طبعةُ الكفّ
ثمّة ألعاب يُدمِنُها سكّانُ باصورا، مثل لعبة طبْعة الكفّ ولعبة طبْعة القَدَم، دونما اكتراثٍ لعواقبها المشؤومة. فما يبدو أنّها لعبة بريئة يمارسها اللاعبون في ضوء النهار، قد تتلاعب بأقدار لاعبيها كلما دخلوا جبّ الظلام. وما يبصمه الكبارُ والصغار على لوح طريّ من الطين أو على الحيطان والأبواب وجذوع الأشجار، قد يسير بهم إلى مواطن حظوظهم الناكسة أو الصاعدة. لعلّ خطاً مخبوءاً في باطن الكفّ، وخطّاً معروقاً بارزا على ظاهرها، قد يقسمان حياة صاحبهما على خارطة محفورة في الصخور. وقد تأخذ القدَمُ المطبوعة صاحبَها إلى أمكنة حظّه البعيدة، لكنّ الخطأ المرادف لهذه التقديرات يظلّ مرسوماً كنقطة لا تتزحزح عن مكانها فوق حرف (الحاء). نادراً ما يخلو حائطٌ قديم في باصورا من طبعات الكفّ المحفورة منذ سنين وسنين، كما تتدلّى من أبوابها مطارقُ برونزية مصهورة في قوالب الكفوف والأقدام بمختلف الأحجام: مطرقة فألٍ حسن، ومطرقة شؤم. كفّ الحظّ الأبيض، وكفّ الحظّ الأسود. طرَقات وطرَقات، طبعات وطبعات، أيقونات الحظّ معلّقة على جوانب الطُرُق، لكن لا أحد من سكّان باصورا يريد أن يعترف بخطورة أحلامه.
عندما شاركْتُ حالمي باصورا لعبةَ طبْعة الكفّ، كان عمري قد تجاوزَ الألفَ عام. صمّمْتُ نسخةً ورقية من طبعة كفّي اليسرى، ملأتُ فرجاتها بالأعداد وضاعفتُها حتى بلغَتْ ألفاً وثلاث مئة، وهذا هو عُمري المقدَّر لمنافسة الباصوريين الذين يقدّرون أعمارَهم المئوية والألفية على حساب الأعداد المضاعفة بين فرجات الأصابع، تبعاً لكل حال، ثم حملتُ علبةَ خِضابٍ وخرجتُ لطبْع كفّي على أقرب حائط من موقع سكني. أنا أَعسَر، وتقضي قواعد اللعبة أن يأتي لاعبٌ فيطبع كفّه اليمنى بجوار طبعتي اليسرى، فيتقابل الإبهامان كأن الطبعتين عائدتان لشخص واحد. وأشطَرُ اللاعبين ذاك الذي يستعمل في طبْع كفّه أفضلَ الأصباغ الممزوجة بالأكاسيد والأصماغ المقاوِمة لكلّ الأجواء. هل كنتُ محظوظاً برفع أُسّ الأعداد لأبلغ بعمري ما بلغته؟ هل يتوقّف عُمري عند هذا العدد، أم أنّه سيزيد بما أكسبُه من عُمر اللاعب الذي سيطبع كفّه إلى جانب طبْعة كفّي على الجدار؟ فقد أخسرُ حياتي عندما يتضاءل حسابي إلى أصغر أسّ في الفرجة بين الخنصر والبنصر، أو في الفرجة الوسطية بين الإصبع الوسطى والسبابة، أو في الفرجة الطرفية المقابلة بين السبّابة والإبهام، وسأرتدّ إلى عُمر إنسانٍ هالك لا محالة حالما أتحرّكُ خطوات من طبْعة كفّي على الجدار. أما إذا أصبحتُ من العماليق الذين حكموا الأرض منذ آلاف السنين، فلن أهلك إلا بعد آلاف المعارك التي أخوضها في أحلامي. ولا حُكم عندي على هذه اللعبة أنسب من أنّها لعبة الهالكين في الأحوال كلّها.
لستُ عبداً ولا ملِكاً، لستُ قزماً ولا عملاقاً، هذه حقيقتي التي تتضمنّها طبعةُ كفّي، أريدُ ممّن يلاعبني أن يقرأها قبل قراءة حساب عمري. لكنّ المنافس الذي طبَعَ كفّه قرب طبعة كفّي، انزعجَ لهذه المراوغة وشكّ في أنّي أغشّه. أكاد أسمعُه يخاطبني “أريد أن أعرف حساب عمرك المضبوط”. أُجيبُه في سرّي، وأنا أتفقد مكان الطبعتين المتجاورتين على الجدار القديم “دونكَ بصمتي اسحبْ منها ما تشاء من السنين، أو دعْني أفتُك ببصمة عمرك”.
