فيلسوف التغيير:
يُعرف العالم الحديث بأنه عالم التغيير، وأكثر من أي وقت مضى يستطيع الناس لمس التغيير الحادث في اسلوب حياتهم, وفي ما يحيطهم من مستجدات في الناحية التقنية وفي تقدم العلوم وأساليب العيش في حياتهم اليومية. وقد أفرز العالم الحديث نظريتين هما عنوان التغيير في هذا العصر، أولاهما نظرية داروين في النشوء والارتقاء, وثانيهما الديالكتيك الهيجلي الذي استعارته الماركسية وشكل مفهوماً اساسياً في المادية الجدلية للشيوعية العالمية.
ومع ذلك فان حقيقة التغيير ما كانت خافية على أحد منذ القديم: فالفصول في تغير، كذلك حياة الانسان نفسها,وجسمه في تبدل دائم واضح المعالم. ولكن، وفي فترات مختلفة من التاريخ، وبالتحديد في زمن اليونانيين القدماء رفض أناس سنة التغيير تلك, وآمنوا بثبات الأشياء. من أمثال هؤلاء كان بارمنيدس وتلميذه زينون الايلي القائلين أن التغيير وما ينشأ عنه من حركة إنما هو مجرد خداع بصري.
من هو هيراقليطيس؟
إن المعلومات المتوفرة عن هيراقليطيس غير كثيرة. ولكن الأسوأ من ذلك ان كتاباته تعتبر مفقودة أيضاً, لم يبق منها الا شذرات متفرقة في كتب اولئك الذين اقتبسوا او ناقشوه أو تعرضوا لآرائه.
وقد أطلق معاصرو هيراقليطيس عليه اسم "المبهم" لأنهم لم يفهموا كتاباته، فما بالك بالأجيال اللاحقة, من الذين استغلقت عليهم رموزه؟
ولد هيراقليطيس في المئة السادسة قل الميلاد في مدينة يونانية تدعى إفسوس. ولقد كانت عائلته عريقة ونبيلة, فورث منها وظيفة ذات صبغة دينية أو سياسية. ولما لم تكن الوظيفة تناسب مزاجه، فانه تخلى عنها لأحد إخوته. ويقول فيليب ويلبرانت في كتابه عن هيراقليطيس, أنه كان في مزاجه وسلوكه حزيناً ومتغطرساً، وكان عنيداً الى جانب ذلك. ويذكر أيضا أن فيلسوغا آخر هو ديوجاينس, وصفه بأنه كان كارهاً للبشر. وكانت هذه الصفات قد أدت به الى إعتزال حياة الناس والعيش في الجبال, متخذاً من الأعشاب والجذور طعامه. ويذكر عنه انه قال "ان رجلاً واحداً يساوي عندي عشرة آلاف رجل إذا كان من الطبقة الاولى".
التناقض في كتابات هيراقليطيس
تعود صعوبة كتابات هيراقليطيس الى كونها متناقضة, ظاهرياً على الأقل، ولكن هذا التناقض نفسه يكسبها، مع ما يلمس فيها من بعد النظر والعمق، جدية صارمة تجعلها موضوع تفسيرات عديدة. لقد تعاقبت أجيال من الفلاسفة اليونانيين وغير اليونانيين وهم يجربون حظهم في حل هذا الفيلسوف الملغز. أما آباء الكنيسة المسيحية فقد اعتبروه المسيحي الأول. واستعاروا منه "اللوجوس", التي صارت عندهم "الكلمة" كما ورد في انجيل يوحنا: "في البدء كان الكلمة".
وفي العصر الحديث خصص الفيلسوف الألماني هيدجر خمسين صفحة من كتاب "مقالات ومحاضرات" لشرح شذرتين من شذرات هيراقليطيس بينما يعده اصحاب المذهب الديالكتيكي جدهم الأعلى.
إن الأمثلة على التناقض في أقوال هذا الفيلسوف كثيرة نذكر منها قوله :"الطريق المستقيم والطريق الملتوي طريق واحد". كذلك " الدّاء والدواء هما الشيء ذاته". أو مثل قوله :"الطريق الصاعدة والطريق الهابطة هما نفس الطريق".
