قد تبدو مادة المقال أدناه قديمة من حيث الفترة الزمنية ومن ناحية الحيثيات من جهة أخرى، لكن ما دعاني لإخراج هذه المقال من مسوداتي الشخصية ونشره هو ان ما حسبته حدثاً في حينها اضحى ظاهرة، تناسخت وأعادت صياغة نفسها بأشكال جديدة، ورغم المقولة الرائجة بأن التاريخ لا يعيد نفسه، إلا اننا في السودان تعيد تكرار تاريخنا بصورة مملة وممجوجة، وما يحدث في الساحة الثقافية السودانية بكافة اشكالها هو شكل من اشكال إعادة الصياغة لظاهرة تمنت أن لا اسميها ظاهرة بل اسجلها تحت بند الحدث الذي قلما يتكرر.
المقال يناقش ظاهرة الحسد الثقافي – إن جاز التعبير – وهو شكل من اشكال التناقس ولكنه ينتهج أدوات غير اخلاقية تتمثل في اقصاء الآخر أو تهميشه أو التقليل من شأنه اي اننا نستخدم ارهاب فكري بصورة او بأخرى للتخلص من الخصم الاكثر شعبية أو الاكثر عراقة بتعبير أدق من قبل من هم أحدث تجربة نوعاً ما، أو لنقل خلف اساء الأدب لسلف من أجل هالة إعلامية أو إن احسنت الظن هو بمثابة محاولة إلقاء حجر في بركة ماء آسنة ولكن حدثت بعض الاخطاء اتمنى ان تكون بحسن نية قد شغلت حيزاً من المحاولة.
قرأت في العدد ( 2724 ) صحيفة الصحافة ( الثلاثاء 7 نوفمبر 2000م ) (إفادات) الأديب الأستاذ عادل ابراهيم محمد خير تحت عنوان ( كم نحن عظماء ومنسيون ومهمشون في بلادنا !! ) والتي احتج كاتبها على إفادات المسرحي الأستاذ الفكي عبد الرحمن.
قرأت الإفادات وإذا بعدوى الاحتاج قد انتقلت إلى وخشيت على نفسي من عدوى التحامل على الإفادات، فكان لزاماً العودة مجدداً لمفكرة المسافرة الصحفية الأستاذة إنعام التني وإلى فقرتها محور تعقيب الاستاذ الأديب.
انقل الفقرة كاملة تعميماً للفائدة وإثراء للحوار ( ... وفي إحدى أمسيات مهرجان المسرح التجريبي جاءني مراسل صحفي لصحيفة (" الاندبيندت") اللندنية ليسألني عن تكريم الاستاذ الفكي عبد الرحمن سررت لذلك كثيراً وتحدثت ثم سألني عن عدم مشاركة السودان هذا السؤال الذي ظللت أتلقاه يومياً وأنا داخل أروقة مهرجان الأغنية الدولية حتى من قبل المسئولين والمنظمين وكافة الفنانين المشاركين لا أنسى أنني تقدمت بهذا السؤال لأستاذنا الفكي عبد الرحمن عندما زرته بمقر اقامته بفندق شيرتون القاهرة فقال انه تقدم بذات السؤال للسر السيد ومكي سنادة الذي قال له أن المسرحيين لم يتقدموا بعمل يستحق أن يشارك في المهرجان. قلت له أن المهرجان يتحمل مسرح ( الرجل الواحد ) والمانلوج وهكذا .. فقال لي: ( والله لا أعرف ولما توصلي بالسلامة تبقي تسأليهم) ) ( الصحافة - الثلاثاء 24/ اكتوبر/2000م العدد (2710) مفكرة مسافر ( لما توصلي بالسلامة تبقي تسأليهم)
والآن أعود إلى حديث الأستاذ عادل ابراهيم محمد خير محتجاً على روايته ( المحرّفة ) - وإن احسنت الظن روايته ( بتصرف ) - إذ يرويها الأديب عادل ابراهيم محمد خير هكذا ( ... وأفادت الكاتبة بأن الفكي عبد الرحمن رد عيها بأنه كان قد سأل الاستاذ مكي سنادة عن ذلك فأجابه بأنه لا يوجد عمل مسرحي سوداني يليق بأن يقدم في المهرجان!)
