غامقاً كظهيرة ترتــّــل المطر، أمشى فى حدائق صوتكِ، و تضوعين .. من ذا يتراكض اللحظة على شوارع حنجرتكِ غير أطفال رياضكِ فى صعودهم الحاشد إلىّ/ فيكِ؟ و عنيفاً، كإصطفاق باب فى ذاكرة الرّماد، أتلاطم و الدهشة، إذ تعترينى القصيدة برهة ثم تخبو. برهة أخرى، أجيئكِ مؤتزراً غيابى البهىّ. تنبثق فىّ غابة من شجنٍ حميم، و يضيق بى قبوى فأخرج.
ألجُ برد المدينة الصباحىّ، و يتـفـتــّــت من حولى هسيسٌ هلام. أطفو على (كُمبُـشتاتو) * .. أبصارهم شاخصة للبعيد، تنقذف كلماتهم إلى دواخلهم واهنة، يُحيّون بعضهم برفع الأكفّ، و الإنحناء، و إبتسامات باهتة:
- "بنجورنو"
- "بنجورنو"
سائق (التاكسى) يتأمّلنى ملياً بصلفٍ داكن. يُسراه على المقود، يمناه يستاك بها، غير آبه لبلعهِ ريقهِ و نـُـتـَـف المسواك .. يُبدى إمتعاضه من (تيقرينيتى)* الركيكة. آمره بالتوقف و أصفع و همهُ بباب سيارته المتهالكة. أتكوّر. أقذفنى إلى شارع جانبىّ. أتدحرج. أطفو كفقاعة يفجؤها سيل صبىّ. تقذفنى المدينة إلى مَـرْسَم صديقى .. يُحيينى بإبتسامة حقيقية و يعود للرسم. الموسيقى المنبعثة من الجهاز لا تتناسب و الإيقاع الصاخب على لوحته التى يعمل عليها. أصُـبُّ كأساً من الجـِنْ، و أجلس إلى بومَة يتآكلها الحنين .. تهامِسُنى، تشاطِرُنى شيئاً من حزنٍ شفيف. أحُسُّ حدقتى عينيها تتسعان. شجرة التبلدى تحت مخالبها كأنـّما ترْفـَـضُّ لأنينها المثلوم بسيف الوتر .. بغتةً، و تنسلُّ عن حدقتيها دوائر تسبح فى فضاء اللوحة، و تستقر فى خلفيتها القرمزية. أتابع رحلة الشراب القوى إلى يبابى المُنهك بالغربة .. تتمطّى الأشياء. تتلوّى. تتحلزن. يبينُ سطوعها الرّاسخ بين الشقوق التى تتمدّد، الآخذة الآن فى التخودد العميق .. نصفها ظِل لذاكرة تتشظّى بالأسئلة، نصفها قمرٌ راحل لن يعود أبدا. أتشقـّـق. أدلفُ إلىّ شلواً، شلواً. و إذ أحاول تجميعى لا أجدنى!! أدخل فى العلاقة بين رحيله و هذا الطنين .. لم يكمل قصيدته، حتى، ودّعته الحانات جميعها، و أولاد النهارات الناصلة، و الغمام الذى لطالما تشظّى على قامته المديدة، أصبُّ كأساً و أُحرّضنى على التماسُك. يرنُّ صوتها فىّ. يرُجُّنى رجّا. من الشمال البعيد ينساب إلى مسامعى الصّدئة. مُشتاقة تسأل عن أحوالى، أنا الذى لا يسأل عنىّ أحد، خارج هذا السجن الكبير، نسياً، منسيا.
"لَـكَمْ كنتَ عصيّاً على المَحْو يا صديقى .. ترحل هكذا مُختـنقاً بعقم المدينة/ عهرها، و ناسها الأدعياء. يدكَ، الكبيرة تلك، تبسطها مصافحاً الجميع، محتضناً من تخصُّ بعينيكَ اللتين يشرئبُّ فيهما شموخ تراث زاخر بالكبرياء. مانحاً الحياة ضياء إبتسامتك، طاعناً فى عمق الرميم."
