يفتتح المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه كتابه "حياة الصورة وموتها" بحكاية طريفة ومعبِّرة، تقول: في أحد الأيام طلب أحد أباطرة الصين من كبير الرسامين في القصر الامبراطوري محو الشلال الذي رسمه في لوحة جدارية لأن خرير الماء كان يزعجه ويمنعه من النوم.
الإحساس بصوت خرير الماء المتدفق بغزارة وقوة شلال هادر في اللوحة الجدارية والذي منع الامبراطور الصيني من النوم ملء جفنيه، هو ذات الإحساس الذي دفعني لتأمل جدارية رسمها الفدائيون الفلسطينيون بشلال من دمهم ودم رفاقهم وأهلهم وجيرانهم على حيطان الأحياء والأزقة الفقيرة في بيروت الغربية. نعم، أقصد ذلك الفدائي الفلسطيني بالتحديد، ولا تجزع من ذكر الاسم، فلكل مقام مقال، ولكل زمان رجال.
هذه الجدارية تعددت مشاهد رجالها، وهم، على كل حال، ما زالوا في وجدان من عاصر تلك الأيام، محفورة صورهم في الذاكرة الجمعية لملايين العرب الذين شهدوا اسطورة ذلك الفدائي الذي لا يُقهر، والذي كان يُدافع عن جدار ليس له، ولكنه نصب خياماً في ظلِّ ذلك الجدار. نعم، كان يُدافع عن خيامه الرثَّة العامرة بالحياة.
ذلك الفدائي ظلَّ في الخندق المتقدم يقاتل "بسيطٌ كالماء، واضحٌ كطلقة مسدس" ذلك الفدائي الذي هتف: "الله أكبر، هذه آياتنا، فاقرأ، باسم الفدائي الذي خَلَقَا، من جُرْحِهِ شَفَقَا". ذلك الفدائي التي كانت بيروت خيمته الأخيرة وخندقه الأخير وقلعته الأخيرة وجداره الأخير وقصته الأخيرة وغصته الأخيرة وصورته الأخيرة وسورته الأخيرة.
ذلك الفدائي الذي كان "يتوسد خندقه الرملي وحيداً، ويداه تحيطان برشاش مملوء بالموت" ينتظر الزائر القادم جواً وبراً وبحراً و"المدثر" بالفولاذ الطائر والزاحف والسابح "سيأتي الزوار مساءً، زائرة تحمل قنابل عنقودية، أخرى ستمشط بالنار سهولاً تمتد، سياتي الأعداء مساءً، كقطيع ذئاب كاسرة، يلتهمون بيوت الطين، وأشجار التفاح، وكراسات الأطفال، ورأس الفدائي، الفدائي يرتب خندقه، الماء هُنا، والطلقات هُناك، وها هي صورة نرجسة تبتسم لفدائي، يحمل رشاشاً وخضاراً، الزوار يجيئون، فأهلاً، يُطلق طلقته الأولى، سيظل يُقاتل حتى آخر حبة رمل من هذا الخندق".
في هذه الجدارية الرحبة الفسيحة الدامية الأسطورية والتي امتدت إلى مدارج مطار بيروت الدولي شوهد الشهيد سعد صايل من حركة فتح والشهيد أبو علي مصطفى من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين يقودان المعركة في الأيام الأولى من شهر آب. وبعد قصف مجنون من البر والبحر والجو لا يتقدم الأعداء شبراً واحداً. شلالٌ من حديدٍ ونار لا يترك بيروت تنام، ويسأل ذلك الفدائي في الخندق: أمن حجر يقدون النُعاس؟ أمن مزامير يقدون السلاح؟ كانوا يقصفون مقابر الشهداء، يدثرون بالفولاذ، ولا يتقدمون شبراً واحداً، وبيروت لا تنام في الظلام "ألف قذيفة أخرى ولا يتقدم الأعداء شبراً واحداً" وأخيراً تتقدم القوات الإسرائيلية أقلّ من عشرين متراً فقط على أحد مدارج مطار بيروت الدولي.
