دوستويفسكي أم .. تولستوي ، دائما ما يثار هذا السؤال عند قراء الادب الروسي بشكل خاص .. ولئن سعى العديد من النقاد ألى الاجابة على هذا السؤال ..تبقى اجابات القراء هي الأهم ..ويبقى السؤال مطروحاً على الدوام من هو الاقرب لك : تولستوي بواقعيته أم دوستويفسكي بغرائبيته ؟
يقول البعض أن هناك نوعين من القراء : أولئك الذين يهيمون حبا بتولستوي وأولئك الذين يعشقون دوستويفسكي. ورغم إن كلا الكتابين يتناولان بعض أكبر الأسئلة الفلسفية التي نواجهها اليوم مثل : ما الذي نحتاجه لنعيش حياة جيدة؟ هل يوجد الله؟ ما هو معنى الحياة؟ الا ان القراء دائما ما ينقسمون ، هذا يتجه نحو تولستوي ، والآخر نحو دوستويفسكي.
ولد دوستويفسكي قبل تولستوي بسبعة اعوام – دستويفسكي ولد في الحادي عشر من تشرين الثاني عام 1821 – ولد تولستوي في التاسع من ايلول عام 1828 ،وتوفي دستويفسكي قبل تولستوي بتسعة عشر عاما ، في التاسع من شباط عام 1881 ، توفي تولستوي في العشرين من تشرين الثاني عام 1910 - .
في مذكراتها التي نشرت بعنوان " مذكرات زوجة دستويفسكي – ترجمها الى العربية انور محمد - تخبرنا آنا غريغوريفنا ان زوجها دوستويفسكي لم يلتق بتولستوي ، لكنهما اجتمعا مرة واحدة في إحدى الأمسيات الأدبية دون ان يلتقي احدهما بالآخر ، لان تولستوي غادر المكان في اللحظة التي دخل فيها دوستويفسكي..وتقول آنا غريغوريفنا في مذكراتها انها التقت تولستوي مرة واحدة ، لكنها كانت قد تعرفت على زوجة تولستوي قبل هذا اللقاء:" تعرفت على الكونتيسه صوفيا تولستايا ، عندما جاءت إلي في احدى زياراتها الى بطرسبورغ ، وكانت الكونتيسة قد قررت بعد ان علمت من معارفها انني انشر مؤلفات زوجي بنجاح ، وانها تحاول بنفسها اصدار اعمال الكونت ليف تولستوي ، ولهذا جاءت تستفسر مني عما اذا كان اصدار الكتب امر يكتنفه كثير من المتاعب والصعوبات ، وقد تركت الكونتيسة اثر طيبا في نفسي " ..ثم تخبرنا ان زوجة تولستوي زارتها في بيتها اكثر من مرة ، وانها ردت الزيارة ، وفي كل زيارة الى بيت الكونتيسة لم تكن تلتقي بتولستوي بسبب مشاغله ، لكن في واحدة من الزيارات علمت ان الكونت ليف تولستوي موجود في البيت ويعاني من الآم في الكبد ، وما ان قيل له ان زوجة دستويفسكي في البيت حتى طلب رؤيتها :" دخلت غرفة ذات سقف منخفض ، حيث جلس الكونت على اريكة ، وما ان رآني حتى صاح ببشاشة :
• ياله من امر مدهش ، ان تبلغ زوجات كتابنا هذه الدرجة من الشبه بازواجهن .
- وهل اشبه فيودور دستويفسكي ؟ .سالته بسرور
• للغاية ، لقد تخيلت زوجة دستويفسكي على مثالك تحديد
- لقد حلمت منذ زمن ان التقي بكم ليف تولستوي ، لأشكرك على الخطاب الذي ارسلته بشان وفاة زوجي
• لقد كتبت باخلاص ما احسست به .انني اشعر بالاسف لانني لم اقابل زوجك ابدا .
ثم استغرق في تفكير عميق ليضيف : لقد كان دستويفسكي يمثل لي دائما انساناً ذو عاطفة مسيحية حقيقية .. لقد استطاع ان يستولي على قلوب البشر " . في يومياته يؤكد الكاتب الروسي الشهير تورجنيف انه حضر من باريس التي كان يقيم فيها، للمشاركة في الاحتفال الضخم الذي تقيمه روسيا لذكرى الشاعر ألكسندر بوشكين ، ويضيف ، انه قصد منزل تولستوي ليطلب منه المشاركة ، فساله تولستوي وهل سيحضر دستويفسكي الحفل ، وما ان اخبره تورجنيف بان دستويفسكي سيشارك حتى جاء رده مفاجأ: لن أحضر، لان الحفل سيتحول من تكريم لبوشكين إلى تكريس لديستويفسكي.
