تصدّرُ الشاعرة د. سمية عسقلاني ديوانها:" خارطة اللون.. قبعة السماء" (دار الأدهم، القاهرة، الطبعة الأولى 2015 ) بالقول:" انتبهوا.. هنا عشبة لم تجفّ وشعاعٌ يثقبُ غيمة".
العلاقة الدلالية البعيدة – مسافةً ومخيلةً – ما بين العشب والغيمة، هي علاقة شعرية بامتياز، لأن الشعر – عبر إبداعيته الجمالية - يجنح دائما إلى تخليق حالة سياقية خصبة ما بين أبعد شيئين، حين يصبو إلى صنع مكون شعري مبدئي، ليس على المستوى المنطقي فحسب ولكن على المستوى التخييلي، وأداته في ذلك تتمثل في تماهي المخيلة في الأداء اللغوي فيما تلوذ الذات الشاعرة بآليات الانفعال والحلم والتأمل لتنتج لنا صورة مشعرنة، هاجسها: الدهشة، ومهادها الوعي الجمالي في كل تبدياته من الكلاسيكية إلى السوريالية.
سمية عسقلاني تضيء هذه الصورة التي قد تبدو في ظاهرها لعبة شعرية معهودة، حيث درج الشعراء على وصف علاقة ما ما بين الأرضي والسماوي.الشاعرة طرحت هنا في تصديرها هذه العلاقة التي لن تنقطع بين العشبة والغيمة، فالعشبة لا تجف، وهذا معناه أن الغيمة في حالة مطر دائم، كأنه إشراق مائي تعبر عنه بالشعاع الذي يثقب الغيمة ليستمطر ما فيها في ظلال هذه الرؤية الكثيفة/ العميقة المٌسريلة معا، تبدع د. سمية عسقلاني في قصيدتها وتقدم لنا هذا الديوان وهو الثالث في تجربتها الشعرية بعد:" البوح المكنون" و" وجه في دفتر الأبدية". وهي في هذا الديوان تركز على جملة من المبادىء الجمالية التي تنطلق منها لتشكيل تجربتها في هذا الديوان تتآلف كالتالي:
- التقشف في البنية اللغوية، حيث لا استطراد، ولا توصيف، بل تكثيف وتجريد كلما أمكن ذلك.
- التركيز على الدالة التي تشكل بنية النص القصير، واستقصاء علاقاتها مع الدوال القريبة الأخرى.
- دمج الوعي الشعري بحالة النص وحده، دون اعتبارات للنظر خارج النص. النص هو واقعه، ولا شيء آخر خارجه.
- ترتيب بنية الديوان بحيث تنتظم بشكل متسلسل في وحدات دلالية ثمان تشكل فضاء الديوان دلاليا.
- تحميل النصوص بطبقات من المعاني، مع وضع بعض اللمسات التناصية أحيانا التي تزيد من عمق النصوص.
إن الشاعرة تقدم في ديوانها، وحدة دلالية مرصودة من أول الديوان لآخره، فثمة انتظام وترتيب، وثمة وعي شكلي يحدق بالكلمات، ويقدمها من خلال هذه الوحدة التي تتألف من ثمانية عناوين هي: الزهرة، الشجرة، الجغرافيا، القصيدة، اللون، التاريخ، الحب، الزمن. هذا العناوين هي الناظم الدلالي الذي تندرج تحته نصوص مكثفة، قد تطول أحيانا لتتنسق فيها استقصاءات وعلاقات سياقية جديدة.
وفق هذا فإن الديوان ينتظم في بنية موحدة، ثمانية عناوين، ونصوص تندرج تحتها، وكأنها تجدد بها أسطرة الأسماء أسطرة شعرية، وهي لا تحد في وحدة جزئية، ولكن في وحدة كلية تبحث فيها الشاعرة عن أسئلتها وعن محاولا تثبيت يقينها بالأشياء.
