الأوركسترا كاملة على المسرح . المايسترو يدير وجهه إلى الجمهور ، يلقي على القاعة الغاصة بالصمت و الترقب نظرة متفحصة و إصغاء مرهفا يستقصي بهما أية حركة/ نأمة لم تسكن/ تسكت بعد.
تسترخي قسمات وجهه المتفحص المصغي ، يعبر مقدمة المسرح في خطوات عجلة إلى الكواليس على اليسار... دقيقة أو قرابة... ثم يعود بها :سيدة في حوالي الأربعين، تلبس ثوبا أزرق من قطعة واحدة يهبط من صدرها حيث منبت النهدين ضيقا إلى الخصر ، ثم يتسع ... يتواسع حتى تغطي حافته الرافلة القدمين فلا يبين منهما إلا رأسا الحذائين الأسودين. أعلى الصدر عار إلا من شريط أزرق يحيط بالعنق ملتصقا بالجلد ، والذراعان عاريتان ، وفوق الرأس شعر أصهب مسرحا من اليمين إلى اليسار ، ومتصاعدا في الكثافة من الأمام إلى الوراء حتى ينتهي بما يبدو لمة معقودة خلف الرأس . في شحمتي الأذنين حليتان لاصقتان بهما لا يكاد يميزهما إلا لونهما الأزرق الفاتح. وعلى العينين نظارتان بيضاوا الزجاج،بإطار مشرب الحمرة يكاد يذوب في لون الجلد العاري على الوجه و الصدر الذراعين.
يقود المايسترو السيدة الزرقاء إلى مقدمة المسرح حيث تنحي أمام الجمهور المصفق ، فتبدو من خلفها الأوركسترا الباذخة بمختلف الآلات الكلاسيكية مع غلبة الكمانات.
تجلس السيدة في مواجهة المتفرجين ، على يسار المايسترو المولي ظهره لهم. تمسك بيدها اليمنى آلتها ، آلة نفخ بمفاتيح ، تشبه السيدة في شكلها الخارجي ، لونها رمادي مائل إلى الزرقة ، رقيقة الأعلى ، لكنها تتسع بالتدريج مع اتجاه العين نحو نهايتها السفلى ، و بيدها اليسرى تنزع السيدة النظارة من فوق عينيها ، و تضعها على منضدة صغيرة بينها و بين المايسترو ، يرفع المايسترو يده الممسكة بعصا القيادة ، يبدأ العزف.
في عنفوان العزف ، وفور أن تصل الكمانات إلى قمة الجبل و هي تلهث ، يشير المايسترو بيده اليسرى الهابطة إلى السيدة الزرقاء ، كأنما ليساعدها على الصعود إلى قطار . تقف السيدة ، و تبدأ النفخ في آلتها الزرقاء الشبيهة بها . تخرج النغمات حيية خجولا في البداية وسط صخب الكمانات . لكن ، شيئا فشيئا ، تتسيد الآلة الزرقاء المسرح ، تكاد تنفر بآذان القاعة لولا أن أصوات الكمانات المتراجعة لم تصمت تماما ، خفتت فقط.
الصوت الأزرق يتصاعد ... يتراقص.. و السيدة تتواجد...تندمج... تغمض عينيها الحسيرتين و هي تنفخ في الآلة محركة رأسها مع النغم في حركة دائرية من اليمين الهابط إلى اليسار الصاعد ثم اليمين الهابط... والنغمات العذبة تنبجس من الأسفل كأنما تغترفها العينان المغمضتان من قاع نهر عميق ، و تصعدان بها من الرأس نحو اليسار العالي ، ثم تهبطان بها من حاااااالق على...على النظارات المتلهفة الفاغرة زجاجها الرملي فوق المنضدة الصغيرة بجوار الحذاء الأسود للعازفة الزرقاء . يتراجع زفير الآلة الزرقاء أحيانا ، لتتصاعد أصوات الكونترباصات و الكامانات ... تتصاعد محايدة ملساء كهفهفات أثواب أو رفرفات فرشات ، فتغطي الزفير المشتاق أو العاتب أو المجروح ، حتى لينبهم المعنى الذي أوحى به ، و ينداح الإحساس الذي ركزه . لكنه هناك بعد... خافت هامس أو متوار متوارب ... هناك بعد حي و يتنفس أو يتنهد أو يتهيأ للصدح الصدع الصدم... هاهو ينطلق... ينخرط في حوار ساخن مع هفهفات الفراش . تهيمن أنفاس العازفة الزرقاء على المسرح ، تبندل حركة رأسها "السانية" من اليمين الهابط إلى اليسار الصاعد ثم اليمين الهابط... مغمضة العينين محرورة/ ممرورة النفس كأنما تستقي أنغامها من جوف مجرة .. تصعد بها من يمين الدرك الأسفل للألم البشري إلى يسار السدرة العليا للبوح الإنساني ، ثم تهبط بها من حاااالق على النظارات العطشى فوق المنضدة الصغيرة ، فيبدو العالم من ورائها أزرق كأنما كله بحر ... أو كله سماء.
