عادل الاسطة - لا القوة انتصرت ، ولا العدل الشريد

وأنا أقرأ أشعار محمود درويش ونثره، وأيضاً أشعار سميح القاسم ونثره، غالباً ما أقول إن المنهج الاجتماعي الماركسي يسعفنا كثيراً في تقديم تفسيرات وتأويلات وتعليلات أكثر إقناعاً، ولا يعني هذا عدم الاستعانة بمناهج أخرى أو عدم جدوى تلك المناهج.

منذ بداية حياتهما الشعرية، بخاصة في ستينيات القرن العشرين، اعتنق الشاعران الفكر الماركسي وكتبا من وحيه وينبغي ألا يُغفل هذا وألا يُغفل أيضاً تأثيره فيهما حتى بعد تركهما الحزب الشيوعي الإسرائيلي.

يذهب المنهج الاجتماعي الماركسي إلى ضرورة الالتفات إلى الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية في أثناء دراسة الشاعر ونصه، ويربط ما بين الموقع والموقف ويرى تأثير الأول على الثاني، ويعطي الأولوية للمواقف الأيديولوجية ولا يهتم كثيراً بالصداقات الفردية، ويطالب بحزبية الأدب والأديب، ولهذا فليس ثمة صداقات نهائية.

سيهاجم الرفاق رفيقاً تخلى عن الحزب وسيوجعونه و..و…

لما ترك محمود درويش فلسطين هاجمه رفاق الأمس ومنهم إميل حبيبي وسميح القاسم، ولما ترك إميل حبيبي الحزب منحازاً إلى "البيروستريكا" هاجمه الشاعر توفيق زياد ونعته بـ"المرتد" و"النرجس".

هل ظلت علاقة سميح القاسم بإميل حبيبي بعد تركهما الحزب الشيوعي الإسرائيلي كما كانت عليه وهما رفيقان في الحزب؟

ظل الأديبان رفيقين صديقين ثلاثين عاماً، ثم اختلفا.

ثانية أعود إلى محمود درويش.

قلت إن قراءة أشعاره وأشعار سميح القاسم يناسبها المنهج الاجتماعي الماركسي. يعني لا بد من مراعاة الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والموقع والموقف وأضيف والحالة النفسية التي تلم بالشاعر لحظة كتابة النص. "نحن بشر يا بشر" كان يصرخ إميل حبيبي حين يرد على من يتهمه بالتطبيع أو بعدم اتخاذ مواقف حاسمة.

في العام 1981 كتب الشاعر محمود درويش نصاً نثرياً/شعرياً في رثاء القائد السياسي ماجد أبو شرار الذي اغتاله الموساد في روما، وسيعود الشاعر إلى النص النثري/الشعري ليخفف من بعض نثره ولينشره على أنه قصيدة. ولما كنت قرأت النصين فقد علق في ذهني مقطع يربط فيه الشاعر بين فلسطين والأندلس. المقطع هذا لم يظهر في القصيدة. نص المقطع:

"نمضي إلى مطعم هادئ، لنقول: كبرنا/ ولم يذهب العمر في درب حيفا سدى/
أتحسبها الأندلس؟
ولكنها طائر في يد مزقتها الرماح ولم تنبسط".

هل ستؤول فلسطين إلى ما آلت إليه الأندلس؟ يسأل أحدهما الآخر فيرد الثاني، لعله ماجد: ولكنها طائر في يد مزقتها الرماح ولم تنبسط. أي ما زال الفلسطينيون يقبضون على فلسطين بأيديهم ولم يستسلموا ولم يتخلوا عن وطنهم على الرغم مما فعلته الرماح بيدهم. كان هذا في 1981 يوم كانت الثورة الفلسطينية في بيروت وكانت قريبة من فلسطين وقوية.

