رواية ((قرى الجن)) الصادرة بتاريخ 1948 في طبعتها الثانية من مطبعة الراعي في النجف، أي في نفس سنة صدور رواية ((الضايع)) في طبعتها الثانية أيضاً ((إذا كانت الرمزية طبعت الأدب العراقي المعاصر بوجه عام الى يومنا هذا، فمؤكد أنَّ هذا دليل واضح على نمط السياسة العراقية))جون توماس هامل – جعفر الخليلي والقصة العراقية ص32.
رواية قرى الجن هي نموذج للرمزية في كتابة الرواية العراقية حيث قال الدكتور جميل سعيد ((خير مثال لهذا الأسلوب–الرمزية- هو "في قرى الجن" لجعفر الخليل الذي استعاد أجواء (ألف ليلة وليلة) و((العقل في محنته)) لذنون أيوب و(أفول وشروق) لخالد الدرة))
جون توماس هامل-جعفر الخليلي-ترجمة الاستاذ وديع غلسطين والدكتور صفاء الخلص ص176
وقد افتتح الخليلي روايته بمقدمة رائعة بإهدائها إلى مدينته مدينة النجف الأشرف، كونها تمثل روح الناس الطيبين المتنورين الطامحين بالحرية والتحضر والتقدم لمدينتهم ولبلدهم عموماً حيث يقول:-
((غالى المدينة الزاهرة التي كان لها الفضل في تنشئة حملة الأفكار الحرة.
إلى المدينة التي أخرجت عشرات الشعراء الذين دعوا للمحبة والرفاه والحرية، فكان لها في تاريخ الفضيلة سهم كبير..
إلى مدينة (النجف) القاحلة الجرداء أِلا من الحس والعطف، أهدي كتابي هذا كصدى لروح الطيبين من أبنائها الذين يسعون لخير المجموع ويحبون لغيرهم ما يحبون لأنفسهم)) قرى الجن.
فمن خلال تحليل هذه المقدمة المختصرة للكاتب، يمكن أنْ يلمس المتلقي ما يصبو إليه الخليلي في التذكير بالتاريخ التنويري لمدينة النجف، وطبعاً لا يقصد الأرض بل يقصد النجفيين من رواد العلم والمعرفة ودعاة التنوير مقتدين بسيرة الإمام علي (عليه السلام)، كما أنَّه أشار إلى أهمية المدينة وأهلها كونها أغنت الأدب بالشعراء من ذوي الفكر الحر وهي إشارة ذات مغزى عميق.
كما أنَّه يؤشر إلى أنَّ الرأسمال الأكبر للمدينة هو حملها راية الحرية والتقدم لصالح المجموع، فهي لا تعدو أنْ تكون مدينة جرداء قحلاء، فخرها أنَّها تحتضن ضريح الأمام علي، وهو القائل ((أحب لأخيك ما تحب لنفسك، وأكره له ما تكره لها))، وهذه هي من أسمى وأنبل الصفات الإنسانية التي يصبو إليها الخليلي ومن رافقه.
الخليلي الطامح بالجديد والتجديد حيث ورد في تقريض لمجلة العرفان بحق الخليلي وبحق روايته ((في قرى الجن)):-
((..الأستاذ جعفر الخليلي صاحب الهاتف النجفية الجريدة المرافقة بمباحثها وسائر شؤونها من كتابنا المجيدين المجددين حتى إنَّه كاد يؤمن بقول المرحوم الزهاوي:-
سئمت كل قديم......عرفته في حيــــــــاتي
إن كان عندك شيء...... من الجديد فهات
وهذا الكتاب تكاد تظنه من قصص ألف ليلة وليلة فتقرأه بلذة وهو يشبه الأساطير القديمة وإنْ كان جديداً بأسلوبه.. وفيه وصف لعالم الجن وهو أرقى بكثير من عالم الأنس، الذي يقرأَ الكتاب يحسب انَّه يقرأ أمراً واقعياً مع أنَّ المؤلف لا يعتقد بالصلة بيننا وبين عالم الجن.. والكتاب تحفة في بابه...)) قرى الجن ص8
وفي مختزل من تقريض مجلة الهلال لوصف رواية ((في قرى الجن)):-
((.. وفق إلى تصوير تلك الحكومة ((الخيالية)) تصويراً رائعاً حتى بات يخيل للقارئ أنَّه حقا وسط بلاد الجن وبين صفوف سكانها وهكذا تمكن الأستاذ الخليلي من تشخيص كثير من الأمراض الاجتماعية والأدواء المزمنة الفاشية بين الكثير بأسلوب قصصي شائق جذاب))قرى الجن ص8 .
وفي وصف رائع لقصيدة طويلة لشيخ الأدباء الجليل عبد الحسين الحلي:-
((شعوب حرة للجن....عاشت وهي في أنِ
وفازت بنظام....... فيه ما يمري وما يهني
نظام أغلق السجن...... فلا جان ولا مجني
فيا للفكر ما أبدع.......... ما يبني أب لأبنِ
وبالله ما أغرب........ وضع القبح والحسنِ
شعوب لا ترى سجينا ....وشعب هو في سجنِ))رق ص9
ومقالة للأستاذ عبد السلام حلمي:-
((لم يقتصر هذا الكتاب القيم إلى ما ألمحت إليه في هذه الإلمامة على تناول بالبحث والدرس والاستقصاء أهم مسائل الحياة التي تشغل أفكار المصلحين وما يتعلق بالنظم التي تؤمن حرية الشعب ورفاءه وحقوق الأفراد والجماعات وكيف يجب أنْ تكون المصالح والمؤسسات الحكومية والأهداف الإنسانية التي لا جرم من استهدافها للوصول إلى حياة الاستقرار والرجاء ووجوب التساند والإخاء، ويتعدى ذلك مرفرفاً في آفاق أرحب إلى هذه الحروب والمجازر البشرية التي تنشب وتقع بين حين وآخر بسبب فساد النظم والأطماع...))رق ص12
من يطالع قرى ((الجن)) يجدها مشروعاً إصلاحياً طموحاً كان يشغل عقول الكثير من العراقيين وخصوصاً الأدباء والمثقفين في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، في ظل الحكم الملكي التابع لقوى الاستعمار البريطاني ونهب ثروات البلاد من قبل الشركات الاحتكارية البترولية، والواقع المزري للمجتمع العراقي آنذاك من حالة الفقر المدقع والبطالة والأمية وانتشار الأمراض وعدم نزاهة القضاء والتفاوت الطبقي الكبير بين طبقات الشعب هي الأثرياء من الإقطاعيين والبرجوازية الطفيلية التابعة ومن كبار المسؤولين من الوزراء والنواب ومن لف لفهم، مصادرة الحريات الفردية وقمع كل فعل أو قول ينتقد الحكم الملكي ويسعى للتغيير، وتاريخ العراق كان حافلاً بالأحداثِ الكبيرة من تظاهرات واحتجاجات عارمة للجماهير العراقية وفي مقدمتها المثقفون والأدباء والكتاب من أبناء العراق سعياً إلى بناء دولة الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والابتعاد عن الأحلاف الاستعمارية آنذاك، الذي أراد الخليلي أنْ يترجم هذه الأهداف وهذه التطلعات عبر روايته الرائعة (في قرى الجن) التي مزجت بين الواقعية والواقعية السحرية والغرائبية من خلال سرد متقن وعبارة رشيقة مدهشة، نرى إنَّ هذا الأسلوب من السرد إنما هو ريادة متقدمة للخليلي في كتابة رواية الواقعية السحرية التي أمتاز بها سرد أواخر القرن العشرين على يد ماركيز وآخرين من الروائيين الكبار ومن حازوا على جائزة نوبل مكافأة لإبداعهم الروائي ولكننا نرى اللامبالاة والإهمال وعدم الاهتمام بمنتج الخليلي الإبداعي الرائع والسباق والمتحدي لأصعب الظروف للدفاع عن حرية وكرامة وسيادة الأوطان والإنسان، نمجد المنتج الأجنبي وهو يستحق التمجيد بلا شك ولكننا نهمل نتاج أبناء وطننا وكما يقال ((مغني الحي لا يطرب))، ولا نكتفي بذلك وإنَّما نحاول تكميم فم المبدع ونكسر قلمه ومحاولة قتله كما حدث للخليلي والكثير من أمثاله من دعاة الحرية والتقدم، حتى وصل الأمر بسلطات صدام إلى طرده وتسفيره والبراءة من الخليلي وعائلته ورميه إلى إيران؟!
