كان طفلًا معجونًا بمية عفاريت، مشاغبًا، مراوغًا، يعشق المقالب ويموت فى الضحك. كانت تسليته الوحيدة وهو طفل صغير سماع الحكايات التى يرويها له أبوه وعمَّته، أو الحكاوى التى يسمعها من الجرامفون الذى يُديره كل ليلة والده فى صالونه الأدبى الذى تعمر به مندرة بيتهم، كانت المندرة تعج كل ليلة بكل مثقفى البلدة وربما البلاد المجاورة، تارة يقرأ أحدهم الجرائد التى تأتى إليهم من البندر كلمة بكلمة وحرفًا بحرف، والتى ربما تكون جرائد بايتة فات على صدورها عدة أيام، ولكنَّها هى نافذتهم الوحيدة تقريبًا على ما يدور فى مصر المحروسة وربوعها، أو يمسك آخر بكتاب أو رواية أو فصل من فصول ألف ليلة وليلة، أو كتاب كليلة ودمنة، أو قصة أبوزيد الهلالى وبطولته المدوية، وتارة أخرى يقرأ عليهم «أحمد أفندى عكاشة» رواية جديدة من مكتبته العامرة التى أتى بها من الإسكندرية قبل أن يخرج للمعاش ويأتى ليستقر فى «شباس عمير». كان «خيرى عكاشة» الشهير بـ«خيرى شلبى» حاليًا، طفلًا غير عادى، لا يستهويه اللَّعب ولا اللَّهو قدر ما يستهويه سماع القصص والأساطير وإعادة سردها مع إضافة تحابيش خياله لأطفال القرية وأحيانًا لرجالها، لقد كان جميع مَنْ فى «شباس عمير» يعشق طريقته فى الحكى، رغم أنَّهم على يقين أنه يضيف من ثنايا خياله ثلاثة أرباع ما يحكيه.
كان إذا سأله أحدهم عن أبيه مثلًا يخبره بأنه نائم بالبيت مرهقًا بعد أن سهر طوال اللَّيل بصحبة أبوزيد الهلالى الذى أتى لزياتهم بالأمس وقد صعد بحصانه وركائبه إلى المندرة العلوية، ويظل يحكى ويحكى والمستمع فى حالة من النشوة والاستمتاع تجعله يطلب منه أن يزيده كلما همّ بالتوقف عن الحكى، تطوَّر الأمر تدريجيًّا حتى أصبح «خيرى» عضوًا أساسيًا فى صالون «أحمد عكاشة» الأدبى بعد أن تعلَّم القراءة وإجادة النطق بالتشكيل السليم الذى تعلمه بالفطرة نتيجة حفظه القرآن الكريم فى الكُتَّاب..
كان فرّاكًا يهوى الحركة والمغامرة.. يختفى فجأة وتبكى أُمه ليأتى آخر اليوم يُخبرهم بأنَّه أندس وسط العربة التى تأتى من العزبة تحمل عُمال التراحيل، يتحمَّل علقة ساخنة من أبيه فداءً للمتعة التى حلَّت عليه فى تلك التجربة، وهو يستمع لحكاوى وغناوى الفلاحين وهم يجمعون اللطع من محصول القطن، هذا بالإضافة لرُبع ريال سوف يمكنه من شراء كتاب أو جريدة يشبع بها نهمه للقراءة والاطلاع.
تكوَّن لديه عالم خيالى جذاب يناديه كالنداهة فى كل ليلة، يُخبره بأنَّه لن يقيم هنا كثيرًا.. لذلك يجب عليه أن يَشبع منه قدر المستطاع، تجده اليوم فى دكان «فرحات» الترزى، وغدًا فى دكان فلان النجار، وبعد ساعة يناكف فى «أنور» ابن عمَّته الذى يمتلك دكان بقالة ومكتبة عامرة بأُمّهات الكتب، يصنع مقلبًا فى زوجة ابن عمَّته التى كان يحب أن يداعبها ويجلس عندها تطعمه طبقًا شهيًا من الشوربة بداخله بصلة كبيرة يتفوق طعمها على ديك رومى. لم يكن يعلم أن هذا البيت سوف يصبح بيت حماه وأن «زنوبة» سوف تصير حماته، وهذه الطفلة التى يحملها بين يديه ستصير زوجته وأُمًّا لأولاده.
تمرَّد «خيرى شلبى» على حلم أبيه فى أن يصبح ابنه مدرسًا من أجل تحقيق حُلمه هو أن يصبح كاتبًا.. ذاق كل طعم للفشل والمرارة بعد أن قرَّر الفرار من دمنهور للإسكندرية والاعتماد على نفسه بعد أن أغضب أباه.
ملأ «شباس عمير» بالمرح والذكريات.. وبعدها دمنهور التى صارت جزءًا من تاريخه.. ثم عروس البحر التى عشقها ولكنَّه تركها جريًا وراء النداهة التى تجذب الموهوبين إليها.. إنها القاهرة، من فندق رخيص بميدان رمسيس كان هو بيته لسنوات حتى عنوان بطاقته القديمة عليه، إلى حى متطرف من أحياء المعادى الجديدة، عودة إلى «شباس عمير» لجلب زوجته بنت ابن عمته وابنة «أنور السنهوى»، ثُم عودة للمعادى ليُعمِّر بها بيتًا به زوجة وأربعة أبناء وحوالى ثمانين قطعة من الألماس هى عدد مؤلفاته، ثم عودة مرَّة أخرى لأحضان أُمّه وأبيه وأهل قريته وأصدقاء طفولته فى «شباس عمير» يرقد هناك فى سلام، بينما أنا تائهة مُشرَّدة الأفكار أبحث عنه فى كل ركن من أركان حياتى، يملؤنى بالدفء والوحدة معًا. ترك ونسًا كبيرًا لقُرّائه وفراغًا هائلًا لعُشاقه، ثمانى سنوات هى عمره الجديد فى حياته الأبدية.. أراه وهو ينظر إلىّ من بعيد.. يبتسم ويغمز لى بعينه غمزته التى اعتاد أن يغمزها لى وقت الأزمات ليخبرنى بأن كل شىء على ما يُرام.
