في كل دول العالم تستدعي كلمة الربيع مشهدًا بديعًا من الزهور والطيور مختلفة الألوان والأشكال، تستدعي الروائح العطرة والبهجة والخروج للمتنزهات، تستدعي الشباب والعنفوان، فالربيع هو الفاصل بين شيخوخة وكمون الشتاء، وحرارة الصيف المتقدة.
وحدها مصر التي تستدعي فيها كلمة الربيع رياح الخماسين بأتربتها الصفراء القادمة من الصحراء وما يتبع ذلك من التهاب الجيوب الأنفية والرمد الربيعي واضطرابات الجهاز التنفسي. أما عن الروائح فيكفي أن نذكر كلمة الفسيخ والرنجة والملوحة والبصل الأخضر بوصفها عناصر الأكلة الرئيسة للمصريين في الربيع. وربما في مصر وحدها يوجد برنامج تليفزيوني معني بشئون كبار السن واسمه "ربيع العمر".
مفهوم غامض ومختلف للربيع تكون لدى المصريين بحكم الطقس والعادات والتقاليد، مفهوم يخصهم دون شعوب العالم، مفهوم لا ينفصل عن طبيعة المصريين التي تقدس الموت، وليس من دليل على ذلك أكثر من الأهرامات الثلاثة التي هي ليست سوى مقابر لملوك ثلاثة، كذلك اهتمام قدماء المصريين بفنون التحنيط التي لم تقتصر على البشر فقط بل امتدت للحيوانات كذلك لتصاحب مقتنيها في رحلته للعالم السفلي.
يبدو المصريون محبين للحياة ومتهكمين طوال الوقت حتى على أحوالهم وأنفسهم، لكن في أعماق كل واحد حزن لا قرار له يليق بالكهنة الذين علموا الأسرار كلها لكنهم لا يستطيعون البوح بها، فالمصريون يعرفون أسرار الحياة والموت، يعرفون أسرار الحضارات سابقها وقادمها، لكنهم غائبون غالبًا عن صدارة المشهد، وعن ذاكرة التاريخ لغيابهم عن سدة الحكم. فقط يظهرون وقت الشدائد والحروب والثورات، يفعلون ما يراه الآخرون معجزات ويرونه هم أفعالا عادية واعتيادية وحياتية ولا استثناء فيها ولا إعجاز. فعندما اجتاح التتار العالم، من الصين حتى بلاد الشام، خرج لهم المصريون في مرحلة هي الأضعف في تاريخهم، ونجحوا بالحد الأدنى من إمكانات الدولة والحكم في صد جحافل التتار، والصليبيين والفرنسيين والإنجليز والعثمانيين كذلك. المصريون، والمصريون فقط، قهروا هؤلاء جميعًا في غياب الحكم القوي المتماسك.
والمصريون مثلهم مثل النيل، يمرون بسنوات عجاف وجفاف، وسنوات أخرى من الفيضان والفوران، لكنهم طوال الوقت يتدفقون في الحياة دون هدير لمد وجزر لكنهم قادرون عند الفيضان على اقتلاع الأشجار وإخضاع الجبال وابتلاع البلاد بالعباد.
في 1968، انطلق الشباب في أوروبا غاضبين، لكن وحدها براغ التي اقترن اسمها بالربيع "ربيع براغ"، والمفارقة في الأمر أن "ربيع براغ" يطلق على الشهور الثمانية من عام 1968 ، من 5 يناير حتى 21 أغسطس، وخلالها أعلن الرئيس التشيكي الإصلاحي" ألكسندر دوبتشيك" حزمة من الإصلاحات، لكن محاولاته تم إجهاضها باجتياح عسكري من قبل الاتحاد السوفيتي. لكن رغم إجهاضه عسكريًا، ساهم ربيع براغ، في عقدي الستينيات و السبعينيات، في خلق أزمة وعي بضرورة الإصلاح، وتأثير في المخيال الثقافي العالمي، اجتاحت دول حلف وارسو و أوروبا الغربية على حد سواء ، تجلت في مايو 1968 والحركة الطلابية البولندية وأعمال الأديب ميلان كونديرا.
والمفارقة هنا في استعارة "ربيع" لوصف ثورات تونس ومصر وما تبعها في ليبيا واليمن وسوريا والبحرين، لأن "ربيع" في سياق تجربة تشيكوسلوفاكيا ومن بعدها باقي دول أوروبا، بدأت بمحاولة إصلاحية من رئيس جمهورية التشيك، تم قمعها عسكريا من الاتحاد السوفيتي، لتلهم الشباب في باقي أنحاء أوروبا، لتبدأ موجة احتجاجية شبابية بلغت ذروتها في باريس تدعو لمزيد من الحريات وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية دون دعاوى جادة لتغيير الأنظمة.