يقال ان دوستويفسكي كان معجباً كثيراً برواية تولستوي آنا كارنينا وتحمس لها أكثر من سواها وعدّها واحدة من افضل ما كتب بالادب الروسي ، وقال إن " ليس ثمة عمل أدبي أوروبي يمكن أن يُقارن برواية آنّا كارنينا" . وفي " يوميات كاتب " يعترف دستويفسكي بان :" الكونت ليف تولستوي بلا ادنى مدعاة للشك هو اكثر الكتاب شعبية عند جماهير القراء بكل الوانهم " لكنّ دوستويفسكي كان تنتابه حالات من الغضب بسبب الظروف الحياتية والامتيازات التي يتمتع بها تولستوي ، وكان يشعر ان الاجر الذي يتقاضاه تولستوي مقابل نشر اعماله باهض جدا . يكتب الى ابنة اخيه في عام 1870 متعجبا :" هل تعرفين انني اعي تماما لو كنت امضيت سنتين او ثلاث سنوات في تاليف هذا الكتاب ، مثلما يستطيع تورجنيف وتولستوي ، لكان بوسعي انتاج عمل يستمر الناس في الحديث عته حتى بعد مئة سنة من الآن " . واعتقد دوستويفسكي ان الرفاهية والثراء هما اللذان اتاحا الفرصة لظهور اعمال تولستوي ، ونجده يكتب في احدى رسائله الى ستراخوف عام 1871 :" لقد قال هذا النوع من الادب كل ما بوسعه قوله ، وبصورة متميزة في حالة تولستوي ، واستنفذ غايته ، واصبح معفيا من الاضطلاع بمهمة اخرى " . ويعود دستويفسكي في يوميات كاتب ليصف الكثير من اعمال تولستوي بانها مجرد صوراً تاريخية لعصور مضت ..
في عام 1881 ، توفي دوستويفسكي وعندما علم تولستوي بذلك ، شعر بحزن شديد وكتب في رسالة الى ساخروف : "لم أر دستويفسكي قط ولم يكن لي أي علاقة معه ، وفجأة عندما مات ، فهمت أن هذا هو الأقرب ، أعز رجل بالنسبة لي ، كان هو الانسان الذي كنت في حاجة إليه أكثر " .
تزامن النشاط الادبي دستويفسكي وتولستوي قرابة الثلاثين عاما .بدأ دستويفسكي كتابة الرواية قبل مؤلف الحرب والسلم ببعض الوقت ، ومات صاحب الاخوة كرامازوف في سنة كانت بالنسبة لتولستوي ، سنة تحول وانعطاف وتطور روحي ، وانهى دستويفسكي الجريمة والعقاب ، عندما كان تولستوي منشغلا في كتابة ملحمته الكبيرة " الحرب والسلم " . وتزامن صدور آنا كارنينا مع بداية دستويفسكي في روايته الكبيرة الأخوة كارامازوف .. وربما عاشا حياة مختلفة وكان لكل منهم وجهة نظر في الآخر ، إلا ان كلاهما وهو يكتب لم يستند على تجربة روسيا فقط ، وانما على دائرة واسعة من الظواهر والحقائق ميزت التطور التاريخي لبلدان اوربا في ذلك العهد . واذا كان تولستوي قد اهتم بالاحداث الضخمة ذات الاهمية القومية الشاملة ، وبحياة الناس في صراعهم مع الزيف والخديعة ، وبالبحث عن نزعة التملك عند الانسان ، فان دستويفسكي ركز اهتمامه في الدرجة الاولى على تلك التناقضات التي برزت داخل المجتمع . وعلى مشاكل الفرد وتاثيرها المباشر في المجالات الاجتماعية المختلفة ، وعلى كشف حالات وزوايا عالم الانسان الداخلي .