هل ظل الشاعر يؤمن بما أورده في فترات لاحقة اختلفت فيها المعطيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والموقع والحالة النفسية للشاعر؟

بعد الخروج من بيروت في 1982 ضعفت الثورة وتوزع الفدائيون على بلدان عربية لا تحد فلسطين وأصبحوا مقاتلين متقاعدين. وهنا ستقبل القيادة الفلسطينية ما كانت ترفضه وهي في بيروت. وستوقع اتفاق أوسلو الذي لم يلبّ الحد الأدنى للطموحات الفلسطينية. ولم يرق هذا للشاعر الذي انزوى.

في ديوان «لماذا تركت الحصان وحيدا؟» 1995، بعد توقيع اتفاقية أوسلو، قصيدة عنوانها "خلاف، غير لغوي، مع امرئ القيس". والقصيدة لا تخلو من مغزى. كما لو أن الشاعر يقصد "خلاف، غير لغوي، مع ياسر عرفات". الخلاف غير لغوي وقد التقط إدوارد سعيد المغزى فأشار إلى روح الانكسار التي حلت بالفلسطينيين بعد توقيع اتفاقية أوسلو.

هل يمكن أن يتقارب ما ورد في هذه القصيدة بما ورد في نص رثاء المرحوم الشهيد ماجد أبو شرار؟

في "خلاف، غير لغوي، مع امرئ القيس" نقرأ:

"أغلقوا المشهد/ انتصروا/ عبروا أمسنا كله/" و"أغلقوا المشهد/ انتصروا/ صوروا ما يريدونه من سماواتنا/ نجمة..نجمة/ صوروا ما يريدونه من نهاراتنا/ غيمة غيمة،/غيروا جرس الوقت / انتصروا…".

ثمة شعور بالخسارة وثمة إقرار بالهزيمة. انتصروا تعني أيضاً: "انهزمنا" وإن لم يورد الشاعر الفعل بحروفه، فالحضور يستحضر الغياب. هكذا يستحضر الفعل انتصر الفعل انهزم. ثمة منتصر وثمة مهزوم.

كان درويش الماركسي وبتأثير من الفكر الماركسي كتب بعد هزيمة حزيران 1967:

"خسرت حلماً جميلا
خسرت لسع الزنابق
وكان ليلي طويلاً
على سياج الحدائق
وما خسرت السبيلا"
ثمة اعتراف بخسران ولكن ليس ثمة إقرار بالهزيمة.
في «جدارية»، 2000، يقرأ المرء:
"لا القوة انتصرت ولا العدل الشريد".

هل أدرك درويش بعد إقامته خمس سنوات في رام الله أن الإسرائيليين لم ينتصروا وأن الفلسطينيين لم ينهزموا بعد؟
بعد كتابته «جدارية» بأشهر اندلعت انتفاضة الأقصى ليواصل الفلسطينيون مقاومتهم. كما لو أنهم لم يقروا بالهزيمة ولم يستسلموا.

ماذا كتب الشاعر في ظل انتفاضة الأقصى؟

مجموعة «حالة حصار» تقول إن الشاعر عاد إلى ما كتبه إثر حرب حزيران 1967 "وما خسرت السبيلا ". إنه ما زال يقيم على أرضه "يربي الأمل "، يمارس ما يمارسه العاطلون العمل ويتفحص خصيتيه ليتأكد من صلاحيتهما، فصلاحيتهما تقول له إنه ما زال يقاوم.

في «حالة حصار» يصر الشاعر على البقاء في أرضه حتى يشعر العدو بالضجر والملل ويرحل، فالضجر والملل صفتان من صفات البشر.

أليس اليهود بشراً مثلنا؟

ألم يترك محمود درويش شايلوك يعبر عن نفسه: "أليس لليهودي قلب؟". فلماذا نستكثر عليه الحب؟ ولماذا نستكثر عليه الشعور بالضجر والملل؟

ربما لهذا السبب كتب الشاعر قصيدته: "عابرون في كلام عابر".

ما سبق اجتهاد، مجرد اجتهاد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...