ويجدر بنا ان نشير الى أن التناقض الظاهري في أقوال الفلاسفة غالباً ما يسهم في انتشارها. فعندما أعلن الحلاج مثلاً قائلاً :"أنا الله", تقدم الكثير من المفسرين لشرح وجهة نظر الحلاج وجعل كلامه هذا لا يخالف قاعدة التوحيد العظمى عند المسلمين, بل يتمشى مع ما يعرف بوحدة الوجود. وعندما قال المسيح مثلاً "أحبوا كارهيكم", فإنه أثار في النفوس رغبة في استجلاء معنى هذا الكلام ونفض التناقض الظاهري العالق به، وفي النهاية جعل هذه المقولة حكمة أخلاقية من الطراز الأول.
لا يمكن عبور نفس النهر مرتين!
ربما كانت هذه الشذرة لهراقليطيس أشهر الشذرات الباقية منه. وكثير من الناس إنما يعرفونه يقدرونه بفضل هذه الشذرة بالذات. ويقول الشرّاح: أن المرء الذي يعبر النهر مرة, لا يستطيع أن يعبر نفس النهر مرة ثانية، والسبب بسيط : ذلك أن المياه في النهر قد تغيرت من المرة الاولى للمرة الثانية. ولذلك فان النهر ليس نفسه. فالنهر ليس فقط مجرى الماء, بل هو أيضاً الماء الذي يجري فيه.
ويعترض زينون الايلي على هذه الشذرة قائلاً :"ليس فقط ان المرء لا يستطيع عبور نفس النهر مرتين، بل أنه لا يستطيع عبوره حتى مرة واحدة". ولفهم ما يعنيه زينون بهذا الكلام يكفي أن نتذكر اعتقاده عن استحالة الحركة والتنقل.
أما كيركيغارد الفيلسوف الدانمركي من القرن التاسع عشر, فيسخر من فهم زينون الايلي واعتراضه على كلام هيراقليطيس، فعبور النهر هذا يرمز برأي كيركيغارد، وهو الفيلسوف الوجودي، الى تجربة حياتية فيها من التجربة الانسانية ما فيها من الامل والقلق.
ومثل هذه التجربة غير قابلة للتكرار، ذلك ان حركة الماء في النهر هي كحركة الزمن، أو ما يطلق عليه الفيلسوف الفرنسي برجسون اسم "الديمومة"، لا يمكن أن تعاد الى وراء، ففي المرة الثانية يكون قد أضيف الى تجربة الانسان كثير من الحوادث والعوامل التي صارت جزءاً منه.
والانسان ليس هو في المرة الثانية كما هو في المرة الاولى. وعلى سبيل المثال لا يستطيع المرء أياً كان أن يمر بنفس تجربة الحب مرتين، فهو في المرة الثانية يكون قد تعلّم شيئاً من التجربة الاولى.
الحرب أب وملك للجميع
تقول هذه الشذرة :"إن الحرب أب وملك للجميع، وهي التي جعلت البعض آلهة والآخرين بشراً، وجعلت البعض عبيداً، والآخرين أحراراً". وفي شذرات اخرى في موضوع الحرب يقول هيراقليطيس : "ينبغي أن يكون مفهوماً أن الحرب حالة عامة، وأن الصراع عدل وأن كل الأشياء لا بد أن ترد جبرية الصِّراع". كذلك في شذرة ثالثة :"أخطأ هوميروس في قوله : لو أن هذا الصراع زال من بين الآلهة والبشر، لأنه لو حدث ذلك ما تبقى شيء على ظهر الوجود".
وتبدو هذه الشذرات وكأنها مأخوذة عن موضوع "صراع البقاء", أهم المبادئ التي تقول بها الداروينية في نشوء وتطور الكائنات الحية على وجه الأرض حتى ظهور الانسان. ولكن الايمان بالصراع وبمبدأ القوة, اعتقاد شائع في جميع العصور الانسانية وفي مختلف الحضارات حتى عصرنا الحاضر. ومن جهة أخرى تدين الماركسية, بمبدأ صراع الطبقات كمبدأ لا يعمل بالصدفة وبالنية الطيبة ولكنه يعمل جهاراً، وبثبات، كما هي الحال في القوانين الطبيعية. والحرب هي مظهر آخر من مبدأ عام هو "وحدة الأضداد" التي فيها يؤدي الاختلاف الى سلام ووحدة بينها.