قدم لنا تولستوي وديستويفسكي تحليلا نقديا عميقا لاشكال العلاقات الانسانية السائدة في المجتمع المعاصر . انعكست في اعمال كل منهما مقاومة للشر الذي يريد ان يطغي على علاقات الناس .كان تولستوي ودستويفسكي قريبين احدهما من الآخر حيث اعطى كلاهما اهمية للعامل الاخلاقي في تطور المجتمع .لكن فهم الاساس الاخلاقي واثره في سلوك الناس ، كان واضح الاختلاف في اعمالهم الروائية .
يركز كل من دوستويفسكي وتولستوي على بعض "الأسئلة الكبيرة" المهمة للحياة. يسأل إيفان كارامازوف : كيف يمكن لله العادل أن يخلق عالما يتعذب به الأبرياء. ويسأل تولستوي ، من خلال شخصيته ، ليفين ، في آنا كارنينا ، عن معنى الحياة حين يجد الانسان نفسه معذبا لسبب مجهول ، أكد كل من دوستويفسكي وتولستوي أن جوهر الحياة لا يمكن العثور عليه بالاعتماد على العقل وحده. بل تلعب العواطف والنفس البشرية دورا في تحريك مصائرنا ، ومثلما يحفر دستويفسكي بعمق في النفس البشرية . يرسم تولستوي عالما تحدث فيه أشياء بالغة الأهمية للناس العاديين.. كل منهما يركز على ازمة الانسان الروحية ، ويصف لنا بدقة الرحلة عبر هذا الجحيم الى الفردوس ، مرورا بالمطهر . كلاهما اغرما بدانتي وتولعا بكوميديته الالهية .
والآن ساعيد طرح السؤال من جديد من هو الكاتب الأكثر اهمية ، دوستويفسكي أم تولستوي؟ .. في تجربتي مع القراءة والتي بدات بمرحلة مبكرة عثرت على كنز اسمه الادب الروسي كانت تنشره دار نشر سورية اسمها دار اليقظة العربية ، يديرها سهيل ايوب وفؤاد ايوب ، ومن خلالها قرات دستويفسكي وتولستوي وتشيخوف وغوركي وتورجنيف وليرمنتوف وغوغول وبوشكين ..قبل ان اكتشف فيما بعد شولوخوف وإليا اهرنبورغ وباسترناك وأخماتوفا ومايكوفسكي وحمزاتوف وجنكيز إيتماتوف واسماء اخرى لاتستحضرها الذاكرة الآن ، في ذلك الوقت قرات الحرب والسلم ، دون أن يكون لدي أدنى فكرة عن اهمية هذه الرواية . بعد فترة قصيرة تعلقت بالجريمة والعقاب ، مع نفس الافتقار الفاضح للفهم الذي كان يرافقني ، أحببتهما بشدة : تولستوي للمتعة التي يقدمها في رواياته وللشخصيات المحببة للنفس ، ودوستويفيسكي للأفكار التي يثيرها عبر سطور رواياته ومنذ ذلك الحين لايزال تولستوي ودستويفسكي يسكنان في مكان ما داخل نفسي .
في مقال بعنوان " القنفذ والثعلب " يكتب الفيلسوف البريطاني إيزايا برلين ان :" الصدق في الفن لايعوض ، إلا انه ، بالمقابل ،يجتمع مع صدق آخر ، يكون احيانا على نقيض تام مع الاول ..ويتناول إيزايا في مقالته كل من تولستوي في آنا كارنينا ودستويفسكي في الجريمة والعقاب :" نفس الحقبة من حياة الشعب الروسي . ولكن ما الفروق بين هذين العملين ، ان احدهما لا يقل صدقا عن الآخر ..اننا نكتشف احيانا في نفس العمل الفني الكبير والصادق اكثر من حقيقة واحدة . انها عدة حقائق لا تنسجم فيما بينها ، بطبيعة الحال ، ان لم ينف بعضها الآخر " .
قال بورخيس ان هناك شيئا خفيا حول حب القراء لدستويفيسكي ، ، فيما اشار فلاديمير ناباكوف أن "المنافسة" بين دوستويفسكي وتولستوي هي مجرد تمرين في الحب " .