ولا غرابة أن يبدع الخليلي هذه الرائعة وهو وريث ((ألف ليلة وليلة)) المنتج الأدبي الخالد في ذاكرة الشعوب العربية والإسلامية والذاكرة العالمية أيضا.
فالمنتج الإبداعي الروائي العراقي في مثل هذه الفترة دلالة على تنسم روح الحرية والتحرر التي هبت على كل العالم بعد الانتصار الكبير على الفاشية في الحرب العالمية الثانية، وإعطاء الأمل للطبقة الوسطى العراقية بتجاوز ضعفها واسترداد أنفاسها من أجل تحقيق أحلامها وأحلام جماهير الأحرار والكادحين العراقيين بالحرية والتقدم والمساواة، وهنا تكمن أهمية إعادة الخليلي لطباعة روايتيه ((الضايع)) و ((في قرى الجن)) في 1948 عام المد الثوري في العراق، عام انتفاضة ووثبة كانون المجيدة ضد معاهدة بورتسموث وحلف بغداد الاستعماري.
وما أشبه اليوم بالبارحة في الواقع العراقي الراهن البائس حيث التبعية وتفشي الفساد والأمية والجهل والتفاوت الطبقي الكبير بين أفراد الشعب، وسرقة ثروات البلاد من قبل الحكام والطبقة السياسية الفاسدة، بالتخادم مع الشركات البترولية الاحتكارية من مختلف الجنسيات والقوميات، ربما تجعل من الإنسان العراقي يتحسر أسفاً إلى أيام الخليلي على الرغم من بؤسها!
حيث دفع العديد من الكتاب والمثقفين حياتهم ثمناً لأفكارهم الحرة والمنحازة للجمال والعدل ونبذ التعصب والطائفية ومحاربة الفساد، فاغتيل ((قاسم عبد الأمير عجام)) و((كامل شياع)) و((الدكتور علاء مشذوب)) وغيرهم من المثقفين والروائيين والشعراء، فـ ((جعفر نفسه أحد أساطين القصة في العراق، واخلد كتبه الذي لا يزال ينتظر مترجماً قديراً روايته قرى الجن)) هامل –ص72
من أجل أنْ تكون للقارئ صورة ولو مختزلة لرواية ((في قرى الجن)) نحاول أنْ نستعرضها من خلال السطور التالية:-
((زفاف الشيخ طاهر الساعي أبن الشيخ حسون الساعي يزف إلى ابنة عمه اليتيمة في هذه الليلة))رقص14.
يعرض الكاتب مراسيم الزواج بفرح غامر وحضور جمع كبير من الأقارب ووجهاء المدينة رجالاً ونساءً وشباباً، ولكن المفاجأة الكبيرة والمدهشة، هو الهجوم الغريب العجيب على دار العريس والعروس بالحجارة ومن ثم خطف الشيخ طاهر دون أن يعثر له أثر، ولا معرفة الخاطفين ولا أسباب الخطف، مما جعل الحزن والأسى والألم يهيمن على أهل الشيخ وعروسه ومعارفه، وحيرتهم في واقع ما حدث وأسبابه.
وبعد أنْ عجزوا عن الوصول إلى خبر الشيخ أضطروا للذهاب إلى المُنَّجِم ليكشف لهم مصير ولدهم، فأخبرهم المنجم أنَّه مخطوف من قبل جنية عشقته فأخذته من عروسه أبنة عمه، يطلب منهم المنجم أو ((الساحر)) إحضار عظم هدهد وأشياء أخرى ليتمكنوا من معرفة مكان الابن ولقائه، ويجب فعل ممارسات وطقوس صعبة تتطلب من يقوم بها أنْ يكون ثابت الجنان شجاعاً حتى يفوز بلقاء الشيخ إنْ تمكن من تجاوز كل العقبات وهو يرى العجيب والغريب والمخيف والمرهب فإنْ لم يكن قادراً على التحمل ربما يتعرض للخطر، وقد فشلت والدته في اجتياز الامتحان الصعب إذْ شاهدت الأهوال مما هو مرعب ومخيف مما لا يحتمل وتعرضت إلى صدمة نفسية وروحية كبيرة أفقدها توازنها العقلي والنفسي فانسحبت معلنة عجزها..
فقرر أنْ يقوم بتأدية هذه المراسيم صديقه الشيخ كريم الغرباوي الذي كان يظنها خرافات وخزعبلات لا تعقل، لكنه شاهد الحقائق بعد أنْ صمدَ أمامَ الامتحانات الصعبة وفي ليلة الأربعين حضر ((مردان العفريت)) ليلبي طلبات الشيخ كريم الغرباوي وإحضار ((5)) ليرات ذهبية.