وعلى سبيل المثال فان الاصوات المنفردة والمتنافرة في المقطوعة الموسيقية, تتحول بعد حين الى صوت واحد متآلف، أما الحدة والاختلاف بين هذه الاصوات فتتحول الى وحدة وتناسق. وهناك شذرات اخرى ليهراقليطيس تقول بمبدأ وحدة الاضداد مثل :" إن التخالف يجلب الائتلاف، ومن التخالف يأتي أجمل ائتلاف" وكذلك: "بالمرض تكون الصحة ممتعة وبالشر يكون الخير مجلبة للسرور, وكذلك بالجوع يكون الشبع، وبالتعب تكون الراحة".
نسبية الحقيقة
في بعض الشذرات يبدي هيراقليطيس اهتماماً بمبدأ نسبية الحقيقة، فهو يقول مثلاً :"إن ماء البحر عذب جداً وأجاج جداً في وقت واحد، فالأسماك تشربه ويكون صحياً لها. ولكن الناس لا يشربونه بل هو مميت لهم".
وفي شذرة اخرى يقول :" تفضل الحمير التبن على الذهب".
نسبية الحقيقة لا بد أن تقود القائل بها الى نسبية الخير والشر، فليس هناك من خير مطلق او شر مطلق. فالنمر الذي وجد جديا ضالا يأكله يشكر الله على نعمته, بينما ترى أم الجدي الفاقدة ابنها, ان الله قد تخلى عن رحمته وعنايته.
ومن الطبيعي أن تكون هناك صلة وثيقة بين صراع الاضداد والقول بمبدأ التغيير والايمان بنسبية الخير والشر. ذلك أن الشر والخير لا يكونان في هذا السياق الا وجهين لعملة واحدة، فالنار التي تحرق الأحياء القديمة الضيقة والقذرة وتأتي على معالمها, انما تمهد الطريق لبناء أحياء جديدة أجمل وأقوى.
فضل الطبقة الاولى
ذكرنا ان هيراقليطيس كان ينفر من حياة الدهماء. وقوله "ان شخصاً واحداً أفضل عندي من عشرة آلاف إذا كان من الطبقة الاولى", انما يشهد على ذلك. وفي شذرات اخرى يعبر هذا الفيلسوف عن نفوره من حكم الأغلبية. أما عن اهل إفسوس، أهل مدينته فهو يقول : "مِن الأحسن لأهل إفسوس أن يشنقوا أنفسهم، كل رجل منهم، أن يتركوا مدينتهم يحكمها الفتيان، لأنهم نفوا هرمادورس - أفضل رجل بينهم - معلنين: لن نستبقي بيننا أحداً يتفوق على الآخرين، فإن وُجِدَ مثل هذا الانسان، فليذهب وليعش في مكان آخر".
ويشبه نفور هيراقليطيس من أهل بلدته نفور أفلاطون من الأثينيين وقد حكموا على سقراط بالموت، متخذين من حكم الأغلبية، وهي أغلبية جاهلة على كل حال, أو خاضعة لأصحاب السلطة، مرجعا يستندون اليه في حكمهم هذا. وهو ما دفع بأفلاطون الى الكفر بالديمقراطية, كوسيلة للحكم, وتفضيله من ثم, حكم الفلاسفة والخاصّة, على حكم الرعاع الذين لا يميزهم غير كثرتهم.
لقد أثيرت مشكلة الخاصة من الناس في أماكن وأزمان مختلفة من تاريخ البشرية، فمثلاً يعيب نيتشه على الغرب أنه أخذ بروح الجماهيرية الذي أدخلتها اليه التعاليم المسيحية, فيما تدعو اليه من مساواة بين أطراف لا يجوز ان تكون متساوية برأيه. يقول هيراقليطيس في شذرة أخرى :"إن أفضل الناس يفضّلون شيئاً واحداً على كل ما عداه، انهم يفضلون المجد الخالد على الأشياء الفانية، بينما يتخم الدهماء أنفسهم كالماشية، فالخاصة وهم أفضل الناس ينتبهون لشيء واحد فقط، كأن يكون النصر في الحروب، أو الوصول الى الحكمة، وهذه الأمور هي التي تكسبهم المجد والخلود, بينما يضربون الصفح عن باقي الأشياء التافهة التي يهتم بها الدهماء".
