هاشم شفيق - حكاية الشاعر رياض الصالح الحسين

كثيرون هم الذين تناولوا حياة الشاعر الراحل رياض الصالح الحسين بالتقريظ وكيل المحاسن لسيرته، وهذا شيء جميل أن يبادر به الأصدقاء، وبخاصة لشاعر بحجم رياض مضى شاباً في نهاية العشرينيات وترك إرثاً فريداً ونادراً من القصائد المشغولة بحرفة وتقنية عاليتين، وقد أنجز كل ذلك بعمر قصير، وأنه هنا يذكرني بالشاعر الانكليزي جون كيتس الذي أطبقت شهرته الآفاق وهو لم يزل في سنّ صغيرة وظلت على مدار عقود بعد وفاته، تعاد طباعة أعماله الشعرية ودواوينه المعدودة حتى هذه اللحظة.
لكن اللافت في تلك الكتابات التمجيدية أنها كانت تعكس رؤية ناقصة ومعرفة غير دقيقة ودراية لم تكن ملمة بحياة وتفاصيل الشاعر وسويعاته الأخيرة، كيف مضى في مرضه؟ وكيف عاش أيامه الأخيرة في المستشفى؟ وهل كان هناك لفيف من الأهل والأصدقاء حوله؟ وهل وجد رياض ثمة اهتماما معينا به من المعنيين بالثقافة ومسؤوليها وهو يعاني مرضه ومأساته اليومية في مستشفى «المواساة» في دمشق؟
الحقيقة التي أعرفها عن كثب ومعايشة شبه يومية للشاعر تقول غير ذلك. في تلك الأيام العصيبة من معاناة الشاعر المأسوية وهو يواجه مصيره الحزين، انفض الجميع عن الشاعر، وخصوصاً الصحاب، وهم كثر ممن كان يلتقيهم يومياً في مقهى»اللاتيرنا» و «الهافانا» و «الروضة» أو في حانة «الريّس» و»فريدي» أو في غرفة الشاعر بندر عبد الحميد.
لقد تهرّب الكل تقريباً لحظة سقوطه بمرض الفشل الكلوي، حتى أهله لم أرَ واحداً منهم، والأصدقاء الذين كتبوا عنه فيما بعد بحس الخبير والعارف بتفاصيل تلك الأيام واللحظات الأخيرة للشاعر، حتى المرأة التي كان يحبها لم تأت لرؤيته. لقد كان وحيداً في سريره كالسياب في لحظة سقوطه، كرامبو أثناء عودته إلى شارفيل ودخوله المستشفى وحيداً ما خلا شقيقته ايزابيل. رياض دخل المستشفى وحيداً، دون عون من أحد، ما خلا صديقه الشاعر البصري مهدي محمد علي وكاتب هذه السطور.
لقد ظللنا الشاعر مهدي محمد علي وأنا قربه بالتناوب كخفراء، ليلة لمهدي محمد علي، الذي رحل فيما بعد بمرض تشمع الكبد وهو في مطلع الستينيات من عمره في حلب، قبيل انطلاق الثورة السورية بعام، وليلة لي، نتقاسم من خلالها السهر، وتمضية الوقت في قراءة الشعر لشعراء يحبهم رياض، أو نحبهم مثله كبابلو نيرودا وبول ايلوار وأراغون وغيرهم، أو تزجية الوقت من خلال المداراة والمواساة والطمأنة، بطرق التفكه والنادرة والمُلح التي كنا نستحضرها، لنسخر عبرها من الحياة والزمن ومن الأشخاص الموكلين بإدارة بعض الأمور الثقافية في المؤسسات الحكومية التي أدارت ظهرها لرياض، في تلك اللحظة الحرجة من حياته وتاريخه الشخصي مثل»اتحاد الكتاب العرب» والوعود المداهنة التي كان يعد بها الروائي حنا مينا الشاعر بإرساله إلى الخارج لغرض العلاج على حساب الاتحاد والدولة، لكن كل ذلك كان مجرد فقاقيع هواء، لوعود يطلقها بعض المسؤولين لشاعر مرهف وشفاف يثق بالجميع ويصدق كل ما يقال له مثل طفل لم يزل يواجه الحياة وينظر إليها نظرة أولى، نظرة فيها الكثير من البراءة والوداعة والأصالة الشاعرية.
لقد خُدع رياض وطعن علانية، كل ذلك كان يكتبه اليّ ويذكر الأسماء المسؤولة التي لم تفِ بوعدها، وبما كانت تطرحه عليه، كانت للدولة علاقات واسعة مع دول العالم الاشتراكي آنذاك، وكان من السهل عليها إرساله لغرض العلاج، كان من الممكن أن يعيش رياض فترة أطول وربما سيكون بيننا لو تم ذلك حتى هذه اللحظة من العمر.
كان يصغرني بخمس أو أربع سنوات، وكان من الممكن علاجه في تلك البلدان ومن ثم التماثل إلى الشفاء والتخلص من المرض. مرض كهذا كان يعد من البدهيات الأولى في عالم الطب والجراحة في تلك البلدان، كان أقلها التبرع بكلية من شخص آخر تعرض إلى حادث ما ليتم الاستبدال وعملية زرع الكلية التي ستمكنه من العيش طويلاً.
لكن القدر وسوء المعاملة والإهمال في مستشفى عادي، غير قادر على تأمين الحماية والرعاية وطرق العناية الطبية كونه عاماً وغير متخصص، تضافرت كلها لتنهي حياة شاعر موهوب ومحبوب مثل رياض الصالح الحسين.
