نُولد ونحن نلُفُّ الذراعين في حَلَقةٍ ضيِّقة حول عُنُق أبٍ واحدٍ يكاد بِشدَّة ضمَّته يُعيدنا لصُلبه بحُنو، ليس لأنه لا يريدنا أمام عينيه بل لأنه اكتشف متأخرا أن هذا العالم المُوحش أقسى من أن يستحقَّنا، لكن ونحن نكبُر تتَّسع حَلَقة ذراعينا لنصبح مُعانقين بَدَل أبٍ واحد بيولوجي آباءً رمزيين، فثمة من اتَّخذهم من رجال الدين فشاد لهم أضرحة في ذهنه فكأنه وقد أغلق كل الأبواب منعزلا بجوارهم قد انتقل إلى جوار ربه، وليته وهو يذرف الدمعة اكتفى بإيقاد شمعة، فلن ينفعنا تنويرا أن يَبعث من الأجداث زمنا غابرا لا يناسب مصباحا كهربائيا في زمننا..!
وثمة من اتخذه أبا من رجال السياسة، ومازال مُبشِّرا بصوره يُعلِّقها في الجدران وأقواله المأثورة ينزعها من الخطب كالمسامير من الخشب، حتى بُهِتَ أن هذا الأب السياسي قد تركه وحيدا في الشارع بعد أن بلغ منصبه في أعلى الدولة، أليس حين نتخذ أبا رمزيا من زعيم سرعان ما يموت في أعيننا لمواقفه المتخاذلة، ولكُم أن تحْصوا في كل هؤلاء الشباب الضائعين ببلادنا كم خلَّف في مأدبة اللئام من يتيم..!
في الأدب والفكر والعلوم ما أكثر من اتخذناهم آباءً من الشُّعراء والفلاسفة والروائيين لنظفر مما يكتبون ببنات أفكار، وقد يصل افتتان أحدنا ببعض الأسماء استلاباً يجعله ينسى اسمه الذي ذبح والده لأجله كبشا كي يُسطِّره بالدم في دفتر الحالة المدنية، فتجد هذا المفتون بأبيه الأديب ينقل كتابه من إبطٍ لآخر كما لو يغْمسه في مِحبرةٍ، غير متأدِّبٍ مع من يقذفه بأذى مُنغمسا في حروب كل بطولاتها وهمية، هو أبي الروحي ولأجل أفكاره التي صنعها من قلق وأقلقت راحة الآخرين، كنتُ في كل تطاحُنٍ جَدَلي أفْقد أحد أصدقائي حتى بقيت في امتلائي بالكتب وحيدا أعانق الفراغ..!
كل هؤلاء الآباء ليسوا أبي الذي رافقني في الحياة طفلا ومازلتُ كذلك في فؤاده وأنا أرافقه شيخا، يُصلِّي ليس بينه وبين الله غير نبتةٍ يتعهَّدها بالغرس والسَّقي في سطح البيت، وهو بصنيعه في سطح البيت أقرب الزاهدين من السماء، ويُجهش فرحا حين تميل النَّبتة مع الوقت بقُطوفها يانعة كما لو تنحني تحت رجليه شاكرة، لا يمارس سُلطة رجل دين فارضاً أحد الطقوس، ويكتفي قائلا: كل نعجة ستُعلَّقُ من ساقيها..!
ليسوا أبي هؤلاء الآباء، فهو لم يضع مصيره في لون سياسي يرميه بأحد الصناديق المُغلقة مُنفتحاً على أوسع الجبهات في الحياة ليوفِّر لنا حياة كريمة، ليسوا أبي حين أوْجَز في حركة تاريخية كل الكتب التي سأقرأها أو سأكتبها، فأتاني في فجر صباي بدفتر من مائة صفحة بيضاء وقلم، وعِوض أن أخرْبش مزَّقتُه ونحن نضحك فرحَيْن لكل الأوراق التي لم تلْق نفس المصير وما زالت تُصفِّق في أغصان الشَّجر، أستطيع مُجاراة بعض المفاهيم الأدبية والفلسفية في هَواها حتى التي تركب ثورا وتكون راديكالية في ثوريتها وأقتل رمزيا كل هؤلاء الآباء تحقيقا للاختلاف وبحثا عن طريقة أخرى في المشي لا تُكرِّر نفس الأثر، ولكن أبي يستحق أكثر من حياة..!