والهدف الأولي الذي تستهل به الشاعرة دلالات ديوانها يتمثل في الرؤية/ الرؤيا، في "صولو الريحان" تقول:
مغمضة العينين
أحدق في الدوائر الصفراء التي تتوالد في سكون
تحمني إلى سراديب العتمة المطبقة
منذ وضعت يديك على جفوني
استبدلت بمفردة الدهشة الخوفَ
تسربلتُ في وشاح الشجن
لأنني رأيت. / ص 9
الرؤية/ الرؤيا ملاذ أول. الشاعرة تهرب من شجنها الذي تتسربل به. الشاعرة التي تفيض دلالاتها بحزن ما وضجر ما من الواقع، تنهمك في رصد أسئلتها وتأملاتها، فتغني أكثر وتستعير من عالم الموسيقى، وعالم اللون أجواءها، فمن صولو الريحان إلى سوناتا الياسمين ثم القرنفل. تتعزز الرؤيا بهذه الأجواء لتكون أكثر جمالا، أو لتشكل بوحها الجميل لمخايل.
وهنا تتكرر الرؤية دون العينين في مشهد آخر:
لست نادمة على شيء
ولا حزينة
ولست سعيدة على الإطلاق
أنا أنظر إلى العالم بعينين مغمضتين. / ص 21
سيكون إذن التأمل اللا مرئي، الرؤية عبر الإغماض أكثر عمقا ودهشة، لأن الرؤية/ الرؤيا هنا ستتم من خلال الوعي، والاستبطان لا من خلال رصد الأشياء المحسوسة. الأشياء هنا تُعقل لا تحس وتلمس. وهنا تتساوى المتضادات، وتتلاقى وتتطابق، وفي هذه المساواة يمكن تخليص الأشياء من دلالاتها المعهودة ليتم صنعها من جديد ومساءلتها سياقيا.
لتصل في صفحة (81) من الدوان إلى المشهد الرائي الذي يتم عبر الحلم:
حلم قديم رأيتُ به غيمة تحترق
أرقني جدا أن أتذكره فجأة
أخشى أن تدخلني الذكرى في دائرة الحزن
أستدعي صوت خرير الماء أو زقزقة عصفور
قلبي الذي تعلق بخيط رفيع
على سفح جبل.
الغيمة التي تحترق محاطة بإطار سياقي ضدي " خرير الماء" والأجواء الأخرى: زقزقة عصفور، وسفح جبل، وخيط رفيع يتعلق به القلب. هي أجواء حلمية حيث تتجمع الأشياء البعيدة وربما المتنافرة لتصوغ لقطات حلمية درامية، تتصارع أو تتحاور في الوعي. وهو ما ترنو إليه الشاعرة في اشتغالها النصي.
جغرافيا اللون:
الشاعرة مشغولة في ديوانها بالتأمل، وبما يطرحه الوعي أكثر مما تطرحه قضايا واقعية. يمكن القول: إن المضامين المباشرة غائبة، فالشاعرة تقدم حالة لا تحكي واقعا أو موقف أو أحداث أو مناسبات، لكنها تستقصي أوجاع الذات الشاعرة ونزقها، وعلاقتها بالعالم ليس بكونه قضايا ولكن بوصفه أسئلة وهواجس وتأملات.
وهنا نجد أن تقسيمها الدلالي للديوان ذا العناوين الثمانية هو تقسيم ذاتي فردي، يتعلق برؤية التجربة الفردية، وابتكارها عالمها الخاص.
وإذا كانت الرؤية/ الرؤيا سبيلا أول لقراءة الديوان، فإن الحزن هو السبيل الثاني الباده في نصوص كثيرة. ونحن نقرأ د. سمية عسقلاني لا يفارقنا الحزن أو الشجن الشفيف في مختلف أجزاء الديوان.
