في طفولتي بالمخيم كنت لا أقترب من الكلاب. كنت أشاهدها لدى بعض الجيران أو لدى البدو الذين ينصبون، في الربيع، خيامهم قرب المخيم.
كنت أبيع الإسكيمو للبدو وكانت كلابهم، كلما اقتربت من خيامهم، تنبح، وحين أتكلم مع أصحابها سرعان ما تكف عن النباح.
كلب الجيران في المخيم - طبعاً سابع جار - كان ينبح كلما رأى غريباً وكان وحيداً، ومرة ضربه خميس بحجر، ولما خرج أصحاب الكلب خاطبهم خميس:
- ربّوا أولادكم.
وتقبل الأمر على أنه دعابة.
في العام 1972، درست في الجامعة الأردنية نصاً للجاحظ هو "عروة بن مرثد والكلب"، والجاحظ كاتب ساخر، كما نعرف من كتابه "البخلاء"، فكيف بدا كلبه في نصه؟
لم يكن الكلب هو المعني بالدرجة الأولى، فقد كان المعني عروة بن مرثد الذي اتسم بالجبن، فظن الكلب الذي بالباب لصاً يريد اقتحام البيت الذي نزل فيه ضيفاً، وأخذ عروة يهدده، دون أن يجرؤ على مجابهته، حتى إذا ما انتبهت امرأة من القوم، وصرخت بالكلب، وعرف عروة أن ما وراء باب البيت هو كلب لا لص، قال: "الحمد لله الذي مسخك كلباً وكفاني منك حرباً"، ويمكن القول: إن كلب الجاحظ كان كلباً هائماً مشرداً يبحث عن طعام، ولم يكن كلباً منزلياً مدللاً أو كلب قوم يبسط يديه بالوصيد مثل كلب أهل الكهف.
ولا أعرف إن كانت هناك دراسة تتبعت حضور الكلب في الأدب العالمي أو الأدب العربي. ففي موتيفات الأدب العالمي وموضوعاته لم أعثر في كتاب (إليزابيث فرنزل) على (Hund) وفي كتاب (ديميريش) أحال إلى كلمة (Tierrich) - أي حيوان، ويبدو أن الكلب درس تحت لازمة الحيوان بشكل عام.
في التراث العربي، هناك كتاب عنوانه "فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب"، وقد أتيت عليه في مقال لي نشرته، بموقع ديوان العرب، قبل 13 عاماً. والكتاب ألفه محمد بن المرزبان وقد صدرت طبعة منه عن منشورات الجمل في 2003.
غالباً ما يكرر الناس بيت شعر هو:
"تعدو الذئاب على من لا كلاب له
وتتقي مربض المستأسد الضاري".
وبعد قتل صدام حسين، شاعت أبيات كتبت على زجاج السيارات، تشبهه بالأسد وغيره بالكلاب، فالأسد يظل أسداً والكلب يبقى كلباً.
وغالباً ما ينعت الناس من يخالفهم بالكلب.
المعنى الإيجابي والمعنى السلبي لاستخدام دال "كلب" يحدده عموماً السياق، وغالباً ما يكون أيضاً الاستخدام مجازياً، كما في بيت الشعر:
"لو كل كلب عوى ألقمته حجراً لأصبح الصخر مثقالاً بدينار"، وكما في رواية نجيب محفوظ ذات العنوان الرمزي "اللص والكلاب" 1961، فالكلاب فيها هم رؤوف علوان الثوري المرتد وعليش التلميذ الخائن ونبوية الزوجة الخائنة وآخرون، ممّن كانت نور المرأة الغانية أفضل منهم.
من القصص القصيرة المبكرة في الأدب الفلسطيني قصة توفيق فياض "الكلب سمور" 1966، وهي قصة شخصية والشخصية هي الكلب، وهي من القصص الطريفة في الأدب الفلسطيني التي حفلت بالحيوان، والكلب للفلسطيني الريفي يعني الكثير، وكان أكثر أهل فلسطين قبل 1948 ريفيين.
الكلب سمور ببساطة كلب وفيٌّ يدافع عن صاحبه ويخلص له وهو كلب مقاوم، فقد قاوم الإنجليز وزجّ به في سجونهم، وحين هجر الفلسطينيون في 1948 وتشردوا في البراري والخيام، بعيدين عن أرضهم، لم ترق حياة الذل للكلب الذي استبد به الحنين إلى قريته، فآثر العودة إليها متخلياً عن صاحبه الذي غادرها.
الكلب سمور كلب لا ينسى.
