الثقافة في المفهوم الانثربولوجي هي ما تنتجه الجماعات من تقاليد وطقوس وحكايات وأزياء ، وأغان متنوعة ، مرتبطة بالفصول ، مع عادات خاصة ، تظل كل هذه وغيرها حاضرة في التداول بين أفراد الجماعات المعينة ، تضيف عليها وتطرد منها ما تجده لا ينطوي على قدرة للتعايش مع الحوار ، وينفتح على ما هو للآخر ، يأخذ منه ويعطيه ما يراه صالحاً له ويعمقه ويضفي عليه بعضاً من روحه الحية ، اليقظة التي أنتجتها جماعة ما ... هذا التجاور ، الأخذ والعطاء هو الرضا بثقافة الآخر والقبول بما أنتجتها وشكله عبر زمن طويل جداً . هذا التجاور والاحتكاك والتبادل بين عناصر ثقافة ما، هو الذي نؤكد عليه بوصفه حواراً مع الآخر ، مثلما يفعله الآخر معنا ، هذا الرضا بالتبادل المشترك هو الذي يضفي على المشتركات روح الحياة والقبول بالتنوع الثقافي. كل الذي انتجته الجماعة واشرنا له قبلاً هو هويتها ، أو ذاتها المعبر عنها بتنوعات السرد، والتي كانت وظلت حاضرة طويلاً فقدت بعضاً من تخيلاتها وحازت أخرى ، بحيث تشكلت لديها هوية قادرة على البقاء ، والتخندق ، مثلما هي مستعدة للمنح والأخذ . وما يميز كل جماعة من الجماعات هو مألوفها وكل ما عرفته من سائد ثقافي وحاضر يومي . أن الحضور الهوياتي أمر جوهري ومركزي في الحياة والانثربولوجيا لكل جماعة من الجماعات وهي - الجماعة- القادرة على الحفاظ عليها وصيانتها وحمايتها ، لان الجماعة ترى في ثقافتها حضورها الدائم والمستمر والذي نجحت في تكريسه ودافعت عنه. وكل جماعة حافظة لسرديات كثيرة تومئ للدور المعطى للحفاظ عليها ، لأنها تدرك جيداً بأن ما صاغته ـ الجماعة ـ منذ مئات السنين هو تمثيلاتها للذات الجمعية . التي بالإمكان الدنو منها والتوجه نحو الآخر من اجل تعزيز الحوار مع المنوع الآخر ، وكلما تنوعت الحوارات وازدادت وتعمقت ، عبرت عن حيوية هذه الجماعة وأصالتها وقوتها في حماية عناصرها الثقافية وخصائصها الاجتماعية . السعي من اجل تنوع الثقافة يغذي روح الجماعة بهواء نقي ويوفر لها فرصة تجدد خلاياها من خلال القبول بالآخر والتعايش المشترك ، والابتعاد جهد الإمكان عن تغيب التنافس المشحون بالتوتر والاستعداد للإعلان عن فرص الصدام أو تفجيرها .