تحرِّك البومة جناحيها، و يومض فى عينيها ألق غامض. تـَرْفـَـضُّ التبلدية و تسّاقط عنها بعض وريقاتها الذابلة. الدوائر هناك فى خلفية اللوحة تتماهى هنيهة و تؤول إلى سِرب من عصافير جنـّـه جنـّه!! .. تتجمّع عند نقطة يتحاف فيها القرمزى مع أسود متواطىء بالضوء. تبدأ العصافير هجرتها إلى جهات شتـّى .. كلمّا نأت كلمّا ضاق إنسان عينى، كلمّا نأت كلما ضقتُ بى ذرعاً و إتسعت العبارة .. هل حقاً إنسَرَبَ صوتها إلى سراديبى، التطمر هـفهـفة شعرها الآبق، إذ تجيئنى كانت طالعة من نافورة ضوء يضوع، نتخاصر حتى حدود العتمة، نتخاصم حيناً/ نتناجى حيناً من شهيق، نتلاحم كأرض و بذرة يباغتهما النثيث ... كيف السبيل إلينا؟؟ نظرتُ إلى حيث البومة، لم تكن هناك. حدّقتُ .. كانت تحلّق بنشوة زاهية إلى جهةٍ قصيّة. من مكان ما فى اللوحة تسلّل لون (بادوبىّ)* إلى التبلدية .. صارت كالحة كأسطح بنايات هذه المدينة المكابرة.
"فى بلد كبا فيه الزمن، كيف تسنـّى لكَ الحب و نخلتكَ السامقة، القادمة من أقاصى الصعيد إلى اقاصى السديم؟ .. كيف فعلتما الفرح دون أن تمتد إلى حبِّكما أعناق ذا الخراب المُرنِّ؟!! ... أين ذهبت خطواتكما الوئيدة، كلمات أيديكما إذ تتشابكا خِلسة، قهقهاتكما، جلساتكما فى الأصائل تتلوان البنفسج."
أصبُّ ما تبقى من القنينة فى كأسى، و أدفع به إلى الداخل الموّار بالأسى، المُرَقـّط بالهزائم، المُستباح أبدا. أُحاول إستعادة الصوت (الأوبرالى) .. يتداخل فى اللوحات المبعثرة فى غير ما ترتيب، و الموسيقى الحالمة فى الجهاز، و أنين التبلدية فىّ، و روائح خلاسية تتأرجح فى أرجاء المَرْسَم. أخرج.
فى مركز للإتصالات – هو الوحيد فى المدينة – بذلتُ ما استطعت لجعل إنجليزيتى متماسكة. الموظفة إستقبلتنى بإمتنان لكونى أتحتُ لها إستعراض إنجليزيتها، لكنها لم تنجح فى إيصالى بالشمال البعيد .. {لرداءة الطقس .. قالت}. خرجتُ فى طريقى إلى قبوى. تحت أضواء المصابيح الشاحبة يتوافد القوم، جماعات، من كل ناحية، كأشباح يمرقون من كُـوَى سحيقة فى جُـدُر الوهم، يمضون عجلى دون ضجيج، يُحيّون بعضهم بحركة مُقتضبة للرأس إلى أسفل. مومس عجفاء ترفع عقيرتها بالغناء. يتجاوب معها قوّادٌ مُـقعَـد يمشى على ركبتيهِ المربوطتين بخرق و أسمال سميكة .. قوّاد آخر يطلق ريحاً لها رنين .. أعبر إلى الرصيف الآخر و أطفو، بيد أنى أحلم، بصباحات دافئة، هناك، قاب قُبلتين، أو ...
28 مايو – 8 يونيو 2003 / جدّه -- عبد القادر حكيم
هوامش:
• كُمبُـشتاتو: "شارع التحرير" الشارع الرئيسى فى أسمرا.
• تقرينيتى: من تقرينيا، و هى لغة سامية تشكل مع اللغة العربية إحدى اللغتين الرسميتين فى إرتريا.