كان الفدائي يُدرك جيداً إن تقدم الجندي الإسرائيلي شبراً آخر على الأرض في بيروت يُفقد الفلسطيني حق العودة إلى دولته في فلسطين. لذا قاوم الأعداء، سقطت ذراعه فالتقطها وقاوم، ضرب عدوه بالذراع المقطوعة، قاوم بكل ما في الروح من روح. لا جوع في روحه، اكل من الرغيف الفذِّ ما يكفي المسير إلى نهايات الجهات. هي هجرة أخرى، فلا تذهب بعيداً "لمَ ترحلون وتتركون نساءَكم في بطن ليل من حديد؟ لمَ ترحلون وتعلقون مساءَكم فوق المخيم والنشيد" هي هجرة أخرى، فاحمل أيها الفدائي مفتاح قدسك " كم كنتَ وحدك، يا ابن أمي، يا ابن أكثر من أبٍ، كم كنت وحدك، القمح مرٌّ في حقول الآخرين، والماء مالح، والغيم فولاذ، وهذا النجم جارح، وعليك أن تحيا وأن تحيا، وأن تُعطي مقابل حبة الزيتون جلدك، كم كنت وحدك"
في الأيام الأخيرة من شهر أب اللهاب عام1982 وبعد قال وقيل و"هات وخود" تقرر الخروج الأسطوري الكبير للفدائيين الفلسطينيين. هي هجرة أخرى، صمتت بيروت الغربية حزناً إلا من زغاريد النساء وبكاء الأطفال وصوت حفيف الرز المنثور من شرفات بيوت أهل بيروت على طلائع الفدائيين المغادرة إلى الميناء بعد صمود في خنادق القتال دام أكثر من ثمانين يوماً، فيها اليوم الواحد أطول من قرن، استعملت إسرائيل لكسره كل ما تملك من ترسانة عسكرية وفشلت في النهاية في كسر عزيمة الفدائيين ورجال المقاومة اللبنانية من شيوعيين واشتراكيين وثوريين وناصريين وقوميين وإسلاميين ومهمشين.
ثمَّ جاء من يسعى في ليل بيروت البهيم عن "خارطة طريق" ما أكثر الخرائط التي رُسمت في الظلام وما زال الفدائي متمترساً في خندق الرملي وحيداً. "يلتقي الملوك بكل أنواع الملوك، من العقيد إلى العميد، يبذلون جهداً عند أمريكا، ويسأل صاحبي: وإذا استجابت للضغوط فهل سيسفر موتنا عن دولة أم خيمة". نعم يا صاحبي نحن من استجاب للضغوط، تمَّ الأمر والاتفاق وقع ونصَّ على خروج الفدائيين مع أسرهم وأسلحتهم الفردية في السفن عبر البحر الأبيض المتوسط إلى تونس واليمن الجنوبي وطرطوس السورية. وقلتُ يومها يا الله هذا البلاد بعيدة وقصيَّة عن فلسطين، وحين تشاهد هذه الحشود المغادرة تجهش بالبكاء وأنتَ تودع رفاق السلاح على الرصيف، يلبسون بذَّة الفدائي المرقطة وكوفياتهم تخفق في الريح. تتفرج على الفدائيين المغادرين في هجرة أخرى إلى كل الجهات، تقول لهم وأنتَ في أشد حالات القهر: إلى أين أنتم راحلون وفي القلوب مطارحكم. وهتف ذلك الفدائي في الجموع قبل الرحيل: " نحن البدايةُ، كم سنة وأنا التوازن بين ما يجبُ؟ كُنا هُناك، ومن هُنا ستهاجر العربُ، لعقيدة أخرى، وتغتربُ، قصبٌ هياكلنا، وعروشنا قصبُ، في كل مئذنة حاوٍ، ومغتصبُ، يدعو لأندلس إن حوصرت حلبُ".