هذه مرحلة خطيرة جداً ، عاشتها قبائل وشعوب في المنطقة العربية ، جعلتها منغلقة ويائسة لا تقوى على تحديد حياتها وتفعيلها وإضفاء ملامح جديدة كلياً على ما أعلنته عبر سنوات ومنحته حرية الحراك والحوار مع الآخر . ان الحديث ( حول التوحيد التكاملي بين الثقافات ، هو أمر حقيقي وواقعي . إذ أن الثقافات البشرية جميعها ومن دون استثناء يتغذى بعضها من البعض الآخر ، بما فيها ثقافة الآخر . وقد أشار لذلك المفكر ادوارد سعيد الى أن الثقافات تتغذى وما زالت تتغذى ، بما في ذلك ثقافات الشعوب المستعمرة ( بفتح الميم ) في آسيا وافريقيا والتي وصفت في المركزيات الظالمة / المتسلطة بالثقافات الهاشمية ، التي لا قيمة لها مقارنة بالثقافات التي أنتجها الآخر / يوسف يوسف / التنوع واستقلال الحيز الثقافي / مجلة المنتدى / العدد 259/ 52//
تتحول الثقافة التي تعيش طويلاً الى تخيلات موروثة ، يغذيها الزمن الجديد ، ويجعلها مجوهرات ، تتعامل معها الجماعات بوصفها رأسمالاً رمزياً ، مكوناً من تنوع مثير لن تتوقف ، لان ذلك يعني تعطله ومواته . وللثقافة الحقيقية التي عمدتها الجماعة بالدفاع عنها آليات سلمية ، لن تسمح للآخر بتفكيكها ، وتذهب الى تعزيز جوهرها بالانفتاح على التنوعات الخاصة بالآخر لتأخذ منه وتتغذى كي تحصن تنوعها . فلا وجود لثقافة ذات نوع واحد ، لان هذا يعني الموات والتصحر ، وفقدانها خاصية إثراء حياة جماعتها وجماعات الآخر . وتخندقت جماعات قبائلية حول عناصرها وأغلقت الأبواب ضد الوافد / الآخر ، وهي لا تدري ، بأن مثل هذه التجربة تقضي بها نحو الاختزال والضمور والبقاء في مشهد ثقافي محدود الافق، ومثل هذا المسعى فاشل ومحكوم عليه بالتلاشي ، لان أية ثقافة من بين ما أنتجته الجماعات وصاغته، لا يمكن لها الرضا بالانكماش والاختزال ، لانها عبر ذلك ذاهبة للتعطل الحتمي .
ان المجتمعات في حالة التنوع والدفاع عنه كمثل دفاعها عن الذات ، إنما تقوم بواحدة من العمليات الخلاقة ، يحدث فيها نوع من التواصل والحوار الثقافي بين ثقافتين وأكثر ، تسعى كل واحدة منها الى التفاعل مع نظيراتها ، بهدف الأخذ منها وإعطائها في الوقت نفسه ، دون أن يترك ذلك أثرا سيئاً على الخصوصيات التي تتميز بها عن بعضها البعض / ن . م ص 53//
قال سقراط في " محاورة كرايت لوس " لأفلاطون ، أن غاية الكلمات تمييز الأشياء بعضها عن بعض ، وتلقين بعضنا بعضاً هذه الأشياء ، وتمييز الأشياء بعضها عن بعض يقصد به التمثل . أما تلقين احدنا الآخر هذه الأشياء فتعني التواصل / جون جوزيف / اللغة والهوية / ت : د. عبد النور خرافي / سلسلة عالم المعرفة / 49/2007 / ص 35//
يكشف لنا هذا الرأي مجالاً حيوياً في الفضاء الثقافي للجماعات الكبرى / الشعوب التي تتميز عن غيرها بوجود لغة خاصة بها تم توظيفها عبر تاريخ طويل جداً للتعبير عن عناصرها الوطنية وبالتالي توصيف هويتها ، لان اللغة هي الوسيلة الحية لكل شعب في انتاج حاضره ومستقبله ، والإبقاء على الماضي موروثاً ، خاضعاً للنقد العقلي . كما أكد الدرس الانثربولوجي على اللغة باعتبارها مجالاً حيوياً ووسيلة كبرى لرسم الملامح .