يكتب تولستوي في احدى رسائله إلى ستراخوف :" في الآونة الأخيرة فقط شعرت بتوعك وقرأت رواية دستويفسكي منزل الاموات. ودعني اقول لك لا أعرف كتابًا أفضل في جميع أدبياتنا الجديدة ، بما في ذلك بوشكين. إنها ليست النغمة بل وجهة النظر الرائعة - حقيقية وطبيعية ومسيحية. كتاب رائع ومفيد. لقد استمتعت طوال اليوم بما أنني لم أفعل ذلك منذ فترة طويلة. إذا رأيت دوستويفسكي ، أخبره أنني أحبه " .
لقد كتب كلاهما تولستوي ودستويفيسكي عن أخلاقيات نفعية من شأنها تحريف الحياة الاجتماعية في روسيا. كان دوستويفسكي يخشى من التخلي عن المثل المسيحية ووبخ أوروبا لتخليها عن الأمل في "الخلاص الذي جاء من الله " واستبدل مقولة "ستحب جارك كنفسك " بعبارة على لسان اليوشا في الاخوة كرامازوف " كل انسان لنفسه والله للجميع "
ومثل دوستويفسكي ، كان تولستوي قلقًا أيضًا من تفكك القناعات الروحية في روسيا في القرن التاسع عشر. لم تكن ساحة المعركة في نقاشه شوارع دوستويفسكي الضيقة والمظلمة ، بل ممرات الأرستقراطية المفروشة بالسجاد الملون ورائحة العطور الثمينة . يتقلب ابطال تولستوي الأرستقراطيون بين شؤون العائلة والأعمال وحكايات الحب ، من دون روابط انسانية حقيقية أو التزام وجودي..في افتتاحية آنا كارنينا يطلق تولستوي عبارته الشهيرة : "جميع العائلات السعيدة متشابهة ، لكن كل أسرة غير سعيدة ..غير سعيدة على طريقتها الخاصة .
تشكلت رؤى تولستوي وديستويفسكي بعمق من خلال الكتب المقدسة سواء لليهودية او المسيجية او الاسلام ..عندما قرا دستويفسكي الانجيل كتب :" هذا الكتاب هو الأول من نوعه في حياتي الذي ترك انطباعًا عليّ ، كنت قبله اعيش في طفولة تقريبا . ".في جميع رواياته يتناول دستويفسكي الصراع داخل الانسان بين الالحاد والايمان ، فيما تشغل الأزمات الروحية معظم اعمال تولستوي الروائية ، فقد عاش هو ايضا ازمة روحية ، وحالة من اليأس كانت شديدة للغاية ، حتى ان زوجته آنا صوفيا تخبرنا في يومياتها انه طلب منها ذات يوم ان تخفي بندقة الصيد خوفا من ان يطلق على نفس النار ذات يوم . يكتب جورج ستاينر :" احتل دستويفيسكي صفته كانسان مؤمن بالله ، فيما تولستوي ظل الانسان الذي تحدى هذا الاله في الخفاء "
تغيرت مصائر تولستوي وديستويفسكي بعد ثورة اكتوبر عام 1917 ، فقد اشاد لينين بكتابات تولستوي واعتبرها مرأة الثورة الروسية ، لكنه بالمقابل كتب مقالاً اعتبر فيه رواية الشياطين لدستويفسكي بانها مقززة وتثير الغثيان ، لكن هذا لم يمنع لينين من اصدار امر بتشييد تمثالين لتولستوي ودستويفسكي ، فيما كتب إيليا اهرنبورغ بعد سنوات ، وبالتحديد عام 1932 بان دستويفسكي وحده هو الذي قال الحقيقة عن الشعب ..لكن خارج روسيا كان الامر يحدث عكس ما بداخلها ، فقد تغلغل دستويفسكي بقدر اكبر في نسيج الفكر الغربي المعاصر ، انه احد الاعلام الرئيسيين للرواية الحديثة ، واعتبر هذا الرجل الذي عانى من هول المرض كاحد انبياء القرن العشرين ومؤرخا لحياتنا على حد تعبير نيتشه . في المقابل ظل تولستوي على حد تعبير توماس مان اشبه بصرح كبير يتخطى الارض الملموسة ..حيث رأى مصائر البشر تاريخيا وهي تنجرف في تيار الزمن ..فيما رأى دستويفسكي هذه المصائر في حالة ركود واهتزاززات متفرقة
في بيت لمسؤول محطة استابافو قيل ان تولستوي كان يحمل معه كتابان عندما قرر ان يغادر بيته : الاخوة كرامازوف ومقالات الفيلسوف الفرنسي مونتاني ..وقال لطبيبه انه اختار الموت في حضور ارواح خصومه الكبار .