وكالعادة نستورد المفاهيم والمصطلحات دون تدقيق وإلمام بالسياق، لتجد ثورتنا نفسها بين شقي مفارقتين شائنتين، الأولى ترتبط بالتقاليد حيث الزوابع والأتربة وأكل الفسيخ والبصل وربيع العمر الذي يحتفي بكبار السن، والثانية ترتبط بـ"ربيع براغ" الذي بدأ إصلاحيًا وتم إجهاضه قبل أن تنتقل الموجة الاحتجاجية الإصلاحية إلى كافة أنحاء أوروبا والعالم.
إذن نحن أمام ثورة كان الشباب طليعتها وقلبها النابض وعموم الشعب المصري داعمًا لها بالمشاركة أو بعدم الإدانة إلا قليلًا، لكن المفاهيم المحيطة بها مرتبكة بين شتاء لا يريد الرحيل وصيف يحمل الكثير من الحرائق، بين زهور تسعى للتفتح فتدهسها المدرعات وتقطفها القوى الرجعية سواء كانت من اليمين أو اليسار لتزين بها ملابسها أو مقابرها.
الجانب الآخر من مفارقة اقتباس وصف "الربيع" من "ربيع براغ" أنه بدأ على مستوى الدولة ورجالها ليتحول إلى الشباب، بينما في مصر انطلق الشباب ثائرًا، لتحصد القوى السياسية (عجائزها) الثمار، ويتعاونوا على تنفيذ عملية "تبريد" للثورة المصرية وتفريغها من محتوياتها تدريجيا، ليعود المجتمع مجددًا لفكرة الإصلاح والاستقرار والاحتماء بمؤسسات الدولة خاصة المؤسسة العسكرية، بعد طموح هائل للاحتماء بالشعب فاعلًا ومراقبًا.
وهكذا وجد المصريون أنفسهم قد انتقلوا من الشتاء للخريف دون مرور حقيقي بالربيع الذي لم يعرفوا منه سوى الزوابع والأتربة/ المظاهرات والاعتصامات، والروائح الكريهة/ الغاز المسيل للدموع، ومَرّ الصيف دون حرائق بسبب قوة المكيفات وقدرتها الهائلة على التبريد.
وما زال المصريون ينتظرون الربيع فصلًا للزهور والطيور والروائح الجميلة والشباب والحيوية والنشاط.
https://www.facebook.com/yasser.shaban.505/posts/10157664888757458
وحدها مصر التي تستدعي فيها كلمة الربيع رياح الخماسين بأتربتها الصفراء القادمة من الصحراء وما يتبع ذلك من التهاب الجيوب الأنفية والرمد الربيعي واضطرابات الجهاز التنفسي. أما عن الروائح فيكفي أن نذكر كلمة الفسيخ والرنجة والملوحة والبصل الأخضر بوصفها عناصر الأكلة الرئيسة للمصريين في الربيع. وربما في مصر وحدها يوجد برنامج تليفزيوني معني بشئون كبار السن واسمه "ربيع العمر".
مفهوم غامض ومختلف للربيع تكون لدى المصريين بحكم الطقس والعادات والتقاليد، مفهوم يخصهم دون شعوب العالم، مفهوم لا ينفصل عن طبيعة المصريين التي تقدس الموت، وليس من دليل على ذلك أكثر من الأهرامات الثلاثة التي هي ليست سوى مقابر لملوك ثلاثة، كذلك اهتمام قدماء المصريين بفنون التحنيط التي لم تقتصر على البشر فقط بل امتدت للحيوانات كذلك لتصاحب مقتنيها في رحلته للعالم السفلي.
يبدو المصريون محبين للحياة ومتهكمين طوال الوقت حتى على أحوالهم وأنفسهم، لكن في أعماق كل واحد حزن لا قرار له يليق بالكهنة الذين علموا الأسرار كلها لكنهم لا يستطيعون البوح بها، فالمصريون يعرفون أسرار الحياة والموت، يعرفون أسرار الحضارات سابقها وقادمها، لكنهم غائبون غالبًا عن صدارة المشهد، وعن ذاكرة التاريخ لغيابهم عن سدة الحكم. فقط يظهرون وقت الشدائد والحروب والثورات، يفعلون ما يراه الآخرون معجزات ويرونه هم أفعالا عادية واعتيادية وحياتية ولا استثناء فيها ولا إعجاز. فعندما اجتاح التتار العالم، من الصين حتى بلاد الشام، خرج لهم المصريون في مرحلة هي الأضعف في تاريخهم، ونجحوا بالحد الأدنى من إمكانات الدولة والحكم في صد جحافل التتار، والصليبيين والفرنسيين والإنجليز والعثمانيين كذلك. المصريون، والمصريون فقط، قهروا هؤلاء جميعًا في غياب الحكم القوي المتماسك.