بسام أبو شريف عضو المكتب السياسي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ورئيس تحرير مجلة "الهدف" الفلسطينية يلملم أغراضه، ماذا يأخذ وماذا يترك؟ يستعجله الرفاق في الجبهة الشعبية: يا رفيق بسام علينا أن نُغادر. يحزم أمره أخيراً فيحمل المجلد الأول من أعداد مجلة "الهدف" أغلى ما يملك، يضعه في كيس "البحار" وينطلق مع الرفاق إلى السفينة المغادرة. كانت مجلة "الهدف" التي أسسها غسان كنفاني وصدر عددها الأول في السادس عشر من شهر آب اللهاب عام 1969 قد تحولت أثناء حصار بيروت إلى جريدة يومية باسم "الهدف" أيضاً وراحت تُوزع على الفدائيين في الخنادق ومتاريس أكياس الرمل. كانت تسهم إلى حدٍ ما في صمود الفدائي فهو إنسان في النهاية له ما لنا وعليه أكثر مما علينا. له عواطف جياشة، ومشاعر فيها الفرح والحزن، يُحب كما نحب، ويعشق كما نعشق، ويحلم كما نحلم. يستمتع بالشاي والسجائر وقهوة الصباح المفقودة.
في حصار بيروت اختلطت الأدوار فكان معين بسيسو الشاعر والشيوعي والفدائي هُناك خلف المتراس. وكان محمود درويش محاصراً بكل أنواع الحصار البري والبحري والجوي. وخليل حاوي لم يحتمل مشاهد الدبابات الإسرائيلية تُحاصر بيروت فانتحر من فوهة بندقية صيد، لا يُريد أن يشهد الفصل الأخير من المدينة، ولا يُريد أن يكتب قصيدته الأخيرة بالحبر، فاستعجل الموت وكتب قصيدته الأخيرة بالدم.
ونسأل الرفيق جورج حبش قبل أن يُغادر بيروت: ماهي الآفاق يا حكيم وأنت تُغادرنا؟ يُجيب بحماسته المعهودة وخبرة المُحارب الذي قاتل على جبهات كل المعارك: الطريق طويل إلى فلسطين، كل فلسطين، ولا يغرنك قلَّة سالكيه، فأهل فلسطين أدرى بشعابها، ولن نترك خنادقنا وبنادقنا فهي التي سترشدنا في هذا الطريق الطويل وهي سهمنا إلى الهدف الواضح الصريح، سنعود من جديد لأن الثورة مستمرة.
وغادر الحكيم بيروت، وأرى طيفاً بعيداً في الصورة أيكون رفيقنا الشهيد جورج حاوي-رحمه الله- جاء مودعاً. ويهتف الفدائي: "يا أهل لبنان الودعا، شكراً لكل شُجيرة حملت دمي، لتضيء للفقراء عيد الخبز، شكراً لكل مسدس غطى رحيلي بالأرز وبالزهور، وكان يبكي أو يزغرد ما اسطاعا، اليوم أكملت الرسالة فيكم، فلتطفئوا لهبي، إذا شئتم، عن الدُنيا، وإن شئتم فزيدوه اندلاعا، يا أهل لبنان الوداعا"
سقطت قلاعٌ قبل هذا اليوم، ولكن بيروت كانت بداية "الفكرة" أن نكون أو لا نكون، فهل ندرك المجهول فينا، وهذه الصحراء تكبر حولنا، ويقول الفدائي لابنته المضطجعة على درجات السلم الحجري "نامي قليلاً يا ابنتي نامي قليلا، الطائرات تعضني. وتعض ما في القلب من عسل، فنامي في طريق النحل، نامي، قبل أن أصحو قتيلا".
يا ابنتي كم مرة تتفتح الزهرة، وكم مرة ستسافر الثورة، يا ابنتي ما أكبر الفكرة، ما أصغر الدولة؟ يا ابنتي رحلوا وما قلوا شيئاً عن العودة. والوطن حقيبة، والحقيبة وطن الغجر، شعبٌ يخيم في الأغاني والدخان، شعبٌ يُفتش عن مكان، بين الشظايا والمطر. هل خرج الفدائي من بيروت منتصراً على الدنيا، لكَ أن تكون أو لا تكون.