إن الزهور والأشجار لم تكف لرسم عالم جمالي بديل يعبر عن الفرح، وكذلك الألوان، ويبقى الشجن والفقد عنوانين كبيرين للدلالة الكلية:
بيني وبينك تنقسم التضاريس
التئام الرمل بالماء لي
ولك الظل
ولي وحدي.. تلة الأحزان./ ص 14
تبدو أفكاري غير مرتبة
وسطوري مرتبكة
لأنني بدونك أيها الحزن
محبرة فارغة. / ص 82
هل تكتمل الذات الشاعرة بأحزانها؟ هل الحزن طريق ضدي للفرح؟ هل هو إيماءة جلية للبحث عن الفرح؟
في عالم الشعر قد تؤخذ الدلالات بضديتها، الكلامُ لا يفضي للمعنى الحقيقي بالضروروة، أو بالأحرى لا يوجد معنى نهائي قانوني، ولكن معنى قلق غير مكتمل، حتى لو سعت الشاعرة للتخلص من أحزانها كما تذكر في مشهد آخر تتخلى فيه عن حزنها وتتركه يبكي.
ولأن عالم النبات الزهور والنباتات والأشجار يقود بطبيعته إلى عالم اللون، شكلت الشاعرة خارطتها اللونية في عدد من النصوص المندرجة تحت عنوان اللون، لكنها تنشدها في التكرار والتجاور أكثر من نشدانها إيها في خلق جديد:" أن يتكرر الغيم، أسهل قليلا من خلق لون جديد" / ص 51
من نص: غير حيادي هو اللون:
تكسّر طعم البرتقال على شفتيّ
غير أن اللون
نجا قليلا من التحريف
بعدما أفسدته الوراثة
سيان أن تقول برتقالي
أو تسقط الشمس في كوب ماء
" برتقالي" لفظة تدعو إلى البهجة المؤقتة
كأن تتذكر حبك القديم
يطفو على السطح كفقاعة
إن أطلت النظر إليها تلاشت
لكنها توشم ذاكرتك
تتورم الحروف على جسدك
متربص بك يمتصها بإسفنجة
ليلمّع بها شفتيه
......
غير حيادي هو اللون
لكن الفرشاة
تحكم قبضتها على الصفحة البيضاء
تطوي السماء
والأرض تبدل قشرتها
مأساة مجرورة بخيط مزركش
ملفوفة بالقرابين
أن يتكرر الغيم
أسهل قليلا من خلق لون جديد
سيان أن تحب أو تكره
أن ترى قمرا يسبح في البحر
أو مطرا ينمو على شاطىء
مرتبة أشياؤك فوق الطاولة
إن أزحتها قليلا
رأيتني خلف الستار / ص.ص 50-51
رمزية الألوان فاعل دلالي تتنسق به العبارات الشعرية، وخلق لون جديد خلق رمزي للأشياءن بيد أن هذا الخلق لا يحدثن إذ تظل الأشياء على ألوانها في ضجر العالم. واللون الثابت هو لون الروح، حيث الفرشاة تحكم قبضتها على الصفحة البيضاء، وفي مشهد دموي آخر يتجلى لكرز بلونه الأحمر، وإذا كان البرتقالي لون الشفق، الذي لا يتجدد لكنه يصبح مدعاة لتذكر حب قديم. هكذا الألوان في رمزيتها تتأدى عند سمية عسقلاني من أجل صناعة صورة، أو من أجل اللعب بالأشياء في سريلة واضحة، كالشمس التي تسقط في كوب ماء تمثيلا.
لواعج القصيدة:
ضمن دلالات الديوان الكثيفة، التي تدرج بين الزهور والنباتات والأشجار والألوان، ثم تدرج إلى معاتبة لزمن ومكابدته عبر تجريد الألم، ومراودة الموت بوصفه الحالة الختامية للزمن، وانتظار مارس كربيع آخر جديد ربما خارج الفصول وضجرها. تعود الشاعرة إلى قصيدتها، القصيدة النخلة العالية التي تهتز بالدلالات الكثيفة، حيث تشكل أجواء القصيدة هدفا دلاليا للشاعرة، وهي حقيقة مؤكدة هذه الكتابة عن القصيدة تومىء إليها لمدونة الشعرية العربية طوال تاريخها، وعلى الأغلب لا يخلو ديوان شعري عربي منجز من الإشارة إلى مسألة الكتابة، وهي ظاهرة تعبيرية لا ريب فيها، ولا تثريب على الشعراء أن يكشفوا فوحم أو مكابدتهم للكتابة الشعرية. الشاعرة تعبر عن ذلك أيضا في قصيدة بعنوان:ط إعادة جديدة لخلق قديم" وتكرر الإشارات للقصيدة في الصفحات 35، 37، 38، 70 وما بعدها. معبرة عن حالة غرام بالقصيدة، التي تكتب على محيط من الصحراء على الصفحة كما تعبر الشاعرة.