لا إسراع ولا إجهار في كسب الأعمار المتقابلة على الحائط، فلُعبة الكفّ المطبوعة تجري في الخفاء، وهي تساوي لعبة القدَم المطبوعة، أو المصبوبة في قالب معدني، منعاً وتحريماً، بسبب عدميتهما. لكن انتشار اللعبتين وإدمانهما لم يتوقّف لحظة، فأهلُ باصورا يسرعون إلى عدمهم إسراعهم إلى فُرُشهم الوثيرة. طبعة الكفّ، ومثيلتها طبعة القدم، أيقونتان موزونتان موازيتان لحقيقتيّ الحياة والموت، وشيوع لعبتيهما في أحلام أهل باصورا دليل على تعاقب الأجيال وتوارث الأحلام.
ظهرتْ طبعةُ غريمي اليمنى إلى جانب طبعة كفّي اليسرى، بعد ليال من الترقُّب والترصُّد، فحسبْتُ عند أوّل نظرة أنّ هذا الغريم يقاربني عمراً ويشاطرني حماقةَ سَيْري حتى نهاية اللعبة. ظننتُ أنّه قرأ خطوطَ طبعتي التي تخفي طبيعتي “لستُ عبداً ولا ملِكاً، لستُ قزماً ولا عملاقاً” فأرادَ أن يقابلها بحقيقته التي يُخفيها مثلي في خطوط كفّه التي طبعَها لصق طبعة كفّي وهي كما قرأتها “لستُ غُلاً ولا تاجاً، لستُ شقياً ولا بريئاً”. لكنّي تراجعتُ عن قراءتي، وسدّدتُ النظر ثانية فخمّنتُ وراء طبعته بُرعماً طرياً لم ينكسر غصنُه. كانت بصمتي مَغراءَ متصدّعة كورقةٍ يابسة تتعلّق بغصنها رُغم فوات ربيعها (هكذا أردتُ أن يتحسّس الطابعون المنافسون خريفَ عمري) فيما طبعَ غريمي المجهول كفّـاً بخضاب الحنّاء خالص الحمرة. تخيلتُه شاباً غِرّاً أراد أن يجرّب حظّه بربط لِجام حصانه في ظلّ طبعتي المَغراء. صحّحْتُ قراءتي فرأيتُ فأله المطبوع بارزاً بصبغته البهيّة بين الطبعات المتناثرة حول طبعتينا على الجدار القديم. قلتُ في نفسي “هذه مخايل نفسٍ غضّة، لن تلبث حتى يختلط نُسْغي الناضب برحيق شبابها”.
صدَقَ حلمي ما تخيّلت، فأراني رأيَ العين عاقبةَ اللعب وغرورَ اللاعبين، إذْ لم تمضِ لحظات حتى أقبلَتْ جنازةٌ محمولة على الأكتاف، وألقَتْ بظلالها على طبعتيْ كفّينا المتجاورتين على جدار الأحلام. تبعْتُ المشيّعِين حتى خرجوا بالجنازة إلى الخلاء الذي يضمّ مراقدَ اللاعبين الهالكين منذ عصور وعصور. ولما سألتُ عن ضجيع التابوت المرفوع على الأكتاف، قيل لي إنّها عروس لم تطلع الشمسُ على ليلة دخلتها.
الرجل السرّي
يظهرُ بعض الناس الذين أعرفُهم، ثم يختفون فجأة، لا سبب معروفاً لاختفائهم وعودتهم للظهور، فهم يختفون ويظهرون كحيّات الماء. لم أفهم حتى اليوم سرّ هذا الاختفاء الفجائي إذا كان يعني التقدّمَ أو التراجع، القوّةَ أو الضعف، فموقعي المكشوف للأنظار بلا حماية طبيعية أو نفسيّة أضعفَ قدرتي على الحُكم والمعايرة بين الناس. كنت كما أنا اليوم واقفاً في مكاني، ظاهراً للعيان مثل قضيب حديدٍ في نافذة جدارٍ خارجية تناوشتْها عواملُ الزمن القاسية بالتعرية والصدأ والليّ والنَّزْع في مختلف الاتجاهات. لم أقاوم، بل كانت طواعيتي الزمنية سببَ مقاومتي طويلة الأمد. وكان هناك أكثر من عابر سبيل ينتظر تحت نافذة الجدار ذات القضبان الملويّة والمنتزعة، ومن يعنيني منهم كان رجلاً كثير الاختفاء، يأتي فيختلِس نظرةً إلى داخل الدار، ثم يمضي في سبيله. سأحّدثُكم عن هذا الرجل السرّي، وعن أزمنته، عن اختفائه وظهوره المفاجئ.