تتهاطل النغمات على النظارات ... يصفو العالم ... تغفو الطبيعة... يطفو الإنسان... يزنر الكون حزام فاطمة الزهراء. تسكن حركة يد المايسترو الممدودة في أعلى . تسكن كل الحركات على المسرح...
تتحرك القاع في عاصفة من التصفيق و القيام و الابتسام المعجب المبهور.
أدار الميسترو وجهه إلى الجمهور الواقف المصفق ، مد يده تلقائيا إلى العازفة الزرقاء عن يمينه... ولكن يدا لم تمسك يده...
التفت ، فلم ير العازفة بجانبه ، لم يرها واقفة و لا جالسة ولا نائمة و لا عازفة و لا صامتة و لا حتى منطرحة جسما بلا روح.
لم ير في مكانها الخالي إلا نظارة بدون عينين ، وآلة نفخ بدون شفاه . و مع التفاته كان الجمهور يلتفت ، وكان العازفون يلتفتون ، و معه أيضا كان غياب العزفة يخرسهم.
و في الصمت الشامل العميق ، لم يكن يسمع إلا مزيج خافت من الزفر الناعس و الهفهفات و الرفرفات العابرة و الحفيف الخفي ، يشيع في فضاء القاعة ، مزيج خافت يتفاعل و يتداخل و تمحي حروفه فيملاس و يعذوذب و هو يتلاشى و يتسرب مع الأوكسجين ، إلى رئات الحاضرين.
تسترخي قسمات وجهه المتفحص المصغي ، يعبر مقدمة المسرح في خطوات عجلة إلى الكواليس على اليسار... دقيقة أو قرابة... ثم يعود بها :سيدة في حوالي الأربعين، تلبس ثوبا أزرق من قطعة واحدة يهبط من صدرها حيث منبت النهدين ضيقا إلى الخصر ، ثم يتسع ... يتواسع حتى تغطي حافته الرافلة القدمين فلا يبين منهما إلا رأسا الحذائين الأسودين. أعلى الصدر عار إلا من شريط أزرق يحيط بالعنق ملتصقا بالجلد ، والذراعان عاريتان ، وفوق الرأس شعر أصهب مسرحا من اليمين إلى اليسار ، ومتصاعدا في الكثافة من الأمام إلى الوراء حتى ينتهي بما يبدو لمة معقودة خلف الرأس . في شحمتي الأذنين حليتان لاصقتان بهما لا يكاد يميزهما إلا لونهما الأزرق الفاتح. وعلى العينين نظارتان بيضاوا الزجاج،بإطار مشرب الحمرة يكاد يذوب في لون الجلد العاري على الوجه و الصدر الذراعين.
يقود المايسترو السيدة الزرقاء إلى مقدمة المسرح حيث تنحي أمام الجمهور المصفق ، فتبدو من خلفها الأوركسترا الباذخة بمختلف الآلات الكلاسيكية مع غلبة الكمانات.
تجلس السيدة في مواجهة المتفرجين ، على يسار المايسترو المولي ظهره لهم. تمسك بيدها اليمنى آلتها ، آلة نفخ بمفاتيح ، تشبه السيدة في شكلها الخارجي ، لونها رمادي مائل إلى الزرقة ، رقيقة الأعلى ، لكنها تتسع بالتدريج مع اتجاه العين نحو نهايتها السفلى ، و بيدها اليسرى تنزع السيدة النظارة من فوق عينيها ، و تضعها على منضدة صغيرة بينها و بين المايسترو ، يرفع المايسترو يده الممسكة بعصا القيادة ، يبدأ العزف.