يرسل رسالة إلى الساعي ويعلقها في شباك الزعفران، فتأتيه رسالة جوابية من الساعي يخبره بمكان وجوده في عالم الجن مع حبيبته الجنية واَّنه يعيش في سلام وهناء وفرح ويبلغه السلام لأهله.
وقد أوضح ألساعي لصديقه الغرباوي طبيعة دولة الجن وحكومتها وطبيعة وحياة مملكة الجن، وقد وصف لصديقه عالم الجن، جماله، فرحه، أمانه، عدالته، وأرسل إلى صديقه القلنسوة المسحورة والقلم المسحور وسيلته لكتابة ما يريد من صديقه ليرسلها في الحال لصديقه ومن ثم يأتيه الرد، وعند لباسه للقلنسوة لم يره أحد.
كان المجلس الجني الأعلى هو المهيمن على السلطة في مملكة الجن.. حيث ألغى المجلس الاستعمار. تم أعطاء الحرية المطلقة لكل الشعوب الجنية اختيار نوع الحكم وانتخاب الحكومة)) ص64.
واضح هنا ما يرمي اليه الخليلي في طموح الشعوب للخلاص من الاستعمار في عالم البشرية وإعطاء الحرية التامة لشعوب الأرض لاختيار حكامهم، هذا الأمر يبدو مطلباً في العراق الملكي المنقوص السيادة تحت الهيمنة البريطانية، ومحاولة ربطه بحلف استعماري خطير.
أرسل الساعي إلى صديقه الغرباوي نظارة جميلة من اختراع أحد نبغاء الجن التي أنْ وضعتها على عينيك تكشف ما يخفي الشخص من المال سواء بين طيات ثيابه أو في باطن الصناديق أو تحت الأرض، مما مكن الغرباوي من كشف زيف الكثير من المتسولين المحتالين وما يملكونه من ثروات ومكان إخفائها.
كما يعرض لنا التقدم الكبير في مجال الرعاية الصحية المتقدمة جداً واهتمام مملكة الجن بالوقاية الصحية من الإصابة بالأمراض كونها خير من العلاج، وهنا يقارن الروائي ما موجود في مملكة الجن الحلم والطموح والواقع المتردي على الأرض في مملكة العراق.. ولا نظن إننا الآن أحسن حالا مما كان..
كذلك تميزت مملكة الجن بعدم وجود وزارة للخارجية ولا يحتاج الجن إلى جواز سفر للسفر والانتقال من مكان إلى آخر.. فلا حدود ولا قيود في عالم السلام والعدل والرفاه والحرية الواعية.
الحديث الممتع والطريف حول الدجاجة التي تجيد الغناء التي تبيض كل ساعة بيضة، والربط بين متعة الغناء ومتعة إنتاج الذهب، فالفن والجمال منتجان للثروة المادية والروحية..
كما إنَّ الكاتب يكشف الظلم والاستغلال للطبقة العاملة العراقية من خلال نظارته السحرية ومطالبته بضرورة أنصاف هذه الطبقة الكادحة أداة البناء والأعمار في كل العالم وهي دلالة وعي الخليلي بمكانة وأهمية ومظلومية الطبقة العاملة، وعلى مدى تأثره بالفكر الشيوعي الماركسي حيث كان للشيوعيين وجود وحضور قوي ومؤثر في النجف وعموم العراق وقت صدور الرواية كما ذكرنا ذلك سابقاً.
اهتمام الجن بالثقافة والأدب والفن فقد كانت لهم أغنية رائعة\ هي دعوة للعمل والنقاء والجمال والمتعة والمحبة والفرح وتعتبر هذه الأغنية بمثابة دستور مقدس يستظهره كل جني ويحاسب نفسه على ما أستطاع أن يفهم منه ويطبق مفهومه على حياته العملية فهي كالصلاة التي يرددها المسلمون في كل يوم ولكن الفرق أنّ المسلمين يرددون صلاتهم كما تفعل الببغاء والجن يتلون أنشودتهم وهم يعنون ما يتلون..))ص103.
هنا إشارة جريئة وواعية تبصر المسلم أنْ يعي ويتمثل مضمون ومعنى صلاته والالتزام بما ترمي إليه هذه الفريضة الإلهية المقدسة.
الساعي يخبر صديقه الغرباوي من خلال رسالة مرسلة إليه من خلال التواصل عبر القلم الذهبي قائلا: ((إنني يا أخي لم أعد ذلك المتلهف المشتاق الوجل على أمي وأبي وأبنة عمي ولا أدري أهو بفضل هذه البيئة الفاضلة والمحيط الراقي أم بسب وسائل سحرية سحرتني بها زوجتي الجنية لأكون لها وحدها)) ص105.
واضح هنا مدى السعادة التي يعيشها الساعي في مملكة الجن محققاً أحلام كل إنسان في مختلف جوانب الحياة بحيث تنسيه ألم فراق والديه وزوجته عروسه ابنة عمه.
يصاب الغرباوي بالجزع لاحتراق قصره المنيف الذي بناه له الجن وصار أعجوبة لأهل البلدة، ((وأّنَه كان يجزع لفقده النظارة جزعاً كبيراً فقد التهمتها النيران ضمن الأثاث والحاجات الأخرى))ص107.
فيبعث للساعي رسالة يطلب فيها تزويده بنظارة وقلنسوة جديدة.
الساعي تبهره قرية الجن وحياة الفلاحين الجن في المملكة ((أحسن الأعمال عند الجن هو ما كان مبنياً على أساس الاستقامة والعدل والمروءة، سواء أكان ذلك في ميدان السوق أو الزواج أو الحب أو التربية والتعليم)) ص114.
وأورد وصفاً لطبيعة التعليم وجمال شكل المدرسة في القرية.
يطلب الغرباوي من صديقه الساعي أنْ ينقله إلى مملكة الجن فلم يعد يطيق الحياة على الأرض قائلاً لصديقه ((إنّي راض بأنْ أكون حماراً ولا أكون أنساناً بهذا العيش وهذه الدنيا)) ص126.
فيودع أمه وقد حمله الجني إلى مملكة الجن بعد أنْ استطاع أنْ يحصل له الساعي على الموافقة للعيش في مملكة الجن.
ينبهر الغرباوي بما شاهده في مملكة الجن اللباس، الجمال، الزينة ومعالم الترف الكبير الذي يعيشه سكان مملكة الجن.
كلف بكتابة مقالات توضح حياة الناس على الأرض ممارساتهم وأساليب تعاملهم وطبيعة حكمهم.. وقد عدّ مخالفاً في بعض مقالاته وخرق القوانين الجنية، فعوقب بتحويله إلى نملة من قبل مجلس قضاة الجن ليتعلم على طبيعة العمل الجمعي التضامني، ثم تم مسخه إلى كلب، غرقه في بحر الدبس، ومن ثم العودة إلى بيت الشيخ غفران..