لم أتضايق قطّ من طريقة الرجل في مسْك قضيب النافذة الحديد، واختلاسه النظر، إذْ كانت الدار خاوية من ساكنيها، والجدار متهاوياً، وكان الزمن الذي احتوى الرجلَ العابر زمنَ اختفاءٍ للأحياء والأشياء على نحوٍ لا يقبل التفسير. (اختفِ، ألقِ نظرةً وانصرفْ) ذاك هو العُرْف الشائع بين الناس الذين عاش الرجل السرّي بينهم سنوات طويلة، دون أن يلحظ أحد منهم تبدّلات الزمن على وجهه وقامته وملابسه وكلامه الذي يتبادله سرّاً مع نفسه أو مع الجدار والنافذة أو مع الأشخاص العابرين أمثاله. بينما عشتُ عائماً مكشوفاً، لا عمر محدوداً لسنواتي، مثل حلمي الذي طال طيلة السنوات الممدودة لأولئك المختفين. كلّ شيء زائل ومتبدل، ولا بدّ أن ينهدم ذلك الجدار، ويظهر ذلك الرجل الخفيّ ليتلصص على خواء الدار آخر مرة. حينئذ يبلغ حلمي نهايته أيضاً وأُنتزَع من مكاني.
لكي أحدّد زمنَ حلمي، وهو زمن الرجل السرّي، فلْأقُلْ إنّ زمنهما كان زمن السجون والطوامير والقضبان الحديدية الصدئة. إنّ حلمي نفسه يصطبغ بذلك اللون البنيّ خشن الملمس، الأحزمة والمعاطف الصوفية المزرّرة، بجرائم الاختطاف والتعذيب وقوائم المعدومين، ولن أنسى بالطبع الجزمات الطويلة والأحذية الثقيلة التي تدوس الأرض لتخسفها خسفاً وتبعث الرعب في الأوصال البشرية الضعيفة. كان ذاك زمن يتذرّع بالصمت والسرّ والخفاء، وهذا شأن حلمي الذي لازمَ الزوايا والقضبان والخسفات والرجال السريّين، ويريد أن يظهر الآن بقوّة. هل قابلتَ واحداً منهم، هل شاهدتّهم يقودون دراجاتهم البخارية والهوائية، ينسِلون كالطرائد المذعورة عبر الجدران أو يطيرون إلى أوكارهم بعربات سريعة في آخر الليل؟
اصطدمَ حلمي بواحد من هؤلاء على نحو مباغت. فحين قصدَني الرجلُ السرّي بالتحية، ظننتُ أنه لا يقصد بتحيته المبتسَرة، المرفوعة على شفتيه الخائفتين، شخصاً بعينه، فما بالك بقضيب حديد؟ لكنّه في الظهور اللاحق هيأ لكلامه جملةً سرّية وحيدة، فقال إنّه يشعر بالذنب لقتله زوجته. كان الحديث من جانب واحد، جانبه المذعور، ثم فاجأني في الظهور الثالث بعد شهور بقوله إنّه مكثَ في السّجن عامين وأُفرِج عنه بعفو عام. قرفصَ رجليه، وأنهى حديثَه المتفرّق السريع، ثم نهضَ وأمسكَ بقضيب النافذة وجالَ بنظره في الخواء الداخلي الصامت لغرفة الدار المطلّة على الزقاق.
حين عادَ للتقرفص تحت نافذة الزقاق ملتوية القضبان، قال إنّ خشب الإطار المقشَّر يحتاج إلى طلاء، وإنه سيشتري علبة دِهان في المرّة القادمة. وحين واجهَتْه الدارُ بصمتها وانطوائها على سرّ أهلها الغائبين، أعربَ عن ندمه لأنّه وشى بثلاثة أخوةٍ شيوعيين كانوا يسكنون الدار. غابَ مدة طويلة، وعادَ في الشتاء بمفرده، مدثّراً بمِعطف وقلنسوة ومِلفع أخفى نصفَ وجهه، فاعترفَ مؤكِداً أنّه أبلغَ السلطات عن أخوة زوجته، وقد بحثَ مثل غيره في قوائم المعدومين السياسيين المعلّقة بعد غزو العراق عام 2003، فلم يعثر على اسمٍ لواحد منهم فيها. قال إنّ القضية طُمِرتْ تماماً، وقد هجرتْه زوجتُه لخيانته ثقتَها ومحبتها، وإنه لم يقتلها كما زعمَ يوماً أمام صمْت القضيب الحديد، الذي ازدادَ تقشّره وصدؤه. بعد ذلك الشتاء، اختفى سنوات، حينها هُدِم الجدار، وضمّتْ بلديةُ المدينة بقيةَ الدار لتوسيع الشارع القديم.
إنْ كنتَ مثلي حالماً ظاهرياً بالقضبان والنوافذ الخارجية المقشَّرة، أو متردداً بحلمك الطويل على المتاجر والأفران ومحلات الجزارة، فقد تلاحظ رجلاً يحتلّ مكاناً أمامك أو خلفك في الطابور، تنطبق عليه أوصاف الكائنات السرّية المتوارية عن الأنظار، يزعم فِعْلَ كذا وكذا، ويختلق أخباراً عن تبنّيه طفلةً هلكَتْ عنها أمُّها في مستشفى الولادة، فضمَّها إلى بناته ومنحَها اسمَه وهويته. وما هويةُ رجلٍ سرّي غير مزاعم لا تنتهي، ومفضوضات غير أكيدة يضيق بها صدرُه فيفشيها إلى الرجال الواقفين حوله؟ سترى أنّ حلمك يبلغ ذروته، حين يناشد الرجلُ السرّي عاملَ المخبز ويرجوه أن يبيعه أربعة رغفان لا أكثر، ينوي توزيعها على أربعة قبور في مقبرة عائلته، اعتادَ زيارتَهم صباح عيد الأضحى، وهذا ديدنه منذ سنوات.