بعد ستة أشهر من هجر الفدائي "ست الدنيا" بيروت، في ربيع عام 1983 كنتُ في منطقة "الجسر الأبيض" قريباً من ضريح شيخنا الأكبر محيي الدين بن عربي في سفح جبل قاسيون في دمشق العاصمة السورية أنظر في واجهة مكتبة أنيقة أبحث في عناوين الكتب والمجلات والجرائد فلمحتها بعد غياب، فرحت فرح الأطفال بالعيد، ها هي مجلة "الهدف" تعاود الصدور من دمشق "أعانها الله" أقصد "الهدف" لأن مساحة الحرية هُنا في دمشق أضيق من بيروت، وقد تكون مقيدة، مسجونة، هُنا فقط فرع فلسطين للمخابرات أوسع، وكل الأشياء اضيق، الشارع أضيق، صدور العسكر أضيق، مساحة التعبير أضيق، الجرائد أضيق، الإذاعة أضيق، التلفزيون أضيق، خُلُق الرئيس أضيق، قاعة الدرس في الجامعة أضيق، محراب المسجد اضيق، ناقوس الكنيسة أضيق، وحتى القبور أضيق، مائدة الطعام أضيق، كأس الشاي أضيق، علبة التبغ أضيق، والهواء في جبل قاسيون أضيق، هُنا في دمشق يخنق الضيق البشر؟ فكيف ستتدبر "الهدف" أمرها؟ وحتى لا تفقد امتيازها بعد أن ضاقت بها السبل رضيت بالأمر الواقع.
قلتُ في سري رحم الله الشهيد غسان كنفاني، ورحم الله ذلك "الإرهابي" العظيم وديع حداد الذي رثاه كمال خير بيك قائلاً: "إرهاب" عفوك لا تصدق ما نقول، نحن من جملة الآتين من وحل الهزيمة، جئنا لنخفي عنك أو عنا تفاصيل الجريمة، كان لنا موتان، موت الآخرين وموتنا، كنا نموت لأنهم ماتوا ونبعث كي نموت ليولدوا، يا موتنا السري من يُصغي إليك ومن يراك، يا موتنا السري في كل الدقائق موتنا العلني ليس سوى صداك.
ملحوظة:
أتوجه بالشكر والتقدير والعرفان الجميل للشعراء: السوري رياض الصالح الحسين، الفلسطيني محمود درويش، اللبناني كمال خير بيك، على إثراء الموضوع، وذلك من خلال الاستعانة بمقاطع من قصائدهم التي كُتبت في تلك الفترة من التاريخ.
الإحساس بصوت خرير الماء المتدفق بغزارة وقوة شلال هادر في اللوحة الجدارية والذي منع الامبراطور الصيني من النوم ملء جفنيه، هو ذات الإحساس الذي دفعني لتأمل جدارية رسمها الفدائيون الفلسطينيون بشلال من دمهم ودم رفاقهم وأهلهم وجيرانهم على حيطان الأحياء والأزقة الفقيرة في بيروت الغربية. نعم، أقصد ذلك الفدائي الفلسطيني بالتحديد، ولا تجزع من ذكر الاسم، فلكل مقام مقال، ولكل زمان رجال.
هذه الجدارية تعددت مشاهد رجالها، وهم، على كل حال، ما زالوا في وجدان من عاصر تلك الأيام، محفورة صورهم في الذاكرة الجمعية لملايين العرب الذين شهدوا اسطورة ذلك الفدائي الذي لا يُقهر، والذي كان يُدافع عن جدار ليس له، ولكنه نصب خياماً في ظلِّ ذلك الجدار. نعم، كان يُدافع عن خيامه الرثَّة العامرة بالحياة.
ذلك الفدائي ظلَّ في الخندق المتقدم يقاتل "بسيطٌ كالماء، واضحٌ كطلقة مسدس" ذلك الفدائي الذي هتف: "الله أكبر، هذه آياتنا، فاقرأ، باسم الفدائي الذي خَلَقَا، من جُرْحِهِ شَفَقَا". ذلك الفدائي التي كانت بيروت خيمته الأخيرة وخندقه الأخير وقلعته الأخيرة وجداره الأخير وقصته الأخيرة وغصته الأخيرة وصورته الأخيرة وسورته الأخيرة.