حين جاءت اللحظ الحاسمة، وغاب رياض عنا، هُرع الجميع إليه، وكان الموكب مهيباً، يتصدره بالطبع الكاتب حنا مينا وبعض المسؤولين في وزارة الثقافة واتحاد الكتاب العرب وجمع من الكتاب والصحافيين والفنانين ليشيعوه إلى مثواه الأخير في «مارع» إحدى القصبات الحلبية.
تعرفت إلى رياض الصالح الحسين حين كنت عائداً من باريس نهاية عام 1979 متخذاً من دمشق محطة لغرض الانطلاق إلى بيروت ومن ثم العمل في سبيل الانخراط في إعلام المقاومة الفلسطينية حينذاك.
في دمشق كنت في منزل مشترك بين الصديقين الروائي والقاص كامل محمد الخطيب والناقد المسرحي نديم محمد، حين سمع رياض من كليهما بأني عندهما، فجاء ذلك الشاعر الشاب، المرح ذو الابتسامة النادرة والخلابة لنتعارف على بعضنا ونصبح صديقين حميمين، لم يفرق بيننا إلا ذلك الموت الذي خطفه مني ومن محبيه الآخرين، في بادرة زمنية لئيمة وأليمة.
لقد دلني رياض منذ بدء معرفتي به، إلى الحياة البسيطة في قاع المدينة، إلى الأسواق والمطاعم النادرة والحانات الناعمة والبديعة، الحياة في»الربوة» و»باب توما» وحارات دمشق القديمة، وإلى المقاهي الشعبية في «البزورية» و»الحميدية» والمقاهي المرتجلة لمحطة وكراج نقل الركاب ما بين دمشق وبيروت وعمان.
حين سافرت إلى بيروت لغرض الإقامة هناك، صرت أحن إلى الشام ولتلك الفسح الباهرة والأمكنة الظليلة، فغدوت أطل بين حين وآخر على دمشق، متفقداً الصروح المخملية والخمائل الناعسة التي كنا نلجأ إليها في الظهيرات والهواجر القائظة رياض وأنا، غذاؤنا اليومي كالعادة هو الشعر وما يخلفه من رؤى ودوالّ في الروح، مستمتعين بما تجود علينا به السانحات والتأملات والتسكع النوعي من أوقات ممتعة.
بعد حصار بيروت وإجلاء المقاومة عنها، لم أذهب إلى تونس أو عدن أو طرابلس، بل أصررت على الذهاب إلى الشام، لم يمانع أحد في الإعلام الفلسطيني في تحقيق تلك الرغبة، فخرجت بعد رحلة من عناء طويل وحصار شاق وصعب وخطر، لأكون مرة أخرى في دمشق كمقيم هذه المرة وليس زائراً عابراً. في تلك الأثناء وبجهد خاص من رياض عثرت على منزل بسيط للإيجار في قلب دمشق، استوطنت إلى حد ما في موضعي الجديد. وكان رفيقي الدائم بالطبع، هو الشاعر رياض الصالح الحسين، لم نكن نفترق البتة، نلتقي كل يوم، ونسهر كل يوم تقريباً، ونكتب الشعر ونقرأ لبعضنا، كتبت عنه قصيدة ونشرتها في ديواني الثاني «أقمار منزلية» فرح بها أيما فرح وراح يترنَم بها، حين نكون في حالة نشوة وصبابة، وقبل كتابة هذه القصيدة، كان قد بادر لفرط رهـافته في الكــتـابة عن تجربة لقائنا الأول حين قدمت من باريس إلى دمشق، حيث نشر المقال في صحيفة «تشرين» الدمشقية التي كان يعمل في صفحتها الثقافية يومذاك.
جراء تراكم تلك اللقاءات، صرت أفهم على رياض بلغة الإشارة ، دون الالتفات إلى القلم والورقة اللذين كانا هي خير وسيط بيننا، لم أسأل رياض ولا مرة عن المرض الذي أصابه وأدّى به إلى فقدان حاسة النطق وعدم التكلم ، ما عدا الهمس والدندنة.
كان رياض حين يكون في حالة تجل، يترنّم بأغنية وحيدة، لفريد الأطرش «يا ريتني طير لأطير حواليك» وكان يهمسني بها في أغلب الأوقات التي كنا نمضيها معاً. هنا كنت أتساءل حينها بين نفسي، كيف توصل رياض إلى حفظ مطلع هذه الأغنية؟ ومتى وفي أي وقت من مراحل حياته حفظها؟ ولماذا فقط هذه الأغنية ما علق في ذهنه وحسه ووجدانه وليس غيرها؟ ولِمَ لمْ يقلْ أخرى ثانية أو ثالثة غيرها ……؟. بيد أن تلك الأغنية حقاً كانت حين يردّدها رياض أراه يحلق في أفق سعيد وغامض، أفق مرقش بالفرح والبياض والبهجة، تلك البهجة التي لم تكن لتفارقه أبداً ناهيك عن الدهشة الطفولية التي أسبغت عليه سمة الشاعر الوديع، أو شاعر الطفولة.
كان الشاعر رياض الصالح الحسين شعلة من الحركة المتجوّلة وحزمة من الشعر المتوهج، إذ حيثما سار كان يضيء المكان الذي كان فيه. عاش فقيراً في غرفة شبه مَهدّمة في منطقة «الديوانية» التي لا تبعد امتاراً قليلة عن منطقة «العدوي» الفارهة والغنية، فضلاً عن مرتبه البسيط في صحيفة «تشرين». في الغالب كان معه القليل من المال الذي يقترب من حالة الإفلاس، المال الذي يستطيع أن يشتري به علبة سجائر «الحمراء» أو يستطيع من خلاله دفع فنجان القهوة في مقهى «القنديل».

هاشم شفيق



أعلى