الكتاب الأخير قبل الإعدام
هل فكّرَ مؤلفو الكتب بإنهاء أعمالهم الأخيرة في الوقت المناسب، قبل انفصام لحظتَيْ الحياة والكتابة؟
لقد وصلتُ إلى هذه المرحلة التي يتحتم عليّ فيها أن أقرّر وضعَ عنوان آخر كتبي على قائمة مؤلفاتي، ثم أسلّم رقبتي لأولئك الذين سيفصمونها ومعها كتابي. استبقْتُ لحظةَ إعدامي في حلمي، وكنت أحتسب دائماً لوضع السّطر الأخير في كتاب عُمري، والتوقّف عن إملاء السُّطور نهائياً. أضعُ النقطةَ التي ستنهي السّطرَ المتعرّج، في حياة كلّ كاتبٍ على وجه الأرض. وعندما حان وقت تنفيذ الحُكم رجوْتُ الجلادين الذين استعدّوا للإجهاز على أنفاسي أن يأخذوا منّي مخطوطتي وينشروها.
كان حكم الإعدام يُنفَّذ ببشاعة. يُؤخَذ المحكومون إلى جرف مَضحَلٍ مائيّ، ثم يُضربون بهراوة على فقرات أعناقهم ضربات قوية متوالية حتى تنفصم، ثم يُطَمَّسون في ماء المَضحَل المخلوط بالطين. سيق قبلي كاتبان أنهيا كتابيهما للتوّ وطُمِّسا. رأيتُهما يسيران مع جلاديْهما طوعاً إلى المضحل المائي الذي ترسو على جُرفه قواربُ متجاورة كالحة اللون. لا يُعرَف غرض معيّن لاستعمال القوارب، ويبدو أنّها من بقايا مرفأ مهجور. كما بدا مكانُ الإعدام بحدوده المجهولة بقعةً مقطوعة من طوامس عصرٍ بدائيّ منصرم، شهِدَ حفلاتٍ بشعة.
سبَقَ تنفيذَ الحُكم استجوابٌ قصير، وأُدخِلتُ على مجلس قُضاةٍ احتلّوا منصةً تسدّ عرضَ الغرفة الخشبية الباقية من جمرك المرفأ. ارتدى القضاةُ بِزّات عمّال المطابع الملطّخة بالزيت والأحبار، يتوسّطهم القاضي الأكبر، الذي يملك زمامَ النهاية. وما يملكه القاضي الأوسط الآن على وجه الدقّة الأمرَ الخاص بكتابي كما قيل لي، ولا أعرفُ اختصاصَ القُضاة الآخرين، فقد يملك كلّ واحدٍ منهم قضيةً مختلفة. إلا أنّ أكداس المخطوطات أمامهم على المنصّة تشير إلى أنّ أعضاء المجلس يتولّون في هذه اللحظة الوشيكة على الاختفاء قضيةً واحدة، تتعلّق بنشر الكتُب أو إعدامها.
سألني القاضي الأكبر “ما رغبتك الأخيرة قبل أن يتمّ إغراقك؟”. أخرجتُ من ثيابي رزمةَ أوراقٍ مرتبة، وقلت “أتمنّى أن تنشـروا كتابي هذا”. (أستعيدُ حجمَ الكتاب، وأنا أدوّنُ هذا الحلم، فأتذكّرُ على وجه الحقيقة حزمةَ أوراقٍ لا تؤلّف سوى فصلٍ من كتاب). نظرَ القاضي في الأوراق ثم قال “لسنا ملزمين بنشر مخطوطتك، لكننا سـنحترم رغبتَك وندسّ ملزمةَ كتابك في وسط طبعةٍ من روايات فرانسـوا سـاغان”. (وأفكّرُ الآن بوظيفة القضاة الإضافية، ويقيني أنّهم كانوا ناشرين في مطبعة ملحقة بمضحل الإعدام). قلت “هذا كتابي الأخير وأريدُ نشره في طبعة مستقلة”. همهمَ القاضي بأمرٍ ما، ثم أشارَ إلى الجلاديْنِ المنتظرينِ عند مدخل الغرفة.
لا سبيل إلى تنفيذ رغبات الأحلام، مثلما لا تُحترَم وعودُها. فكّرْتُ بذلك وأنا أسير بين أيدي جلاديَّ إلى مَضحَل السكون الأبدي، حيث لا صوت للضربات، ولا ألم، ولا نهاية لسطر الظلام المتعرّج على شاشة طابعة الأحلام.
