أعود مجدداً لكتاب ( أحمد الرفاعي يساري متميز ) وللجزئية الثانية منه تحديداً – والتي خصصت للوثائق - حيث كتب دكتور رفعت السعيد تحت عنوان ( مذكرات لم تكتمل ) عن احداث جرت اثناء مسيرة احمد الرفاعي النضالية صنعها او ساهم في صنعها واصبحت جزء من تاريخ مصر السياسي بشيء من التعميم. وجزء من تاريخ الحركة العمالية بمصر بشيء من التخصيص.
اورد السعيد عدداً من الذكريات على لسان احمد الرفاعي بعضها ورد بشهادات سابقة في الجزء الأول من الكتاب وبعضها ترد لأول مرة في مقاله ولكنني سأعود بشيء من التحيز لروايته او لعلها رواية احمد الرفاعي نفسه عن قضية الشيوعية لأنقل منها الجزء الخاص بالشهيد صلاح بشري حيث كلف العمدة من قبل اللجنة المركزية للحزب بمرافقة جثمان الشهيدة من مطار القاهرة وحتى مطار عطبرة بعد أن يشرف على مظاهرة تجوب شوارع القاهرة للتنديد وشجب سلوك الإدارة الحاكمة تجاه المسجون صلاح بشرى واهمال علاجه حتى فارق الحياة.
( مضت المظاهرة، وهي تجد الروافد التي تمدها بالجماهير، طلبة وعمال من الجيزة، ما أن وصلت المظاهرة إلى ميدان التحرير حتى التقت بعشرات الألوف من العمال القادمين من شبرا وحلوان والوايلي والعباسية، وتوجهت المظاهرة إلى ميدان الأوبرا حيث صلي على جثمان الشهيد، وكان الغضب قد استبد بالجماهير وهي تهتف بسقوط الاستعمار، وسقوط الرجعية والسراي والمطالبة بمحاكمة الخونة ورجال المباحث ). (الكتاب ص 129)
وبعد خروج الجثمان من المسجد توالت الخطب التي كانت – على غير العادة – لا تتحدث عن صفات الشهيد ولا ترثيه بل كانت خطب نارية تحكي تفاصيل ما جرى في السجن وانتهى بمفارقة الروح للجسد والبدن للحياة. ثم نقرأ في فقرة تالية حديث النفس ( وما أن ارتفعت الطائرة في المساء، حتى بدأت انظر إلى جثمان صلاح في صندوقه الخشبي وعليه بعض الزهور وبطاقات النقابات والمدارس والكليات موضوعه على الصندوق.
( يا الفظاعة لقد كان صلاح معي في السجن منذ فترة قصيرة رأيته .. وهو ينزف دائماً من صدره .. سمعته .. وهو يكح حتى يوشك صدره أن يتمزق. تذكرت .. معاركنا في السجن من أجل الوصول إلى مجرد تركيب زجاج لمنع البرد في شهر يناير، اعتصامنا في السجن من أجل السماح له بكوب من الحليب. تذكرت .. إدارة السجن وهي ترفض بحجة أن ذلك ليس مدرجاً في اللائحة). ( الكتاب ص 130)
ويحدثنا السعيد عن المفاجأة التي احدثها الرفاعي حينما استبدل الكلمات الجامدة المحفوظة التي املاها عليه الباشا بكلمات حارة مرتجلة تنادي بسقوط المستعمر ( ومضت جنازة صلاح بشري ضخمة، مزدحمة بالآلاف من ابناء السودان، وهي تهتف بكفاح الشعبين في مصر والسودان. ويسقط الاستعمار والرجعية . ومضت المظاهرة كبحر بلا شطآن له حتى وصلنا إلى المقابر، حيث استبد الحماس بطاقم الطائرة واشتركوا في المظاهرة، مرديين نفس الهتافات ضد الاستعمار وضد فاروق). (الكتاب ص 131)
ثم إن العمدة التقى بزملاء الكفاح بالسودان ( كنت أعرف معظم قيادة الحزب الشيوعي السوداني، ولكن كانت هي المرة الأولى التي أرى فيها "الشفيع أحمد الشيخ" والعملاق "قاسم أمين" من رواد الحركة النقابية، ومن قيادات الحزب الشيوعي السوداني البارزة). (الكتاب ص 133)
يواصل العمدة في حديثه عن تلك الزيارة ( والتقاليد السودانية في التعازي، لا تختلف كثيراً عن نفس تقاليدنا في مصر، حيث يدور الحديث في استراحة المقرئ، عن الفقيد وصفاته. وكانت فرصة طيبة لشرح الظروف في مصر، وسجونها التي اغتيل فيها صلاح البشرى، مع التركيز على تبرئة حزب الوفد الذي تسلم السلطة قريبا، حيث بدأت انفراجه ديمقراطية، من دم صلاح، ). (الكتاب ص133)
بعد ان انتهت مراسم العزاء لذلك اليوم توجه العمدة مع قاسم أمين إلى الفندق الذي وصفه احمد الرفاعي بأنه الفندق الوحيد في المدينة (وقضيت الليلة مع الباشا في نفس الحجرة، وما أن اصبح الصباح، حتى وجدت قاسم يوقظني وهو يبتسم وصحبني إلى الخارج، حيث كان اعد مؤتمرا صحفيا قلت فيه كل ما في نفسي ضد فاروق والرجعية المصرية والانجليز.
