقل من مصاف المحليّة الضيقة إلى العالمية الواسعة، وكان مراد «بيدبا» الفيلسوف تقديم حكمة إنسانية سامية تفيد البشر جميعا، وإن كانت في الأساس حوارا بين الملك «دبشليم» وفيلسوفه وحكيمه بيدبا، فمراد الملك الاستفادة مدركا عِظم مكانة العالم الحكيم، كما نرى عندما استأذن «بيدبا» في الدخول على الملك، ظل واقفا صامتا، مأخوذا بهيبة الملك، فنظر إليه الملك، وقال: إن كان للملوك فضل في مملكتها، فإن للعلماء فضلا في حكمتها، لأن الحكماء أغنياء عن الملوك بالعلم، وليس الملوك أغنياء عن الحكماء بالمال، فذهب الروع عن بيدبا، وأفصح عن رغباته للملك، ومضى في مناصحته آمرا إياه بالعدل، محذرا من الظلم.
فعندما نقرأ أي قصة من كتاب «كليلة ودمنة»، سرعان ما تلتصق بأذهاننا؛ لأن الحكمة تعلقت بحدث درامي، والحدث جارٍ على ألسنة من عالم الحيوانات والطيور، مع الأخذ في الحسبان أن قرينة تأليف هذا الكتاب، كانت موجهة إلى ملك كان متجبرًا يومًا، فأراد بيدبا الفليسوف أن يقوم بدوره كمثقف ملتزم في عصره نحو هذا الملك، آملاً أن ينتهي الصلف والاستبداد يومًا من الملوك، وأن تعمّ الحكمة بين الشعوب، ولكن يبدو أن أمل بيدبا لا يزال حلمًا، فما زالت البشرية تذبذب في مسيرتها بين تجبّر حكام، ورعونة محكومين، مما يتوجب على كل ذي عقل راغب في الحكمة الصافية أن يطالع حكايات كليلة ودمنة، وليكتشف أن ما أوصى به المتأخرون هو ما يطمح إليه المتأخرون.
وثانيهما: أن يُقَدَّمُ من خلال بنية فنية وقالب جذاب؛ شعرا كان أو قصًا، ما يجعل من الفلسفة والحكمة اللتين يقدمهما وعاء يلتصق بذهن القارئ، ولا يغادره متى مرت عليه الأزمنة وتباعدت الأمكنة؛ فالآداب الإنسانية حين تكون إنسانية تتجاوز حدود الزمان والمكان، وتحفظ لذاتها سيرورة وخلودا، فإنها يجب أن تمتلك قدرا من الفنية إذ أن نبل الموضوع وحده لا يكفي لاستمرار العمل الفني وتجاوزه لأبعاد الواقع.
لأن النفس الإنسانية مجبولة على ترديد الأشعار والانجذاب إلى القصص والحكايات، والأخيرة تتصف بالبقاء في العقول، والرسوخ في الأفئدة، وقد تمتزج حكمتها بسرعة مع السلوك اليومي. فمازالت حواديت الجدّات والأمهات عالقة في نفوسنا، خاصة إذا ارتبطت بحكمة ومُثُل، ونقوم بترديدها لصغارنا، ضمن سيرورة التواصل الشفهي الإنساني، ويكون الأمر أكثر رسوخا لو كان أدبا مدونا، فيصبح تلقيّه من معينه الأوّلي، بقراءة النص الأصلي بلغته المصاغ بها أو المترجم عنها، وفي كلٍ يكون العقل متأملا فاحصا لما أبدعه المؤلّف نفسه، بدون زيادة أو حذف أو تعديل أو تغيير، على نحو ما نجد في القصص الشعبي عندما يروى لفظا، فتنتابه أعراض الشفاهية من نسيان أو تبديل أو إضافة لهوى الراوي، أو رغبات السامع. أما في حالة التدوين المُحَقَّق، فإن النص الأصلي يظل كما هو، مفتوحا على كل تأويل، النابع من فهم المتلقي المباشر للنص .