الموت واليقظة
يقول هيراقليطيس في شذرة تربط بين الموت واليقظة : "الذي نراه في اليقظة موت، والذي نراه في النور أحلام". والعلاقة بين الموت واليقظة هنا هي علاقة أصيلة. ان يقظتنا كفيلة بأن تجعلنا نحس بالموت، فالحياة الحقيقية للمرء هي الحياة التي يكون فيها الموت واردا في كل خطوة. والمغامرون مثلاً والذين تكون أعمالهم محض مخاطرة, إنما يشعرون بحياتهم ويعيشونها أكثر من أولئك الذين يقضون حياتهم نائمين او بعيدين في أمان عن الأخطار.
والقول بأن حالة الموت تستدعي اليقظة, يذكرنا هذا بقولين أحدهما للإمام علي بن أبي طالب, يقول فيه :"إن الناس نيام فإن ماتوا صحوا". فإذا كانت المغامرة أو الاقتراب من الموت فيهما من اليقظة الشيء الكثير, فإن الموت فيه يقظة تامة حسب هذا القول. والإمام يشير الى ان الناس في حياتهم الدنيوية غافلون في الحقيقة عن الحقائق المصيرية الكبرى، وعند موتهم يعود اليهم صوابهم ويعلمون ما هم فيه.
وفي موضع آخر يقول هيراقليطيس مؤيداً هذا المعنى :"لا ينبغي على الانسان أن يعمل او يتكلم كما لو أنه نائم" ويحمل هذا الكلام دعوة هيراقليطيس للناس أن يعيشوا حياتهم متيقظين وغير نائمين، وذلك على الرغم من أن حياة اليقظة إنما تزيد إحساسهم بالموت وتزيد من تعرضهم له، فحياة الانسان الذي ينعم بالأمان تشبه حياة الغائب عن أحداث الحياة الحقيقية. وعلى أية حال, فإن هيراقليطيس يقول في موضع آخر :"حتى النائمون يعلمون ويشاركون فيما يجري في العالم". وهو قول يناقض ظاهرياً أقواله السابقة. ومع ذلك فهو يرشدنا هنا أيضاً الى الائتلاف الخفي بين الأضداد. أما الذين ينتظرون مفاجأة حقيقية فلربما تمعنوا بهذا القول :
كثرة التعلم لا تعلّم الفهم!
قد يرى البعض ان هيراقليطيس يدعو الى عدم التعلم او الاستزادة من العلم في هذه الشذرة. ولكن فهم المعنى الحقيقي لما يرمي اليه الفيلسوف, يعيدنا الى شذرة أخرى تساعدنا في توضيحها، يقول فيها: "ان العيون والآذان شواهد رديئة لهؤلاء الذين لهم أرواح بربرية". فالعلم يكتسب بواسطة الآذان والعيون, وهي ادوات الحواس. ولكن هذه الادوات تكون رديئة وعديمة النفع بما تحصله من معارف لدى من كانت ارواحهم بربرية. ان العلم الحقيقي هو العلم الذي تستوعبه الروح اللطيفة الواعية. والعيون والآذان، ليست كافية من أجل الفهم التام. الانسان الذي يبغي الحقيقة لا يكفيه أن يعرف كثيراً من التفاصيل, بل ينبغي أن ينظر الى ما اكتسب من هذه العلوم والتفاصيل بروحه.
وربما ينطبق هذا القول لهيراقليطيس انطباقاً مدهشاً على ما يحدث اليوم في العصر الحاضر في أصول التعلم والفهم، فكثير من الذين يتعلمون ويحملون الشهادات لم يُحصِّلوا في الحقيقة إلا معلومات مبتورة لغرض استعمالها في أعمالهم وأغراضهم اليومية، بينما ولكي يفهموا حقيقة ما تعلموه, فإنهم بحاجة الى نفوس واعية متفهمة لحقيقة ما يدرسون من علوم.