أبي الذي تمرَّد على أبيه دون أن يُخضِعه أحدٌ لخيارات السُّخط والرضى، نزح مُبكِّرا في العمر مدفوعا بالحلم من أحد المداشر الأمازيغية الرابضة أسْفل جبال الأطلس، لم يكنْ يريد البقاء حبلا مرميا في بئر كي يتحلَّى بنَفَسٍ طويل كباقي سكان القرية الذين لفرط قساوة الطبيعة لا فرق بين وجوههم وركام الحجارة على قارعة الحريق، ورغم أن سكان المدشر المبثوثين كالعِهن المنفوش أسفل الجبل، هم أقرب الناس بأعينهم الجافة إلى الغيمة، إلا أن سخونة رأس أبي التي انتقلتْ حرارتها هادئةً بالوراثة لرأسي، جعلتهُ متوثِّبا رافضا التحديق معهم للسماء ينتظرون نزول المطر، قفز دون أن يبتعد عن الأرض من القرية ينشُد الحرية في المدينة، وما أخطأ الطريق تائها في العاصمة ولكنه أخطأ المعنى حين سمع أحد فقهاء سوس يقول إنَّ لهم فيها ما يدعون؟
رغم أن سقْف البيت يجمعنا إلا أن النهار يُفرِّقنا فلا نلتقي إلا ليلا، فكانت للمفارقة فرحتنا بأبي لا تشرق إلا في سواد الليالي مجتمعِين على مائدة العشاء، ولا يكاد يهجع ساعات قليلة حتى يغادر في الثالثة صباحا دفء الفراش لا تثنيه تقلُّبات الطبيعة حرّاً و قرّاً أو هما معاً حين يُقرِّر الذئب أن يقيم عرسه فوقنا ، فأسمع خطوات أبي المُنْتعِلة صنْدلها تتردَّد في فناء الدار كما لو تمشي في رأسي، مصحوبةً بصفير سخَّان الماء (المقراج) المتميِّز غلَياناً فوق النار على أهبة الوضوء، وبين سطح النوم وعمقه تدور بَكَرة الأفلام التي أُنْتِجها بأضغاث الأحلام، ولكن سُرعان ما ينقطع الاتصال بين مضمضة واستنشاق للماء ثم اسْتِنْثار إلى آخر الصلاة، وللحقيقة كنتُ أفضِّلها لنفسي صلاة جنازة على أن أُحْرَم من النوم وحدي في مثل ذلك الوقت بينما بقية من حولي في الحُلْكة هاجعين، ولا أنْكُر أن شعورا مُمِضّاً بالذنب دفين نفسي سيرافقني للأبد تُجاه والدي، لِذا أنْكمش خجلا مُوقِنا أنني المَعني كلما سمعت المثل الشعبي المغربي البليغ الذي يقول: اخدمْ يا التَّاعس على النَّاعس..!
وهو يُهاجِر من القرية للمدينة لم يبتعدْ أبي مسافة جذرٍ عن الأرض، بقي عاشقا لما تُنْبِتُه البسيطة مع اختلافات في الأصناف بسيطة انتقلتْ بمنتوجاتها من الصّلب قمحا وذُرةً، إلى غلالٍ طرية ذات ماء ورُواء، احترف أبي الفاكهة فتفتَّق على يديه من كل الثمرات أكثر من زوجين، ولا أعرف كيف جعل الفصول تمْتثل لأوامره فكانت فواكهه في بيتنا لا يطالها خريفٌ بعد الصيف على مدار السنة، لذلك أقول دائما من بوابة هذا النعيم الذي شَقِي والدي ليُوفِّره لنا وهو يسقيه بعرق الجبين: إنَّ الجنة تحت قدمَيْ أبي..!
(افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليومه الخميس 25 يوليوز 2019، وقد شاركت بهذه الورقة بطلب من جريدة "الاتحاد الاشتراكي " التي نشرتها يوم الاثنين الماضي 22 يوليوز 2019 ضمن سلسلة "أدباء في حضرة آبائهم"، وهي سلسة شيِّقة يُعِدُّها لصفحة فسحة الصيف الزميل مصطفى الإدريسي.)
وثمة من اتخذه أبا من رجال السياسة، ومازال مُبشِّرا بصوره يُعلِّقها في الجدران وأقواله المأثورة ينزعها من الخطب كالمسامير من الخشب، حتى بُهِتَ أن هذا الأب السياسي قد تركه وحيدا في الشارع بعد أن بلغ منصبه في أعلى الدولة، أليس حين نتخذ أبا رمزيا من زعيم سرعان ما يموت في أعيننا لمواقفه المتخاذلة، ولكُم أن تحْصوا في كل هؤلاء الشباب الضائعين ببلادنا كم خلَّف في مأدبة اللئام من يتيم..!
في الأدب والفكر والعلوم ما أكثر من اتخذناهم آباءً من الشُّعراء والفلاسفة والروائيين لنظفر مما يكتبون ببنات أفكار، وقد يصل افتتان أحدنا ببعض الأسماء استلاباً يجعله ينسى اسمه الذي ذبح والده لأجله كبشا كي يُسطِّره بالدم في دفتر الحالة المدنية، فتجد هذا المفتون بأبيه الأديب ينقل كتابه من إبطٍ لآخر كما لو يغْمسه في مِحبرةٍ، غير متأدِّبٍ مع من يقذفه بأذى مُنغمسا في حروب كل بطولاتها وهمية، هو أبي الروحي ولأجل أفكاره التي صنعها من قلق وأقلقت راحة الآخرين، كنتُ في كل تطاحُنٍ جَدَلي أفْقد أحد أصدقائي حتى بقيت في امتلائي بالكتب وحيدا أعانق الفراغ..!
كل هؤلاء الآباء ليسوا أبي الذي رافقني في الحياة طفلا ومازلتُ كذلك في فؤاده وأنا أرافقه شيخا، يُصلِّي ليس بينه وبين الله غير نبتةٍ يتعهَّدها بالغرس والسَّقي في سطح البيت، وهو بصنيعه في سطح البيت أقرب الزاهدين من السماء، ويُجهش فرحا حين تميل النَّبتة مع الوقت بقُطوفها يانعة كما لو تنحني تحت رجليه شاكرة، لا يمارس سُلطة رجل دين فارضاً أحد الطقوس، ويكتفي قائلا: كل نعجة ستُعلَّقُ من ساقيها..!
ليسوا أبي هؤلاء الآباء، فهو لم يضع مصيره في لون سياسي يرميه بأحد الصناديق المُغلقة مُنفتحاً على أوسع الجبهات في الحياة ليوفِّر لنا حياة كريمة، ليسوا أبي حين أوْجَز في حركة تاريخية كل الكتب التي سأقرأها أو سأكتبها، فأتاني في فجر صباي بدفتر من مائة صفحة بيضاء وقلم، وعِوض أن أخرْبش مزَّقتُه ونحن نضحك فرحَيْن لكل الأوراق التي لم تلْق نفس المصير وما زالت تُصفِّق في أغصان الشَّجر، أستطيع مُجاراة بعض المفاهيم الأدبية والفلسفية في هَواها حتى التي تركب ثورا وتكون راديكالية في ثوريتها وأقتل رمزيا كل هؤلاء الآباء تحقيقا للاختلاف وبحثا عن طريقة أخرى في المشي لا تُكرِّر نفس الأثر، ولكن أبي يستحق أكثر من حياة..!
