يعرف ان الامر قد حدث معه في صيف تلك السنة المستقبلية، وأن الذين يتحدث معهم الآن لا يفقهون ما يقول. يعرف تماماً انه سيظل ولأمد غير محدود مسجوناً بيقينه أنه جاء من عالم أكثر واقعية. لقد جاء ببساطة من العالم الواقعي الى هذا الواقع المتخيل. ولم يكن يعرف انه واقع ثقيل أيضاً.
" ما ان يبدأ واقع ما بإملاء شروطه عليك، حتى يغدو واقعياً " دوّن هذه الحكمة في ملف ذاكرته الخربة وعبر الشارع باتجاه الرصيف المقابل، بعد ان غابت عجلات السيارات المسرعة لبرهة. تذكر تلك اللحظة المفصلية التي قادته للتسكع على غير هدى في هذه الشوارع الكابية والحزينة. كان يعاني من كآبة حادة لذلك اخترع مع زملائه (بدلة التاريخ). إنها الوسيلة الاكثر حداثة لدراسة وفهم التاريخ، فالتاريخ ايضاً غدا ذاتياً، وعليك ان تعيش ولمدةٍ تحددها انت مراحل التاريخ كي تكوّن رؤيتك الذاتية، تعيش كجندي صغير بأمرة احد ابطال الالياذة، او تكون طباخاً ملحقاً بحاشية نبوخذنصر، وتعرف بدقة من اي مداخل المدينة المقدسة اورشليم دخل على اليهود الخونة. عليك ان تكون عزة الدوري لكي تعرف ما الذي كان عليه الرئيس في تلك الليلة المشؤومة التي سبقت فراره من القصر الجمهوري، او تكون طياراً اميركياً لتعرف ما الذي حصل حقاً في مطار بغداد قبل ليلة من سقوطه وسقوط المدينة.
ولكنه لم يكن يفكر بهذه الاشياء (العظيمة). كان يريد تجربة (بدلة التاريخ) لا اكثر، من اجل معرفة قوتها وصلاحيتها للاستعمال، ولم ينتظر اجتماع اللجنة العلمية التي ستقرر طريقة الاختبار. كان يشعر بكآبة شديدة، وهذه الكآبة ساعدت، من قبلُ، على انجاز هذه البدلة.
لم يكن ينظر الى نفسه فيراها داخل المرآة. او في وجوه الآخرين. ورغم عبقريته غير المشكوك بها لدى الآخرين، إلا أنه يشك في نفسه على الدوام. يلمس ان جوهراً غائباً فيها يجعلها مجرد قشرة. وهو يحتاج للتاريخ، لصورة اخرى لذاته داخل التاريخ. الأمر اذن لم يكن معه نوعاً من الدرس أو عملاً من اعمال المعرفة. كان يشعر بالكآبة، ولم ينتظر احداً. أرتدى البدلة مقفلة الاردان، واقفل السحّاب الطولي على صدره وقناع وجهه بجرةٍ واحدة ووجد نفسه ها هنا ببساطة.
حسب الكاتلوغ المرفق مع البدلة فأنه يستطيع العودة من (التاريخ) بالامساك بعتلة السحّاب الصغيرة وسحبها للإسفل، والمقصود الامساك بناصية الرأس أو (القذلة) وسحبها، لكنه في أول مواجهة له مع وجهه الجديد داخل مرآة في أحد المطاعم الشعبية في الباب الشرقي اكتشف ان ناصيته عارية عن الصحة. اقصد.. دقق في المرآة واكتشف شعرة صغيرة ملتوية ووحيدة في صحراء صلعه الشاسعة. فكر ان هذه الشعرة هي (حبل) نجاته الوحيد. ولكن، ماذا لو انه سحبها فجاءت بيده؟ ماذا لو انقطعت؟
لم يكن قادراً على المجازفة. ثم غدت لعبته المخيفة فيما بعد هو إمساك هذه الشعرة والتجمد أمام المرآة (أية مرآة كانت) بنظرة جليدية والتأرجح بين قرارين.