والمصريون مثلهم مثل النيل، يمرون بسنوات عجاف وجفاف، وسنوات أخرى من الفيضان والفوران، لكنهم طوال الوقت يتدفقون في الحياة دون هدير لمد وجزر لكنهم قادرون عند الفيضان على اقتلاع الأشجار وإخضاع الجبال وابتلاع البلاد بالعباد.
في 1968، انطلق الشباب في أوروبا غاضبين، لكن وحدها براغ التي اقترن اسمها بالربيع "ربيع براغ"، والمفارقة في الأمر أن "ربيع براغ" يطلق على الشهور الثمانية من عام 1968 ، من 5 يناير حتى 21 أغسطس، وخلالها أعلن الرئيس التشيكي الإصلاحي" ألكسندر دوبتشيك" حزمة من الإصلاحات، لكن محاولاته تم إجهاضها باجتياح عسكري من قبل الاتحاد السوفيتي. لكن رغم إجهاضه عسكريًا، ساهم ربيع براغ، في عقدي الستينيات و السبعينيات، في خلق أزمة وعي بضرورة الإصلاح، وتأثير في المخيال الثقافي العالمي، اجتاحت دول حلف وارسو و أوروبا الغربية على حد سواء ، تجلت في مايو 1968 والحركة الطلابية البولندية وأعمال الأديب ميلان كونديرا.
والمفارقة هنا في استعارة "ربيع" لوصف ثورات تونس ومصر وما تبعها في ليبيا واليمن وسوريا والبحرين، لأن "ربيع" في سياق تجربة تشيكوسلوفاكيا ومن بعدها باقي دول أوروبا، بدأت بمحاولة إصلاحية من رئيس جمهورية التشيك، تم قمعها عسكريا من الاتحاد السوفيتي، لتلهم الشباب في باقي أنحاء أوروبا، لتبدأ موجة احتجاجية شبابية بلغت ذروتها في باريس تدعو لمزيد من الحريات وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية دون دعاوى جادة لتغيير الأنظمة.
وكالعادة نستورد المفاهيم والمصطلحات دون تدقيق وإلمام بالسياق، لتجد ثورتنا نفسها بين شقي مفارقتين شائنتين، الأولى ترتبط بالتقاليد حيث الزوابع والأتربة وأكل الفسيخ والبصل وربيع العمر الذي يحتفي بكبار السن، والثانية ترتبط بـ"ربيع براغ" الذي بدأ إصلاحيًا وتم إجهاضه قبل أن تنتقل الموجة الاحتجاجية الإصلاحية إلى كافة أنحاء أوروبا والعالم.
إذن نحن أمام ثورة كان الشباب طليعتها وقلبها النابض وعموم الشعب المصري داعمًا لها بالمشاركة أو بعدم الإدانة إلا قليلًا، لكن المفاهيم المحيطة بها مرتبكة بين شتاء لا يريد الرحيل وصيف يحمل الكثير من الحرائق، بين زهور تسعى للتفتح فتدهسها المدرعات وتقطفها القوى الرجعية سواء كانت من اليمين أو اليسار لتزين بها ملابسها أو مقابرها.
الجانب الآخر من مفارقة اقتباس وصف "الربيع" من "ربيع براغ" أنه بدأ على مستوى الدولة ورجالها ليتحول إلى الشباب، بينما في مصر انطلق الشباب ثائرًا، لتحصد القوى السياسية (عجائزها) الثمار، ويتعاونوا على تنفيذ عملية "تبريد" للثورة المصرية وتفريغها من محتوياتها تدريجيا، ليعود المجتمع مجددًا لفكرة الإصلاح والاستقرار والاحتماء بمؤسسات الدولة خاصة المؤسسة العسكرية، بعد طموح هائل للاحتماء بالشعب فاعلًا ومراقبًا.
وهكذا وجد المصريون أنفسهم قد انتقلوا من الشتاء للخريف دون مرور حقيقي بالربيع الذي لم يعرفوا منه سوى الزوابع والأتربة/ المظاهرات والاعتصامات، والروائح الكريهة/ الغاز المسيل للدموع، ومَرّ الصيف دون حرائق بسبب قوة المكيفات وقدرتها الهائلة على التبريد.
وما زال المصريون ينتظرون الربيع فصلًا للزهور والطيور والروائح الجميلة والشباب والحيوية والنشاط.
https://www.facebook.com/yasser.shaban.505/posts/10157664888757458