يصف في مقالاته حالة الحزن والإدمان عليه في الدنيا حيث يصفه ببلاد الأحزان ((بلد الأحزان هذا هو البلد الذي يتعمد أيجاد كل وسائل الحزن والألم والشقاء لنفسه ليحزن ويشقى بمجرد أنْ يموت واحد منه)) ص150((حاحوحا يبو))
((قوما سلوتهم في عزائهم وتفريحهم في مصيبتهم، ولذتهم في شقائهم )) ص158.
((لقد سرت العادة من النساء إلى الرجال فلجأ قسم من هؤلاء إلى اللطم ولم يعد يأنس بغير أخبار الأموات وإقامة الأحزان وعقد المجالس))ص160
((أحزر أية مدينة غناؤها العويل ونشيدها النشيج وموسيقاها دق الصدور ومسارح روايتها وتسلياتها اللطم وأدبها كله أو جله رثاء)) ص160.
كم تبدو هذه التوصيفات جريئة في ذلك الزمان في أواسط القرن العشرين؟ ولا شك أنَّها الآن أكثر وأكبر خطورة وأنَّ مظاهر الأحزان تضاعفت أضعافاً مما عاشه الخليلي، فليته يستفيق الآن ويرى مظاهر شج الرؤوس حتى للأطفال، ولطم الصدور والخدود وتطيين الملابس والسير على النار وغيرها من البدع الشعائرية التي لا تمت للثورة الحسينية بأية صلة وووو..
بعد أنْ لمسوا هيمنة الحزن والألم على روحه ونفسيته قرروا ((علاجه يصيرونه بلبلا ًغريداً يصدح بالغناء مدة تكفي لتغيير طبيعته المحزنة الشبيهة بطبيعة البوم))ص165 التي ورثها من مملكة الأرض
الاستهتار بالقوانين وتفشي الرشوة والفساد في مملكة الإنسان على الأرض:-
((صدقوني إنَّ المخالفة للقوانين العامة والاستهتار بالنواميس الاجتماعية والرشوة بجميع أنواعها وصورها قد بلغت يومها بتلك الزاوية من الدنيا مبلغاً لم يطق معها إنسان أنْ يبول بدون رشوة فكيف به إذا أراد أنْ يبيع وانْ يشتري وأنْ ينقل المتاع من جهة إلى أخرى وأن يبني ويؤسس إلى غير ذلك من مقتضيات الحياة)) ص168.
ليتك تشهد ما نحن عليه الآن أيها الخليلي فقد أحرزت حكومتنا الدرجة الأولى بامتياز في الفساد بين حكومات العالم ؟!
يسهب في وصف حالة الوطني المغرور والمزيف، إهمال المواهب والكفاءات، ناس هيمن عليهم الكسل امتلكوا السلة والمال وآخرين يكدحون ويجدون دون أن تقدر جهودهم وصفهم بدودة القز، الصحفي المزيف، الكاتب المتزلف، الموسيقار العالم الروحاني.. الخ . هذه صفات حكومة ملكية يتحسر بعضهم عليها في زمننا الحاضر في ظل الحكومة الديمقراطية علامة الـ USA
نظراً لكتمان الشهادة بالحق يمسخ الغرباوي إلى كلب لمدة عشرين يوماً، فيرى ما يرى في حياته الكلبية، وما يلاقيه من الاستهزاء والاستخفاف من قبل الكلاب والقطط في دار أسياده من أهل الجن، ينظم بعد ذلك عرس بين ((بيوض)) الكلب الممسوخ والكلبة ((زه زه)) في احتفال كبير، فالحب والعشق محتفى به حتى للحيوانات..
يطول الحديث حول رواية في قرى الجن، التي تمثل حلم الخليلي ومن شاكله من أحرار ومتنوري ذلك الزمان للعيش الكريم ودولة المؤسسات الرصينة ووجود المؤسسات المحترمة من صحة وقضاء وتعليم وفنون والتوزيع العادل للثروة وإنصاف العاملين ونبذ المستغلين الكسالى.
هذه الأحلام التي ما زالت حلم العراقيين من أجل حياة أفضل وهم يعيشون واقعاً حياتياً ربما أسوأ مما كان عليه زمن الأربعينيات الذي عاشه الخليلي، نتمنى على الجهات الأدبية والثقافية والفكرية الأهلية والحكومية أنْ تبادر إلى جمع وإعادة طباعة كل نتاجات جعفر الخليلي الأدبية والثقافية لما لها من أهمية كبرى في حركة التنوير المطلوبة في عراق اليوم أكثر من أي وقت مضى.
تختم الرواية بنهاية صادمة للقارئ الذي عاش أجواء وتفاصيل ومشاهد غريبة عجيبة وكأنها حقائق واقعة من خلال السرد المحكم والأسلوب الرائع في السرد ليخبرنا إنَّ كل ما رواه كان حلماً ليس إلا ((حانت هنا التفاتة من الجدة إلى حفيدها فالفته يغط في نوم عميق فأدركت أنَّ قصتها قد ذهبت أدراج الرياح وأنَّ الولد لم يع منها – إذا وعى – إلا قليلاً فمدت يدها إلى السراج فأخمدت أنفاسه وإلى اللحاف فسحبته وسلمت هي نفسها للنوم)) ص190.
نعم أيها المبدع الكبير والحالم الرائع فالولد لم يع حتى القليل من قصة الجدة ولو أتيت اليوم لشاهدت الأسوأ فالجهل هو السائد والخرافة مهيمنة والرشوة والفساد تنخر كل مفاصل المؤسسات الحكومية والبطالة متفشية، المال والجاه ملك الأقلية الفاسدة والقهر والإقصاء والتهميش نصيب الكفء النزيه النابه الفطن الكادح المثابر.
وأنت أوضح مثال على الأبعاد والتهميش حيث حوربت من قبل المجتمع ومن قبل السلطات فأبعدت وأقصيت أنت وعائلتك وأحلامك ومشاريعك لتموت في الغربة، نرى إنَّ جعفر الخليلي فكراً وثقافة وتطلعاً وطموحاً إنّما كان يمثل صوت أحرار العراق في تلك الفترة من الأدباء والكتاب والمثقفين ورجال الدين المتنورين ومن العمال والفلاحين وعموم الكادحين وصوت القوى السياسية الديمقراطية واليسارية النشطة والعاملة من أجل عراق حر وشعب مرفه سعيد وبناء دولة الرفاه والحرية دولة الإنسان المواطن الحر الكريم فقد كانت هذه الفترة حافلة بالأحداث مميزة بحراك شعبي اجتماعي مميز متواصل وعنيف من أجل الخلاص.