ماذا لو انه استيقظ ذات صباح في غرفة فندقه الحقير في شارع السعدون، واكتشف ان شعرته الاثيرة قد غادرت الى مثواها الاخير، ملقاة على الوسادة، او غارقة في مياه الحمام، لتكون آخر المنسحبين في جند فروته الداكنة؟
لم يكن راغباً بالتفكير في احتمالات مماثلة. لم يرد التفكير لوقت طويل بذلك. في هذه الاثناء استطاع ادراك حقائق التاريخ المغيبة والمزيفة. شهد بعينيه ما يصنعه الموت بهؤلاء المساكين على ارصفة الشوارع واسواقها الارتجالية.
كنت انتظره في مقهى منزوية في احد شوارع البتاويين، كان يشغلها فيما مضى العمال المصريون والسودانيون. كان بحاجة لاستعادة جنسيته العراقية، وعلينا ان نذهب معاً الى المحكمة لتقليب سجلات العائلة وإثبات رعويته العثمانية.
شرب من استكان الشاي شارد النظرة، ومسد على رأسه بطريقة لا واعية للتأكد من وجود الشعرة، ثم التفت إلي قائلاً:
ـ حتى لو عدت، لن يصدق أحد كلامي. أعتقد ان عطباً أصاب البدلة. سيقولون أنني احلم ليس إلا. البدلة صممت لقراءة ذاتية للتاريخ، لذا ليس هنالك مجال لإتفاق الآخرين معي. إنها بدلة أحلام، وعلى الاحلام ان يصدقها اثنان على الاقل كي تغدو حقائق..
أليس كذلك يا صديقي؟ أنت تصدق كلامي طبعاً؟!
قال ذلك، غير واثق مني، متجاهلاً اقراري الدائم بكلامه. فأنا اصدقه، ولكني اريده ان ينسى أصله وفصله والعالم الميتافيزيقي الذي جاء منه، ويركز على حزمة المشاكل التي يعيشها الآن.
اصدقه دون شك، لأني اصلع مثله، وأملك شعرة وحيدة ملتوية على جؤجؤ رأسي. لكني توقفت منذ زمن طويل عن ازعاج الآخرين بحكاياتي الميتافيزيقية
" ما ان يبدأ واقع ما بإملاء شروطه عليك، حتى يغدو واقعياً " دوّن هذه الحكمة في ملف ذاكرته الخربة وعبر الشارع باتجاه الرصيف المقابل، بعد ان غابت عجلات السيارات المسرعة لبرهة. تذكر تلك اللحظة المفصلية التي قادته للتسكع على غير هدى في هذه الشوارع الكابية والحزينة. كان يعاني من كآبة حادة لذلك اخترع مع زملائه (بدلة التاريخ). إنها الوسيلة الاكثر حداثة لدراسة وفهم التاريخ، فالتاريخ ايضاً غدا ذاتياً، وعليك ان تعيش ولمدةٍ تحددها انت مراحل التاريخ كي تكوّن رؤيتك الذاتية، تعيش كجندي صغير بأمرة احد ابطال الالياذة، او تكون طباخاً ملحقاً بحاشية نبوخذنصر، وتعرف بدقة من اي مداخل المدينة المقدسة اورشليم دخل على اليهود الخونة. عليك ان تكون عزة الدوري لكي تعرف ما الذي كان عليه الرئيس في تلك الليلة المشؤومة التي سبقت فراره من القصر الجمهوري، او تكون طياراً اميركياً لتعرف ما الذي حصل حقاً في مطار بغداد قبل ليلة من سقوطه وسقوط المدينة.
ولكنه لم يكن يفكر بهذه الاشياء (العظيمة). كان يريد تجربة (بدلة التاريخ) لا اكثر، من اجل معرفة قوتها وصلاحيتها للاستعمال، ولم ينتظر اجتماع اللجنة العلمية التي ستقرر طريقة الاختبار. كان يشعر بكآبة شديدة، وهذه الكآبة ساعدت، من قبلُ، على انجاز هذه البدلة.
