ننظر دائمًا إلى الجنون على أنه فضيحة حيوانية، تلك الحرية المعتمة التي تهدد الوجود وتبعث الفوضى في أرجائه، إنه رأس فارغة وجمجمة فاسدة، خالية من أي حس مشترك.
تلك النظرة بالتحديد، أدت إلى التاريخ المأساوي لكل ما تم وصمه بالجنون، اعتمادًا على الأصل الللاتيني (follies) الذي اشتقت منه كلمة مجنون (fol) التي تعني بالونًا ممتلئًا بالهواء، تتقاذفه الرياح هنا وهناك.
هكذا، يكون للغة خطاياها، فتاريخ الجنون في العالم يوقفنا على معان متطرفة في فهمه، غير أن الثقافة العربية كانت أكثر اعتدالاً في وعيها بطبيعة الجنون، فقولنا (خذوا الحكمة من أفواه المجانين) يعكس وعيًا بأن بعض الممارسات الإنسانية الغريبة والخارجة عن المألوف، قد تحمل سمات إبداعية، أو ذكاءًا فارقا لأصحابها كما نرى في حكايات (جحا) العربي بتعدد مواقفها أمام الملوك، والقضاة، والفقهاء، واللصوص، والتجار. فعلى ما تظهره من حمق، لا تخلوا من ذكاء، وسعة حيلة، وبلاغة قد تصل إلى الحكمة، والرغبة في فضح الكثير من ممارسات بشرية، قد نظنها فاضلة.
هذا التسامح العربي مع الجنوح العقلي، لم نجده في كثير من ثقافات العالم، ففي عقيدة العبرانيين كان الرب (يهوه) يحرض على قتل المجانين فيقول في سفر الأمثال:”إذا ما سحقت معتوهًا بالهاون بين الحبوب، فإن جنونه لا يحيد عنه”
و يبدو أن ثمة صلة ما، بين ثقافة العبرانيين والأساطير الإغريقية، حيث نجد فكرة العقاب الذي تنزله الآلهة الوثنية على البشر، ففي الأوديسا نجد(بوسيدون) إله البحر يعاقب (أوديسيوس) بالتيه، كما أن الإلياذة صورت قصة العداء الشرس بين الإلهة (هيرا) وهرقل ابن زوجها (زيوس) من البشرية (الكميني). وفيها استخدمت ( هيرا) كل الحيل للقضاء علي هرقل، لكن هرقل الذي يحمل عقلاً بشريًا، يتمتع بذكاء كاف ليفلت من مكائد زوجة أبيه، هكذا لم تجد (هيرا) بُدًا من أن تصيب عقله بالجنون حتى أنه قتل أبناءه جميعًا.
ولعل هذا التاريخ، هو المسئول عن صور العقاب، والمعاناة التي عاشها الموصومون بالجنون على أيدي البشر، إذ أن الصورة الذهنية عن المجنون، ظلت مرتبطة بالخطيئة، وعقابهم الإلهي بأن تتلبسهم الأرواح الشريرة، وتسكنهم الشياطين، لذلك يستحقون القتل والتعذيب والحرق. وجراء هذا الفهم، فإن بعض العباقرة الملهمين لاقوا نفس مصير المجانين لمجرد أنهم تحدثوا بكلام لا يفهمه الناس، أو مارسوا سلوكا غير مألوف للعامة في وقت لم تكن فيه الفروق واضحة بين الجنون بمعناه المرضي، والجنون المفضي إلى الإبداع والعبقرية.
ويبدو أن المسافة بينهما قريبة إلى درجة الالتباس فعلاً ، حتى أن (فرويد) اعتبر أن الفنانين، يعيشون على حافة العصاب المرضي. أما تلميذه ( كارل يونج) فيرى أن الجنون هو الغرق في اللاوعي والتماهي مع صوره البدئية، مما يؤدي إلى الانفصال التام عن الواقع الخارجي ومن ثَمَّ، فقدان التفكير المنطقي المترابط، لكنه أيضًا يحذر من أن الانحباس في دوائر التفكير المنطقي فقط، نوع آخر من الحماقة والتحجر والانفصال عن قوى الحياة الفاعلة.