يقول البعض أن هناك نوعين من القراء : أولئك الذين يهيمون حبا بتولستوي وأولئك الذين يعشقون دوستويفسكي. ورغم إن كلا الكتابين يتناولان بعض أكبر الأسئلة الفلسفية التي نواجهها اليوم مثل : ما الذي نحتاجه لنعيش حياة جيدة؟ هل يوجد الله؟ ما هو معنى الحياة؟ الا ان القراء دائما ما ينقسمون ، هذا يتجه نحو تولستوي ، والآخر نحو دوستويفسكي.
ولد دوستويفسكي قبل تولستوي بسبعة اعوام – دستويفسكي ولد في الحادي عشر من تشرين الثاني عام 1821 – ولد تولستوي في التاسع من ايلول عام 1828 ،وتوفي دستويفسكي قبل تولستوي بتسعة عشر عاما ، في التاسع من شباط عام 1881 ، توفي تولستوي في العشرين من تشرين الثاني عام 1910 - .
في مذكراتها التي نشرت بعنوان " مذكرات زوجة دستويفسكي – ترجمها الى العربية انور محمد - تخبرنا آنا غريغوريفنا ان زوجها دوستويفسكي لم يلتق بتولستوي ، لكنهما اجتمعا مرة واحدة في إحدى الأمسيات الأدبية دون ان يلتقي احدهما بالآخر ، لان تولستوي غادر المكان في اللحظة التي دخل فيها دوستويفسكي..وتقول آنا غريغوريفنا في مذكراتها انها التقت تولستوي مرة واحدة ، لكنها كانت قد تعرفت على زوجة تولستوي قبل هذا اللقاء:" تعرفت على الكونتيسه صوفيا تولستايا ، عندما جاءت إلي في احدى زياراتها الى بطرسبورغ ، وكانت الكونتيسة قد قررت بعد ان علمت من معارفها انني انشر مؤلفات زوجي بنجاح ، وانها تحاول بنفسها اصدار اعمال الكونت ليف تولستوي ، ولهذا جاءت تستفسر مني عما اذا كان اصدار الكتب امر يكتنفه كثير من المتاعب والصعوبات ، وقد تركت الكونتيسة اثر طيبا في نفسي " ..ثم تخبرنا ان زوجة تولستوي زارتها في بيتها اكثر من مرة ، وانها ردت الزيارة ، وفي كل زيارة الى بيت الكونتيسة لم تكن تلتقي بتولستوي بسبب مشاغله ، لكن في واحدة من الزيارات علمت ان الكونت ليف تولستوي موجود في البيت ويعاني من الآم في الكبد ، وما ان قيل له ان زوجة دستويفسكي في البيت حتى طلب رؤيتها :" دخلت غرفة ذات سقف منخفض ، حيث جلس الكونت على اريكة ، وما ان رآني حتى صاح ببشاشة :
• ياله من امر مدهش ، ان تبلغ زوجات كتابنا هذه الدرجة من الشبه بازواجهن .
- وهل اشبه فيودور دستويفسكي ؟ .سالته بسرور
• للغاية ، لقد تخيلت زوجة دستويفسكي على مثالك تحديد
- لقد حلمت منذ زمن ان التقي بكم ليف تولستوي ، لأشكرك على الخطاب الذي ارسلته بشان وفاة زوجي
• لقد كتبت باخلاص ما احسست به .انني اشعر بالاسف لانني لم اقابل زوجك ابدا .
ثم استغرق في تفكير عميق ليضيف : لقد كان دستويفسكي يمثل لي دائما انساناً ذو عاطفة مسيحية حقيقية .. لقد استطاع ان يستولي على قلوب البشر " . في يومياته يؤكد الكاتب الروسي الشهير تورجنيف انه حضر من باريس التي كان يقيم فيها، للمشاركة في الاحتفال الضخم الذي تقيمه روسيا لذكرى الشاعر ألكسندر بوشكين ، ويضيف ، انه قصد منزل تولستوي ليطلب منه المشاركة ، فساله تولستوي وهل سيحضر دستويفسكي الحفل ، وما ان اخبره تورجنيف بان دستويفسكي سيشارك حتى جاء رده مفاجأ: لن أحضر، لان الحفل سيتحول من تكريم لبوشكين إلى تكريس لديستويفسكي.