في رواية إميل حبيبي "المتشائل" 1974، يأتي بطلها سعيد على كلب الضابط في سجن شطة. لقد اقتيد سعيد إلى السجن بعربة الكلاب. وحين وصل إليه طرق الضابط الباب طرقة واحدة فنبح كلب الضابط وانفتح الباب. كلب الضابط من نوع (البولدرغ) المدلل "هذا يهش وذاك يكش، فلاعبا الكلب تارة وطبطبا على الظهر أخرى حتى صعدا على درج، وأنا واقف في الساحة الداخلية تحيط بي الأثافي"، والأثافي هنا هم العسكر.
الكلب الثاني الذي لا ينسى هو "لاكي" الذي كتب عنه معين بسيسو في "دفاتر فلسطينية" 1978.
ليس معين بسيسو ريفياً مثل توفيق فياض. إنه ابن غزة ولم يكتب عن كلب ربته عائلته. لقد كتب عن كلب مدلل.
سجن معين بسيسو لكونه شيوعياً، وأنفق أربع سنوات بالسجون المصرية في نهاية خمسينيات القرن العشرين، وقد تعرض للتحقيق والتعذيب، وفي السجن عرف الكلب "لاكي" وكتب عنه الآتي:
"الكلب البوليسي (لاكي) قد أكل قطعة اللحم في حجم رأس الدجاجة. في الشهر الرابع كان (لاكي) يمضغ قطعة اللحم فقط ويبصقها إلى جوار القروانة. وعليك أن تمد يدك وتتناولها وتأكلها أمام السجان. كان (لاكي) هدية من ألمانيا الغربية، ضمن برنامج المساعدة الاقتصادية وفي الواقع فقد أكل من اللحم وشرب من المرق أكثر بكثير من الذي تقدمه ألمانيا الغربية لإنعاش الفلاحين المصريين. وكما أن الكتابة تجيء في خطوط مستقيمة. هكذا تعلمنا الكتابة. غير أن الزنزانة تعلمك كتابة جديدة. والزنزانة تفتح للمرة الثالثة قبيل الغروب. القروانة نفسها وفوقها الرغيف ويغلق باب الزنزانة بعدها حتى السادسة صباحاً".
يعيش (لاكي) كلب السجان مرفهاً مدللاً، ويعيش الإنسان على فتات ما يقدمه له السجان بعد أن ينجسه كلبه.
في تلك الفترة، كتب مظفر النواب قصيدة، أشار فيها إلى أن القط في الغرب يأكل ما يطعم عائلة في عدن، وذكر أيضاً كلاب الشرطة التي تنسق مع الأنظمة.
لا تغيب رواية عبد الرحمن منيف "النهايات" ولا يغيب بطلها عساف وكلبه عن الذاكرة.
يموت البطل عساف في الصحراء أثناء رحلة صيد، ويموت معه كلبه الذي حاول أن يفتديه في أثناء هبوب العاصفة، ويستبسل الكلب في الدفاع عن عساف أمام الطيور الجارحة التي تريد الانقضاض عليه فلا ينجوان. لقد مات الكلب الوفي ميتة شجاعة، ولم يكن كلب عساف الكلب الوحيد في الرواية، فهناك كلبا الميجر: ركس الأول، وركس الثاني، وكلاهما كلب مدلل وله مكانة تفوق مكانة السكان الأصليين، وكل أبناء المكان يحسبون حسابهما ولا يتعرضون لهما بسوء، إلا كلباً محلياً شرساً يصرع ركس، الذي سرعان ما يستبدل بِركسٍ آخر أكبر. وكان أهل المنطقة ينعتون الكلب بكلب زوجة الميجر. إنه كلب السيدة لأنه كما كان يقال يقدم لها خدمات(؟).
عبارة كلب السيدة تذكرنا بقصيدة الشاعر أحمد فؤاد نجم الشهيرة، التي أتى فيها على قصة كلب أم كلثوم مع الطالب إسماعيل الذي مر بجوار فيللا أم كلثوم، فعضه الكلب وذهبا إلى المخفر الذي انتصر لكلب الست. كلب الست في القصيدة له مكانته وإن تشكلت وزارة فقد يغدو وزيراً فيها أو حتى رئيساً لها. وهنا نذكر كلب والينا المعظم لأحمد مطر. "كلب والينا المعظم
عضني اليوم ومات"، أما لماذا مات، فلأن تقرير الوفاة أثبت أن الكلب تسمم.
في رواية عبد الرحمن منيف "حين تركنا الجسر"، يبدو الكلب وردان "الكون المتماسك" أمام زكي نداوي، البطل المعطوب المنهزم والمصاب لهذا بالنزعة المازوخية؛ نزعة جلد الذات، فزكي شِوالٌ مثقوب فارغ ومرحاض ودودة مطفأة و...و..إلخ. إنه لا يساوي عود ثقاب.