تقول الشاعرة في:" إعادة جديدة لخلق قديم":
محيط من الصحراء تبدو صفحتي
هوة تبتلعني
أحكم قبضتي على الحروف
لأخفي تخلخلا واضحا في بنائي الداخلي
أتسلل من قافية الملح
وأوزان الزبرجد
أتبعُ اتكاء الريح
على موجة تائهة
أتناثرُ
ملايين من الذرات
تهوي في ثقوب الرمل
هنا تلتئم الجروح التي
خلفتها انكسارات روحي
على أغصان زهرة يابسة
فتضيق المسافة بين أصابعي
ويتسع المدى / ص 35
بالقصيدة تلتئم الجروح الناجمة عن انكسار الروحن بالقصيدة ينمو عالم آخر أكثر اتساعا، وتذكر نهاية النص بمقولة النفري: " إذا ضاقت العبارة اتسعت الرؤية". القصيدة بحروفها وقوافيها وأوزانها تصبح ملاذا لروح، ومدى يتسع أكثر لجموح هذه الروح وتعبيراتها.
إن الشاعرة بنت عالما داخليا خاصا بها وحدها، رتبته ونسقته، واعتمدت على لمجازات البسيطة، وعلى التشبيهات المتتالية، وتقديم كتل الصورة والمشاهد المكثفة، كما قسمت عالمها إلى ثماني وحدات دلالية، مرقت عبرها في رصد تفاصيل الطبيعة، والألوان، والمونودراما والمونولج، وعبرت عن مكابدات الذات الشاعرة التي لم تتوقف عن البناء وعن التعبير وعن مكاشفة وعيها الداخلي عبر تجليات الكلمات وتوامض الوعي الجمالي في الخلفية الإدراكية للنصوص.
* منقول عن ايلاف
سمية عسقلاني في: خارطة اللون.. قبعة السماء
العلاقة الدلالية البعيدة – مسافةً ومخيلةً – ما بين العشب والغيمة، هي علاقة شعرية بامتياز، لأن الشعر – عبر إبداعيته الجمالية - يجنح دائما إلى تخليق حالة سياقية خصبة ما بين أبعد شيئين، حين يصبو إلى صنع مكون شعري مبدئي، ليس على المستوى المنطقي فحسب ولكن على المستوى التخييلي، وأداته في ذلك تتمثل في تماهي المخيلة في الأداء اللغوي فيما تلوذ الذات الشاعرة بآليات الانفعال والحلم والتأمل لتنتج لنا صورة مشعرنة، هاجسها: الدهشة، ومهادها الوعي الجمالي في كل تبدياته من الكلاسيكية إلى السوريالية.
سمية عسقلاني تضيء هذه الصورة التي قد تبدو في ظاهرها لعبة شعرية معهودة، حيث درج الشعراء على وصف علاقة ما ما بين الأرضي والسماوي.الشاعرة طرحت هنا في تصديرها هذه العلاقة التي لن تنقطع بين العشبة والغيمة، فالعشبة لا تجف، وهذا معناه أن الغيمة في حالة مطر دائم، كأنه إشراق مائي تعبر عنه بالشعاع الذي يثقب الغيمة ليستمطر ما فيها في ظلال هذه الرؤية الكثيفة/ العميقة المٌسريلة معا، تبدع د. سمية عسقلاني في قصيدتها وتقدم لنا هذا الديوان وهو الثالث في تجربتها الشعرية بعد:" البوح المكنون" و" وجه في دفتر الأبدية". وهي في هذا الديوان تركز على جملة من المبادىء الجمالية التي تنطلق منها لتشكيل تجربتها في هذا الديوان تتآلف كالتالي:
- التقشف في البنية اللغوية، حيث لا استطراد، ولا توصيف، بل تكثيف وتجريد كلما أمكن ذلك.