يقال ان دوستويفسكي كان معجباً كثيراً برواية تولستوي آنا كارنينا وتحمس لها أكثر من سواها وعدّها واحدة من افضل ما كتب بالادب الروسي ، وقال إن " ليس ثمة عمل أدبي أوروبي يمكن أن يُقارن برواية آنّا كارنينا" . وفي " يوميات كاتب " يعترف دستويفسكي بان :" الكونت ليف تولستوي بلا ادنى مدعاة للشك هو اكثر الكتاب شعبية عند جماهير القراء بكل الوانهم " لكنّ دوستويفسكي كان تنتابه حالات من الغضب بسبب الظروف الحياتية والامتيازات التي يتمتع بها تولستوي ، وكان يشعر ان الاجر الذي يتقاضاه تولستوي مقابل نشر اعماله باهض جدا . يكتب الى ابنة اخيه في عام 1870 متعجبا :" هل تعرفين انني اعي تماما لو كنت امضيت سنتين او ثلاث سنوات في تاليف هذا الكتاب ، مثلما يستطيع تورجنيف وتولستوي ، لكان بوسعي انتاج عمل يستمر الناس في الحديث عته حتى بعد مئة سنة من الآن " . واعتقد دوستويفسكي ان الرفاهية والثراء هما اللذان اتاحا الفرصة لظهور اعمال تولستوي ، ونجده يكتب في احدى رسائله الى ستراخوف عام 1871 :" لقد قال هذا النوع من الادب كل ما بوسعه قوله ، وبصورة متميزة في حالة تولستوي ، واستنفذ غايته ، واصبح معفيا من الاضطلاع بمهمة اخرى " . ويعود دستويفسكي في يوميات كاتب ليصف الكثير من اعمال تولستوي بانها مجرد صوراً تاريخية لعصور مضت ..
في عام 1881 ، توفي دوستويفسكي وعندما علم تولستوي بذلك ، شعر بحزن شديد وكتب في رسالة الى ساخروف : "لم أر دستويفسكي قط ولم يكن لي أي علاقة معه ، وفجأة عندما مات ، فهمت أن هذا هو الأقرب ، أعز رجل بالنسبة لي ، كان هو الانسان الذي كنت في حاجة إليه أكثر " .
تزامن النشاط الادبي دستويفسكي وتولستوي قرابة الثلاثين عاما .بدأ دستويفسكي كتابة الرواية قبل مؤلف الحرب والسلم ببعض الوقت ، ومات صاحب الاخوة كرامازوف في سنة كانت بالنسبة لتولستوي ، سنة تحول وانعطاف وتطور روحي ، وانهى دستويفسكي الجريمة والعقاب ، عندما كان تولستوي منشغلا في كتابة ملحمته الكبيرة " الحرب والسلم " . وتزامن صدور آنا كارنينا مع بداية دستويفسكي في روايته الكبيرة الأخوة كارامازوف .. وربما عاشا حياة مختلفة وكان لكل منهم وجهة نظر في الآخر ، إلا ان كلاهما وهو يكتب لم يستند على تجربة روسيا فقط ، وانما على دائرة واسعة من الظواهر والحقائق ميزت التطور التاريخي لبلدان اوربا في ذلك العهد . واذا كان تولستوي قد اهتم بالاحداث الضخمة ذات الاهمية القومية الشاملة ، وبحياة الناس في صراعهم مع الزيف والخديعة ، وبالبحث عن نزعة التملك عند الانسان ، فان دستويفسكي ركز اهتمامه في الدرجة الاولى على تلك التناقضات التي برزت داخل المجتمع . وعلى مشاكل الفرد وتاثيرها المباشر في المجالات الاجتماعية المختلفة ، وعلى كشف حالات وزوايا عالم الانسان الداخلي .
قدم لنا تولستوي وديستويفسكي تحليلا نقديا عميقا لاشكال العلاقات الانسانية السائدة في المجتمع المعاصر . انعكست في اعمال كل منهما مقاومة للشر الذي يريد ان يطغي على علاقات الناس .كان تولستوي ودستويفسكي قريبين احدهما من الآخر حيث اعطى كلاهما اهمية للعامل الاخلاقي في تطور المجتمع .لكن فهم الاساس الاخلاقي واثره في سلوك الناس ، كان واضح الاختلاف في اعمالهم الروائية .