( ولا ادرى ما الذي دفعني لان افكر في قضاء بضعة أيام في السودان استجابة لدعوة الرفاق السودانيين. ولكني فؤجئت بالطيارين وقد فكروا أيضا في عدم العودة، وخاصة بعد ان اشتركوا في المظاهرة وهتفوا ضد فاروق لكن الشيء الذي كان يقلقهم ما هو مصير الطائرة.. وهل سيتركوها .. وبعد نقاش قصير استقر رأينا على العودة وليكن ما يكون.) (الكتاب ص 134)
يواصل السعيد سرد ما جرى بعد ان حطت الطائرة بمطار القاهرة وهروب العمدة من الاعتقال وينتقل بنا لعهد محمد نجيب الذي اصدر قراراً بحل الاحزاب وترتب على ذلك حملة واسعة من الاعتقالات التي استهدفت الشيوعيين والقوى الديمقراطية في الأساس. وتحت عنوان جانبي "درس القرية الأول" يحدثنا عن تجربة اصدار اول منشور ( أول منشور اصدرناه يدور حول الطلبة المعتقلين في الثانوية العسكرية، حيث قتل الطالب عصام سري الطالب بكلية الطب. كانت تلك فرصة لابد ان نقتنصها لفضح الارهاب وقطع الطريق على مسيرة التعذيب التي كانت في بدايتها.
(حضر في هذه الفترة الرفيق عبد الخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعي السوداني وتمت اجتماعات طويلة بيننا انتهت إلى مفهوم موحد، ولكنه أصر في هذه الفترة عودة "الجنيد علي عمر" السوداني الذي كان عضوا في اللجنة المركزية لحدتو، ورغم عدم اقتناع الجنيد بالقرار، فقد نفذه وأقمنا حفلاً صغيراً رغم ظروف هربنا. واخذنا بعض الصور وكان هذا هو اللقاء الأخير مع جنيد زميل الدراسة والنضال). (الكتاب ص 136).
في ما تبقى من ( أوراق لم تكتمل) يحكي لنا رفعت السعيد تجربة العمدة العريضة مع السجون المصرية أمثال: سجن بني سويف، السجن الحربي، والنقلات النوعية التي احدثها احمد الرفاعي داخل تلك السجون بالتعاون من رفاقه بالسجن مثل استصلاح الأراضي وتغيير بيئة السجن بإحداث نشاطات اجتماعية.
تحت عنوان ( حدتو وثورة يوليو) يتحدثنا المقال عن تأييد حدتو لثورة 23 يوليو التي تبنت الشعارات الاشتراكية ولكن هذا التأييد احدث نوع من البلبلة في صفوف الحزب باعتبار ان حدوث انقلاب عسكري ذا طابع وطني ليس بالأمر المعتاد. غير ان التأييد كان " نابعاً من مشاركتنا فيها عضويا وسياسيا إذ كان لحدتو تنظيم في داخل الجيش، يساهم مع تنظيم الضباط الأحرار، بل كاعظم اعضائه في تنظيم الضباط الأحرار". (الكتاب ص 157)
ويتعرض السعيد في ذات المقال "مذكرات لم تكتمل" لتجربة الإضراب عن الطعام في "الأوردي 1955" والتي شارك فيها أحمد الرفاعي ورفاقه ( لم يشترك في الإضراب سوى مجموعة "حدتو" وبعض العناصر الديمقراطية وفشلت كل المحاولات لاقناع الآخرين بالاشتراك في الاضراب). (الكتاب ص 162)
وكانت المطالب التي من أجل اضرب المعتقلون عن الطعام تنحصر في اربعة مطالب هي السماح بقراءة الصحف، السماح بالزيارة، السماح بالمراسلة ونقل وجهة نظرنا إلى السلطة في عودة الديمقراطية).
ما تبقى من المقال عشر ورقات يخصصها دكتور رفعت السعيد للحديث عن مقاومة بور سعيد سنة 1956 للعدوان الثلاثي ولا تذكر هذه المقاومة إلا ويذكر العمدة أحمد الرفاعي الذي كان له دور كبير في نجاح هذه المقاومة. وعن أحداث هذه المقاومة وبخمس عناوين جانبية، جاءت الوثيقة الأخيرة في الكتاب تحمل هذا العنوان: ( المواجهة المباشرة مع العدوان الثلاثي في معركة بور سعيد) بقلم أحمد الرفاعي نفسه.
اتوقف ها هنا على ان اوصل بإذن الله في الحلقة الأخيرة من هذه المقالات الحديث عن العمدة أحمد الرفاعي