كان إذا سأله أحدهم عن أبيه مثلًا يخبره بأنه نائم بالبيت مرهقًا بعد أن سهر طوال اللَّيل بصحبة أبوزيد الهلالى الذى أتى لزياتهم بالأمس وقد صعد بحصانه وركائبه إلى المندرة العلوية، ويظل يحكى ويحكى والمستمع فى حالة من النشوة والاستمتاع تجعله يطلب منه أن يزيده كلما همّ بالتوقف عن الحكى، تطوَّر الأمر تدريجيًّا حتى أصبح «خيرى» عضوًا أساسيًا فى صالون «أحمد عكاشة» الأدبى بعد أن تعلَّم القراءة وإجادة النطق بالتشكيل السليم الذى تعلمه بالفطرة نتيجة حفظه القرآن الكريم فى الكُتَّاب..
كان فرّاكًا يهوى الحركة والمغامرة.. يختفى فجأة وتبكى أُمه ليأتى آخر اليوم يُخبرهم بأنَّه أندس وسط العربة التى تأتى من العزبة تحمل عُمال التراحيل، يتحمَّل علقة ساخنة من أبيه فداءً للمتعة التى حلَّت عليه فى تلك التجربة، وهو يستمع لحكاوى وغناوى الفلاحين وهم يجمعون اللطع من محصول القطن، هذا بالإضافة لرُبع ريال سوف يمكنه من شراء كتاب أو جريدة يشبع بها نهمه للقراءة والاطلاع.
تكوَّن لديه عالم خيالى جذاب يناديه كالنداهة فى كل ليلة، يُخبره بأنَّه لن يقيم هنا كثيرًا.. لذلك يجب عليه أن يَشبع منه قدر المستطاع، تجده اليوم فى دكان «فرحات» الترزى، وغدًا فى دكان فلان النجار، وبعد ساعة يناكف فى «أنور» ابن عمَّته الذى يمتلك دكان بقالة ومكتبة عامرة بأُمّهات الكتب، يصنع مقلبًا فى زوجة ابن عمَّته التى كان يحب أن يداعبها ويجلس عندها تطعمه طبقًا شهيًا من الشوربة بداخله بصلة كبيرة يتفوق طعمها على ديك رومى. لم يكن يعلم أن هذا البيت سوف يصبح بيت حماه وأن «زنوبة» سوف تصير حماته، وهذه الطفلة التى يحملها بين يديه ستصير زوجته وأُمًّا لأولاده.
تمرَّد «خيرى شلبى» على حلم أبيه فى أن يصبح ابنه مدرسًا من أجل تحقيق حُلمه هو أن يصبح كاتبًا.. ذاق كل طعم للفشل والمرارة بعد أن قرَّر الفرار من دمنهور للإسكندرية والاعتماد على نفسه بعد أن أغضب أباه.
ملأ «شباس عمير» بالمرح والذكريات.. وبعدها دمنهور التى صارت جزءًا من تاريخه.. ثم عروس البحر التى عشقها ولكنَّه تركها جريًا وراء النداهة التى تجذب الموهوبين إليها.. إنها القاهرة، من فندق رخيص بميدان رمسيس كان هو بيته لسنوات حتى عنوان بطاقته القديمة عليه، إلى حى متطرف من أحياء المعادى الجديدة، عودة إلى «شباس عمير» لجلب زوجته بنت ابن عمته وابنة «أنور السنهوى»، ثُم عودة للمعادى ليُعمِّر بها بيتًا به زوجة وأربعة أبناء وحوالى ثمانين قطعة من الألماس هى عدد مؤلفاته، ثم عودة مرَّة أخرى لأحضان أُمّه وأبيه وأهل قريته وأصدقاء طفولته فى «شباس عمير» يرقد هناك فى سلام، بينما أنا تائهة مُشرَّدة الأفكار أبحث عنه فى كل ركن من أركان حياتى، يملؤنى بالدفء والوحدة معًا. ترك ونسًا كبيرًا لقُرّائه وفراغًا هائلًا لعُشاقه، ثمانى سنوات هى عمره الجديد فى حياته الأبدية.. أراه وهو ينظر إلىّ من بعيد.. يبتسم ويغمز لى بعينه غمزته التى اعتاد أن يغمزها لى وقت الأزمات ليخبرنى بأن كل شىء على ما يُرام.
ريم خيري شلبي: القبر قاله انزل وأنا أتلقاك.. ونستنى وقطعت باللى وراك
كان طفلًا معجونًا بمية عفاريت، مشاغبًا، مراوغًا، يعشق المقالب ويموت فى الضحك. كانت تسليته الوحيدة وهو طفل صغير سماع الحكايات التى يرويها له أبوه وعمَّته، أو الحكاوى التى يسمعها من الجرامفون الذى ...
www.dostor.org