يلحق الأديب روايته بالتعليق التالي: ( هذا الكلام مع ما فيه من مجافاة للحقيقة وعدم تقدير لنا جميعاً كمسرحيين كلام يصيب الروح بحالة تسمم وبألم من النوع الممعن)). والإضافة الأخيرة هي التي جعلتني أعود للمفكرة وتحديداً للفقرة محور تعقيب الأديب كما ذكرت.
يشكك الأديب بعد ذلك في حيثيات الحوار بين المسرحي والصحفية (( .. هل حقاً أن تسأل الأستاذ الفكي عبد الرحمن عن عدم مشاركة السودان في المهرجان ورد عليه الأستاذ مكي بهذا الرد؟! وهل صحيح أن الرد حقيقي وصادق..))
بعد ذلك يزج الأديب في مقاله بحديث يصيب الروح - فعلاً - ( بحالة تسمم وبألم من النوع الممعن ) - إذ يشير - ولازال الحديث أسير تعقيب الأديب (( .. هل صحيح أن الرد حقيقي وصادق؟ وإذا كان حقيقياً وصادقاً فهل كان من الكياسة والحكمة أن يقول الأستاذ الفكي ما قال لصحفية شابة تلتمع في عينيها إشراقات الأمل والتفاؤل والحماس لإنجاز سوداني يدعو للفخر.))
بعيداً عن هذا الإنجاز السوداني - في عهد الإنجازات - ما تعلقيك أديبا الكريم على إفادة أستاذنا الفكي عبد الرحمن التي تجاهلتها في روايتك ( المحرّفة ) ودعني أعود بك هذه المرة لحديث أستاذنا المسرحي للصحفية إنعام التني (( .. قلت له إن المهرجان يتحمل مسرح ( الرجل الواحد ) والمانلوج وهكذا ... فقال لي ( والله لا اعرف ولما توصلي بالسلامة تبقي تسأليهم). )) أي ( كياسة ) وأي ( حكمة ) من أن يقول المسرحي العالم ببواطن المسرح السوداني من أن يقول: ( لا أعرف ولما توصلي بالسلامة تبقي تسأليهم ) وكان بإمكانه أن يسترسل في الحديث - بكل بساطة - فيذكر الدواهي التي تكمن تحت السواهي على صعيد المسرح السوداني لكن استاذنا الفكي اكتفى بالإجابة سالفة الذكر.
بعد أن شكك الأديب في ( الرواية ) ينض عنه عباءة الأديب ويتهندم بهندام ممثل الإدعاء ملوحاً بسبابته: (( .. وأقول صراحة باختصار شديد، إن ما قاله الفكي للأستاذة إنعام غير حقيقي، سواء كان مصدره مكي سنادة او علي مهدي أو الاستاذ الفكي عبد الرحمن نفسه.))
ليت الأستاذ عادل اكتفى باختصاره الشديد ذلك وختم المقال إلا انه يعود ليرتدي زيه الأصلي - كما اعتقد - مرتجلاً: (( .. ففي السودان توجد مسرحيات سودانية خليقة بأن تشارك في مهرجانات العالم إذ التفت الأباطرة تواضعاً إليها وتنازلوا قليلاً عن أسطورة ( الرواد والريادة ) ونظروا بصفاء وتأمل إلى عشرات الأعمال المسرحية الباهرة التي قدمها شباب صغار في السن والخبرة، عبر عدة مهرجانات مسرحية داخلية وعبر دبلومات معهد الموسيقى والمسرح ... )) ( التعقيب/ العدد ))
إنني اعتقد كل الاعتقاد - سيدي الكريم - بأن مؤهل الإبداع ليس ( دبلومات معهد الموسيقى والمسرح ) فبعض حاملي هذه الدبلومات كانوا يمارسون في سادية تعذيب المشاهدين في بعض المسلسلات السودانية التي تهل على المشاهد ( المغلوب على أمره) بين الفينة والأخرى.
هذا ما كان بشأن بعض حاملي ( دبلومات المعهد ) بينما أولئك الذين نعتهم أديبنا الكريم بالأباطرة كانوا الإبداع مجسداً - هكذا دون استثناء - ولم يؤهلهم لذلك دبلومات المعهد!!. ولعل خير مثال على زعمي أستاذنا الفكي عبد الرحمن نفسه وأظنك أستاذي عادل لن تغمط الرجل حقه هاهنا.