محمد خضير
كاتب من العراق
ثمّة ألعاب يُدمِنُها سكّانُ باصورا، مثل لعبة طبْعة الكفّ ولعبة طبْعة القَدَم، دونما اكتراثٍ لعواقبها المشؤومة. فما يبدو أنّها لعبة بريئة يمارسها اللاعبون في ضوء النهار، قد تتلاعب بأقدار لاعبيها كلما دخلوا جبّ الظلام. وما يبصمه الكبارُ والصغار على لوح طريّ من الطين أو على الحيطان والأبواب وجذوع الأشجار، قد يسير بهم إلى مواطن حظوظهم الناكسة أو الصاعدة. لعلّ خطاً مخبوءاً في باطن الكفّ، وخطّاً معروقاً بارزا على ظاهرها، قد يقسمان حياة صاحبهما على خارطة محفورة في الصخور. وقد تأخذ القدَمُ المطبوعة صاحبَها إلى أمكنة حظّه البعيدة، لكنّ الخطأ المرادف لهذه التقديرات يظلّ مرسوماً كنقطة لا تتزحزح عن مكانها فوق حرف (الحاء). نادراً ما يخلو حائطٌ قديم في باصورا من طبعات الكفّ المحفورة منذ سنين وسنين، كما تتدلّى من أبوابها مطارقُ برونزية مصهورة في قوالب الكفوف والأقدام بمختلف الأحجام: مطرقة فألٍ حسن، ومطرقة شؤم. كفّ الحظّ الأبيض، وكفّ الحظّ الأسود. طرَقات وطرَقات، طبعات وطبعات، أيقونات الحظّ معلّقة على جوانب الطُرُق، لكن لا أحد من سكّان باصورا يريد أن يعترف بخطورة أحلامه.
عندما شاركْتُ حالمي باصورا لعبةَ طبْعة الكفّ، كان عمري قد تجاوزَ الألفَ عام. صمّمْتُ نسخةً ورقية من طبعة كفّي اليسرى، ملأتُ فرجاتها بالأعداد وضاعفتُها حتى بلغَتْ ألفاً وثلاث مئة، وهذا هو عُمري المقدَّر لمنافسة الباصوريين الذين يقدّرون أعمارَهم المئوية والألفية على حساب الأعداد المضاعفة بين فرجات الأصابع، تبعاً لكل حال، ثم حملتُ علبةَ خِضابٍ وخرجتُ لطبْع كفّي على أقرب حائط من موقع سكني. أنا أَعسَر، وتقضي قواعد اللعبة أن يأتي لاعبٌ فيطبع كفّه اليمنى بجوار طبعتي اليسرى، فيتقابل الإبهامان كأن الطبعتين عائدتان لشخص واحد. وأشطَرُ اللاعبين ذاك الذي يستعمل في طبْع كفّه أفضلَ الأصباغ الممزوجة بالأكاسيد والأصماغ المقاوِمة لكلّ الأجواء. هل كنتُ محظوظاً برفع أُسّ الأعداد لأبلغ بعمري ما بلغته؟ هل يتوقّف عُمري عند هذا العدد، أم أنّه سيزيد بما أكسبُه من عُمر اللاعب الذي سيطبع كفّه إلى جانب طبْعة كفّي على الجدار؟ فقد أخسرُ حياتي عندما يتضاءل حسابي إلى أصغر أسّ في الفرجة بين الخنصر والبنصر، أو في الفرجة الوسطية بين الإصبع الوسطى والسبابة، أو في الفرجة الطرفية المقابلة بين السبّابة والإبهام، وسأرتدّ إلى عُمر إنسانٍ هالك لا محالة حالما أتحرّكُ خطوات من طبْعة كفّي على الجدار. أما إذا أصبحتُ من العماليق الذين حكموا الأرض منذ آلاف السنين، فلن أهلك إلا بعد آلاف المعارك التي أخوضها في أحلامي. ولا حُكم عندي على هذه اللعبة أنسب من أنّها لعبة الهالكين في الأحوال كلّها.
لستُ عبداً ولا ملِكاً، لستُ قزماً ولا عملاقاً، هذه حقيقتي التي تتضمنّها طبعةُ كفّي، أريدُ ممّن يلاعبني أن يقرأها قبل قراءة حساب عمري. لكنّ المنافس الذي طبَعَ كفّه قرب طبعة كفّي، انزعجَ لهذه المراوغة وشكّ في أنّي أغشّه. أكاد أسمعُه يخاطبني “أريد أن أعرف حساب عمرك المضبوط”. أُجيبُه في سرّي، وأنا أتفقد مكان الطبعتين المتجاورتين على الجدار القديم “دونكَ بصمتي اسحبْ منها ما تشاء من السنين، أو دعْني أفتُك ببصمة عمرك”.