يُعرف العالم الحديث بأنه عالم التغيير، وأكثر من أي وقت مضى يستطيع الناس لمس التغيير الحادث في اسلوب حياتهم, وفي ما يحيطهم من مستجدات في الناحية التقنية وفي تقدم العلوم وأساليب العيش في حياتهم اليومية. وقد أفرز العالم الحديث نظريتين هما عنوان التغيير في هذا العصر، أولاهما نظرية داروين في النشوء والارتقاء, وثانيهما الديالكتيك الهيجلي الذي استعارته الماركسية وشكل مفهوماً اساسياً في المادية الجدلية للشيوعية العالمية.
ومع ذلك فان حقيقة التغيير ما كانت خافية على أحد منذ القديم: فالفصول في تغير، كذلك حياة الانسان نفسها,وجسمه في تبدل دائم واضح المعالم. ولكن، وفي فترات مختلفة من التاريخ، وبالتحديد في زمن اليونانيين القدماء رفض أناس سنة التغيير تلك, وآمنوا بثبات الأشياء. من أمثال هؤلاء كان بارمنيدس وتلميذه زينون الايلي القائلين أن التغيير وما ينشأ عنه من حركة إنما هو مجرد خداع بصري.
من هو هيراقليطيس؟
إن المعلومات المتوفرة عن هيراقليطيس غير كثيرة. ولكن الأسوأ من ذلك ان كتاباته تعتبر مفقودة أيضاً, لم يبق منها الا شذرات متفرقة في كتب اولئك الذين اقتبسوا او ناقشوه أو تعرضوا لآرائه.
وقد أطلق معاصرو هيراقليطيس عليه اسم "المبهم" لأنهم لم يفهموا كتاباته، فما بالك بالأجيال اللاحقة, من الذين استغلقت عليهم رموزه؟
ولد هيراقليطيس في المئة السادسة قل الميلاد في مدينة يونانية تدعى إفسوس. ولقد كانت عائلته عريقة ونبيلة, فورث منها وظيفة ذات صبغة دينية أو سياسية. ولما لم تكن الوظيفة تناسب مزاجه، فانه تخلى عنها لأحد إخوته. ويقول فيليب ويلبرانت في كتابه عن هيراقليطيس, أنه كان في مزاجه وسلوكه حزيناً ومتغطرساً، وكان عنيداً الى جانب ذلك. ويذكر أيضا أن فيلسوغا آخر هو ديوجاينس, وصفه بأنه كان كارهاً للبشر. وكانت هذه الصفات قد أدت به الى إعتزال حياة الناس والعيش في الجبال, متخذاً من الأعشاب والجذور طعامه. ويذكر عنه انه قال "ان رجلاً واحداً يساوي عندي عشرة آلاف رجل إذا كان من الطبقة الاولى".
التناقض في كتابات هيراقليطيس
تعود صعوبة كتابات هيراقليطيس الى كونها متناقضة, ظاهرياً على الأقل، ولكن هذا التناقض نفسه يكسبها، مع ما يلمس فيها من بعد النظر والعمق، جدية صارمة تجعلها موضوع تفسيرات عديدة. لقد تعاقبت أجيال من الفلاسفة اليونانيين وغير اليونانيين وهم يجربون حظهم في حل هذا الفيلسوف الملغز. أما آباء الكنيسة المسيحية فقد اعتبروه المسيحي الأول. واستعاروا منه "اللوجوس", التي صارت عندهم "الكلمة" كما ورد في انجيل يوحنا: "في البدء كان الكلمة".
وفي العصر الحديث خصص الفيلسوف الألماني هيدجر خمسين صفحة من كتاب "مقالات ومحاضرات" لشرح شذرتين من شذرات هيراقليطيس بينما يعده اصحاب المذهب الديالكتيكي جدهم الأعلى.
إن الأمثلة على التناقض في أقوال هذا الفيلسوف كثيرة نذكر منها قوله :"الطريق المستقيم والطريق الملتوي طريق واحد". كذلك " الدّاء والدواء هما الشيء ذاته". أو مثل قوله :"الطريق الصاعدة والطريق الهابطة هما نفس الطريق".