أعود مرة أخرى لدفوعات ممثل الإدعاء - عفواً - لتساؤلات الأديب الحائرة: (( والسؤال المهم: هل أنا غيور على هؤلاء الشباب أم على نفسي؟! الإجابة المهمة: أنني غيور على المسرح السوداني المفترى عليه وإنني أعي ضمن ما أعي مشكلاته المعقدة والإجراءات المستحيلة والغامضة التي ينبغي له المرور عبرها للمهجرنات في العالم العربي)). ويحافظ الأديب على الحبكة الدرامية - إن صح التعبير - فيرجيء سبر أغوار الإجراءات ( المستحيلة والغامضة ) إلى حين، فلابد من عنصر التشويق في العمل الدرامي ولا بأس من أن يأتي التشويق على طريقة أهل ( التأصيل ) إذ يعمد الأديب إلى مخاطبة عواطف القراء: (( ... مع ذلك فنحن لا نقل نضجاً وعمقاً وخبرة في مجال المسرح عن أي بلد آخر وإننا إن لم نكن جدير بالتقدير والإهتمام لما كان الأستاذ الفكي عبد الرحمن محل تكريم في القاهرة؟!..))
يا أستاذي الكريم القاهرة لم تكرم مسرحنا ( الخبرة ) في شخص الفكي عبد الرحمن وإنما كرمت أستاذنا المسرحي العملاق لإسهاماته ( الملموسة ) في المسرح السوداني. أما خبرتنا هذه فماذا جنينا من ورائها؟ ألسنا ( خبرة ) - أيضاً - في مجال كرة القدم الإفريقية - بنفس مقاييسك - طالما أننا من المؤسسين للإتحاد الإفريقي مع مصر وإثيوبيا؟! ونحن أصحاب ( خبرة ) فأعلم بأننا خبرة في مجال ثقافة الطفل بإصدارنا لمجلة تعنى بالأطفال هي الأولى تاريخياً على المستوى العربي والإفريقي وأعنى بها مجلة الصبيان، كما أننا خبرة في مجال الأغنية المصورة ودونك أغنيات الأستاذ حسن عطية أيام كان تلفزيوننا أسود وأبيض ولم تعرف الألوان طريقها إليه بعد. ولكننا رغم خبرتنا هذه، نجد تلفزيوننا في السنوات الأخيرة يحدثنا عن فكرة ( الفيديو كليب ) وكأنه اقتبسها من محيطه العربي علماً بأن الأخير قد ابتدعها أو نقلها - على وجه الدقة - حديثاً خلال العقدين الأخيرين في القرن العشرين.
بعد أن استمال الأديب عواطفنا تجاهه، يحل عقدة عمله الدرامي ويميط اللثام عن مشكلات المسرح ( المعقدة ) ويزيح الستار عن ( الإجراءات المستحيلة والغامضة) فيتكيء الأديب المخضرم على سؤال تشكيكي ويساير استاذنا المسرحي ليصل بنا إلى مشكلات المسرح بوجه نظره الأدبية، قائلاً: (( ... وأنا أقول انه إذا لم تكن مثل هذه المسرحية موجودة فينبغي معرفة السبب وراء تضييق الفرص على الشباب في المشاركة وعدم دعم الدولة لتسهيل إجراءات سفرهم وكذلك معرفة سبب الشعور بالدونية والنقص الذي يحيط بتقدير قيمة هذه المشاركة من قبل المسؤولين عن النشاط المسرحي في السودان..))
أديبنا يعتقد أن مشكلات المسرح السوداني هي (( تضييق الفرص على الشباب) و ( عدم دعم الدولة لتسهيل إجراءات سفرهم) فماذا بشأن الدونية هذه؟ يتنحنح أديبنا الغيور على المسرح السوداني (المفترى عليه) ويعتدل في جلسته قبل أن يجيب: (( ... أنا اعتقد أن شعورنا بالدونية ليس موضوعياً، ولا حقيقياً ولا ينبع من تقديري نقدي سليم بل سببه الأساسي هو عزلة نشاطنا المسرحي وممارستنا له خلف جدران اللامبالاة والتهميش المكرس والمستمر للمسرح والمسرحيين وللنشاط المسرحي)) ( التعقيب/ العدد )
دعني أسالك - سيدي الكريم - هل عزلة النشاط المسرحي السوداني هي ( العزلة المجيدة ) التي تمخضت عن كثير من الأعمال الجيدة!!؟.