لا إسراع ولا إجهار في كسب الأعمار المتقابلة على الحائط، فلُعبة الكفّ المطبوعة تجري في الخفاء، وهي تساوي لعبة القدَم المطبوعة، أو المصبوبة في قالب معدني، منعاً وتحريماً، بسبب عدميتهما. لكن انتشار اللعبتين وإدمانهما لم يتوقّف لحظة، فأهلُ باصورا يسرعون إلى عدمهم إسراعهم إلى فُرُشهم الوثيرة. طبعة الكفّ، ومثيلتها طبعة القدم، أيقونتان موزونتان موازيتان لحقيقتيّ الحياة والموت، وشيوع لعبتيهما في أحلام أهل باصورا دليل على تعاقب الأجيال وتوارث الأحلام.
ظهرتْ طبعةُ غريمي اليمنى إلى جانب طبعة كفّي اليسرى، بعد ليال من الترقُّب والترصُّد، فحسبْتُ عند أوّل نظرة أنّ هذا الغريم يقاربني عمراً ويشاطرني حماقةَ سَيْري حتى نهاية اللعبة. ظننتُ أنّه قرأ خطوطَ طبعتي التي تخفي طبيعتي “لستُ عبداً ولا ملِكاً، لستُ قزماً ولا عملاقاً” فأرادَ أن يقابلها بحقيقته التي يُخفيها مثلي في خطوط كفّه التي طبعَها لصق طبعة كفّي وهي كما قرأتها “لستُ غُلاً ولا تاجاً، لستُ شقياً ولا بريئاً”. لكنّي تراجعتُ عن قراءتي، وسدّدتُ النظر ثانية فخمّنتُ وراء طبعته بُرعماً طرياً لم ينكسر غصنُه. كانت بصمتي مَغراءَ متصدّعة كورقةٍ يابسة تتعلّق بغصنها رُغم فوات ربيعها (هكذا أردتُ أن يتحسّس الطابعون المنافسون خريفَ عمري) فيما طبعَ غريمي المجهول كفّـاً بخضاب الحنّاء خالص الحمرة. تخيلتُه شاباً غِرّاً أراد أن يجرّب حظّه بربط لِجام حصانه في ظلّ طبعتي المَغراء. صحّحْتُ قراءتي فرأيتُ فأله المطبوع بارزاً بصبغته البهيّة بين الطبعات المتناثرة حول طبعتينا على الجدار القديم. قلتُ في نفسي “هذه مخايل نفسٍ غضّة، لن تلبث حتى يختلط نُسْغي الناضب برحيق شبابها”.
صدَقَ حلمي ما تخيّلت، فأراني رأيَ العين عاقبةَ اللعب وغرورَ اللاعبين، إذْ لم تمضِ لحظات حتى أقبلَتْ جنازةٌ محمولة على الأكتاف، وألقَتْ بظلالها على طبعتيْ كفّينا المتجاورتين على جدار الأحلام. تبعْتُ المشيّعِين حتى خرجوا بالجنازة إلى الخلاء الذي يضمّ مراقدَ اللاعبين الهالكين منذ عصور وعصور. ولما سألتُ عن ضجيع التابوت المرفوع على الأكتاف، قيل لي إنّها عروس لم تطلع الشمسُ على ليلة دخلتها.
الرجل السرّي
يظهرُ بعض الناس الذين أعرفُهم، ثم يختفون فجأة، لا سبب معروفاً لاختفائهم وعودتهم للظهور، فهم يختفون ويظهرون كحيّات الماء. لم أفهم حتى اليوم سرّ هذا الاختفاء الفجائي إذا كان يعني التقدّمَ أو التراجع، القوّةَ أو الضعف، فموقعي المكشوف للأنظار بلا حماية طبيعية أو نفسيّة أضعفَ قدرتي على الحُكم والمعايرة بين الناس. كنت كما أنا اليوم واقفاً في مكاني، ظاهراً للعيان مثل قضيب حديدٍ في نافذة جدارٍ خارجية تناوشتْها عواملُ الزمن القاسية بالتعرية والصدأ والليّ والنَّزْع في مختلف الاتجاهات. لم أقاوم، بل كانت طواعيتي الزمنية سببَ مقاومتي طويلة الأمد. وكان هناك أكثر من عابر سبيل ينتظر تحت نافذة الجدار ذات القضبان الملويّة والمنتزعة، ومن يعنيني منهم كان رجلاً كثير الاختفاء، يأتي فيختلِس نظرةً إلى داخل الدار، ثم يمضي في سبيله. سأحّدثُكم عن هذا الرجل السرّي، وعن أزمنته، عن اختفائه وظهوره المفاجئ.