• بادوبىّ: نسبة إلى بادوب، مفردة عامية تعنى السهل الطينى المُـنبسط فى مناطق الزراعة المطرية فى إرتريا و السودان.
ألجُ برد المدينة الصباحىّ، و يتـفـتــّــت من حولى هسيسٌ هلام. أطفو على (كُمبُـشتاتو) * .. أبصارهم شاخصة للبعيد، تنقذف كلماتهم إلى دواخلهم واهنة، يُحيّون بعضهم برفع الأكفّ، و الإنحناء، و إبتسامات باهتة:
- "بنجورنو"
- "بنجورنو"
سائق (التاكسى) يتأمّلنى ملياً بصلفٍ داكن. يُسراه على المقود، يمناه يستاك بها، غير آبه لبلعهِ ريقهِ و نـُـتـَـف المسواك .. يُبدى إمتعاضه من (تيقرينيتى)* الركيكة. آمره بالتوقف و أصفع و همهُ بباب سيارته المتهالكة. أتكوّر. أقذفنى إلى شارع جانبىّ. أتدحرج. أطفو كفقاعة يفجؤها سيل صبىّ. تقذفنى المدينة إلى مَـرْسَم صديقى .. يُحيينى بإبتسامة حقيقية و يعود للرسم. الموسيقى المنبعثة من الجهاز لا تتناسب و الإيقاع الصاخب على لوحته التى يعمل عليها. أصُـبُّ كأساً من الجـِنْ، و أجلس إلى بومَة يتآكلها الحنين .. تهامِسُنى، تشاطِرُنى شيئاً من حزنٍ شفيف. أحُسُّ حدقتى عينيها تتسعان. شجرة التبلدى تحت مخالبها كأنـّما ترْفـَـضُّ لأنينها المثلوم بسيف الوتر .. بغتةً، و تنسلُّ عن حدقتيها دوائر تسبح فى فضاء اللوحة، و تستقر فى خلفيتها القرمزية. أتابع رحلة الشراب القوى إلى يبابى المُنهك بالغربة .. تتمطّى الأشياء. تتلوّى. تتحلزن. يبينُ سطوعها الرّاسخ بين الشقوق التى تتمدّد، الآخذة الآن فى التخودد العميق .. نصفها ظِل لذاكرة تتشظّى بالأسئلة، نصفها قمرٌ راحل لن يعود أبدا. أتشقـّـق. أدلفُ إلىّ شلواً، شلواً. و إذ أحاول تجميعى لا أجدنى!! أدخل فى العلاقة بين رحيله و هذا الطنين .. لم يكمل قصيدته، حتى، ودّعته الحانات جميعها، و أولاد النهارات الناصلة، و الغمام الذى لطالما تشظّى على قامته المديدة، أصبُّ كأساً و أُحرّضنى على التماسُك. يرنُّ صوتها فىّ. يرُجُّنى رجّا. من الشمال البعيد ينساب إلى مسامعى الصّدئة. مُشتاقة تسأل عن أحوالى، أنا الذى لا يسأل عنىّ أحد، خارج هذا السجن الكبير، نسياً، منسيا.
"لَـكَمْ كنتَ عصيّاً على المَحْو يا صديقى .. ترحل هكذا مُختـنقاً بعقم المدينة/ عهرها، و ناسها الأدعياء. يدكَ، الكبيرة تلك، تبسطها مصافحاً الجميع، محتضناً من تخصُّ بعينيكَ اللتين يشرئبُّ فيهما شموخ تراث زاخر بالكبرياء. مانحاً الحياة ضياء إبتسامتك، طاعناً فى عمق الرميم."