ويجدر بنا ان نشير الى أن التناقض الظاهري في أقوال الفلاسفة غالباً ما يسهم في انتشارها. فعندما أعلن الحلاج مثلاً قائلاً :"أنا الله", تقدم الكثير من المفسرين لشرح وجهة نظر الحلاج وجعل كلامه هذا لا يخالف قاعدة التوحيد العظمى عند المسلمين, بل يتمشى مع ما يعرف بوحدة الوجود. وعندما قال المسيح مثلاً "أحبوا كارهيكم", فإنه أثار في النفوس رغبة في استجلاء معنى هذا الكلام ونفض التناقض الظاهري العالق به، وفي النهاية جعل هذه المقولة حكمة أخلاقية من الطراز الأول.
لا يمكن عبور نفس النهر مرتين!
ربما كانت هذه الشذرة لهراقليطيس أشهر الشذرات الباقية منه. وكثير من الناس إنما يعرفونه يقدرونه بفضل هذه الشذرة بالذات. ويقول الشرّاح: أن المرء الذي يعبر النهر مرة, لا يستطيع أن يعبر نفس النهر مرة ثانية، والسبب بسيط : ذلك أن المياه في النهر قد تغيرت من المرة الاولى للمرة الثانية. ولذلك فان النهر ليس نفسه. فالنهر ليس فقط مجرى الماء, بل هو أيضاً الماء الذي يجري فيه.
ويعترض زينون الايلي على هذه الشذرة قائلاً :"ليس فقط ان المرء لا يستطيع عبور نفس النهر مرتين، بل أنه لا يستطيع عبوره حتى مرة واحدة". ولفهم ما يعنيه زينون بهذا الكلام يكفي أن نتذكر اعتقاده عن استحالة الحركة والتنقل.
أما كيركيغارد الفيلسوف الدانمركي من القرن التاسع عشر, فيسخر من فهم زينون الايلي واعتراضه على كلام هيراقليطيس، فعبور النهر هذا يرمز برأي كيركيغارد، وهو الفيلسوف الوجودي، الى تجربة حياتية فيها من التجربة الانسانية ما فيها من الامل والقلق.
ومثل هذه التجربة غير قابلة للتكرار، ذلك ان حركة الماء في النهر هي كحركة الزمن، أو ما يطلق عليه الفيلسوف الفرنسي برجسون اسم "الديمومة"، لا يمكن أن تعاد الى وراء، ففي المرة الثانية يكون قد أضيف الى تجربة الانسان كثير من الحوادث والعوامل التي صارت جزءاً منه.
والانسان ليس هو في المرة الثانية كما هو في المرة الاولى. وعلى سبيل المثال لا يستطيع المرء أياً كان أن يمر بنفس تجربة الحب مرتين، فهو في المرة الثانية يكون قد تعلّم شيئاً من التجربة الاولى.
الحرب أب وملك للجميع
تقول هذه الشذرة :"إن الحرب أب وملك للجميع، وهي التي جعلت البعض آلهة والآخرين بشراً، وجعلت البعض عبيداً، والآخرين أحراراً". وفي شذرات اخرى في موضوع الحرب يقول هيراقليطيس : "ينبغي أن يكون مفهوماً أن الحرب حالة عامة، وأن الصراع عدل وأن كل الأشياء لا بد أن ترد جبرية الصِّراع". كذلك في شذرة ثالثة :"أخطأ هوميروس في قوله : لو أن هذا الصراع زال من بين الآلهة والبشر، لأنه لو حدث ذلك ما تبقى شيء على ظهر الوجود".
وتبدو هذه الشذرات وكأنها مأخوذة عن موضوع "صراع البقاء", أهم المبادئ التي تقول بها الداروينية في نشوء وتطور الكائنات الحية على وجه الأرض حتى ظهور الانسان. ولكن الايمان بالصراع وبمبدأ القوة, اعتقاد شائع في جميع العصور الانسانية وفي مختلف الحضارات حتى عصرنا الحاضر. ومن جهة أخرى تدين الماركسية, بمبدأ صراع الطبقات كمبدأ لا يعمل بالصدفة وبالنية الطيبة ولكنه يعمل جهاراً، وبثبات، كما هي الحال في القوانين الطبيعية. والحرب هي مظهر آخر من مبدأ عام هو "وحدة الأضداد" التي فيها يؤدي الاختلاف الى سلام ووحدة بينها.