لم أتضايق قطّ من طريقة الرجل في مسْك قضيب النافذة الحديد، واختلاسه النظر، إذْ كانت الدار خاوية من ساكنيها، والجدار متهاوياً، وكان الزمن الذي احتوى الرجلَ العابر زمنَ اختفاءٍ للأحياء والأشياء على نحوٍ لا يقبل التفسير. (اختفِ، ألقِ نظرةً وانصرفْ) ذاك هو العُرْف الشائع بين الناس الذين عاش الرجل السرّي بينهم سنوات طويلة، دون أن يلحظ أحد منهم تبدّلات الزمن على وجهه وقامته وملابسه وكلامه الذي يتبادله سرّاً مع نفسه أو مع الجدار والنافذة أو مع الأشخاص العابرين أمثاله. بينما عشتُ عائماً مكشوفاً، لا عمر محدوداً لسنواتي، مثل حلمي الذي طال طيلة السنوات الممدودة لأولئك المختفين. كلّ شيء زائل ومتبدل، ولا بدّ أن ينهدم ذلك الجدار، ويظهر ذلك الرجل الخفيّ ليتلصص على خواء الدار آخر مرة. حينئذ يبلغ حلمي نهايته أيضاً وأُنتزَع من مكاني.
لكي أحدّد زمنَ حلمي، وهو زمن الرجل السرّي، فلْأقُلْ إنّ زمنهما كان زمن السجون والطوامير والقضبان الحديدية الصدئة. إنّ حلمي نفسه يصطبغ بذلك اللون البنيّ خشن الملمس، الأحزمة والمعاطف الصوفية المزرّرة، بجرائم الاختطاف والتعذيب وقوائم المعدومين، ولن أنسى بالطبع الجزمات الطويلة والأحذية الثقيلة التي تدوس الأرض لتخسفها خسفاً وتبعث الرعب في الأوصال البشرية الضعيفة. كان ذاك زمن يتذرّع بالصمت والسرّ والخفاء، وهذا شأن حلمي الذي لازمَ الزوايا والقضبان والخسفات والرجال السريّين، ويريد أن يظهر الآن بقوّة. هل قابلتَ واحداً منهم، هل شاهدتّهم يقودون دراجاتهم البخارية والهوائية، ينسِلون كالطرائد المذعورة عبر الجدران أو يطيرون إلى أوكارهم بعربات سريعة في آخر الليل؟
اصطدمَ حلمي بواحد من هؤلاء على نحو مباغت. فحين قصدَني الرجلُ السرّي بالتحية، ظننتُ أنه لا يقصد بتحيته المبتسَرة، المرفوعة على شفتيه الخائفتين، شخصاً بعينه، فما بالك بقضيب حديد؟ لكنّه في الظهور اللاحق هيأ لكلامه جملةً سرّية وحيدة، فقال إنّه يشعر بالذنب لقتله زوجته. كان الحديث من جانب واحد، جانبه المذعور، ثم فاجأني في الظهور الثالث بعد شهور بقوله إنّه مكثَ في السّجن عامين وأُفرِج عنه بعفو عام. قرفصَ رجليه، وأنهى حديثَه المتفرّق السريع، ثم نهضَ وأمسكَ بقضيب النافذة وجالَ بنظره في الخواء الداخلي الصامت لغرفة الدار المطلّة على الزقاق.
حين عادَ للتقرفص تحت نافذة الزقاق ملتوية القضبان، قال إنّ خشب الإطار المقشَّر يحتاج إلى طلاء، وإنه سيشتري علبة دِهان في المرّة القادمة. وحين واجهَتْه الدارُ بصمتها وانطوائها على سرّ أهلها الغائبين، أعربَ عن ندمه لأنّه وشى بثلاثة أخوةٍ شيوعيين كانوا يسكنون الدار. غابَ مدة طويلة، وعادَ في الشتاء بمفرده، مدثّراً بمِعطف وقلنسوة ومِلفع أخفى نصفَ وجهه، فاعترفَ مؤكِداً أنّه أبلغَ السلطات عن أخوة زوجته، وقد بحثَ مثل غيره في قوائم المعدومين السياسيين المعلّقة بعد غزو العراق عام 2003، فلم يعثر على اسمٍ لواحد منهم فيها. قال إنّ القضية طُمِرتْ تماماً، وقد هجرتْه زوجتُه لخيانته ثقتَها ومحبتها، وإنه لم يقتلها كما زعمَ يوماً أمام صمْت القضيب الحديد، الذي ازدادَ تقشّره وصدؤه. بعد ذلك الشتاء، اختفى سنوات، حينها هُدِم الجدار، وضمّتْ بلديةُ المدينة بقيةَ الدار لتوسيع الشارع القديم.
إنْ كنتَ مثلي حالماً ظاهرياً بالقضبان والنوافذ الخارجية المقشَّرة، أو متردداً بحلمك الطويل على المتاجر والأفران ومحلات الجزارة، فقد تلاحظ رجلاً يحتلّ مكاناً أمامك أو خلفك في الطابور، تنطبق عليه أوصاف الكائنات السرّية المتوارية عن الأنظار، يزعم فِعْلَ كذا وكذا، ويختلق أخباراً عن تبنّيه طفلةً هلكَتْ عنها أمُّها في مستشفى الولادة، فضمَّها إلى بناته ومنحَها اسمَه وهويته. وما هويةُ رجلٍ سرّي غير مزاعم لا تنتهي، ومفضوضات غير أكيدة يضيق بها صدرُه فيفشيها إلى الرجال الواقفين حوله؟ سترى أنّ حلمك يبلغ ذروته، حين يناشد الرجلُ السرّي عاملَ المخبز ويرجوه أن يبيعه أربعة رغفان لا أكثر، ينوي توزيعها على أربعة قبور في مقبرة عائلته، اعتادَ زيارتَهم صباح عيد الأضحى، وهذا ديدنه منذ سنوات.