يواصل استاذنا الأديب حديثه دون ان يجيبني، (( يا أخي الفكي يا مؤسس المسرح القومي إذا كان مكي سنادة قد أخبرك بأنه لا توجد مسرحية سودانية تستحق المشاركة فما كان يجب أن تصدق ذلك فهنالك عشرات المسرحيات التي تستحق السفر ومكي سنادة الآن يجهز فرقة شابة للسفر إلى ... الأردن، والمشاركة في مهرجان المسرح الثامن بعد وصول الدعوة من هناك!! ويكفي أن تعلم سيدي الفاضل أن ( عنبر المجنونات ) وصلتها دعوة للمشاركة في مهرجان مسرحي في إيطاليا في شهر أغسطس الماضي ولم تسافر ليس لأنها لا تستحق المشاركة، وإنما لأن الدولة لم تلتزم بنفقات سفرها لإيطاليا(( (التعقيب/ العدد)
أستاذي الكريم - إلى حين وصول الدعوة - دعني أسالك لماذا ( يجاهد ) الأستاذ مكي سنادة في إلزام الدولة بنفقات سفر ( عنبر المجنونات) إلى إيطاليا وهو ) مدير المسرح القومي) وله صولات وجولات في أروقة وزارة الإعلام؟! أم تراه منصرف عن أمر مشاركة ( عنبر المجنونات) و(كاستها) المخضرم بالفرقة الشابة التي يجهزها لمهرجان المسرح الثامن بالأردن؟
أريد - سيدي الكريم - أن أورد فقرة ختمت بها مقالك دون تصرف فيها: (( ويا أسفي على وطن يصرخ فيه رجل نكن له كل الاحترام والتقدير بمثل هذا التصريح وهو ينسى أن ( العقم) و(الجدب) الفني إذا كان قد أصاب جيلاً معيناً فالأجيال الآتية سوف تدهش العالم وفي المرة القادمة آمل أن تكلف الدولة ( شباب) المسرح بالاستعداد لأي مهرجان وسيجدون عدداً من المسرحيات ( اللائقة) تفوق الحصر والعدد .. هذا بدلاً من أن يسافر فريق كرة قدم مكوناً من احدى عشر لاعباً ومن طاقم فني وحكم ورجل خط و( منظراتي) ليعود من ذلك مهزماً..)).
أخشى عليك استاذي الكريم من الغرور فقد نسيت في غمرة انتصارك في مرافعتك هذه أنك قد ترعرعت في كنف ذلك ( الجيل المعين) !!. أما استاذنا الفكي عبد الرحمن فجيله لم يصاب بالعقم والجدب وإنما تمخض مسرحه عن ( خطوبة سهير) و( خراب سوبا) و(تور الجر في ألمانيا) وغيرها، وتمخض تارة أخرى فأنجب ( نبتة حبيبتي) و( المدرسة المختلطة) و( نقابة المنتحرين) و( ياعبدو رووق) وبغض النظر عن الترتيب التاريخي فإنها وغيرها من المسرحيات الخالدات كن بنات شرعيات لأجيال انتهت بجيل الفكي عبد الرحمن.
وفيما يختص بحديثك عن الأجيال الآتية التي تعتقد - استاذنا عادل - أنها ( سوف تدهش العالم) فإذا اسلمت جدلاً بفرضية العقم والجدب الفني للجيل ( المعين ) جيل استاذنا المسرحي، فرضيتك التي جعلتها - سيدي الكريم - لبنة من لبنات تعقيبك، فليس بإمكاني أن اسلم بأن الأجيال الآتية - واظنني أحد افرادها - ستدهش العالم هكذا دون أن يكون لها إرث تتكيء عليه، إن الأجيال التالية ليست منبتاً لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى .. وإرثنا هو ذلك ( الجيل المعين )، إن لم يكن بصورة مباشرة )عبره مسرحه ) فبتعهده لنا بالرعاية والإرشاد، فأستاذنا الفكي عبد الرحمن بجانب صفته المسرحية هو ( عمكم مختار ) أبانا الذي ربنا في ( ركنه ) عندما كنا ( أطفالاً ) ولا زلنا وقد عشانا الشباب نسترق السمع إلى برنامج ( ركن الأطفال ) عبر إذاعة ( هنا أمدرمان) .