ومع ذلك، فحتى الآن، ورغم كل الجهود العلمية، والبحثية، فالعلاقة بين الجنون والإبداع غير محسومة، إذ لدينا العديد من الحالات لمبدعين وصفوا بالجنون فعلاً، وعانوا أمراضًا نفسية وعقلية عميقة، فبتهوفن الموسيقى العبقري، كان يعاني من اضطراب نفسي، يسمى اكتئاب ثنائي القطبين، وهو مرض ذهاني، حسب تقسيمات الطب النفسي الحديث، نوع من الاكتئاب الحاد الذي يسبب نوبات من الحزن العميق، ثم الفرح الهيستيري غير المبررين، لكنه يزيد من الإنتاجية الإبداعية لصاحبه.
كما كان (فان جوخ) يعاني من نفس المرض، ولعل هذه المعاناة كانت محفزة لخياله الخصب، الذي جسدته لوحاته العديدة. والمتأمل للوحاته عن الطبيعة، يراها تتراوح بين حالات من الفرح والبهجة المشمسة، والحزن القاتم على نحو ما نرى في لوحة (ليلة النجوم) التي رسمها بعد خروجه من المصحة النفسية بأسبوع.
عند تأملي لليلة النجوم، استدعت ذاكرتي بيتًا من معلقة أمرئ القيس: ” فيالك من ليل كأن نجومه *** بكل مُغار الِفتل ُشدت بيذبل) فهل كان أمرؤ القيس يعاني اكتئابًا ما؟ ربما، فسيرته وشعرة يوقفانا على شيء من الهوس، وهو الملقب بالملك الضليل، وذي القروح..
هوس فان جوخ كلفه أذنه اليمنى. الغريب أن معالجي فان جوخ، لاحظوا أن نوبات الهوس أصبحت أكثر عنفًا بعد حجزه في المصحة ومنعه من الرسم، وبمجرد أن منحوه فرصة الرسم، تحسنت حالته النفسية، كما لاحظوا أن حجم إنتاجه الفني تضاعف، فكان لا يتوقف عن الرسم، وكأن الفن طريقًا لتسريب طاقة الجنون.
يرى ميشيل فوكو، أن الأذهان عند المهووسين، تتحرك بعنف، فهي قادرة على الدخول في سبل لم يسبق أبدًا تعبيدها، وأن هذه السبل الجديدة تقتضي مسارًا فكريًا غريبًا وحركات مفاجئة وخارقة للعادة.
ولكن هل معنى هذا أننا أمام خيار واحد بين اثنين؟ أن يكون الجنون سبيلا للإبداع، أو نبقى عقلاء بلا إبداع؟
في الكتاب الأحمر، الذي أنهاه (كارل يونج) قبل مماته بسنوات، وحظر نشره حتى أفرج عنه ورثته، يعترف بأنه مر بحالات من الهلوسة البصرية، رأي أخيولات مرعبه، فظن أنه الفصام والجنون، ومن ثم، عكف على متابعة حالته، ومراقبتها، وسجلها في كتابه، ثم مات ولم يعرف أن كتابه، أصبح أهم وأبرز الكتب التي صورت تناغم الإنسان مع نفسه، عندما يتصل بجنونه ويقبله، ومن ثم يحظى بعقل قادر على الإبداع والخروج عن المسارات الفكرية النمطية التي لا تقدم جديدًا إلى الحياة.
تفسيرات يونج للعلاقة بين الإبداع والجنون، تربط الإبداع بتطور البشرية، وتحرر الجنون من وصمة الخطيئة، وتلفت الانتباه إلى ما فيه من حكمة، فعندما ترى البدائي المرعب الذي بداخلك، تكون على أول عتبات الجنون، وفي نفس الوقت على أول عتبات الحكمة، فهذه الرؤية الداخلية، هي أول طريق البصيرة الملهمة، والمبدعة.
الوصول إلى الحكمة رحلة مضنية، محفوفة بالمخاطر، لهذا تحتاج قدرًا من الشجاعة لخوضها، كما تحتاج قدرًا من الإيمان بأن تلك الصور الشاردة التي بداخلك لا تكذب أبدًا، وليست مجرد أوهام، بل هي رحلة حج إلى نفسك لترى نفسك، تلك الرحلة التي خاضها الكثير من المتصوفة، وعلى قدر اقترابهم منها يكون خطر الجنون، ولكن إن أبصروا أناهم الداخلية، نجوا، وفازوا بالبصيرة، والحكمة.