أبي الذي تمرَّد على أبيه دون أن يُخضِعه أحدٌ لخيارات السُّخط والرضى، نزح مُبكِّرا في العمر مدفوعا بالحلم من أحد المداشر الأمازيغية الرابضة أسْفل جبال الأطلس، لم يكنْ يريد البقاء حبلا مرميا في بئر كي يتحلَّى بنَفَسٍ طويل كباقي سكان القرية الذين لفرط قساوة الطبيعة لا فرق بين وجوههم وركام الحجارة على قارعة الحريق، ورغم أن سكان المدشر المبثوثين كالعِهن المنفوش أسفل الجبل، هم أقرب الناس بأعينهم الجافة إلى الغيمة، إلا أن سخونة رأس أبي التي انتقلتْ حرارتها هادئةً بالوراثة لرأسي، جعلتهُ متوثِّبا رافضا التحديق معهم للسماء ينتظرون نزول المطر، قفز دون أن يبتعد عن الأرض من القرية ينشُد الحرية في المدينة، وما أخطأ الطريق تائها في العاصمة ولكنه أخطأ المعنى حين سمع أحد فقهاء سوس يقول إنَّ لهم فيها ما يدعون؟
رغم أن سقْف البيت يجمعنا إلا أن النهار يُفرِّقنا فلا نلتقي إلا ليلا، فكانت للمفارقة فرحتنا بأبي لا تشرق إلا في سواد الليالي مجتمعِين على مائدة العشاء، ولا يكاد يهجع ساعات قليلة حتى يغادر في الثالثة صباحا دفء الفراش لا تثنيه تقلُّبات الطبيعة حرّاً و قرّاً أو هما معاً حين يُقرِّر الذئب أن يقيم عرسه فوقنا ، فأسمع خطوات أبي المُنْتعِلة صنْدلها تتردَّد في فناء الدار كما لو تمشي في رأسي، مصحوبةً بصفير سخَّان الماء (المقراج) المتميِّز غلَياناً فوق النار على أهبة الوضوء، وبين سطح النوم وعمقه تدور بَكَرة الأفلام التي أُنْتِجها بأضغاث الأحلام، ولكن سُرعان ما ينقطع الاتصال بين مضمضة واستنشاق للماء ثم اسْتِنْثار إلى آخر الصلاة، وللحقيقة كنتُ أفضِّلها لنفسي صلاة جنازة على أن أُحْرَم من النوم وحدي في مثل ذلك الوقت بينما بقية من حولي في الحُلْكة هاجعين، ولا أنْكُر أن شعورا مُمِضّاً بالذنب دفين نفسي سيرافقني للأبد تُجاه والدي، لِذا أنْكمش خجلا مُوقِنا أنني المَعني كلما سمعت المثل الشعبي المغربي البليغ الذي يقول: اخدمْ يا التَّاعس على النَّاعس..!
وهو يُهاجِر من القرية للمدينة لم يبتعدْ أبي مسافة جذرٍ عن الأرض، بقي عاشقا لما تُنْبِتُه البسيطة مع اختلافات في الأصناف بسيطة انتقلتْ بمنتوجاتها من الصّلب قمحا وذُرةً، إلى غلالٍ طرية ذات ماء ورُواء، احترف أبي الفاكهة فتفتَّق على يديه من كل الثمرات أكثر من زوجين، ولا أعرف كيف جعل الفصول تمْتثل لأوامره فكانت فواكهه في بيتنا لا يطالها خريفٌ بعد الصيف على مدار السنة، لذلك أقول دائما من بوابة هذا النعيم الذي شَقِي والدي ليُوفِّره لنا وهو يسقيه بعرق الجبين: إنَّ الجنة تحت قدمَيْ أبي..!
(افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليومه الخميس 25 يوليوز 2019، وقد شاركت بهذه الورقة بطلب من جريدة "الاتحاد الاشتراكي " التي نشرتها يوم الاثنين الماضي 22 يوليوز 2019 ضمن سلسلة "أدباء في حضرة آبائهم"، وهي سلسة شيِّقة يُعِدُّها لصفحة فسحة الصيف الزميل مصطفى الإدريسي.)