وعلى سبيل المثال فان الاصوات المنفردة والمتنافرة في المقطوعة الموسيقية, تتحول بعد حين الى صوت واحد متآلف، أما الحدة والاختلاف بين هذه الاصوات فتتحول الى وحدة وتناسق. وهناك شذرات اخرى ليهراقليطيس تقول بمبدأ وحدة الاضداد مثل :" إن التخالف يجلب الائتلاف، ومن التخالف يأتي أجمل ائتلاف" وكذلك: "بالمرض تكون الصحة ممتعة وبالشر يكون الخير مجلبة للسرور, وكذلك بالجوع يكون الشبع، وبالتعب تكون الراحة".
نسبية الحقيقة
في بعض الشذرات يبدي هيراقليطيس اهتماماً بمبدأ نسبية الحقيقة، فهو يقول مثلاً :"إن ماء البحر عذب جداً وأجاج جداً في وقت واحد، فالأسماك تشربه ويكون صحياً لها. ولكن الناس لا يشربونه بل هو مميت لهم".
وفي شذرة اخرى يقول :" تفضل الحمير التبن على الذهب".
نسبية الحقيقة لا بد أن تقود القائل بها الى نسبية الخير والشر، فليس هناك من خير مطلق او شر مطلق. فالنمر الذي وجد جديا ضالا يأكله يشكر الله على نعمته, بينما ترى أم الجدي الفاقدة ابنها, ان الله قد تخلى عن رحمته وعنايته.
ومن الطبيعي أن تكون هناك صلة وثيقة بين صراع الاضداد والقول بمبدأ التغيير والايمان بنسبية الخير والشر. ذلك أن الشر والخير لا يكونان في هذا السياق الا وجهين لعملة واحدة، فالنار التي تحرق الأحياء القديمة الضيقة والقذرة وتأتي على معالمها, انما تمهد الطريق لبناء أحياء جديدة أجمل وأقوى.
فضل الطبقة الاولى
ذكرنا ان هيراقليطيس كان ينفر من حياة الدهماء. وقوله "ان شخصاً واحداً أفضل عندي من عشرة آلاف إذا كان من الطبقة الاولى", انما يشهد على ذلك. وفي شذرات اخرى يعبر هذا الفيلسوف عن نفوره من حكم الأغلبية. أما عن اهل إفسوس، أهل مدينته فهو يقول : "مِن الأحسن لأهل إفسوس أن يشنقوا أنفسهم، كل رجل منهم، أن يتركوا مدينتهم يحكمها الفتيان، لأنهم نفوا هرمادورس - أفضل رجل بينهم - معلنين: لن نستبقي بيننا أحداً يتفوق على الآخرين، فإن وُجِدَ مثل هذا الانسان، فليذهب وليعش في مكان آخر".
ويشبه نفور هيراقليطيس من أهل بلدته نفور أفلاطون من الأثينيين وقد حكموا على سقراط بالموت، متخذين من حكم الأغلبية، وهي أغلبية جاهلة على كل حال, أو خاضعة لأصحاب السلطة، مرجعا يستندون اليه في حكمهم هذا. وهو ما دفع بأفلاطون الى الكفر بالديمقراطية, كوسيلة للحكم, وتفضيله من ثم, حكم الفلاسفة والخاصّة, على حكم الرعاع الذين لا يميزهم غير كثرتهم.
لقد أثيرت مشكلة الخاصة من الناس في أماكن وأزمان مختلفة من تاريخ البشرية، فمثلاً يعيب نيتشه على الغرب أنه أخذ بروح الجماهيرية الذي أدخلتها اليه التعاليم المسيحية, فيما تدعو اليه من مساواة بين أطراف لا يجوز ان تكون متساوية برأيه. يقول هيراقليطيس في شذرة أخرى :"إن أفضل الناس يفضّلون شيئاً واحداً على كل ما عداه، انهم يفضلون المجد الخالد على الأشياء الفانية، بينما يتخم الدهماء أنفسهم كالماشية، فالخاصة وهم أفضل الناس ينتبهون لشيء واحد فقط، كأن يكون النصر في الحروب، أو الوصول الى الحكمة، وهذه الأمور هي التي تكسبهم المجد والخلود, بينما يضربون الصفح عن باقي الأشياء التافهة التي يهتم بها الدهماء".