في عنفوان العزف ، وفور أن تصل الكمانات إلى قمة الجبل و هي تلهث ، يشير المايسترو بيده اليسرى الهابطة إلى السيدة الزرقاء ، كأنما ليساعدها على الصعود إلى قطار . تقف السيدة ، و تبدأ النفخ في آلتها الزرقاء الشبيهة بها . تخرج النغمات حيية خجولا في البداية وسط صخب الكمانات . لكن ، شيئا فشيئا ، تتسيد الآلة الزرقاء المسرح ، تكاد تنفر بآذان القاعة لولا أن أصوات الكمانات المتراجعة لم تصمت تماما ، خفتت فقط.
الصوت الأزرق يتصاعد ... يتراقص.. و السيدة تتواجد...تندمج... تغمض عينيها الحسيرتين و هي تنفخ في الآلة محركة رأسها مع النغم في حركة دائرية من اليمين الهابط إلى اليسار الصاعد ثم اليمين الهابط... والنغمات العذبة تنبجس من الأسفل كأنما تغترفها العينان المغمضتان من قاع نهر عميق ، و تصعدان بها من الرأس نحو اليسار العالي ، ثم تهبطان بها من حاااااالق على...على النظارات المتلهفة الفاغرة زجاجها الرملي فوق المنضدة الصغيرة بجوار الحذاء الأسود للعازفة الزرقاء . يتراجع زفير الآلة الزرقاء أحيانا ، لتتصاعد أصوات الكونترباصات و الكامانات ... تتصاعد محايدة ملساء كهفهفات أثواب أو رفرفات فرشات ، فتغطي الزفير المشتاق أو العاتب أو المجروح ، حتى لينبهم المعنى الذي أوحى به ، و ينداح الإحساس الذي ركزه . لكنه هناك بعد... خافت هامس أو متوار متوارب ... هناك بعد حي و يتنفس أو يتنهد أو يتهيأ للصدح الصدع الصدم... هاهو ينطلق... ينخرط في حوار ساخن مع هفهفات الفراش . تهيمن أنفاس العازفة الزرقاء على المسرح ، تبندل حركة رأسها "السانية" من اليمين الهابط إلى اليسار الصاعد ثم اليمين الهابط... مغمضة العينين محرورة/ ممرورة النفس كأنما تستقي أنغامها من جوف مجرة .. تصعد بها من يمين الدرك الأسفل للألم البشري إلى يسار السدرة العليا للبوح الإنساني ، ثم تهبط بها من حاااالق على النظارات العطشى فوق المنضدة الصغيرة ، فيبدو العالم من ورائها أزرق كأنما كله بحر ... أو كله سماء.
تتهاطل النغمات على النظارات ... يصفو العالم ... تغفو الطبيعة... يطفو الإنسان... يزنر الكون حزام فاطمة الزهراء. تسكن حركة يد المايسترو الممدودة في أعلى . تسكن كل الحركات على المسرح...
تتحرك القاع في عاصفة من التصفيق و القيام و الابتسام المعجب المبهور.
أدار الميسترو وجهه إلى الجمهور الواقف المصفق ، مد يده تلقائيا إلى العازفة الزرقاء عن يمينه... ولكن يدا لم تمسك يده...
التفت ، فلم ير العازفة بجانبه ، لم يرها واقفة و لا جالسة ولا نائمة و لا عازفة و لا صامتة و لا حتى منطرحة جسما بلا روح.
لم ير في مكانها الخالي إلا نظارة بدون عينين ، وآلة نفخ بدون شفاه . و مع التفاته كان الجمهور يلتفت ، وكان العازفون يلتفتون ، و معه أيضا كان غياب العزفة يخرسهم.
و في الصمت الشامل العميق ، لم يكن يسمع إلا مزيج خافت من الزفر الناعس و الهفهفات و الرفرفات العابرة و الحفيف الخفي ، يشيع في فضاء القاعة ، مزيج خافت يتفاعل و يتداخل و تمحي حروفه فيملاس و يعذوذب و هو يتلاشى و يتسرب مع الأوكسجين ، إلى رئات الحاضرين.