رواية قرى الجن هي نموذج للرمزية في كتابة الرواية العراقية حيث قال الدكتور جميل سعيد ((خير مثال لهذا الأسلوب–الرمزية- هو "في قرى الجن" لجعفر الخليل الذي استعاد أجواء (ألف ليلة وليلة) و((العقل في محنته)) لذنون أيوب و(أفول وشروق) لخالد الدرة))
جون توماس هامل-جعفر الخليلي-ترجمة الاستاذ وديع غلسطين والدكتور صفاء الخلص ص176
وقد افتتح الخليلي روايته بمقدمة رائعة بإهدائها إلى مدينته مدينة النجف الأشرف، كونها تمثل روح الناس الطيبين المتنورين الطامحين بالحرية والتحضر والتقدم لمدينتهم ولبلدهم عموماً حيث يقول:-
((غالى المدينة الزاهرة التي كان لها الفضل في تنشئة حملة الأفكار الحرة.
إلى المدينة التي أخرجت عشرات الشعراء الذين دعوا للمحبة والرفاه والحرية، فكان لها في تاريخ الفضيلة سهم كبير..
إلى مدينة (النجف) القاحلة الجرداء أِلا من الحس والعطف، أهدي كتابي هذا كصدى لروح الطيبين من أبنائها الذين يسعون لخير المجموع ويحبون لغيرهم ما يحبون لأنفسهم)) قرى الجن.
فمن خلال تحليل هذه المقدمة المختصرة للكاتب، يمكن أنْ يلمس المتلقي ما يصبو إليه الخليلي في التذكير بالتاريخ التنويري لمدينة النجف، وطبعاً لا يقصد الأرض بل يقصد النجفيين من رواد العلم والمعرفة ودعاة التنوير مقتدين بسيرة الإمام علي (عليه السلام)، كما أنَّه أشار إلى أهمية المدينة وأهلها كونها أغنت الأدب بالشعراء من ذوي الفكر الحر وهي إشارة ذات مغزى عميق.
كما أنَّه يؤشر إلى أنَّ الرأسمال الأكبر للمدينة هو حملها راية الحرية والتقدم لصالح المجموع، فهي لا تعدو أنْ تكون مدينة جرداء قحلاء، فخرها أنَّها تحتضن ضريح الأمام علي، وهو القائل ((أحب لأخيك ما تحب لنفسك، وأكره له ما تكره لها))، وهذه هي من أسمى وأنبل الصفات الإنسانية التي يصبو إليها الخليلي ومن رافقه.
الخليلي الطامح بالجديد والتجديد حيث ورد في تقريض لمجلة العرفان بحق الخليلي وبحق روايته ((في قرى الجن)):-
((..الأستاذ جعفر الخليلي صاحب الهاتف النجفية الجريدة المرافقة بمباحثها وسائر شؤونها من كتابنا المجيدين المجددين حتى إنَّه كاد يؤمن بقول المرحوم الزهاوي:-
سئمت كل قديم......عرفته في حيــــــــاتي
إن كان عندك شيء...... من الجديد فهات
وهذا الكتاب تكاد تظنه من قصص ألف ليلة وليلة فتقرأه بلذة وهو يشبه الأساطير القديمة وإنْ كان جديداً بأسلوبه.. وفيه وصف لعالم الجن وهو أرقى بكثير من عالم الأنس، الذي يقرأَ الكتاب يحسب انَّه يقرأ أمراً واقعياً مع أنَّ المؤلف لا يعتقد بالصلة بيننا وبين عالم الجن.. والكتاب تحفة في بابه...)) قرى الجن ص8
وفي مختزل من تقريض مجلة الهلال لوصف رواية ((في قرى الجن)):-
((.. وفق إلى تصوير تلك الحكومة ((الخيالية)) تصويراً رائعاً حتى بات يخيل للقارئ أنَّه حقا وسط بلاد الجن وبين صفوف سكانها وهكذا تمكن الأستاذ الخليلي من تشخيص كثير من الأمراض الاجتماعية والأدواء المزمنة الفاشية بين الكثير بأسلوب قصصي شائق جذاب))قرى الجن ص8 .
وفي وصف رائع لقصيدة طويلة لشيخ الأدباء الجليل عبد الحسين الحلي:-
((شعوب حرة للجن....عاشت وهي في أنِ
وفازت بنظام....... فيه ما يمري وما يهني
نظام أغلق السجن...... فلا جان ولا مجني
فيا للفكر ما أبدع.......... ما يبني أب لأبنِ
وبالله ما أغرب........ وضع القبح والحسنِ
شعوب لا ترى سجينا ....وشعب هو في سجنِ))رق ص9
ومقالة للأستاذ عبد السلام حلمي:-
((لم يقتصر هذا الكتاب القيم إلى ما ألمحت إليه في هذه الإلمامة على تناول بالبحث والدرس والاستقصاء أهم مسائل الحياة التي تشغل أفكار المصلحين وما يتعلق بالنظم التي تؤمن حرية الشعب ورفاءه وحقوق الأفراد والجماعات وكيف يجب أنْ تكون المصالح والمؤسسات الحكومية والأهداف الإنسانية التي لا جرم من استهدافها للوصول إلى حياة الاستقرار والرجاء ووجوب التساند والإخاء، ويتعدى ذلك مرفرفاً في آفاق أرحب إلى هذه الحروب والمجازر البشرية التي تنشب وتقع بين حين وآخر بسبب فساد النظم والأطماع...))رق ص12
من يطالع قرى ((الجن)) يجدها مشروعاً إصلاحياً طموحاً كان يشغل عقول الكثير من العراقيين وخصوصاً الأدباء والمثقفين في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، في ظل الحكم الملكي التابع لقوى الاستعمار البريطاني ونهب ثروات البلاد من قبل الشركات الاحتكارية البترولية، والواقع المزري للمجتمع العراقي آنذاك من حالة الفقر المدقع والبطالة والأمية وانتشار الأمراض وعدم نزاهة القضاء والتفاوت الطبقي الكبير بين طبقات الشعب هي الأثرياء من الإقطاعيين والبرجوازية الطفيلية التابعة ومن كبار المسؤولين من الوزراء والنواب ومن لف لفهم، مصادرة الحريات الفردية وقمع كل فعل أو قول ينتقد الحكم الملكي ويسعى للتغيير، وتاريخ العراق كان حافلاً بالأحداثِ الكبيرة من تظاهرات واحتجاجات عارمة للجماهير العراقية وفي مقدمتها المثقفون والأدباء والكتاب من أبناء العراق سعياً إلى بناء دولة الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والابتعاد عن الأحلاف الاستعمارية آنذاك، الذي أراد الخليلي أنْ يترجم هذه الأهداف وهذه التطلعات عبر روايته الرائعة (في قرى الجن) التي مزجت بين الواقعية والواقعية السحرية والغرائبية من خلال سرد متقن وعبارة رشيقة مدهشة، نرى إنَّ هذا الأسلوب من السرد إنما هو ريادة متقدمة للخليلي في كتابة رواية الواقعية السحرية التي أمتاز بها سرد أواخر القرن العشرين على يد ماركيز وآخرين من الروائيين الكبار ومن حازوا على جائزة نوبل مكافأة لإبداعهم الروائي ولكننا نرى اللامبالاة والإهمال وعدم الاهتمام بمنتج الخليلي الإبداعي الرائع والسباق والمتحدي لأصعب الظروف للدفاع عن حرية وكرامة وسيادة الأوطان والإنسان، نمجد المنتج الأجنبي وهو يستحق التمجيد بلا شك ولكننا نهمل نتاج أبناء وطننا وكما يقال ((مغني الحي لا يطرب))، ولا نكتفي بذلك وإنَّما نحاول تكميم فم المبدع ونكسر قلمه ومحاولة قتله كما حدث للخليلي والكثير من أمثاله من دعاة الحرية والتقدم، حتى وصل الأمر بسلطات صدام إلى طرده وتسفيره والبراءة من الخليلي وعائلته ورميه إلى إيران؟!