كنت أبيع الإسكيمو للبدو وكانت كلابهم، كلما اقتربت من خيامهم، تنبح، وحين أتكلم مع أصحابها سرعان ما تكف عن النباح.
كلب الجيران في المخيم - طبعاً سابع جار - كان ينبح كلما رأى غريباً وكان وحيداً، ومرة ضربه خميس بحجر، ولما خرج أصحاب الكلب خاطبهم خميس:
- ربّوا أولادكم.
وتقبل الأمر على أنه دعابة.
في العام 1972، درست في الجامعة الأردنية نصاً للجاحظ هو "عروة بن مرثد والكلب"، والجاحظ كاتب ساخر، كما نعرف من كتابه "البخلاء"، فكيف بدا كلبه في نصه؟
لم يكن الكلب هو المعني بالدرجة الأولى، فقد كان المعني عروة بن مرثد الذي اتسم بالجبن، فظن الكلب الذي بالباب لصاً يريد اقتحام البيت الذي نزل فيه ضيفاً، وأخذ عروة يهدده، دون أن يجرؤ على مجابهته، حتى إذا ما انتبهت امرأة من القوم، وصرخت بالكلب، وعرف عروة أن ما وراء باب البيت هو كلب لا لص، قال: "الحمد لله الذي مسخك كلباً وكفاني منك حرباً"، ويمكن القول: إن كلب الجاحظ كان كلباً هائماً مشرداً يبحث عن طعام، ولم يكن كلباً منزلياً مدللاً أو كلب قوم يبسط يديه بالوصيد مثل كلب أهل الكهف.
ولا أعرف إن كانت هناك دراسة تتبعت حضور الكلب في الأدب العالمي أو الأدب العربي. ففي موتيفات الأدب العالمي وموضوعاته لم أعثر في كتاب (إليزابيث فرنزل) على (Hund) وفي كتاب (ديميريش) أحال إلى كلمة (Tierrich) - أي حيوان، ويبدو أن الكلب درس تحت لازمة الحيوان بشكل عام.
في التراث العربي، هناك كتاب عنوانه "فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب"، وقد أتيت عليه في مقال لي نشرته، بموقع ديوان العرب، قبل 13 عاماً. والكتاب ألفه محمد بن المرزبان وقد صدرت طبعة منه عن منشورات الجمل في 2003.
غالباً ما يكرر الناس بيت شعر هو:
"تعدو الذئاب على من لا كلاب له
وتتقي مربض المستأسد الضاري".
وبعد قتل صدام حسين، شاعت أبيات كتبت على زجاج السيارات، تشبهه بالأسد وغيره بالكلاب، فالأسد يظل أسداً والكلب يبقى كلباً.
وغالباً ما ينعت الناس من يخالفهم بالكلب.
المعنى الإيجابي والمعنى السلبي لاستخدام دال "كلب" يحدده عموماً السياق، وغالباً ما يكون أيضاً الاستخدام مجازياً، كما في بيت الشعر:
"لو كل كلب عوى ألقمته حجراً لأصبح الصخر مثقالاً بدينار"، وكما في رواية نجيب محفوظ ذات العنوان الرمزي "اللص والكلاب" 1961، فالكلاب فيها هم رؤوف علوان الثوري المرتد وعليش التلميذ الخائن ونبوية الزوجة الخائنة وآخرون، ممّن كانت نور المرأة الغانية أفضل منهم.
من القصص القصيرة المبكرة في الأدب الفلسطيني قصة توفيق فياض "الكلب سمور" 1966، وهي قصة شخصية والشخصية هي الكلب، وهي من القصص الطريفة في الأدب الفلسطيني التي حفلت بالحيوان، والكلب للفلسطيني الريفي يعني الكثير، وكان أكثر أهل فلسطين قبل 1948 ريفيين.
الكلب سمور ببساطة كلب وفيٌّ يدافع عن صاحبه ويخلص له وهو كلب مقاوم، فقد قاوم الإنجليز وزجّ به في سجونهم، وحين هجر الفلسطينيون في 1948 وتشردوا في البراري والخيام، بعيدين عن أرضهم، لم ترق حياة الذل للكلب الذي استبد به الحنين إلى قريته، فآثر العودة إليها متخلياً عن صاحبه الذي غادرها.
الكلب سمور كلب لا ينسى.