يركز كل من دوستويفسكي وتولستوي على بعض "الأسئلة الكبيرة" المهمة للحياة. يسأل إيفان كارامازوف : كيف يمكن لله العادل أن يخلق عالما يتعذب به الأبرياء. ويسأل تولستوي ، من خلال شخصيته ، ليفين ، في آنا كارنينا ، عن معنى الحياة حين يجد الانسان نفسه معذبا لسبب مجهول ، أكد كل من دوستويفسكي وتولستوي أن جوهر الحياة لا يمكن العثور عليه بالاعتماد على العقل وحده. بل تلعب العواطف والنفس البشرية دورا في تحريك مصائرنا ، ومثلما يحفر دستويفسكي بعمق في النفس البشرية . يرسم تولستوي عالما تحدث فيه أشياء بالغة الأهمية للناس العاديين.. كل منهما يركز على ازمة الانسان الروحية ، ويصف لنا بدقة الرحلة عبر هذا الجحيم الى الفردوس ، مرورا بالمطهر . كلاهما اغرما بدانتي وتولعا بكوميديته الالهية .
والآن ساعيد طرح السؤال من جديد من هو الكاتب الأكثر اهمية ، دوستويفسكي أم تولستوي؟ .. في تجربتي مع القراءة والتي بدات بمرحلة مبكرة عثرت على كنز اسمه الادب الروسي كانت تنشره دار نشر سورية اسمها دار اليقظة العربية ، يديرها سهيل ايوب وفؤاد ايوب ، ومن خلالها قرات دستويفسكي وتولستوي وتشيخوف وغوركي وتورجنيف وليرمنتوف وغوغول وبوشكين ..قبل ان اكتشف فيما بعد شولوخوف وإليا اهرنبورغ وباسترناك وأخماتوفا ومايكوفسكي وحمزاتوف وجنكيز إيتماتوف واسماء اخرى لاتستحضرها الذاكرة الآن ، في ذلك الوقت قرات الحرب والسلم ، دون أن يكون لدي أدنى فكرة عن اهمية هذه الرواية . بعد فترة قصيرة تعلقت بالجريمة والعقاب ، مع نفس الافتقار الفاضح للفهم الذي كان يرافقني ، أحببتهما بشدة : تولستوي للمتعة التي يقدمها في رواياته وللشخصيات المحببة للنفس ، ودوستويفيسكي للأفكار التي يثيرها عبر سطور رواياته ومنذ ذلك الحين لايزال تولستوي ودستويفسكي يسكنان في مكان ما داخل نفسي .
في مقال بعنوان " القنفذ والثعلب " يكتب الفيلسوف البريطاني إيزايا برلين ان :" الصدق في الفن لايعوض ، إلا انه ، بالمقابل ،يجتمع مع صدق آخر ، يكون احيانا على نقيض تام مع الاول ..ويتناول إيزايا في مقالته كل من تولستوي في آنا كارنينا ودستويفسكي في الجريمة والعقاب :" نفس الحقبة من حياة الشعب الروسي . ولكن ما الفروق بين هذين العملين ، ان احدهما لا يقل صدقا عن الآخر ..اننا نكتشف احيانا في نفس العمل الفني الكبير والصادق اكثر من حقيقة واحدة . انها عدة حقائق لا تنسجم فيما بينها ، بطبيعة الحال ، ان لم ينف بعضها الآخر " .
قال بورخيس ان هناك شيئا خفيا حول حب القراء لدستويفيسكي ، ، فيما اشار فلاديمير ناباكوف أن "المنافسة" بين دوستويفسكي وتولستوي هي مجرد تمرين في الحب " .
يكتب تولستوي في احدى رسائله إلى ستراخوف :" في الآونة الأخيرة فقط شعرت بتوعك وقرأت رواية دستويفسكي منزل الاموات. ودعني اقول لك لا أعرف كتابًا أفضل في جميع أدبياتنا الجديدة ، بما في ذلك بوشكين. إنها ليست النغمة بل وجهة النظر الرائعة - حقيقية وطبيعية ومسيحية. كتاب رائع ومفيد. لقد استمتعت طوال اليوم بما أنني لم أفعل ذلك منذ فترة طويلة. إذا رأيت دوستويفسكي ، أخبره أنني أحبه " .