عندما نقرأ أي قصة من كتاب «كليلة ودمنة»، سرعان ما تلتصق بأذهاننا؛ لأن الحكمة تعلقت بحدث درامي، والحدث جارٍ على ألسنة من عالم الحيوانات والطيور.
وقد اشتمل كتاب «كليلة ودمنة» على السمتين المتقدمتين، وبات الكتاب ضمن التراث الأدبي العالمي، وحظي بترجمات كثيرة، فقد قدّم خلاصة الحكمة والتجربة الإنسانية، التي استقاها مؤلفه من تراكمات الخبرة الحياتية به وممن سبقه من الفلاسفة والمفكرون، فكأن «بيدبا» الفيلسوف اعتصر كتب السابقين عليه اعتصارًا، وهضمها هضمًا، وأضاف عليها ما حنّكته الحياة به، وما أخذه من طلابه ومريديه، فهي حكمة وعصارة مصفاة، ثم جعل الشكل الذي احتوته تلك الحكمة قصصًا شائقة بجودة فنية عالية ؛ فالعمل الأدبي العالمي هو أولا، وقبل أي شيء آخر عمل متطور أو متقدم في شكله الفني، فالجودة الفنية للعمل الأدبي تجعله أكثر قدرة على اجتياز حدوده اللغوية والثقافية القومية، وعلى دخول دائرة العالمية فقد جاءت قصص الكتاب جاريةً على ألسنة البهائم والطير، فكأنه ابتعد عن حياة البشر بكل زخمها وقسوتها وصراعاتها، ليجعلها متدفقة في أجواء الغابات وما فيها من مخلوقات: طيور وحيوانات وزواحف، تجذب الإنسان لمرآها، ويعجب لما فيها من غرائب وأحداث، تقف في منزلة بينية، بين عالم الإنسان والحيوان من جهة، والواقع المعيش في عصرها والعصور التالية من جهة أخرى، مما جعلها تنتقل من مصاف المحليّة الضيقة إلى العالمية الواسعة، وكان مراد «بيدبا» الفيلسوف تقديم حكمة إنسانية سامية تفيد البشر جميعا، وإن كانت في الأساس حوارا بين الملك «دبشليم» وفيلسوفه وحكيمه بيدبا، فمراد الملك الاستفادة مدركا عِظم مكانة العالم الحكيم، كما نرى عندما استأذن «بيدبا» في الدخول على الملك، ظل واقفا صامتا، مأخوذا بهيبة الملك، فنظر إليه الملك، وقال: إن كان للملوك فضل في مملكتها، فإن للعلماء فضلا في حكمتها، لأن الحكماء أغنياء عن الملوك بالعلم، وليس الملوك أغنياء عن الحكماء بالمال، فذهب الروع عن بيدبا، وأفصح عن رغباته للملك، ومضى في مناصحته آمرا إياه بالعدل، محذرا من الظلم.
فعندما نقرأ أي قصة من كتاب «كليلة ودمنة»، سرعان ما تلتصق بأذهاننا؛ لأن الحكمة تعلقت بحدث درامي، والحدث جارٍ على ألسنة من عالم الحيوانات والطيور، مع الأخذ في الحسبان أن قرينة تأليف هذا الكتاب، كانت موجهة إلى ملك كان متجبرًا يومًا، فأراد بيدبا الفليسوف أن يقوم بدوره كمثقف ملتزم في عصره نحو هذا الملك، آملاً أن ينتهي الصلف والاستبداد يومًا من الملوك، وأن تعمّ الحكمة بين الشعوب، ولكن يبدو أن أمل بيدبا لا يزال حلمًا، فما زالت البشرية تذبذب في مسيرتها بين تجبّر حكام، ورعونة محكومين، مما يتوجب على كل ذي عقل راغب في الحكمة الصافية أن يطالع حكايات كليلة ودمنة، وليكتشف أن ما أوصى به المتأخرون هو ما يطمح إليه المتأخرون.