- التركيز على الدالة التي تشكل بنية النص القصير، واستقصاء علاقاتها مع الدوال القريبة الأخرى.
- دمج الوعي الشعري بحالة النص وحده، دون اعتبارات للنظر خارج النص. النص هو واقعه، ولا شيء آخر خارجه.
- ترتيب بنية الديوان بحيث تنتظم بشكل متسلسل في وحدات دلالية ثمان تشكل فضاء الديوان دلاليا.
- تحميل النصوص بطبقات من المعاني، مع وضع بعض اللمسات التناصية أحيانا التي تزيد من عمق النصوص.
إن الشاعرة تقدم في ديوانها، وحدة دلالية مرصودة من أول الديوان لآخره، فثمة انتظام وترتيب، وثمة وعي شكلي يحدق بالكلمات، ويقدمها من خلال هذه الوحدة التي تتألف من ثمانية عناوين هي: الزهرة، الشجرة، الجغرافيا، القصيدة، اللون، التاريخ، الحب، الزمن. هذا العناوين هي الناظم الدلالي الذي تندرج تحته نصوص مكثفة، قد تطول أحيانا لتتنسق فيها استقصاءات وعلاقات سياقية جديدة.
وفق هذا فإن الديوان ينتظم في بنية موحدة، ثمانية عناوين، ونصوص تندرج تحتها، وكأنها تجدد بها أسطرة الأسماء أسطرة شعرية، وهي لا تحد في وحدة جزئية، ولكن في وحدة كلية تبحث فيها الشاعرة عن أسئلتها وعن محاولا تثبيت يقينها بالأشياء.
والهدف الأولي الذي تستهل به الشاعرة دلالات ديوانها يتمثل في الرؤية/ الرؤيا، في "صولو الريحان" تقول:
مغمضة العينين
أحدق في الدوائر الصفراء التي تتوالد في سكون
تحمني إلى سراديب العتمة المطبقة
منذ وضعت يديك على جفوني
استبدلت بمفردة الدهشة الخوفَ
تسربلتُ في وشاح الشجن
لأنني رأيت. / ص 9
الرؤية/ الرؤيا ملاذ أول. الشاعرة تهرب من شجنها الذي تتسربل به. الشاعرة التي تفيض دلالاتها بحزن ما وضجر ما من الواقع، تنهمك في رصد أسئلتها وتأملاتها، فتغني أكثر وتستعير من عالم الموسيقى، وعالم اللون أجواءها، فمن صولو الريحان إلى سوناتا الياسمين ثم القرنفل. تتعزز الرؤيا بهذه الأجواء لتكون أكثر جمالا، أو لتشكل بوحها الجميل لمخايل.
وهنا تتكرر الرؤية دون العينين في مشهد آخر:
لست نادمة على شيء
ولا حزينة
ولست سعيدة على الإطلاق
أنا أنظر إلى العالم بعينين مغمضتين. / ص 21
سيكون إذن التأمل اللا مرئي، الرؤية عبر الإغماض أكثر عمقا ودهشة، لأن الرؤية/ الرؤيا هنا ستتم من خلال الوعي، والاستبطان لا من خلال رصد الأشياء المحسوسة. الأشياء هنا تُعقل لا تحس وتلمس. وهنا تتساوى المتضادات، وتتلاقى وتتطابق، وفي هذه المساواة يمكن تخليص الأشياء من دلالاتها المعهودة ليتم صنعها من جديد ومساءلتها سياقيا.
لتصل في صفحة (81) من الدوان إلى المشهد الرائي الذي يتم عبر الحلم:
حلم قديم رأيتُ به غيمة تحترق
أرقني جدا أن أتذكره فجأة
أخشى أن تدخلني الذكرى في دائرة الحزن
أستدعي صوت خرير الماء أو زقزقة عصفور
قلبي الذي تعلق بخيط رفيع
على سفح جبل.