وتوصيف الخصائص المجتمعية وإضفاء الملامح المميزة لها . ويؤدي هذا المجال الجوهري - اللغة التي قال عنها هيغل هي مقياس حقيقي - للتعرف على حيوية شعب من الشعوب . ووجود كلام مشترك يؤدي حتماً دور الرمز الفعال في تحقيق التضامن الاجتماعي بين الذين يتكلمون لغة واحدة كما قال جون جوزيف في كتابة اللغة والهوية ص 85//
تلعب اللغة الخاصة بشعب من الشعوب دوراً بارزاً ومركزياً من اجل توفير ( الأمن الثقافي ، الذي لا يقل أهمية عن الأمن السياسي والأمن الغذائي ، فهو ضروري لبقاء الأمة متماسكة في وجه محاولات الاختراق والاحتواء من الخارج ـ الأمن الثقافي له دور كبير في تحقيق الأمن الوطني ، والإسهام في مواجهة الصراعات الداخلية .والعنف المجتمعي/ ثابت الطاهر / التنمية الثقافية والتنمية الشاملة / مجلة المنتدى / سبق ذكره ص63//
تظل اللغة حاضرة بثقلها المتنوع ،الموزع على كل شيء في الحياة الخاصة بالجماعات ، واعني بها التفاعلات اليومية ، التبادل والتواصل ، الغناء ، الموروثات الشفاهية ، هذه معاً وغيرها كثير، احتفظت به الذاكرة الشعبية ولم تدونه إلا في فترات متأخرة ، عندما تحول التدوين نوعاً من أنواع الضبط الدقيق للذاكرة الموروثة ، وهذا ما انفتحت عليه الانثربولوجيا والاثنولوجيا والموروثات الشعبية ، بحيث تشكلت قواعد معلومات رصينة يستفاد منها لحظة الاحتياج لها ، لأعداد دراسة حول خطاب ما ، خاص بالجماعات الكبيرة ، وباستفادة من ادوارد سعيد عن الخطاب بوصفه مجموعة جوهرية من البيانات وقواعد المعلومات الرصينة . ومثل هذا الخطاب ، هو الذي يساعدنا في التعرف على العالم الخاص بالجماعة ، وهو دائماً ما يكون عالماً متسعاً وعميقاً . أما فكرة فوكو عن الخطاب فهي كساحة من المعرفة الاجتماعية محددة على نحو شديد من أن يشير الى الكلام بمعناه التقليدي . فالعالم عنده ليس موجود ببساطة للتحدث عنه ، بل هو بالأحرى خطاب يمكن للعالم أن يوجد بوساطته / بيل اشكر وفت / بال اهلواليا / ادوارد سعيد / ت : سهيل نجم / وراقون والرافدين / 2016/ص25//
لم ينتبه احد في الدراسات الثقافية الجديدة للاهمية التي يتمتع بها الخطاب الفوكوي والذي استفاد منه ادوارد سعيد في فهم العلاقة القائمة بين الخطاب والخطاب الكولونيالي الثقافي . وأكد فوكو على الخطاب مساحة من المعرفة الاجتماعية ، محددة على نحو شديد من دون أن يشير الى " الكلام " بمعناه التقليدي / نفس المصدر ص25//
العالم عند ميشيل فوكو غير موجود حتى يمكن التحدث عنه ، بل هو " خطاب يمكن للعالم أن يوجد بوساطته . وفي مثل هذا الخطاب يتوصل المتكلمون والمستمعون والكتاب والقراء الى فهم لأنفسهم وعلاقات بعضهم ببعض وموقعهم في العالم " بناء الذاتية " انه تلك العقدة من العلاقات والممارسات التي تنشئ الوجود الاجتماعي والنتاج الاجتماعي ، والتي تقرر كيف تتحدد شروط التجارب والهويات / نفس المصدر ص25//
نستطيع توظيف مفهوم الخطاب الفوكوي ونشير الى أن عالم الجماعات غير موجود ، حتى يمكن الحديث عنه ، بل نذهب باتجاه الخطاب المكون من قاعدة معلومات وافية عن الجماعة منها البيانات التي توصلت إليه الانثولوجيا ، فمن خلال ذلك يمكن الذهاب نحو عالم الجماعة والتعرف عليها ، لأنها توجد من خلال كل ما توصلت له الاثنولوجيا ، والتي هي كل المعلومات والثقافة الخاصة بها ، فهي التي تساعدنا للتعرف عليها أكثر .
الخطاب ، هو الذي يضيء لنا عالم الجماعة بكل مكونات هويتها ، أي هو الذي يرسم حدودا تفصيلية للذات الجمعية . وذهب بها فوكو الى ابعد ، حيث كشف قدرات كامنة فيه تساعد الجماعات التعرف الكامل على بعضهم البعض ، في حدود التبادل اليومي ، عبر الكلام والتدوين من خلال الكتابة ، بمعنى رسم الإطار للإرسال والاستلام واختار وجود الباث والمستلم المتلقي . لقد وظف ادوارد سعيد مفاهيم فوكو الخطابية واستفاد من فلسفة هايدجر في الكينونة والزمان مثلما هو واضح . لان اشارته الى تحديد موقع الجماعة في العالم يعني الذاتية والهوية التي اعتبرها جوهر الوجود الاجتماعي ، المكون من العلامات وكل ما يزاوله الفرد من ممارسات . وهي التي تنشئ الوجود الاجتماعي والنتاج الاجتماعي .