أستاذنا الأديب عادل ابراهيم محمد خير لقد تكلم ( العم سعيد ) أخيراً بعد طول صمت. واسترسل ما شاء الله له أن يسترسل في تحليله - إن صح التعبير - لمشاكل المسرح السوداني في معرض رده على حديثنا والدنا الفكي عبد الرحمن. فهل لي أن استعير عنوان احدى قصائد المتفرد علي عبد القيوم وفي براءة الأطفال .. أسأل: ( من ترى أنطق الحجر) .. ؟
مزمل الباقر
ام درمان في 2000/11/11م
المقال يناقش ظاهرة الحسد الثقافي – إن جاز التعبير – وهو شكل من اشكال التناقس ولكنه ينتهج أدوات غير اخلاقية تتمثل في اقصاء الآخر أو تهميشه أو التقليل من شأنه اي اننا نستخدم ارهاب فكري بصورة او بأخرى للتخلص من الخصم الاكثر شعبية أو الاكثر عراقة بتعبير أدق من قبل من هم أحدث تجربة نوعاً ما، أو لنقل خلف اساء الأدب لسلف من أجل هالة إعلامية أو إن احسنت الظن هو بمثابة محاولة إلقاء حجر في بركة ماء آسنة ولكن حدثت بعض الاخطاء اتمنى ان تكون بحسن نية قد شغلت حيزاً من المحاولة.
قرأت في العدد ( 2724 ) صحيفة الصحافة ( الثلاثاء 7 نوفمبر 2000م ) (إفادات) الأديب الأستاذ عادل ابراهيم محمد خير تحت عنوان ( كم نحن عظماء ومنسيون ومهمشون في بلادنا !! ) والتي احتج كاتبها على إفادات المسرحي الأستاذ الفكي عبد الرحمن.
قرأت الإفادات وإذا بعدوى الاحتاج قد انتقلت إلى وخشيت على نفسي من عدوى التحامل على الإفادات، فكان لزاماً العودة مجدداً لمفكرة المسافرة الصحفية الأستاذة إنعام التني وإلى فقرتها محور تعقيب الاستاذ الأديب.
انقل الفقرة كاملة تعميماً للفائدة وإثراء للحوار ( ... وفي إحدى أمسيات مهرجان المسرح التجريبي جاءني مراسل صحفي لصحيفة (" الاندبيندت") اللندنية ليسألني عن تكريم الاستاذ الفكي عبد الرحمن سررت لذلك كثيراً وتحدثت ثم سألني عن عدم مشاركة السودان هذا السؤال الذي ظللت أتلقاه يومياً وأنا داخل أروقة مهرجان الأغنية الدولية حتى من قبل المسئولين والمنظمين وكافة الفنانين المشاركين لا أنسى أنني تقدمت بهذا السؤال لأستاذنا الفكي عبد الرحمن عندما زرته بمقر اقامته بفندق شيرتون القاهرة فقال انه تقدم بذات السؤال للسر السيد ومكي سنادة الذي قال له أن المسرحيين لم يتقدموا بعمل يستحق أن يشارك في المهرجان. قلت له أن المهرجان يتحمل مسرح ( الرجل الواحد ) والمانلوج وهكذا .. فقال لي: ( والله لا أعرف ولما توصلي بالسلامة تبقي تسأليهم) ) ( الصحافة - الثلاثاء 24/ اكتوبر/2000م العدد (2710) مفكرة مسافر ( لما توصلي بالسلامة تبقي تسأليهم)
والآن أعود إلى حديث الأستاذ عادل ابراهيم محمد خير محتجاً على روايته ( المحرّفة ) - وإن احسنت الظن روايته ( بتصرف ) - إذ يرويها الأديب عادل ابراهيم محمد خير هكذا ( ... وأفادت الكاتبة بأن الفكي عبد الرحمن رد عيها بأنه كان قد سأل الاستاذ مكي سنادة عن ذلك فأجابه بأنه لا يوجد عمل مسرحي سوداني يليق بأن يقدم في المهرجان!)
يلحق الأديب روايته بالتعليق التالي: ( هذا الكلام مع ما فيه من مجافاة للحقيقة وعدم تقدير لنا جميعاً كمسرحيين كلام يصيب الروح بحالة تسمم وبألم من النوع الممعن)). والإضافة الأخيرة هي التي جعلتني أعود للمفكرة وتحديداً للفقرة محور تعقيب الأديب كما ذكرت.