ذلك الفدائي الذي كان "يتوسد خندقه الرملي وحيداً، ويداه تحيطان برشاش مملوء بالموت" ينتظر الزائر القادم جواً وبراً وبحراً و"المدثر" بالفولاذ الطائر والزاحف والسابح "سيأتي الزوار مساءً، زائرة تحمل قنابل عنقودية، أخرى ستمشط بالنار سهولاً تمتد، سياتي الأعداء مساءً، كقطيع ذئاب كاسرة، يلتهمون بيوت الطين، وأشجار التفاح، وكراسات الأطفال، ورأس الفدائي، الفدائي يرتب خندقه، الماء هُنا، والطلقات هُناك، وها هي صورة نرجسة تبتسم لفدائي، يحمل رشاشاً وخضاراً، الزوار يجيئون، فأهلاً، يُطلق طلقته الأولى، سيظل يُقاتل حتى آخر حبة رمل من هذا الخندق".
في هذه الجدارية الرحبة الفسيحة الدامية الأسطورية والتي امتدت إلى مدارج مطار بيروت الدولي شوهد الشهيد سعد صايل من حركة فتح والشهيد أبو علي مصطفى من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين يقودان المعركة في الأيام الأولى من شهر آب. وبعد قصف مجنون من البر والبحر والجو لا يتقدم الأعداء شبراً واحداً. شلالٌ من حديدٍ ونار لا يترك بيروت تنام، ويسأل ذلك الفدائي في الخندق: أمن حجر يقدون النُعاس؟ أمن مزامير يقدون السلاح؟ كانوا يقصفون مقابر الشهداء، يدثرون بالفولاذ، ولا يتقدمون شبراً واحداً، وبيروت لا تنام في الظلام "ألف قذيفة أخرى ولا يتقدم الأعداء شبراً واحداً" وأخيراً تتقدم القوات الإسرائيلية أقلّ من عشرين متراً فقط على أحد مدارج مطار بيروت الدولي.
كان الفدائي يُدرك جيداً إن تقدم الجندي الإسرائيلي شبراً آخر على الأرض في بيروت يُفقد الفلسطيني حق العودة إلى دولته في فلسطين. لذا قاوم الأعداء، سقطت ذراعه فالتقطها وقاوم، ضرب عدوه بالذراع المقطوعة، قاوم بكل ما في الروح من روح. لا جوع في روحه، اكل من الرغيف الفذِّ ما يكفي المسير إلى نهايات الجهات. هي هجرة أخرى، فلا تذهب بعيداً "لمَ ترحلون وتتركون نساءَكم في بطن ليل من حديد؟ لمَ ترحلون وتعلقون مساءَكم فوق المخيم والنشيد" هي هجرة أخرى، فاحمل أيها الفدائي مفتاح قدسك " كم كنتَ وحدك، يا ابن أمي، يا ابن أكثر من أبٍ، كم كنت وحدك، القمح مرٌّ في حقول الآخرين، والماء مالح، والغيم فولاذ، وهذا النجم جارح، وعليك أن تحيا وأن تحيا، وأن تُعطي مقابل حبة الزيتون جلدك، كم كنت وحدك"
في الأيام الأخيرة من شهر أب اللهاب عام1982 وبعد قال وقيل و"هات وخود" تقرر الخروج الأسطوري الكبير للفدائيين الفلسطينيين. هي هجرة أخرى، صمتت بيروت الغربية حزناً إلا من زغاريد النساء وبكاء الأطفال وصوت حفيف الرز المنثور من شرفات بيوت أهل بيروت على طلائع الفدائيين المغادرة إلى الميناء بعد صمود في خنادق القتال دام أكثر من ثمانين يوماً، فيها اليوم الواحد أطول من قرن، استعملت إسرائيل لكسره كل ما تملك من ترسانة عسكرية وفشلت في النهاية في كسر عزيمة الفدائيين ورجال المقاومة اللبنانية من شيوعيين واشتراكيين وثوريين وناصريين وقوميين وإسلاميين ومهمشين.