وهذا ما ذهب إليه هايدجر وقال بأن " العالم المحيط " الذي يفضي بنا نحو معلومة جوهرية عن كيفية التعامل وسط العالم / المحيط الاجتماعي وأيضا هي الكائن الموجود في المحيط .
وعودة مرة أخرى لنظرية العلامات / د. رسول محمد رسول / العلامة / الجسد / الاختلاف / دار مكتبة عدنان / بغداد 2015ص 38ـ39// ولج هايدجر حالات تستبطن بنية سيميائية خاصة بالمولودات سرعان ما ستتحول الى علامات دالة على معنى معين وهي تتجلى كتواجد في مجرى الكينونة أو الوجود ، خصوصاً أن كل الإشارات ، والأعراف ، والرموز ، إنما لها البنية الصورية للتمظهر ، مع أنها أيضا مختلفة فيما بينها .
هذا هو الموقف الهايدجري الأول ، لكنه تغير بعد تعرفه جيداً على هوسرل فانحرف مفهومه عن العلاقة كصورة الى اعتبارها عينية بمعنى العلاقة قائمة على الانكشاف والظهور المباشر ، أي تجلي الكائن.
هذه مرحلة خطيرة جداً ، عاشتها قبائل وشعوب في المنطقة العربية ، جعلتها منغلقة ويائسة لا تقوى على تحديد حياتها وتفعيلها وإضفاء ملامح جديدة كلياً على ما أعلنته عبر سنوات ومنحته حرية الحراك والحوار مع الآخر . ان الحديث ( حول التوحيد التكاملي بين الثقافات ، هو أمر حقيقي وواقعي . إذ أن الثقافات البشرية جميعها ومن دون استثناء يتغذى بعضها من البعض الآخر ، بما فيها ثقافة الآخر . وقد أشار لذلك المفكر ادوارد سعيد الى أن الثقافات تتغذى وما زالت تتغذى ، بما في ذلك ثقافات الشعوب المستعمرة ( بفتح الميم ) في آسيا وافريقيا والتي وصفت في المركزيات الظالمة / المتسلطة بالثقافات الهاشمية ، التي لا قيمة لها مقارنة بالثقافات التي أنتجها الآخر / يوسف يوسف / التنوع واستقلال الحيز الثقافي / مجلة المنتدى / العدد 259/ 52//
تتحول الثقافة التي تعيش طويلاً الى تخيلات موروثة ، يغذيها الزمن الجديد ، ويجعلها مجوهرات ، تتعامل معها الجماعات بوصفها رأسمالاً رمزياً ، مكوناً من تنوع مثير لن تتوقف ، لان ذلك يعني تعطله ومواته . وللثقافة الحقيقية التي عمدتها الجماعة بالدفاع عنها آليات سلمية ، لن تسمح للآخر بتفكيكها ، وتذهب الى تعزيز جوهرها بالانفتاح على التنوعات الخاصة بالآخر لتأخذ منه وتتغذى كي تحصن تنوعها . فلا وجود لثقافة ذات نوع واحد ، لان هذا يعني الموات والتصحر ، وفقدانها خاصية إثراء حياة جماعتها وجماعات الآخر . وتخندقت جماعات قبائلية حول عناصرها وأغلقت الأبواب ضد الوافد / الآخر ، وهي لا تدري ، بأن مثل هذه التجربة تقضي بها نحو الاختزال والضمور والبقاء في مشهد ثقافي محدود الافق، ومثل هذا المسعى فاشل ومحكوم عليه بالتلاشي ، لان أية ثقافة من بين ما أنتجته الجماعات وصاغته، لا يمكن لها الرضا بالانكماش والاختزال ، لانها عبر ذلك ذاهبة للتعطل الحتمي .