كان جلال الدين الرومي يخشى فراق أستاذه برهان الدين الترمذي، لكن الترمذي قال له: امض، وسر نورًا، وما دمت قد نجوت من نفسك، فقد صرت بأجمعك برهان.
خاض (يونج) رحلته الداخلية، وعندما خرج منها، كتب على باب بيته (الله موجود) وكأنما يعارض إلحاد أستاذه ( فرويد) كما عارض الكثير من أرائه في علم النفس.
والتفسير العلمي لهذه الرحلة، كما يراه عالم النفس (يحي الرخاوي) أنها عملية تحريك وقلقلة وتنشيط للمغمور في اللاوعى، تهدد بتفسخ وتناثر الشخصية، ما لم تكن هناك مسارات مفتوحة في الوعي لاستيعاب هذا الغريب والشاذ، ومن ثمَّ إدخاله في المنظومة الكلية للشعور والتفكير.
ما يعنيه الرخاوي، أن الجنون هو جزء فطري، وحي في الطبيعة الإنسانية، ونكرانه هو ما يؤدي إلى مزيد من الحماقة والجنون المطبق، فرفض الجنون يضاعف من حجمه، والاعتراف به أول خطوات تحديد مساراته، ومن ثم إدخاله في المنظومة الكلية للشعور فتنتج الشعراء والفنانين، أو العلماء والعباقرة. معنى هذا أن كل محاولات التفكير الإبداعي الخلاق، تقف بالفعل على حافة الجنون، وتراه رأي العين، لكن طاقة الخلق الإبداعي الكامنة في الوعي الإنساني، يمكنها أن تحيل كل الصور والأخيلة والأفكار التي تبدو جنونا خالصًا، إلى ناتج يفضي إلى تطور الحضارة البشرية.
يقول ميشيل فوكو: “جنون حكيم، ذلك الذي يقوم باستقبال جنون العقل ويستمع إليه، ويعترف له بحقوق المواطنة، ويقبل أن تتخلله قواه الحية، ومن خلال ذلك يحمي نفسه من الجنون”.
تلك النظرة بالتحديد، أدت إلى التاريخ المأساوي لكل ما تم وصمه بالجنون، اعتمادًا على الأصل الللاتيني (follies) الذي اشتقت منه كلمة مجنون (fol) التي تعني بالونًا ممتلئًا بالهواء، تتقاذفه الرياح هنا وهناك.
هكذا، يكون للغة خطاياها، فتاريخ الجنون في العالم يوقفنا على معان متطرفة في فهمه، غير أن الثقافة العربية كانت أكثر اعتدالاً في وعيها بطبيعة الجنون، فقولنا (خذوا الحكمة من أفواه المجانين) يعكس وعيًا بأن بعض الممارسات الإنسانية الغريبة والخارجة عن المألوف، قد تحمل سمات إبداعية، أو ذكاءًا فارقا لأصحابها كما نرى في حكايات (جحا) العربي بتعدد مواقفها أمام الملوك، والقضاة، والفقهاء، واللصوص، والتجار. فعلى ما تظهره من حمق، لا تخلوا من ذكاء، وسعة حيلة، وبلاغة قد تصل إلى الحكمة، والرغبة في فضح الكثير من ممارسات بشرية، قد نظنها فاضلة.
هذا التسامح العربي مع الجنوح العقلي، لم نجده في كثير من ثقافات العالم، ففي عقيدة العبرانيين كان الرب (يهوه) يحرض على قتل المجانين فيقول في سفر الأمثال:”إذا ما سحقت معتوهًا بالهاون بين الحبوب، فإن جنونه لا يحيد عنه”
و يبدو أن ثمة صلة ما، بين ثقافة العبرانيين والأساطير الإغريقية، حيث نجد فكرة العقاب الذي تنزله الآلهة الوثنية على البشر، ففي الأوديسا نجد(بوسيدون) إله البحر يعاقب (أوديسيوس) بالتيه، كما أن الإلياذة صورت قصة العداء الشرس بين الإلهة (هيرا) وهرقل ابن زوجها (زيوس) من البشرية (الكميني). وفيها استخدمت ( هيرا) كل الحيل للقضاء علي هرقل، لكن هرقل الذي يحمل عقلاً بشريًا، يتمتع بذكاء كاف ليفلت من مكائد زوجة أبيه، هكذا لم تجد (هيرا) بُدًا من أن تصيب عقله بالجنون حتى أنه قتل أبناءه جميعًا.