ثمَّ جاء من يسعى في ليل بيروت البهيم عن "خارطة طريق" ما أكثر الخرائط التي رُسمت في الظلام وما زال الفدائي متمترساً في خندق الرملي وحيداً. "يلتقي الملوك بكل أنواع الملوك، من العقيد إلى العميد، يبذلون جهداً عند أمريكا، ويسأل صاحبي: وإذا استجابت للضغوط فهل سيسفر موتنا عن دولة أم خيمة". نعم يا صاحبي نحن من استجاب للضغوط، تمَّ الأمر والاتفاق وقع ونصَّ على خروج الفدائيين مع أسرهم وأسلحتهم الفردية في السفن عبر البحر الأبيض المتوسط إلى تونس واليمن الجنوبي وطرطوس السورية. وقلتُ يومها يا الله هذا البلاد بعيدة وقصيَّة عن فلسطين، وحين تشاهد هذه الحشود المغادرة تجهش بالبكاء وأنتَ تودع رفاق السلاح على الرصيف، يلبسون بذَّة الفدائي المرقطة وكوفياتهم تخفق في الريح. تتفرج على الفدائيين المغادرين في هجرة أخرى إلى كل الجهات، تقول لهم وأنتَ في أشد حالات القهر: إلى أين أنتم راحلون وفي القلوب مطارحكم. وهتف ذلك الفدائي في الجموع قبل الرحيل: " نحن البدايةُ، كم سنة وأنا التوازن بين ما يجبُ؟ كُنا هُناك، ومن هُنا ستهاجر العربُ، لعقيدة أخرى، وتغتربُ، قصبٌ هياكلنا، وعروشنا قصبُ، في كل مئذنة حاوٍ، ومغتصبُ، يدعو لأندلس إن حوصرت حلبُ".
بسام أبو شريف عضو المكتب السياسي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ورئيس تحرير مجلة "الهدف" الفلسطينية يلملم أغراضه، ماذا يأخذ وماذا يترك؟ يستعجله الرفاق في الجبهة الشعبية: يا رفيق بسام علينا أن نُغادر. يحزم أمره أخيراً فيحمل المجلد الأول من أعداد مجلة "الهدف" أغلى ما يملك، يضعه في كيس "البحار" وينطلق مع الرفاق إلى السفينة المغادرة. كانت مجلة "الهدف" التي أسسها غسان كنفاني وصدر عددها الأول في السادس عشر من شهر آب اللهاب عام 1969 قد تحولت أثناء حصار بيروت إلى جريدة يومية باسم "الهدف" أيضاً وراحت تُوزع على الفدائيين في الخنادق ومتاريس أكياس الرمل. كانت تسهم إلى حدٍ ما في صمود الفدائي فهو إنسان في النهاية له ما لنا وعليه أكثر مما علينا. له عواطف جياشة، ومشاعر فيها الفرح والحزن، يُحب كما نحب، ويعشق كما نعشق، ويحلم كما نحلم. يستمتع بالشاي والسجائر وقهوة الصباح المفقودة.
في حصار بيروت اختلطت الأدوار فكان معين بسيسو الشاعر والشيوعي والفدائي هُناك خلف المتراس. وكان محمود درويش محاصراً بكل أنواع الحصار البري والبحري والجوي. وخليل حاوي لم يحتمل مشاهد الدبابات الإسرائيلية تُحاصر بيروت فانتحر من فوهة بندقية صيد، لا يُريد أن يشهد الفصل الأخير من المدينة، ولا يُريد أن يكتب قصيدته الأخيرة بالحبر، فاستعجل الموت وكتب قصيدته الأخيرة بالدم.
ونسأل الرفيق جورج حبش قبل أن يُغادر بيروت: ماهي الآفاق يا حكيم وأنت تُغادرنا؟ يُجيب بحماسته المعهودة وخبرة المُحارب الذي قاتل على جبهات كل المعارك: الطريق طويل إلى فلسطين، كل فلسطين، ولا يغرنك قلَّة سالكيه، فأهل فلسطين أدرى بشعابها، ولن نترك خنادقنا وبنادقنا فهي التي سترشدنا في هذا الطريق الطويل وهي سهمنا إلى الهدف الواضح الصريح، سنعود من جديد لأن الثورة مستمرة.