ان المجتمعات في حالة التنوع والدفاع عنه كمثل دفاعها عن الذات ، إنما تقوم بواحدة من العمليات الخلاقة ، يحدث فيها نوع من التواصل والحوار الثقافي بين ثقافتين وأكثر ، تسعى كل واحدة منها الى التفاعل مع نظيراتها ، بهدف الأخذ منها وإعطائها في الوقت نفسه ، دون أن يترك ذلك أثرا سيئاً على الخصوصيات التي تتميز بها عن بعضها البعض / ن . م ص 53//
قال سقراط في " محاورة كرايت لوس " لأفلاطون ، أن غاية الكلمات تمييز الأشياء بعضها عن بعض ، وتلقين بعضنا بعضاً هذه الأشياء ، وتمييز الأشياء بعضها عن بعض يقصد به التمثل . أما تلقين احدنا الآخر هذه الأشياء فتعني التواصل / جون جوزيف / اللغة والهوية / ت : د. عبد النور خرافي / سلسلة عالم المعرفة / 49/2007 / ص 35//
يكشف لنا هذا الرأي مجالاً حيوياً في الفضاء الثقافي للجماعات الكبرى / الشعوب التي تتميز عن غيرها بوجود لغة خاصة بها تم توظيفها عبر تاريخ طويل جداً للتعبير عن عناصرها الوطنية وبالتالي توصيف هويتها ، لان اللغة هي الوسيلة الحية لكل شعب في انتاج حاضره ومستقبله ، والإبقاء على الماضي موروثاً ، خاضعاً للنقد العقلي . كما أكد الدرس الانثربولوجي على اللغة باعتبارها مجالاً حيوياً ووسيلة كبرى لرسم الملامح .
وتوصيف الخصائص المجتمعية وإضفاء الملامح المميزة لها . ويؤدي هذا المجال الجوهري - اللغة التي قال عنها هيغل هي مقياس حقيقي - للتعرف على حيوية شعب من الشعوب . ووجود كلام مشترك يؤدي حتماً دور الرمز الفعال في تحقيق التضامن الاجتماعي بين الذين يتكلمون لغة واحدة كما قال جون جوزيف في كتابة اللغة والهوية ص 85//
تلعب اللغة الخاصة بشعب من الشعوب دوراً بارزاً ومركزياً من اجل توفير ( الأمن الثقافي ، الذي لا يقل أهمية عن الأمن السياسي والأمن الغذائي ، فهو ضروري لبقاء الأمة متماسكة في وجه محاولات الاختراق والاحتواء من الخارج ـ الأمن الثقافي له دور كبير في تحقيق الأمن الوطني ، والإسهام في مواجهة الصراعات الداخلية .والعنف المجتمعي/ ثابت الطاهر / التنمية الثقافية والتنمية الشاملة / مجلة المنتدى / سبق ذكره ص63//
تظل اللغة حاضرة بثقلها المتنوع ،الموزع على كل شيء في الحياة الخاصة بالجماعات ، واعني بها التفاعلات اليومية ، التبادل والتواصل ، الغناء ، الموروثات الشفاهية ، هذه معاً وغيرها كثير، احتفظت به الذاكرة الشعبية ولم تدونه إلا في فترات متأخرة ، عندما تحول التدوين نوعاً من أنواع الضبط الدقيق للذاكرة الموروثة ، وهذا ما انفتحت عليه الانثربولوجيا والاثنولوجيا والموروثات الشعبية ، بحيث تشكلت قواعد معلومات رصينة يستفاد منها لحظة الاحتياج لها ، لأعداد دراسة حول خطاب ما ، خاص بالجماعات الكبيرة ، وباستفادة من ادوارد سعيد عن الخطاب بوصفه مجموعة جوهرية من البيانات وقواعد المعلومات الرصينة . ومثل هذا الخطاب ، هو الذي يساعدنا في التعرف على العالم الخاص بالجماعة ، وهو دائماً ما يكون عالماً متسعاً وعميقاً . أما فكرة فوكو عن الخطاب فهي كساحة من المعرفة الاجتماعية محددة على نحو شديد من أن يشير الى الكلام بمعناه التقليدي . فالعالم عنده ليس موجود ببساطة للتحدث عنه ، بل هو بالأحرى خطاب يمكن للعالم أن يوجد بوساطته / بيل اشكر وفت / بال اهلواليا / ادوارد سعيد / ت : سهيل نجم / وراقون والرافدين / 2016/ص25//