في رواية إميل حبيبي "المتشائل" 1974، يأتي بطلها سعيد على كلب الضابط في سجن شطة. لقد اقتيد سعيد إلى السجن بعربة الكلاب. وحين وصل إليه طرق الضابط الباب طرقة واحدة فنبح كلب الضابط وانفتح الباب. كلب الضابط من نوع (البولدرغ) المدلل "هذا يهش وذاك يكش، فلاعبا الكلب تارة وطبطبا على الظهر أخرى حتى صعدا على درج، وأنا واقف في الساحة الداخلية تحيط بي الأثافي"، والأثافي هنا هم العسكر.
الكلب الثاني الذي لا ينسى هو "لاكي" الذي كتب عنه معين بسيسو في "دفاتر فلسطينية" 1978.
ليس معين بسيسو ريفياً مثل توفيق فياض. إنه ابن غزة ولم يكتب عن كلب ربته عائلته. لقد كتب عن كلب مدلل.
سجن معين بسيسو لكونه شيوعياً، وأنفق أربع سنوات بالسجون المصرية في نهاية خمسينيات القرن العشرين، وقد تعرض للتحقيق والتعذيب، وفي السجن عرف الكلب "لاكي" وكتب عنه الآتي:
"الكلب البوليسي (لاكي) قد أكل قطعة اللحم في حجم رأس الدجاجة. في الشهر الرابع كان (لاكي) يمضغ قطعة اللحم فقط ويبصقها إلى جوار القروانة. وعليك أن تمد يدك وتتناولها وتأكلها أمام السجان. كان (لاكي) هدية من ألمانيا الغربية، ضمن برنامج المساعدة الاقتصادية وفي الواقع فقد أكل من اللحم وشرب من المرق أكثر بكثير من الذي تقدمه ألمانيا الغربية لإنعاش الفلاحين المصريين. وكما أن الكتابة تجيء في خطوط مستقيمة. هكذا تعلمنا الكتابة. غير أن الزنزانة تعلمك كتابة جديدة. والزنزانة تفتح للمرة الثالثة قبيل الغروب. القروانة نفسها وفوقها الرغيف ويغلق باب الزنزانة بعدها حتى السادسة صباحاً".
يعيش (لاكي) كلب السجان مرفهاً مدللاً، ويعيش الإنسان على فتات ما يقدمه له السجان بعد أن ينجسه كلبه.
في تلك الفترة، كتب مظفر النواب قصيدة، أشار فيها إلى أن القط في الغرب يأكل ما يطعم عائلة في عدن، وذكر أيضاً كلاب الشرطة التي تنسق مع الأنظمة.
لا تغيب رواية عبد الرحمن منيف "النهايات" ولا يغيب بطلها عساف وكلبه عن الذاكرة.
يموت البطل عساف في الصحراء أثناء رحلة صيد، ويموت معه كلبه الذي حاول أن يفتديه في أثناء هبوب العاصفة، ويستبسل الكلب في الدفاع عن عساف أمام الطيور الجارحة التي تريد الانقضاض عليه فلا ينجوان. لقد مات الكلب الوفي ميتة شجاعة، ولم يكن كلب عساف الكلب الوحيد في الرواية، فهناك كلبا الميجر: ركس الأول، وركس الثاني، وكلاهما كلب مدلل وله مكانة تفوق مكانة السكان الأصليين، وكل أبناء المكان يحسبون حسابهما ولا يتعرضون لهما بسوء، إلا كلباً محلياً شرساً يصرع ركس، الذي سرعان ما يستبدل بِركسٍ آخر أكبر. وكان أهل المنطقة ينعتون الكلب بكلب زوجة الميجر. إنه كلب السيدة لأنه كما كان يقال يقدم لها خدمات(؟).
عبارة كلب السيدة تذكرنا بقصيدة الشاعر أحمد فؤاد نجم الشهيرة، التي أتى فيها على قصة كلب أم كلثوم مع الطالب إسماعيل الذي مر بجوار فيللا أم كلثوم، فعضه الكلب وذهبا إلى المخفر الذي انتصر لكلب الست. كلب الست في القصيدة له مكانته وإن تشكلت وزارة فقد يغدو وزيراً فيها أو حتى رئيساً لها. وهنا نذكر كلب والينا المعظم لأحمد مطر. "كلب والينا المعظم
عضني اليوم ومات"، أما لماذا مات، فلأن تقرير الوفاة أثبت أن الكلب تسمم.
في رواية عبد الرحمن منيف "حين تركنا الجسر"، يبدو الكلب وردان "الكون المتماسك" أمام زكي نداوي، البطل المعطوب المنهزم والمصاب لهذا بالنزعة المازوخية؛ نزعة جلد الذات، فزكي شِوالٌ مثقوب فارغ ومرحاض ودودة مطفأة و...و..إلخ. إنه لا يساوي عود ثقاب.