وغادر الحكيم بيروت، وأرى طيفاً بعيداً في الصورة أيكون رفيقنا الشهيد جورج حاوي-رحمه الله- جاء مودعاً. ويهتف الفدائي: "يا أهل لبنان الودعا، شكراً لكل شُجيرة حملت دمي، لتضيء للفقراء عيد الخبز، شكراً لكل مسدس غطى رحيلي بالأرز وبالزهور، وكان يبكي أو يزغرد ما اسطاعا، اليوم أكملت الرسالة فيكم، فلتطفئوا لهبي، إذا شئتم، عن الدُنيا، وإن شئتم فزيدوه اندلاعا، يا أهل لبنان الوداعا"
سقطت قلاعٌ قبل هذا اليوم، ولكن بيروت كانت بداية "الفكرة" أن نكون أو لا نكون، فهل ندرك المجهول فينا، وهذه الصحراء تكبر حولنا، ويقول الفدائي لابنته المضطجعة على درجات السلم الحجري "نامي قليلاً يا ابنتي نامي قليلا، الطائرات تعضني. وتعض ما في القلب من عسل، فنامي في طريق النحل، نامي، قبل أن أصحو قتيلا".
يا ابنتي كم مرة تتفتح الزهرة، وكم مرة ستسافر الثورة، يا ابنتي ما أكبر الفكرة، ما أصغر الدولة؟ يا ابنتي رحلوا وما قلوا شيئاً عن العودة. والوطن حقيبة، والحقيبة وطن الغجر، شعبٌ يخيم في الأغاني والدخان، شعبٌ يُفتش عن مكان، بين الشظايا والمطر. هل خرج الفدائي من بيروت منتصراً على الدنيا، لكَ أن تكون أو لا تكون.
بعد ستة أشهر من هجر الفدائي "ست الدنيا" بيروت، في ربيع عام 1983 كنتُ في منطقة "الجسر الأبيض" قريباً من ضريح شيخنا الأكبر محيي الدين بن عربي في سفح جبل قاسيون في دمشق العاصمة السورية أنظر في واجهة مكتبة أنيقة أبحث في عناوين الكتب والمجلات والجرائد فلمحتها بعد غياب، فرحت فرح الأطفال بالعيد، ها هي مجلة "الهدف" تعاود الصدور من دمشق "أعانها الله" أقصد "الهدف" لأن مساحة الحرية هُنا في دمشق أضيق من بيروت، وقد تكون مقيدة، مسجونة، هُنا فقط فرع فلسطين للمخابرات أوسع، وكل الأشياء اضيق، الشارع أضيق، صدور العسكر أضيق، مساحة التعبير أضيق، الجرائد أضيق، الإذاعة أضيق، التلفزيون أضيق، خُلُق الرئيس أضيق، قاعة الدرس في الجامعة أضيق، محراب المسجد اضيق، ناقوس الكنيسة أضيق، وحتى القبور أضيق، مائدة الطعام أضيق، كأس الشاي أضيق، علبة التبغ أضيق، والهواء في جبل قاسيون أضيق، هُنا في دمشق يخنق الضيق البشر؟ فكيف ستتدبر "الهدف" أمرها؟ وحتى لا تفقد امتيازها بعد أن ضاقت بها السبل رضيت بالأمر الواقع.
قلتُ في سري رحم الله الشهيد غسان كنفاني، ورحم الله ذلك "الإرهابي" العظيم وديع حداد الذي رثاه كمال خير بيك قائلاً: "إرهاب" عفوك لا تصدق ما نقول، نحن من جملة الآتين من وحل الهزيمة، جئنا لنخفي عنك أو عنا تفاصيل الجريمة، كان لنا موتان، موت الآخرين وموتنا، كنا نموت لأنهم ماتوا ونبعث كي نموت ليولدوا، يا موتنا السري من يُصغي إليك ومن يراك، يا موتنا السري في كل الدقائق موتنا العلني ليس سوى صداك.
ملحوظة:
أتوجه بالشكر والتقدير والعرفان الجميل للشعراء: السوري رياض الصالح الحسين، الفلسطيني محمود درويش، اللبناني كمال خير بيك، على إثراء الموضوع، وذلك من خلال الاستعانة بمقاطع من قصائدهم التي كُتبت في تلك الفترة من التاريخ.