الكتاب الأخير قبل الإعدام
هل فكّرَ مؤلفو الكتب بإنهاء أعمالهم الأخيرة في الوقت المناسب، قبل انفصام لحظتَيْ الحياة والكتابة؟
لقد وصلتُ إلى هذه المرحلة التي يتحتم عليّ فيها أن أقرّر وضعَ عنوان آخر كتبي على قائمة مؤلفاتي، ثم أسلّم رقبتي لأولئك الذين سيفصمونها ومعها كتابي. استبقْتُ لحظةَ إعدامي في حلمي، وكنت أحتسب دائماً لوضع السّطر الأخير في كتاب عُمري، والتوقّف عن إملاء السُّطور نهائياً. أضعُ النقطةَ التي ستنهي السّطرَ المتعرّج، في حياة كلّ كاتبٍ على وجه الأرض. وعندما حان وقت تنفيذ الحُكم رجوْتُ الجلادين الذين استعدّوا للإجهاز على أنفاسي أن يأخذوا منّي مخطوطتي وينشروها.
كان حكم الإعدام يُنفَّذ ببشاعة. يُؤخَذ المحكومون إلى جرف مَضحَلٍ مائيّ، ثم يُضربون بهراوة على فقرات أعناقهم ضربات قوية متوالية حتى تنفصم، ثم يُطَمَّسون في ماء المَضحَل المخلوط بالطين. سيق قبلي كاتبان أنهيا كتابيهما للتوّ وطُمِّسا. رأيتُهما يسيران مع جلاديْهما طوعاً إلى المضحل المائي الذي ترسو على جُرفه قواربُ متجاورة كالحة اللون. لا يُعرَف غرض معيّن لاستعمال القوارب، ويبدو أنّها من بقايا مرفأ مهجور. كما بدا مكانُ الإعدام بحدوده المجهولة بقعةً مقطوعة من طوامس عصرٍ بدائيّ منصرم، شهِدَ حفلاتٍ بشعة.
سبَقَ تنفيذَ الحُكم استجوابٌ قصير، وأُدخِلتُ على مجلس قُضاةٍ احتلّوا منصةً تسدّ عرضَ الغرفة الخشبية الباقية من جمرك المرفأ. ارتدى القضاةُ بِزّات عمّال المطابع الملطّخة بالزيت والأحبار، يتوسّطهم القاضي الأكبر، الذي يملك زمامَ النهاية. وما يملكه القاضي الأوسط الآن على وجه الدقّة الأمرَ الخاص بكتابي كما قيل لي، ولا أعرفُ اختصاصَ القُضاة الآخرين، فقد يملك كلّ واحدٍ منهم قضيةً مختلفة. إلا أنّ أكداس المخطوطات أمامهم على المنصّة تشير إلى أنّ أعضاء المجلس يتولّون في هذه اللحظة الوشيكة على الاختفاء قضيةً واحدة، تتعلّق بنشر الكتُب أو إعدامها.
سألني القاضي الأكبر “ما رغبتك الأخيرة قبل أن يتمّ إغراقك؟”. أخرجتُ من ثيابي رزمةَ أوراقٍ مرتبة، وقلت “أتمنّى أن تنشـروا كتابي هذا”. (أستعيدُ حجمَ الكتاب، وأنا أدوّنُ هذا الحلم، فأتذكّرُ على وجه الحقيقة حزمةَ أوراقٍ لا تؤلّف سوى فصلٍ من كتاب). نظرَ القاضي في الأوراق ثم قال “لسنا ملزمين بنشر مخطوطتك، لكننا سـنحترم رغبتَك وندسّ ملزمةَ كتابك في وسط طبعةٍ من روايات فرانسـوا سـاغان”. (وأفكّرُ الآن بوظيفة القضاة الإضافية، ويقيني أنّهم كانوا ناشرين في مطبعة ملحقة بمضحل الإعدام). قلت “هذا كتابي الأخير وأريدُ نشره في طبعة مستقلة”. همهمَ القاضي بأمرٍ ما، ثم أشارَ إلى الجلاديْنِ المنتظرينِ عند مدخل الغرفة.
لا سبيل إلى تنفيذ رغبات الأحلام، مثلما لا تُحترَم وعودُها. فكّرْتُ بذلك وأنا أسير بين أيدي جلاديَّ إلى مَضحَل السكون الأبدي، حيث لا صوت للضربات، ولا ألم، ولا نهاية لسطر الظلام المتعرّج على شاشة طابعة الأحلام.
محمد خضير
كاتب من العراق