الغيمة التي تحترق محاطة بإطار سياقي ضدي " خرير الماء" والأجواء الأخرى: زقزقة عصفور، وسفح جبل، وخيط رفيع يتعلق به القلب. هي أجواء حلمية حيث تتجمع الأشياء البعيدة وربما المتنافرة لتصوغ لقطات حلمية درامية، تتصارع أو تتحاور في الوعي. وهو ما ترنو إليه الشاعرة في اشتغالها النصي.
جغرافيا اللون:
الشاعرة مشغولة في ديوانها بالتأمل، وبما يطرحه الوعي أكثر مما تطرحه قضايا واقعية. يمكن القول: إن المضامين المباشرة غائبة، فالشاعرة تقدم حالة لا تحكي واقعا أو موقف أو أحداث أو مناسبات، لكنها تستقصي أوجاع الذات الشاعرة ونزقها، وعلاقتها بالعالم ليس بكونه قضايا ولكن بوصفه أسئلة وهواجس وتأملات.
وهنا نجد أن تقسيمها الدلالي للديوان ذا العناوين الثمانية هو تقسيم ذاتي فردي، يتعلق برؤية التجربة الفردية، وابتكارها عالمها الخاص.
وإذا كانت الرؤية/ الرؤيا سبيلا أول لقراءة الديوان، فإن الحزن هو السبيل الثاني الباده في نصوص كثيرة. ونحن نقرأ د. سمية عسقلاني لا يفارقنا الحزن أو الشجن الشفيف في مختلف أجزاء الديوان.
إن الزهور والأشجار لم تكف لرسم عالم جمالي بديل يعبر عن الفرح، وكذلك الألوان، ويبقى الشجن والفقد عنوانين كبيرين للدلالة الكلية:
بيني وبينك تنقسم التضاريس
التئام الرمل بالماء لي
ولك الظل
ولي وحدي.. تلة الأحزان./ ص 14
تبدو أفكاري غير مرتبة
وسطوري مرتبكة
لأنني بدونك أيها الحزن
محبرة فارغة. / ص 82
هل تكتمل الذات الشاعرة بأحزانها؟ هل الحزن طريق ضدي للفرح؟ هل هو إيماءة جلية للبحث عن الفرح؟
في عالم الشعر قد تؤخذ الدلالات بضديتها، الكلامُ لا يفضي للمعنى الحقيقي بالضروروة، أو بالأحرى لا يوجد معنى نهائي قانوني، ولكن معنى قلق غير مكتمل، حتى لو سعت الشاعرة للتخلص من أحزانها كما تذكر في مشهد آخر تتخلى فيه عن حزنها وتتركه يبكي.
ولأن عالم النبات الزهور والنباتات والأشجار يقود بطبيعته إلى عالم اللون، شكلت الشاعرة خارطتها اللونية في عدد من النصوص المندرجة تحت عنوان اللون، لكنها تنشدها في التكرار والتجاور أكثر من نشدانها إيها في خلق جديد:" أن يتكرر الغيم، أسهل قليلا من خلق لون جديد" / ص 51
من نص: غير حيادي هو اللون:
تكسّر طعم البرتقال على شفتيّ
غير أن اللون
نجا قليلا من التحريف
بعدما أفسدته الوراثة
سيان أن تقول برتقالي
أو تسقط الشمس في كوب ماء
" برتقالي" لفظة تدعو إلى البهجة المؤقتة
كأن تتذكر حبك القديم
يطفو على السطح كفقاعة
إن أطلت النظر إليها تلاشت
لكنها توشم ذاكرتك
تتورم الحروف على جسدك
متربص بك يمتصها بإسفنجة
ليلمّع بها شفتيه
......