ولعل هذا التاريخ، هو المسئول عن صور العقاب، والمعاناة التي عاشها الموصومون بالجنون على أيدي البشر، إذ أن الصورة الذهنية عن المجنون، ظلت مرتبطة بالخطيئة، وعقابهم الإلهي بأن تتلبسهم الأرواح الشريرة، وتسكنهم الشياطين، لذلك يستحقون القتل والتعذيب والحرق. وجراء هذا الفهم، فإن بعض العباقرة الملهمين لاقوا نفس مصير المجانين لمجرد أنهم تحدثوا بكلام لا يفهمه الناس، أو مارسوا سلوكا غير مألوف للعامة في وقت لم تكن فيه الفروق واضحة بين الجنون بمعناه المرضي، والجنون المفضي إلى الإبداع والعبقرية.
ويبدو أن المسافة بينهما قريبة إلى درجة الالتباس فعلاً ، حتى أن (فرويد) اعتبر أن الفنانين، يعيشون على حافة العصاب المرضي. أما تلميذه ( كارل يونج) فيرى أن الجنون هو الغرق في اللاوعي والتماهي مع صوره البدئية، مما يؤدي إلى الانفصال التام عن الواقع الخارجي ومن ثَمَّ، فقدان التفكير المنطقي المترابط، لكنه أيضًا يحذر من أن الانحباس في دوائر التفكير المنطقي فقط، نوع آخر من الحماقة والتحجر والانفصال عن قوى الحياة الفاعلة.
ومع ذلك، فحتى الآن، ورغم كل الجهود العلمية، والبحثية، فالعلاقة بين الجنون والإبداع غير محسومة، إذ لدينا العديد من الحالات لمبدعين وصفوا بالجنون فعلاً، وعانوا أمراضًا نفسية وعقلية عميقة، فبتهوفن الموسيقى العبقري، كان يعاني من اضطراب نفسي، يسمى اكتئاب ثنائي القطبين، وهو مرض ذهاني، حسب تقسيمات الطب النفسي الحديث، نوع من الاكتئاب الحاد الذي يسبب نوبات من الحزن العميق، ثم الفرح الهيستيري غير المبررين، لكنه يزيد من الإنتاجية الإبداعية لصاحبه.
كما كان (فان جوخ) يعاني من نفس المرض، ولعل هذه المعاناة كانت محفزة لخياله الخصب، الذي جسدته لوحاته العديدة. والمتأمل للوحاته عن الطبيعة، يراها تتراوح بين حالات من الفرح والبهجة المشمسة، والحزن القاتم على نحو ما نرى في لوحة (ليلة النجوم) التي رسمها بعد خروجه من المصحة النفسية بأسبوع.
عند تأملي لليلة النجوم، استدعت ذاكرتي بيتًا من معلقة أمرئ القيس: ” فيالك من ليل كأن نجومه *** بكل مُغار الِفتل ُشدت بيذبل) فهل كان أمرؤ القيس يعاني اكتئابًا ما؟ ربما، فسيرته وشعرة يوقفانا على شيء من الهوس، وهو الملقب بالملك الضليل، وذي القروح..
هوس فان جوخ كلفه أذنه اليمنى. الغريب أن معالجي فان جوخ، لاحظوا أن نوبات الهوس أصبحت أكثر عنفًا بعد حجزه في المصحة ومنعه من الرسم، وبمجرد أن منحوه فرصة الرسم، تحسنت حالته النفسية، كما لاحظوا أن حجم إنتاجه الفني تضاعف، فكان لا يتوقف عن الرسم، وكأن الفن طريقًا لتسريب طاقة الجنون.
يرى ميشيل فوكو، أن الأذهان عند المهووسين، تتحرك بعنف، فهي قادرة على الدخول في سبل لم يسبق أبدًا تعبيدها، وأن هذه السبل الجديدة تقتضي مسارًا فكريًا غريبًا وحركات مفاجئة وخارقة للعادة.