ولا غرابة أن يبدع الخليلي هذه الرائعة وهو وريث ((ألف ليلة وليلة)) المنتج الأدبي الخالد في ذاكرة الشعوب العربية والإسلامية والذاكرة العالمية أيضا.
فالمنتج الإبداعي الروائي العراقي في مثل هذه الفترة دلالة على تنسم روح الحرية والتحرر التي هبت على كل العالم بعد الانتصار الكبير على الفاشية في الحرب العالمية الثانية، وإعطاء الأمل للطبقة الوسطى العراقية بتجاوز ضعفها واسترداد أنفاسها من أجل تحقيق أحلامها وأحلام جماهير الأحرار والكادحين العراقيين بالحرية والتقدم والمساواة، وهنا تكمن أهمية إعادة الخليلي لطباعة روايتيه ((الضايع)) و ((في قرى الجن)) في 1948 عام المد الثوري في العراق، عام انتفاضة ووثبة كانون المجيدة ضد معاهدة بورتسموث وحلف بغداد الاستعماري.
وما أشبه اليوم بالبارحة في الواقع العراقي الراهن البائس حيث التبعية وتفشي الفساد والأمية والجهل والتفاوت الطبقي الكبير بين أفراد الشعب، وسرقة ثروات البلاد من قبل الحكام والطبقة السياسية الفاسدة، بالتخادم مع الشركات البترولية الاحتكارية من مختلف الجنسيات والقوميات، ربما تجعل من الإنسان العراقي يتحسر أسفاً إلى أيام الخليلي على الرغم من بؤسها!
حيث دفع العديد من الكتاب والمثقفين حياتهم ثمناً لأفكارهم الحرة والمنحازة للجمال والعدل ونبذ التعصب والطائفية ومحاربة الفساد، فاغتيل ((قاسم عبد الأمير عجام)) و((كامل شياع)) و((الدكتور علاء مشذوب)) وغيرهم من المثقفين والروائيين والشعراء، فـ ((جعفر نفسه أحد أساطين القصة في العراق، واخلد كتبه الذي لا يزال ينتظر مترجماً قديراً روايته قرى الجن)) هامل –ص72
من أجل أنْ تكون للقارئ صورة ولو مختزلة لرواية ((في قرى الجن)) نحاول أنْ نستعرضها من خلال السطور التالية:-
((زفاف الشيخ طاهر الساعي أبن الشيخ حسون الساعي يزف إلى ابنة عمه اليتيمة في هذه الليلة))رقص14.
يعرض الكاتب مراسيم الزواج بفرح غامر وحضور جمع كبير من الأقارب ووجهاء المدينة رجالاً ونساءً وشباباً، ولكن المفاجأة الكبيرة والمدهشة، هو الهجوم الغريب العجيب على دار العريس والعروس بالحجارة ومن ثم خطف الشيخ طاهر دون أن يعثر له أثر، ولا معرفة الخاطفين ولا أسباب الخطف، مما جعل الحزن والأسى والألم يهيمن على أهل الشيخ وعروسه ومعارفه، وحيرتهم في واقع ما حدث وأسبابه.
وبعد أنْ عجزوا عن الوصول إلى خبر الشيخ أضطروا للذهاب إلى المُنَّجِم ليكشف لهم مصير ولدهم، فأخبرهم المنجم أنَّه مخطوف من قبل جنية عشقته فأخذته من عروسه أبنة عمه، يطلب منهم المنجم أو ((الساحر)) إحضار عظم هدهد وأشياء أخرى ليتمكنوا من معرفة مكان الابن ولقائه، ويجب فعل ممارسات وطقوس صعبة تتطلب من يقوم بها أنْ يكون ثابت الجنان شجاعاً حتى يفوز بلقاء الشيخ إنْ تمكن من تجاوز كل العقبات وهو يرى العجيب والغريب والمخيف والمرهب فإنْ لم يكن قادراً على التحمل ربما يتعرض للخطر، وقد فشلت والدته في اجتياز الامتحان الصعب إذْ شاهدت الأهوال مما هو مرعب ومخيف مما لا يحتمل وتعرضت إلى صدمة نفسية وروحية كبيرة أفقدها توازنها العقلي والنفسي فانسحبت معلنة عجزها..
فقرر أنْ يقوم بتأدية هذه المراسيم صديقه الشيخ كريم الغرباوي الذي كان يظنها خرافات وخزعبلات لا تعقل، لكنه شاهد الحقائق بعد أنْ صمدَ أمامَ الامتحانات الصعبة وفي ليلة الأربعين حضر ((مردان العفريت)) ليلبي طلبات الشيخ كريم الغرباوي وإحضار ((5)) ليرات ذهبية.
يرسل رسالة إلى الساعي ويعلقها في شباك الزعفران، فتأتيه رسالة جوابية من الساعي يخبره بمكان وجوده في عالم الجن مع حبيبته الجنية واَّنه يعيش في سلام وهناء وفرح ويبلغه السلام لأهله.