تحرِّك البومة جناحيها، و يومض فى عينيها ألق غامض. تـَرْفـَـضُّ التبلدية و تسّاقط عنها بعض وريقاتها الذابلة. الدوائر هناك فى خلفية اللوحة تتماهى هنيهة و تؤول إلى سِرب من عصافير جنـّـه جنـّه!! .. تتجمّع عند نقطة يتحاف فيها القرمزى مع أسود متواطىء بالضوء. تبدأ العصافير هجرتها إلى جهات شتـّى .. كلمّا نأت كلمّا ضاق إنسان عينى، كلمّا نأت كلما ضقتُ بى ذرعاً و إتسعت العبارة .. هل حقاً إنسَرَبَ صوتها إلى سراديبى، التطمر هـفهـفة شعرها الآبق، إذ تجيئنى كانت طالعة من نافورة ضوء يضوع، نتخاصر حتى حدود العتمة، نتخاصم حيناً/ نتناجى حيناً من شهيق، نتلاحم كأرض و بذرة يباغتهما النثيث ... كيف السبيل إلينا؟؟ نظرتُ إلى حيث البومة، لم تكن هناك. حدّقتُ .. كانت تحلّق بنشوة زاهية إلى جهةٍ قصيّة. من مكان ما فى اللوحة تسلّل لون (بادوبىّ)* إلى التبلدية .. صارت كالحة كأسطح بنايات هذه المدينة المكابرة.
"فى بلد كبا فيه الزمن، كيف تسنـّى لكَ الحب و نخلتكَ السامقة، القادمة من أقاصى الصعيد إلى اقاصى السديم؟ .. كيف فعلتما الفرح دون أن تمتد إلى حبِّكما أعناق ذا الخراب المُرنِّ؟!! ... أين ذهبت خطواتكما الوئيدة، كلمات أيديكما إذ تتشابكا خِلسة، قهقهاتكما، جلساتكما فى الأصائل تتلوان البنفسج."
أصبُّ ما تبقى من القنينة فى كأسى، و أدفع به إلى الداخل الموّار بالأسى، المُرَقـّط بالهزائم، المُستباح أبدا. أُحاول إستعادة الصوت (الأوبرالى) .. يتداخل فى اللوحات المبعثرة فى غير ما ترتيب، و الموسيقى الحالمة فى الجهاز، و أنين التبلدية فىّ، و روائح خلاسية تتأرجح فى أرجاء المَرْسَم. أخرج.
فى مركز للإتصالات – هو الوحيد فى المدينة – بذلتُ ما استطعت لجعل إنجليزيتى متماسكة. الموظفة إستقبلتنى بإمتنان لكونى أتحتُ لها إستعراض إنجليزيتها، لكنها لم تنجح فى إيصالى بالشمال البعيد .. {لرداءة الطقس .. قالت}. خرجتُ فى طريقى إلى قبوى. تحت أضواء المصابيح الشاحبة يتوافد القوم، جماعات، من كل ناحية، كأشباح يمرقون من كُـوَى سحيقة فى جُـدُر الوهم، يمضون عجلى دون ضجيج، يُحيّون بعضهم بحركة مُقتضبة للرأس إلى أسفل. مومس عجفاء ترفع عقيرتها بالغناء. يتجاوب معها قوّادٌ مُـقعَـد يمشى على ركبتيهِ المربوطتين بخرق و أسمال سميكة .. قوّاد آخر يطلق ريحاً لها رنين .. أعبر إلى الرصيف الآخر و أطفو، بيد أنى أحلم، بصباحات دافئة، هناك، قاب قُبلتين، أو ...
28 مايو – 8 يونيو 2003 / جدّه -- عبد القادر حكيم
هوامش:
• كُمبُـشتاتو: "شارع التحرير" الشارع الرئيسى فى أسمرا.
• تقرينيتى: من تقرينيا، و هى لغة سامية تشكل مع اللغة العربية إحدى اللغتين الرسميتين فى إرتريا.
• بادوبىّ: نسبة إلى بادوب، مفردة عامية تعنى السهل الطينى المُـنبسط فى مناطق الزراعة المطرية فى إرتريا و السودان.
طـنـيـنُ الأســـــئـلةْ - Gash Barka infomation Center
Gash Barka Information Cenetrm, Gash-Barka, Eriteran Gash Barka,
www.gash-barka.com