لم يكن ينظر الى نفسه فيراها داخل المرآة. او في وجوه الآخرين. ورغم عبقريته غير المشكوك بها لدى الآخرين، إلا أنه يشك في نفسه على الدوام. يلمس ان جوهراً غائباً فيها يجعلها مجرد قشرة. وهو يحتاج للتاريخ، لصورة اخرى لذاته داخل التاريخ. الأمر اذن لم يكن معه نوعاً من الدرس أو عملاً من اعمال المعرفة. كان يشعر بالكآبة، ولم ينتظر احداً. أرتدى البدلة مقفلة الاردان، واقفل السحّاب الطولي على صدره وقناع وجهه بجرةٍ واحدة ووجد نفسه ها هنا ببساطة.
حسب الكاتلوغ المرفق مع البدلة فأنه يستطيع العودة من (التاريخ) بالامساك بعتلة السحّاب الصغيرة وسحبها للإسفل، والمقصود الامساك بناصية الرأس أو (القذلة) وسحبها، لكنه في أول مواجهة له مع وجهه الجديد داخل مرآة في أحد المطاعم الشعبية في الباب الشرقي اكتشف ان ناصيته عارية عن الصحة. اقصد.. دقق في المرآة واكتشف شعرة صغيرة ملتوية ووحيدة في صحراء صلعه الشاسعة. فكر ان هذه الشعرة هي (حبل) نجاته الوحيد. ولكن، ماذا لو انه سحبها فجاءت بيده؟ ماذا لو انقطعت؟
لم يكن قادراً على المجازفة. ثم غدت لعبته المخيفة فيما بعد هو إمساك هذه الشعرة والتجمد أمام المرآة (أية مرآة كانت) بنظرة جليدية والتأرجح بين قرارين.
ماذا لو انه استيقظ ذات صباح في غرفة فندقه الحقير في شارع السعدون، واكتشف ان شعرته الاثيرة قد غادرت الى مثواها الاخير، ملقاة على الوسادة، او غارقة في مياه الحمام، لتكون آخر المنسحبين في جند فروته الداكنة؟
لم يكن راغباً بالتفكير في احتمالات مماثلة. لم يرد التفكير لوقت طويل بذلك. في هذه الاثناء استطاع ادراك حقائق التاريخ المغيبة والمزيفة. شهد بعينيه ما يصنعه الموت بهؤلاء المساكين على ارصفة الشوارع واسواقها الارتجالية.
كنت انتظره في مقهى منزوية في احد شوارع البتاويين، كان يشغلها فيما مضى العمال المصريون والسودانيون. كان بحاجة لاستعادة جنسيته العراقية، وعلينا ان نذهب معاً الى المحكمة لتقليب سجلات العائلة وإثبات رعويته العثمانية.
شرب من استكان الشاي شارد النظرة، ومسد على رأسه بطريقة لا واعية للتأكد من وجود الشعرة، ثم التفت إلي قائلاً:
ـ حتى لو عدت، لن يصدق أحد كلامي. أعتقد ان عطباً أصاب البدلة. سيقولون أنني احلم ليس إلا. البدلة صممت لقراءة ذاتية للتاريخ، لذا ليس هنالك مجال لإتفاق الآخرين معي. إنها بدلة أحلام، وعلى الاحلام ان يصدقها اثنان على الاقل كي تغدو حقائق..
أليس كذلك يا صديقي؟ أنت تصدق كلامي طبعاً؟!
قال ذلك، غير واثق مني، متجاهلاً اقراري الدائم بكلامه. فأنا اصدقه، ولكني اريده ان ينسى أصله وفصله والعالم الميتافيزيقي الذي جاء منه، ويركز على حزمة المشاكل التي يعيشها الآن.
اصدقه دون شك، لأني اصلع مثله، وأملك شعرة وحيدة ملتوية على جؤجؤ رأسي. لكني توقفت منذ زمن طويل عن ازعاج الآخرين بحكاياتي الميتافيزيقية