لم ينتبه احد في الدراسات الثقافية الجديدة للاهمية التي يتمتع بها الخطاب الفوكوي والذي استفاد منه ادوارد سعيد في فهم العلاقة القائمة بين الخطاب والخطاب الكولونيالي الثقافي . وأكد فوكو على الخطاب مساحة من المعرفة الاجتماعية ، محددة على نحو شديد من دون أن يشير الى " الكلام " بمعناه التقليدي / نفس المصدر ص25//
العالم عند ميشيل فوكو غير موجود حتى يمكن التحدث عنه ، بل هو " خطاب يمكن للعالم أن يوجد بوساطته . وفي مثل هذا الخطاب يتوصل المتكلمون والمستمعون والكتاب والقراء الى فهم لأنفسهم وعلاقات بعضهم ببعض وموقعهم في العالم " بناء الذاتية " انه تلك العقدة من العلاقات والممارسات التي تنشئ الوجود الاجتماعي والنتاج الاجتماعي ، والتي تقرر كيف تتحدد شروط التجارب والهويات / نفس المصدر ص25//
نستطيع توظيف مفهوم الخطاب الفوكوي ونشير الى أن عالم الجماعات غير موجود ، حتى يمكن الحديث عنه ، بل نذهب باتجاه الخطاب المكون من قاعدة معلومات وافية عن الجماعة منها البيانات التي توصلت إليه الانثولوجيا ، فمن خلال ذلك يمكن الذهاب نحو عالم الجماعة والتعرف عليها ، لأنها توجد من خلال كل ما توصلت له الاثنولوجيا ، والتي هي كل المعلومات والثقافة الخاصة بها ، فهي التي تساعدنا للتعرف عليها أكثر .
الخطاب ، هو الذي يضيء لنا عالم الجماعة بكل مكونات هويتها ، أي هو الذي يرسم حدودا تفصيلية للذات الجمعية . وذهب بها فوكو الى ابعد ، حيث كشف قدرات كامنة فيه تساعد الجماعات التعرف الكامل على بعضهم البعض ، في حدود التبادل اليومي ، عبر الكلام والتدوين من خلال الكتابة ، بمعنى رسم الإطار للإرسال والاستلام واختار وجود الباث والمستلم المتلقي . لقد وظف ادوارد سعيد مفاهيم فوكو الخطابية واستفاد من فلسفة هايدجر في الكينونة والزمان مثلما هو واضح . لان اشارته الى تحديد موقع الجماعة في العالم يعني الذاتية والهوية التي اعتبرها جوهر الوجود الاجتماعي ، المكون من العلامات وكل ما يزاوله الفرد من ممارسات . وهي التي تنشئ الوجود الاجتماعي والنتاج الاجتماعي .
وهذا ما ذهب إليه هايدجر وقال بأن " العالم المحيط " الذي يفضي بنا نحو معلومة جوهرية عن كيفية التعامل وسط العالم / المحيط الاجتماعي وأيضا هي الكائن الموجود في المحيط .
وعودة مرة أخرى لنظرية العلامات / د. رسول محمد رسول / العلامة / الجسد / الاختلاف / دار مكتبة عدنان / بغداد 2015ص 38ـ39// ولج هايدجر حالات تستبطن بنية سيميائية خاصة بالمولودات سرعان ما ستتحول الى علامات دالة على معنى معين وهي تتجلى كتواجد في مجرى الكينونة أو الوجود ، خصوصاً أن كل الإشارات ، والأعراف ، والرموز ، إنما لها البنية الصورية للتمظهر ، مع أنها أيضا مختلفة فيما بينها .
هذا هو الموقف الهايدجري الأول ، لكنه تغير بعد تعرفه جيداً على هوسرل فانحرف مفهومه عن العلاقة كصورة الى اعتبارها عينية بمعنى العلاقة قائمة على الانكشاف والظهور المباشر ، أي تجلي الكائن.