غير حيادي هو اللون
لكن الفرشاة
تحكم قبضتها على الصفحة البيضاء
تطوي السماء
والأرض تبدل قشرتها
مأساة مجرورة بخيط مزركش
ملفوفة بالقرابين
أن يتكرر الغيم
أسهل قليلا من خلق لون جديد
سيان أن تحب أو تكره
أن ترى قمرا يسبح في البحر
أو مطرا ينمو على شاطىء
مرتبة أشياؤك فوق الطاولة
إن أزحتها قليلا
رأيتني خلف الستار / ص.ص 50-51
رمزية الألوان فاعل دلالي تتنسق به العبارات الشعرية، وخلق لون جديد خلق رمزي للأشياءن بيد أن هذا الخلق لا يحدثن إذ تظل الأشياء على ألوانها في ضجر العالم. واللون الثابت هو لون الروح، حيث الفرشاة تحكم قبضتها على الصفحة البيضاء، وفي مشهد دموي آخر يتجلى لكرز بلونه الأحمر، وإذا كان البرتقالي لون الشفق، الذي لا يتجدد لكنه يصبح مدعاة لتذكر حب قديم. هكذا الألوان في رمزيتها تتأدى عند سمية عسقلاني من أجل صناعة صورة، أو من أجل اللعب بالأشياء في سريلة واضحة، كالشمس التي تسقط في كوب ماء تمثيلا.
لواعج القصيدة:
ضمن دلالات الديوان الكثيفة، التي تدرج بين الزهور والنباتات والأشجار والألوان، ثم تدرج إلى معاتبة لزمن ومكابدته عبر تجريد الألم، ومراودة الموت بوصفه الحالة الختامية للزمن، وانتظار مارس كربيع آخر جديد ربما خارج الفصول وضجرها. تعود الشاعرة إلى قصيدتها، القصيدة النخلة العالية التي تهتز بالدلالات الكثيفة، حيث تشكل أجواء القصيدة هدفا دلاليا للشاعرة، وهي حقيقة مؤكدة هذه الكتابة عن القصيدة تومىء إليها لمدونة الشعرية العربية طوال تاريخها، وعلى الأغلب لا يخلو ديوان شعري عربي منجز من الإشارة إلى مسألة الكتابة، وهي ظاهرة تعبيرية لا ريب فيها، ولا تثريب على الشعراء أن يكشفوا فوحم أو مكابدتهم للكتابة الشعرية. الشاعرة تعبر عن ذلك أيضا في قصيدة بعنوان:ط إعادة جديدة لخلق قديم" وتكرر الإشارات للقصيدة في الصفحات 35، 37، 38، 70 وما بعدها. معبرة عن حالة غرام بالقصيدة، التي تكتب على محيط من الصحراء على الصفحة كما تعبر الشاعرة.
تقول الشاعرة في:" إعادة جديدة لخلق قديم":
محيط من الصحراء تبدو صفحتي
هوة تبتلعني
أحكم قبضتي على الحروف
لأخفي تخلخلا واضحا في بنائي الداخلي
أتسلل من قافية الملح
وأوزان الزبرجد
أتبعُ اتكاء الريح
على موجة تائهة
أتناثرُ
ملايين من الذرات
تهوي في ثقوب الرمل
هنا تلتئم الجروح التي
خلفتها انكسارات روحي
على أغصان زهرة يابسة
فتضيق المسافة بين أصابعي
ويتسع المدى / ص 35
بالقصيدة تلتئم الجروح الناجمة عن انكسار الروحن بالقصيدة ينمو عالم آخر أكثر اتساعا، وتذكر نهاية النص بمقولة النفري: " إذا ضاقت العبارة اتسعت الرؤية". القصيدة بحروفها وقوافيها وأوزانها تصبح ملاذا لروح، ومدى يتسع أكثر لجموح هذه الروح وتعبيراتها.
إن الشاعرة بنت عالما داخليا خاصا بها وحدها، رتبته ونسقته، واعتمدت على لمجازات البسيطة، وعلى التشبيهات المتتالية، وتقديم كتل الصورة والمشاهد المكثفة، كما قسمت عالمها إلى ثماني وحدات دلالية، مرقت عبرها في رصد تفاصيل الطبيعة، والألوان، والمونودراما والمونولج، وعبرت عن مكابدات الذات الشاعرة التي لم تتوقف عن البناء وعن التعبير وعن مكاشفة وعيها الداخلي عبر تجليات الكلمات وتوامض الوعي الجمالي في الخلفية الإدراكية للنصوص.
* منقول عن ايلاف
سمية عسقلاني في: خارطة اللون.. قبعة السماء