يشكك الأديب بعد ذلك في حيثيات الحوار بين المسرحي والصحفية (( .. هل حقاً أن تسأل الأستاذ الفكي عبد الرحمن عن عدم مشاركة السودان في المهرجان ورد عليه الأستاذ مكي بهذا الرد؟! وهل صحيح أن الرد حقيقي وصادق..))
بعد ذلك يزج الأديب في مقاله بحديث يصيب الروح - فعلاً - ( بحالة تسمم وبألم من النوع الممعن ) - إذ يشير - ولازال الحديث أسير تعقيب الأديب (( .. هل صحيح أن الرد حقيقي وصادق؟ وإذا كان حقيقياً وصادقاً فهل كان من الكياسة والحكمة أن يقول الأستاذ الفكي ما قال لصحفية شابة تلتمع في عينيها إشراقات الأمل والتفاؤل والحماس لإنجاز سوداني يدعو للفخر.))
بعيداً عن هذا الإنجاز السوداني - في عهد الإنجازات - ما تعلقيك أديبا الكريم على إفادة أستاذنا الفكي عبد الرحمن التي تجاهلتها في روايتك ( المحرّفة ) ودعني أعود بك هذه المرة لحديث أستاذنا المسرحي للصحفية إنعام التني (( .. قلت له إن المهرجان يتحمل مسرح ( الرجل الواحد ) والمانلوج وهكذا ... فقال لي ( والله لا اعرف ولما توصلي بالسلامة تبقي تسأليهم). )) أي ( كياسة ) وأي ( حكمة ) من أن يقول المسرحي العالم ببواطن المسرح السوداني من أن يقول: ( لا أعرف ولما توصلي بالسلامة تبقي تسأليهم ) وكان بإمكانه أن يسترسل في الحديث - بكل بساطة - فيذكر الدواهي التي تكمن تحت السواهي على صعيد المسرح السوداني لكن استاذنا الفكي اكتفى بالإجابة سالفة الذكر.
بعد أن شكك الأديب في ( الرواية ) ينض عنه عباءة الأديب ويتهندم بهندام ممثل الإدعاء ملوحاً بسبابته: (( .. وأقول صراحة باختصار شديد، إن ما قاله الفكي للأستاذة إنعام غير حقيقي، سواء كان مصدره مكي سنادة او علي مهدي أو الاستاذ الفكي عبد الرحمن نفسه.))
ليت الأستاذ عادل اكتفى باختصاره الشديد ذلك وختم المقال إلا انه يعود ليرتدي زيه الأصلي - كما اعتقد - مرتجلاً: (( .. ففي السودان توجد مسرحيات سودانية خليقة بأن تشارك في مهرجانات العالم إذ التفت الأباطرة تواضعاً إليها وتنازلوا قليلاً عن أسطورة ( الرواد والريادة ) ونظروا بصفاء وتأمل إلى عشرات الأعمال المسرحية الباهرة التي قدمها شباب صغار في السن والخبرة، عبر عدة مهرجانات مسرحية داخلية وعبر دبلومات معهد الموسيقى والمسرح ... )) ( التعقيب/ العدد ))
إنني اعتقد كل الاعتقاد - سيدي الكريم - بأن مؤهل الإبداع ليس ( دبلومات معهد الموسيقى والمسرح ) فبعض حاملي هذه الدبلومات كانوا يمارسون في سادية تعذيب المشاهدين في بعض المسلسلات السودانية التي تهل على المشاهد ( المغلوب على أمره) بين الفينة والأخرى.
هذا ما كان بشأن بعض حاملي ( دبلومات المعهد ) بينما أولئك الذين نعتهم أديبنا الكريم بالأباطرة كانوا الإبداع مجسداً - هكذا دون استثناء - ولم يؤهلهم لذلك دبلومات المعهد!!. ولعل خير مثال على زعمي أستاذنا الفكي عبد الرحمن نفسه وأظنك أستاذي عادل لن تغمط الرجل حقه هاهنا.