وقد أوضح ألساعي لصديقه الغرباوي طبيعة دولة الجن وحكومتها وطبيعة وحياة مملكة الجن، وقد وصف لصديقه عالم الجن، جماله، فرحه، أمانه، عدالته، وأرسل إلى صديقه القلنسوة المسحورة والقلم المسحور وسيلته لكتابة ما يريد من صديقه ليرسلها في الحال لصديقه ومن ثم يأتيه الرد، وعند لباسه للقلنسوة لم يره أحد.
كان المجلس الجني الأعلى هو المهيمن على السلطة في مملكة الجن.. حيث ألغى المجلس الاستعمار. تم أعطاء الحرية المطلقة لكل الشعوب الجنية اختيار نوع الحكم وانتخاب الحكومة)) ص64.
واضح هنا ما يرمي اليه الخليلي في طموح الشعوب للخلاص من الاستعمار في عالم البشرية وإعطاء الحرية التامة لشعوب الأرض لاختيار حكامهم، هذا الأمر يبدو مطلباً في العراق الملكي المنقوص السيادة تحت الهيمنة البريطانية، ومحاولة ربطه بحلف استعماري خطير.
أرسل الساعي إلى صديقه الغرباوي نظارة جميلة من اختراع أحد نبغاء الجن التي أنْ وضعتها على عينيك تكشف ما يخفي الشخص من المال سواء بين طيات ثيابه أو في باطن الصناديق أو تحت الأرض، مما مكن الغرباوي من كشف زيف الكثير من المتسولين المحتالين وما يملكونه من ثروات ومكان إخفائها.
كما يعرض لنا التقدم الكبير في مجال الرعاية الصحية المتقدمة جداً واهتمام مملكة الجن بالوقاية الصحية من الإصابة بالأمراض كونها خير من العلاج، وهنا يقارن الروائي ما موجود في مملكة الجن الحلم والطموح والواقع المتردي على الأرض في مملكة العراق.. ولا نظن إننا الآن أحسن حالا مما كان..
كذلك تميزت مملكة الجن بعدم وجود وزارة للخارجية ولا يحتاج الجن إلى جواز سفر للسفر والانتقال من مكان إلى آخر.. فلا حدود ولا قيود في عالم السلام والعدل والرفاه والحرية الواعية.
الحديث الممتع والطريف حول الدجاجة التي تجيد الغناء التي تبيض كل ساعة بيضة، والربط بين متعة الغناء ومتعة إنتاج الذهب، فالفن والجمال منتجان للثروة المادية والروحية..
كما إنَّ الكاتب يكشف الظلم والاستغلال للطبقة العاملة العراقية من خلال نظارته السحرية ومطالبته بضرورة أنصاف هذه الطبقة الكادحة أداة البناء والأعمار في كل العالم وهي دلالة وعي الخليلي بمكانة وأهمية ومظلومية الطبقة العاملة، وعلى مدى تأثره بالفكر الشيوعي الماركسي حيث كان للشيوعيين وجود وحضور قوي ومؤثر في النجف وعموم العراق وقت صدور الرواية كما ذكرنا ذلك سابقاً.
اهتمام الجن بالثقافة والأدب والفن فقد كانت لهم أغنية رائعة\ هي دعوة للعمل والنقاء والجمال والمتعة والمحبة والفرح وتعتبر هذه الأغنية بمثابة دستور مقدس يستظهره كل جني ويحاسب نفسه على ما أستطاع أن يفهم منه ويطبق مفهومه على حياته العملية فهي كالصلاة التي يرددها المسلمون في كل يوم ولكن الفرق أنّ المسلمين يرددون صلاتهم كما تفعل الببغاء والجن يتلون أنشودتهم وهم يعنون ما يتلون..))ص103.
هنا إشارة جريئة وواعية تبصر المسلم أنْ يعي ويتمثل مضمون ومعنى صلاته والالتزام بما ترمي إليه هذه الفريضة الإلهية المقدسة.
الساعي يخبر صديقه الغرباوي من خلال رسالة مرسلة إليه من خلال التواصل عبر القلم الذهبي قائلا: ((إنني يا أخي لم أعد ذلك المتلهف المشتاق الوجل على أمي وأبي وأبنة عمي ولا أدري أهو بفضل هذه البيئة الفاضلة والمحيط الراقي أم بسب وسائل سحرية سحرتني بها زوجتي الجنية لأكون لها وحدها)) ص105.
واضح هنا مدى السعادة التي يعيشها الساعي في مملكة الجن محققاً أحلام كل إنسان في مختلف جوانب الحياة بحيث تنسيه ألم فراق والديه وزوجته عروسه ابنة عمه.
يصاب الغرباوي بالجزع لاحتراق قصره المنيف الذي بناه له الجن وصار أعجوبة لأهل البلدة، ((وأّنَه كان يجزع لفقده النظارة جزعاً كبيراً فقد التهمتها النيران ضمن الأثاث والحاجات الأخرى))ص107.
فيبعث للساعي رسالة يطلب فيها تزويده بنظارة وقلنسوة جديدة.
الساعي تبهره قرية الجن وحياة الفلاحين الجن في المملكة ((أحسن الأعمال عند الجن هو ما كان مبنياً على أساس الاستقامة والعدل والمروءة، سواء أكان ذلك في ميدان السوق أو الزواج أو الحب أو التربية والتعليم)) ص114.
وأورد وصفاً لطبيعة التعليم وجمال شكل المدرسة في القرية.
يطلب الغرباوي من صديقه الساعي أنْ ينقله إلى مملكة الجن فلم يعد يطيق الحياة على الأرض قائلاً لصديقه ((إنّي راض بأنْ أكون حماراً ولا أكون أنساناً بهذا العيش وهذه الدنيا)) ص126.
فيودع أمه وقد حمله الجني إلى مملكة الجن بعد أنْ استطاع أنْ يحصل له الساعي على الموافقة للعيش في مملكة الجن.
ينبهر الغرباوي بما شاهده في مملكة الجن اللباس، الجمال، الزينة ومعالم الترف الكبير الذي يعيشه سكان مملكة الجن.
كلف بكتابة مقالات توضح حياة الناس على الأرض ممارساتهم وأساليب تعاملهم وطبيعة حكمهم.. وقد عدّ مخالفاً في بعض مقالاته وخرق القوانين الجنية، فعوقب بتحويله إلى نملة من قبل مجلس قضاة الجن ليتعلم على طبيعة العمل الجمعي التضامني، ثم تم مسخه إلى كلب، غرقه في بحر الدبس، ومن ثم العودة إلى بيت الشيخ غفران..