لقد كتب كلاهما تولستوي ودستويفيسكي عن أخلاقيات نفعية من شأنها تحريف الحياة الاجتماعية في روسيا. كان دوستويفسكي يخشى من التخلي عن المثل المسيحية ووبخ أوروبا لتخليها عن الأمل في "الخلاص الذي جاء من الله " واستبدل مقولة "ستحب جارك كنفسك " بعبارة على لسان اليوشا في الاخوة كرامازوف " كل انسان لنفسه والله للجميع "
ومثل دوستويفسكي ، كان تولستوي قلقًا أيضًا من تفكك القناعات الروحية في روسيا في القرن التاسع عشر. لم تكن ساحة المعركة في نقاشه شوارع دوستويفسكي الضيقة والمظلمة ، بل ممرات الأرستقراطية المفروشة بالسجاد الملون ورائحة العطور الثمينة . يتقلب ابطال تولستوي الأرستقراطيون بين شؤون العائلة والأعمال وحكايات الحب ، من دون روابط انسانية حقيقية أو التزام وجودي..في افتتاحية آنا كارنينا يطلق تولستوي عبارته الشهيرة : "جميع العائلات السعيدة متشابهة ، لكن كل أسرة غير سعيدة ..غير سعيدة على طريقتها الخاصة .
تشكلت رؤى تولستوي وديستويفسكي بعمق من خلال الكتب المقدسة سواء لليهودية او المسيجية او الاسلام ..عندما قرا دستويفسكي الانجيل كتب :" هذا الكتاب هو الأول من نوعه في حياتي الذي ترك انطباعًا عليّ ، كنت قبله اعيش في طفولة تقريبا . ".في جميع رواياته يتناول دستويفسكي الصراع داخل الانسان بين الالحاد والايمان ، فيما تشغل الأزمات الروحية معظم اعمال تولستوي الروائية ، فقد عاش هو ايضا ازمة روحية ، وحالة من اليأس كانت شديدة للغاية ، حتى ان زوجته آنا صوفيا تخبرنا في يومياتها انه طلب منها ذات يوم ان تخفي بندقة الصيد خوفا من ان يطلق على نفس النار ذات يوم . يكتب جورج ستاينر :" احتل دستويفيسكي صفته كانسان مؤمن بالله ، فيما تولستوي ظل الانسان الذي تحدى هذا الاله في الخفاء "
تغيرت مصائر تولستوي وديستويفسكي بعد ثورة اكتوبر عام 1917 ، فقد اشاد لينين بكتابات تولستوي واعتبرها مرأة الثورة الروسية ، لكنه بالمقابل كتب مقالاً اعتبر فيه رواية الشياطين لدستويفسكي بانها مقززة وتثير الغثيان ، لكن هذا لم يمنع لينين من اصدار امر بتشييد تمثالين لتولستوي ودستويفسكي ، فيما كتب إيليا اهرنبورغ بعد سنوات ، وبالتحديد عام 1932 بان دستويفسكي وحده هو الذي قال الحقيقة عن الشعب ..لكن خارج روسيا كان الامر يحدث عكس ما بداخلها ، فقد تغلغل دستويفسكي بقدر اكبر في نسيج الفكر الغربي المعاصر ، انه احد الاعلام الرئيسيين للرواية الحديثة ، واعتبر هذا الرجل الذي عانى من هول المرض كاحد انبياء القرن العشرين ومؤرخا لحياتنا على حد تعبير نيتشه . في المقابل ظل تولستوي على حد تعبير توماس مان اشبه بصرح كبير يتخطى الارض الملموسة ..حيث رأى مصائر البشر تاريخيا وهي تنجرف في تيار الزمن ..فيما رأى دستويفسكي هذه المصائر في حالة ركود واهتزاززات متفرقة
في بيت لمسؤول محطة استابافو قيل ان تولستوي كان يحمل معه كتابان عندما قرر ان يغادر بيته : الاخوة كرامازوف ومقالات الفيلسوف الفرنسي مونتاني ..وقال لطبيبه انه اختار الموت في حضور ارواح خصومه الكبار .