أعود مرة أخرى لدفوعات ممثل الإدعاء - عفواً - لتساؤلات الأديب الحائرة: (( والسؤال المهم: هل أنا غيور على هؤلاء الشباب أم على نفسي؟! الإجابة المهمة: أنني غيور على المسرح السوداني المفترى عليه وإنني أعي ضمن ما أعي مشكلاته المعقدة والإجراءات المستحيلة والغامضة التي ينبغي له المرور عبرها للمهجرنات في العالم العربي)). ويحافظ الأديب على الحبكة الدرامية - إن صح التعبير - فيرجيء سبر أغوار الإجراءات ( المستحيلة والغامضة ) إلى حين، فلابد من عنصر التشويق في العمل الدرامي ولا بأس من أن يأتي التشويق على طريقة أهل ( التأصيل ) إذ يعمد الأديب إلى مخاطبة عواطف القراء: (( ... مع ذلك فنحن لا نقل نضجاً وعمقاً وخبرة في مجال المسرح عن أي بلد آخر وإننا إن لم نكن جدير بالتقدير والإهتمام لما كان الأستاذ الفكي عبد الرحمن محل تكريم في القاهرة؟!..))
يا أستاذي الكريم القاهرة لم تكرم مسرحنا ( الخبرة ) في شخص الفكي عبد الرحمن وإنما كرمت أستاذنا المسرحي العملاق لإسهاماته ( الملموسة ) في المسرح السوداني. أما خبرتنا هذه فماذا جنينا من ورائها؟ ألسنا ( خبرة ) - أيضاً - في مجال كرة القدم الإفريقية - بنفس مقاييسك - طالما أننا من المؤسسين للإتحاد الإفريقي مع مصر وإثيوبيا؟! ونحن أصحاب ( خبرة ) فأعلم بأننا خبرة في مجال ثقافة الطفل بإصدارنا لمجلة تعنى بالأطفال هي الأولى تاريخياً على المستوى العربي والإفريقي وأعنى بها مجلة الصبيان، كما أننا خبرة في مجال الأغنية المصورة ودونك أغنيات الأستاذ حسن عطية أيام كان تلفزيوننا أسود وأبيض ولم تعرف الألوان طريقها إليه بعد. ولكننا رغم خبرتنا هذه، نجد تلفزيوننا في السنوات الأخيرة يحدثنا عن فكرة ( الفيديو كليب ) وكأنه اقتبسها من محيطه العربي علماً بأن الأخير قد ابتدعها أو نقلها - على وجه الدقة - حديثاً خلال العقدين الأخيرين في القرن العشرين.
بعد أن استمال الأديب عواطفنا تجاهه، يحل عقدة عمله الدرامي ويميط اللثام عن مشكلات المسرح ( المعقدة ) ويزيح الستار عن ( الإجراءات المستحيلة والغامضة) فيتكيء الأديب المخضرم على سؤال تشكيكي ويساير استاذنا المسرحي ليصل بنا إلى مشكلات المسرح بوجه نظره الأدبية، قائلاً: (( ... وأنا أقول انه إذا لم تكن مثل هذه المسرحية موجودة فينبغي معرفة السبب وراء تضييق الفرص على الشباب في المشاركة وعدم دعم الدولة لتسهيل إجراءات سفرهم وكذلك معرفة سبب الشعور بالدونية والنقص الذي يحيط بتقدير قيمة هذه المشاركة من قبل المسؤولين عن النشاط المسرحي في السودان..))
أديبنا يعتقد أن مشكلات المسرح السوداني هي (( تضييق الفرص على الشباب) و ( عدم دعم الدولة لتسهيل إجراءات سفرهم) فماذا بشأن الدونية هذه؟ يتنحنح أديبنا الغيور على المسرح السوداني (المفترى عليه) ويعتدل في جلسته قبل أن يجيب: (( ... أنا اعتقد أن شعورنا بالدونية ليس موضوعياً، ولا حقيقياً ولا ينبع من تقديري نقدي سليم بل سببه الأساسي هو عزلة نشاطنا المسرحي وممارستنا له خلف جدران اللامبالاة والتهميش المكرس والمستمر للمسرح والمسرحيين وللنشاط المسرحي)) ( التعقيب/ العدد )
دعني أسالك - سيدي الكريم - هل عزلة النشاط المسرحي السوداني هي ( العزلة المجيدة ) التي تمخضت عن كثير من الأعمال الجيدة!!؟.