يصف في مقالاته حالة الحزن والإدمان عليه في الدنيا حيث يصفه ببلاد الأحزان ((بلد الأحزان هذا هو البلد الذي يتعمد أيجاد كل وسائل الحزن والألم والشقاء لنفسه ليحزن ويشقى بمجرد أنْ يموت واحد منه)) ص150((حاحوحا يبو))
((قوما سلوتهم في عزائهم وتفريحهم في مصيبتهم، ولذتهم في شقائهم )) ص158.
((لقد سرت العادة من النساء إلى الرجال فلجأ قسم من هؤلاء إلى اللطم ولم يعد يأنس بغير أخبار الأموات وإقامة الأحزان وعقد المجالس))ص160
((أحزر أية مدينة غناؤها العويل ونشيدها النشيج وموسيقاها دق الصدور ومسارح روايتها وتسلياتها اللطم وأدبها كله أو جله رثاء)) ص160.
كم تبدو هذه التوصيفات جريئة في ذلك الزمان في أواسط القرن العشرين؟ ولا شك أنَّها الآن أكثر وأكبر خطورة وأنَّ مظاهر الأحزان تضاعفت أضعافاً مما عاشه الخليلي، فليته يستفيق الآن ويرى مظاهر شج الرؤوس حتى للأطفال، ولطم الصدور والخدود وتطيين الملابس والسير على النار وغيرها من البدع الشعائرية التي لا تمت للثورة الحسينية بأية صلة وووو..
بعد أنْ لمسوا هيمنة الحزن والألم على روحه ونفسيته قرروا ((علاجه يصيرونه بلبلا ًغريداً يصدح بالغناء مدة تكفي لتغيير طبيعته المحزنة الشبيهة بطبيعة البوم))ص165 التي ورثها من مملكة الأرض
الاستهتار بالقوانين وتفشي الرشوة والفساد في مملكة الإنسان على الأرض:-
((صدقوني إنَّ المخالفة للقوانين العامة والاستهتار بالنواميس الاجتماعية والرشوة بجميع أنواعها وصورها قد بلغت يومها بتلك الزاوية من الدنيا مبلغاً لم يطق معها إنسان أنْ يبول بدون رشوة فكيف به إذا أراد أنْ يبيع وانْ يشتري وأنْ ينقل المتاع من جهة إلى أخرى وأن يبني ويؤسس إلى غير ذلك من مقتضيات الحياة)) ص168.
ليتك تشهد ما نحن عليه الآن أيها الخليلي فقد أحرزت حكومتنا الدرجة الأولى بامتياز في الفساد بين حكومات العالم ؟!
يسهب في وصف حالة الوطني المغرور والمزيف، إهمال المواهب والكفاءات، ناس هيمن عليهم الكسل امتلكوا السلة والمال وآخرين يكدحون ويجدون دون أن تقدر جهودهم وصفهم بدودة القز، الصحفي المزيف، الكاتب المتزلف، الموسيقار العالم الروحاني.. الخ . هذه صفات حكومة ملكية يتحسر بعضهم عليها في زمننا الحاضر في ظل الحكومة الديمقراطية علامة الـ USA
نظراً لكتمان الشهادة بالحق يمسخ الغرباوي إلى كلب لمدة عشرين يوماً، فيرى ما يرى في حياته الكلبية، وما يلاقيه من الاستهزاء والاستخفاف من قبل الكلاب والقطط في دار أسياده من أهل الجن، ينظم بعد ذلك عرس بين ((بيوض)) الكلب الممسوخ والكلبة ((زه زه)) في احتفال كبير، فالحب والعشق محتفى به حتى للحيوانات..
يطول الحديث حول رواية في قرى الجن، التي تمثل حلم الخليلي ومن شاكله من أحرار ومتنوري ذلك الزمان للعيش الكريم ودولة المؤسسات الرصينة ووجود المؤسسات المحترمة من صحة وقضاء وتعليم وفنون والتوزيع العادل للثروة وإنصاف العاملين ونبذ المستغلين الكسالى.
هذه الأحلام التي ما زالت حلم العراقيين من أجل حياة أفضل وهم يعيشون واقعاً حياتياً ربما أسوأ مما كان عليه زمن الأربعينيات الذي عاشه الخليلي، نتمنى على الجهات الأدبية والثقافية والفكرية الأهلية والحكومية أنْ تبادر إلى جمع وإعادة طباعة كل نتاجات جعفر الخليلي الأدبية والثقافية لما لها من أهمية كبرى في حركة التنوير المطلوبة في عراق اليوم أكثر من أي وقت مضى.
تختم الرواية بنهاية صادمة للقارئ الذي عاش أجواء وتفاصيل ومشاهد غريبة عجيبة وكأنها حقائق واقعة من خلال السرد المحكم والأسلوب الرائع في السرد ليخبرنا إنَّ كل ما رواه كان حلماً ليس إلا ((حانت هنا التفاتة من الجدة إلى حفيدها فالفته يغط في نوم عميق فأدركت أنَّ قصتها قد ذهبت أدراج الرياح وأنَّ الولد لم يع منها – إذا وعى – إلا قليلاً فمدت يدها إلى السراج فأخمدت أنفاسه وإلى اللحاف فسحبته وسلمت هي نفسها للنوم)) ص190.
نعم أيها المبدع الكبير والحالم الرائع فالولد لم يع حتى القليل من قصة الجدة ولو أتيت اليوم لشاهدت الأسوأ فالجهل هو السائد والخرافة مهيمنة والرشوة والفساد تنخر كل مفاصل المؤسسات الحكومية والبطالة متفشية، المال والجاه ملك الأقلية الفاسدة والقهر والإقصاء والتهميش نصيب الكفء النزيه النابه الفطن الكادح المثابر.
وأنت أوضح مثال على الأبعاد والتهميش حيث حوربت من قبل المجتمع ومن قبل السلطات فأبعدت وأقصيت أنت وعائلتك وأحلامك ومشاريعك لتموت في الغربة، نرى إنَّ جعفر الخليلي فكراً وثقافة وتطلعاً وطموحاً إنّما كان يمثل صوت أحرار العراق في تلك الفترة من الأدباء والكتاب والمثقفين ورجال الدين المتنورين ومن العمال والفلاحين وعموم الكادحين وصوت القوى السياسية الديمقراطية واليسارية النشطة والعاملة من أجل عراق حر وشعب مرفه سعيد وبناء دولة الرفاه والحرية دولة الإنسان المواطن الحر الكريم فقد كانت هذه الفترة حافلة بالأحداث مميزة بحراك شعبي اجتماعي مميز متواصل وعنيف من أجل الخلاص.