ولكن هل معنى هذا أننا أمام خيار واحد بين اثنين؟ أن يكون الجنون سبيلا للإبداع، أو نبقى عقلاء بلا إبداع؟
في الكتاب الأحمر، الذي أنهاه (كارل يونج) قبل مماته بسنوات، وحظر نشره حتى أفرج عنه ورثته، يعترف بأنه مر بحالات من الهلوسة البصرية، رأي أخيولات مرعبه، فظن أنه الفصام والجنون، ومن ثم، عكف على متابعة حالته، ومراقبتها، وسجلها في كتابه، ثم مات ولم يعرف أن كتابه، أصبح أهم وأبرز الكتب التي صورت تناغم الإنسان مع نفسه، عندما يتصل بجنونه ويقبله، ومن ثم يحظى بعقل قادر على الإبداع والخروج عن المسارات الفكرية النمطية التي لا تقدم جديدًا إلى الحياة.
تفسيرات يونج للعلاقة بين الإبداع والجنون، تربط الإبداع بتطور البشرية، وتحرر الجنون من وصمة الخطيئة، وتلفت الانتباه إلى ما فيه من حكمة، فعندما ترى البدائي المرعب الذي بداخلك، تكون على أول عتبات الجنون، وفي نفس الوقت على أول عتبات الحكمة، فهذه الرؤية الداخلية، هي أول طريق البصيرة الملهمة، والمبدعة.
الوصول إلى الحكمة رحلة مضنية، محفوفة بالمخاطر، لهذا تحتاج قدرًا من الشجاعة لخوضها، كما تحتاج قدرًا من الإيمان بأن تلك الصور الشاردة التي بداخلك لا تكذب أبدًا، وليست مجرد أوهام، بل هي رحلة حج إلى نفسك لترى نفسك، تلك الرحلة التي خاضها الكثير من المتصوفة، وعلى قدر اقترابهم منها يكون خطر الجنون، ولكن إن أبصروا أناهم الداخلية، نجوا، وفازوا بالبصيرة، والحكمة.
كان جلال الدين الرومي يخشى فراق أستاذه برهان الدين الترمذي، لكن الترمذي قال له: امض، وسر نورًا، وما دمت قد نجوت من نفسك، فقد صرت بأجمعك برهان.
خاض (يونج) رحلته الداخلية، وعندما خرج منها، كتب على باب بيته (الله موجود) وكأنما يعارض إلحاد أستاذه ( فرويد) كما عارض الكثير من أرائه في علم النفس.
والتفسير العلمي لهذه الرحلة، كما يراه عالم النفس (يحي الرخاوي) أنها عملية تحريك وقلقلة وتنشيط للمغمور في اللاوعى، تهدد بتفسخ وتناثر الشخصية، ما لم تكن هناك مسارات مفتوحة في الوعي لاستيعاب هذا الغريب والشاذ، ومن ثمَّ إدخاله في المنظومة الكلية للشعور والتفكير.
ما يعنيه الرخاوي، أن الجنون هو جزء فطري، وحي في الطبيعة الإنسانية، ونكرانه هو ما يؤدي إلى مزيد من الحماقة والجنون المطبق، فرفض الجنون يضاعف من حجمه، والاعتراف به أول خطوات تحديد مساراته، ومن ثم إدخاله في المنظومة الكلية للشعور فتنتج الشعراء والفنانين، أو العلماء والعباقرة. معنى هذا أن كل محاولات التفكير الإبداعي الخلاق، تقف بالفعل على حافة الجنون، وتراه رأي العين، لكن طاقة الخلق الإبداعي الكامنة في الوعي الإنساني، يمكنها أن تحيل كل الصور والأخيلة والأفكار التي تبدو جنونا خالصًا، إلى ناتج يفضي إلى تطور الحضارة البشرية.
يقول ميشيل فوكو: “جنون حكيم، ذلك الذي يقوم باستقبال جنون العقل ويستمع إليه، ويعترف له بحقوق المواطنة، ويقبل أن تتخلله قواه الحية، ومن خلال ذلك يحمي نفسه من الجنون”.
حكمة الجنون..مقال لسيد الوكيل
نشر بمجلة الدوحة عدد فبراير 2016 ننظر دائمًا إلى الجنون على أنه فضيحة حيوانية، تلك الحرية المعتمة التي تهدد الوجود وتبعث الفوضى في أرجائه، إنه رأس فارغة وجمجمة فاسدة، خالية من أي حس مشترك. تلك ا…
sadazakera.wordpress.com