الموت واليقظة
يقول هيراقليطيس في شذرة تربط بين الموت واليقظة : "الذي نراه في اليقظة موت، والذي نراه في النور أحلام". والعلاقة بين الموت واليقظة هنا هي علاقة أصيلة. ان يقظتنا كفيلة بأن تجعلنا نحس بالموت، فالحياة الحقيقية للمرء هي الحياة التي يكون فيها الموت واردا في كل خطوة. والمغامرون مثلاً والذين تكون أعمالهم محض مخاطرة, إنما يشعرون بحياتهم ويعيشونها أكثر من أولئك الذين يقضون حياتهم نائمين او بعيدين في أمان عن الأخطار.
والقول بأن حالة الموت تستدعي اليقظة, يذكرنا هذا بقولين أحدهما للإمام علي بن أبي طالب, يقول فيه :"إن الناس نيام فإن ماتوا صحوا". فإذا كانت المغامرة أو الاقتراب من الموت فيهما من اليقظة الشيء الكثير, فإن الموت فيه يقظة تامة حسب هذا القول. والإمام يشير الى ان الناس في حياتهم الدنيوية غافلون في الحقيقة عن الحقائق المصيرية الكبرى، وعند موتهم يعود اليهم صوابهم ويعلمون ما هم فيه.
وفي موضع آخر يقول هيراقليطيس مؤيداً هذا المعنى :"لا ينبغي على الانسان أن يعمل او يتكلم كما لو أنه نائم" ويحمل هذا الكلام دعوة هيراقليطيس للناس أن يعيشوا حياتهم متيقظين وغير نائمين، وذلك على الرغم من أن حياة اليقظة إنما تزيد إحساسهم بالموت وتزيد من تعرضهم له، فحياة الانسان الذي ينعم بالأمان تشبه حياة الغائب عن أحداث الحياة الحقيقية. وعلى أية حال, فإن هيراقليطيس يقول في موضع آخر :"حتى النائمون يعلمون ويشاركون فيما يجري في العالم". وهو قول يناقض ظاهرياً أقواله السابقة. ومع ذلك فهو يرشدنا هنا أيضاً الى الائتلاف الخفي بين الأضداد. أما الذين ينتظرون مفاجأة حقيقية فلربما تمعنوا بهذا القول :
كثرة التعلم لا تعلّم الفهم!
قد يرى البعض ان هيراقليطيس يدعو الى عدم التعلم او الاستزادة من العلم في هذه الشذرة. ولكن فهم المعنى الحقيقي لما يرمي اليه الفيلسوف, يعيدنا الى شذرة أخرى تساعدنا في توضيحها، يقول فيها: "ان العيون والآذان شواهد رديئة لهؤلاء الذين لهم أرواح بربرية". فالعلم يكتسب بواسطة الآذان والعيون, وهي ادوات الحواس. ولكن هذه الادوات تكون رديئة وعديمة النفع بما تحصله من معارف لدى من كانت ارواحهم بربرية. ان العلم الحقيقي هو العلم الذي تستوعبه الروح اللطيفة الواعية. والعيون والآذان، ليست كافية من أجل الفهم التام. الانسان الذي يبغي الحقيقة لا يكفيه أن يعرف كثيراً من التفاصيل, بل ينبغي أن ينظر الى ما اكتسب من هذه العلوم والتفاصيل بروحه.
وربما ينطبق هذا القول لهيراقليطيس انطباقاً مدهشاً على ما يحدث اليوم في العصر الحاضر في أصول التعلم والفهم، فكثير من الذين يتعلمون ويحملون الشهادات لم يُحصِّلوا في الحقيقة إلا معلومات مبتورة لغرض استعمالها في أعمالهم وأغراضهم اليومية، بينما ولكي يفهموا حقيقة ما تعلموه, فإنهم بحاجة الى نفوس واعية متفهمة لحقيقة ما يدرسون من علوم.
أحمد هيبي - هيراقليطيس .. لا يمكن عبور نفس النهر مرتين!
أحمد هيبي - هيراقليطيس .. لا يمكن عبور نفس النهر مرتين!
www.ahewar.org