يواصل استاذنا الأديب حديثه دون ان يجيبني، (( يا أخي الفكي يا مؤسس المسرح القومي إذا كان مكي سنادة قد أخبرك بأنه لا توجد مسرحية سودانية تستحق المشاركة فما كان يجب أن تصدق ذلك فهنالك عشرات المسرحيات التي تستحق السفر ومكي سنادة الآن يجهز فرقة شابة للسفر إلى ... الأردن، والمشاركة في مهرجان المسرح الثامن بعد وصول الدعوة من هناك!! ويكفي أن تعلم سيدي الفاضل أن ( عنبر المجنونات ) وصلتها دعوة للمشاركة في مهرجان مسرحي في إيطاليا في شهر أغسطس الماضي ولم تسافر ليس لأنها لا تستحق المشاركة، وإنما لأن الدولة لم تلتزم بنفقات سفرها لإيطاليا(( (التعقيب/ العدد)
أستاذي الكريم - إلى حين وصول الدعوة - دعني أسالك لماذا ( يجاهد ) الأستاذ مكي سنادة في إلزام الدولة بنفقات سفر ( عنبر المجنونات) إلى إيطاليا وهو ) مدير المسرح القومي) وله صولات وجولات في أروقة وزارة الإعلام؟! أم تراه منصرف عن أمر مشاركة ( عنبر المجنونات) و(كاستها) المخضرم بالفرقة الشابة التي يجهزها لمهرجان المسرح الثامن بالأردن؟
أريد - سيدي الكريم - أن أورد فقرة ختمت بها مقالك دون تصرف فيها: (( ويا أسفي على وطن يصرخ فيه رجل نكن له كل الاحترام والتقدير بمثل هذا التصريح وهو ينسى أن ( العقم) و(الجدب) الفني إذا كان قد أصاب جيلاً معيناً فالأجيال الآتية سوف تدهش العالم وفي المرة القادمة آمل أن تكلف الدولة ( شباب) المسرح بالاستعداد لأي مهرجان وسيجدون عدداً من المسرحيات ( اللائقة) تفوق الحصر والعدد .. هذا بدلاً من أن يسافر فريق كرة قدم مكوناً من احدى عشر لاعباً ومن طاقم فني وحكم ورجل خط و( منظراتي) ليعود من ذلك مهزماً..)).
أخشى عليك استاذي الكريم من الغرور فقد نسيت في غمرة انتصارك في مرافعتك هذه أنك قد ترعرعت في كنف ذلك ( الجيل المعين) !!. أما استاذنا الفكي عبد الرحمن فجيله لم يصاب بالعقم والجدب وإنما تمخض مسرحه عن ( خطوبة سهير) و( خراب سوبا) و(تور الجر في ألمانيا) وغيرها، وتمخض تارة أخرى فأنجب ( نبتة حبيبتي) و( المدرسة المختلطة) و( نقابة المنتحرين) و( ياعبدو رووق) وبغض النظر عن الترتيب التاريخي فإنها وغيرها من المسرحيات الخالدات كن بنات شرعيات لأجيال انتهت بجيل الفكي عبد الرحمن.
وفيما يختص بحديثك عن الأجيال الآتية التي تعتقد - استاذنا عادل - أنها ( سوف تدهش العالم) فإذا اسلمت جدلاً بفرضية العقم والجدب الفني للجيل ( المعين ) جيل استاذنا المسرحي، فرضيتك التي جعلتها - سيدي الكريم - لبنة من لبنات تعقيبك، فليس بإمكاني أن اسلم بأن الأجيال الآتية - واظنني أحد افرادها - ستدهش العالم هكذا دون أن يكون لها إرث تتكيء عليه، إن الأجيال التالية ليست منبتاً لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى .. وإرثنا هو ذلك ( الجيل المعين )، إن لم يكن بصورة مباشرة )عبره مسرحه ) فبتعهده لنا بالرعاية والإرشاد، فأستاذنا الفكي عبد الرحمن بجانب صفته المسرحية هو ( عمكم مختار ) أبانا الذي ربنا في ( ركنه ) عندما كنا ( أطفالاً ) ولا زلنا وقد عشانا الشباب نسترق السمع إلى برنامج ( ركن الأطفال ) عبر إذاعة ( هنا أمدرمان) .
أستاذنا الأديب عادل ابراهيم محمد خير لقد تكلم ( العم سعيد ) أخيراً بعد طول صمت. واسترسل ما شاء الله له أن يسترسل في تحليله - إن صح التعبير - لمشاكل المسرح السوداني في معرض رده على حديثنا والدنا الفكي عبد الرحمن. فهل لي أن استعير عنوان احدى قصائد المتفرد علي عبد القيوم وفي براءة الأطفال .. أسأل: ( من ترى أنطق الحجر) .. ؟
مزمل الباقر
ام درمان في 2000/11/11م