فيلسوف وعالم اجتماع وأحد مُؤسِّسي النظرية النقدية ﻟ «مدرسة فرانكفورت» وروادها من الجيل الأول.
وُلِدَ في مدينة أشتوتجارت سنة ١٨٩٥م، ودرس في جامعة فرانكفورت التي حصل منها على الدكتوراه سنة ١٩٢٢م، وعلى الدكتوراه المؤهلة للتدريس الجامعي سنة ١٩٢٥م، وعُيِّنَ بها في وظيفة مُدرِّس للفلسفة الاجتماعية من ١٩٢٦م إلى ١٩٣٠م، ووظيفة أستاذ من ١٩٣٠م إلى ١٩٣٣م. تولَّى سنة ١٩٣٠م إدارة «معهد فرانكفورت للبحث الاجتماعي» الذي ضمَّ مُمَثِّلي النظرية، كما أسَّسَ مجلته «مجلة البحث الاجتماعي» وأشرف على تحريرها من سنة ١٩٣٠م حتى توقُّفها عن الظهور في سنة ١٩٤٠م. هاجر إلى سويسرا ومنها إلى الولايات المتحدة الأمريكية سنة ١٩٣٤م بعد استيلاء النازيين على مقاليد السلطة في ألمانيا، وهناك أقام معهد البحث الاجتماعي في جامعة كولومبيا بمدينة نيويورك مع بعض أعضاء «مدرسة فرانكفورت» الذين هاجروا معه أو لحِقُوا به، مثل صديق عُمره «تيودور أدورنو» الذي ارتبط اسمه به واشترك معه في بحوث المعهد السابق الذِّكْر وفي تأليف أهم كِتاب معبِّر عن النظرية النقدية وهو «جدل التنوير». رجع إلى جامعة فرانكفورت سنة ١٩٤٩م، وأعاد تأسيس المعهد والإشراف عليه حتى سنة ١٩٥٨م، كما تولَّى منصب مدير الجامعة من ١٩٥١م إلى ١٩٥٣م، ثم أُحِيل إلى التقاعد فخَلَفَه أدورنو في إدارة المعهد، ورجع للولايات المتحدة الأمريكية للعمل أستاذًا زائرًا بجامعة شيكاغو من سنة ١٩٥٤م إلى سنة ١٩٥٩م. كَرَّمَتْه مدينة فرانكفورت بميدالية «جوته» سنة ١٩٥٣م، كما أهدته مدينة أشتوتجارت — مسقط رأسه — ميدالية المواطن سنة ١٩٧٠م، ومنحته مدينة هامبورج جائزة ليسينج سنة ١٩٧١م، إلى أنْ حَضَرَه الموت في مدينة نورمبرج سنة ١٩٧٣م.
عُرِفَ هوركهيمر بفلسفته وتنظيره النقدي الاجتماعي بجانب رئاسته لمعهد فرانكفورت السابق الذكر (الذي سُمِّي فيما بعد بالمعهد الدولي للبحث الاجتماعي) من عام ١٩٣٠م إلى عام ١٩٥٨م. ونبدأ بالحديث عن تطوُّر تفكيره وكتاباته التي كان لها تأثير ملحوظ على حركة اليسار الجديد في الستينيات، وبخاصة في أوساط الشباب والطُّلاب في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية، فقد وُلِدَ لأبٍ يهودي من أصحاب الأعمال الأثرياء، ولكنه اتَّجه منذ شبابه الباكر إلى الاهتمام بالثقافة وتوظيفها في نقد المجتمع البرجوازي والرأسمالي الذي نشأ فيه، وقد ظهر اتجاهه النقدي في رسالته للدكتوراه التي وضعها عن كتاب نقد مَلَكة الحكم لكانط، بوصفه حلقة الوصل بين فلسفته النظرية وفلسفته العملية (نُشِرَت سنة ١٩٢٥م في مدينة أشتوتجارت)، كما بدأ التزامه بالماركسية منذ أن كان طالبًا وتوَثَّقت علاقته بصديق عمره «فريدريش بولوك» الذي كان من أنشط أعضاء «المعهد»، وتميَّزَ ببحوثه التي نشرها في مجلته في ميدان الاقتصاد السياسي، ولا بدَّ هنا من القول بأن «بولوك» كان الوحيد من بين أعضاء «المدرسة» و«النظرية» في تقيُّدِه بأصول الماركسية التقليدية في بحوثه، وإن سائر أعضائها — وعلى رأسهم هوركهيمر نفسه وأدورنو — لم تَبرُز لديهم هذه الأصول والعناصر التقليدية (المادية التاريخية والجدلية، والبنية التحتية والفوقية، والحتمية الاقتصادية وحتمية التقدُّم، والصراع الطبقي، ودور الطبقة العاملة أو البروليتاريا في قيادة وإحداث التغيير الاجتماعي الثوري) إذ استخدموها جميعًا بطريقة عامة وبمفهوم مختلف عن مفهومها الحرفي. وعلى الرغم من حرصهم على أن يُوصَفوا بأنهم ماركسيون، فإن ماركسيتهم «الجديدة» لم تَكَدْ تحتفظ من الماركسية بغيرِ المضمون التنويري والطاقة المنهجية — النَّقدية الجَدَليَّة — على تحليل الواقع الاجتماعي السائد تحليلًا علميًّا وعمليًّا بعيدًا عن التحليل النظري والفكري المجرَّد الذي سارت عليه المذاهب المثالية والفلسفات الاجتماعية التقليدية، وعن التحليل «الوضعي» الذي يدَّعِي العِلْمِيَّة في نظرته للعلاقات البشرية وكأنها علاقات بين أشياء أو ظواهر موضوعية وطبيعية خاضعة للتحكم والقياس، بُعدها في الوقت نفسه عن الانخراط في الممارسة السياسية العملية، وتحفُّظها إزاء النشاط الحزبي المحدد (لا سيما بعد فشل الثورة الشيوعية الألمانية في العشرينيات، ويأسهم من الأحزاب الاشتراكية الأوروبية التي تهاونت أو تواطأت مع السلطة البرجوازية الحاكمة، واكتشافهم في النهاية تعثُّر ثورة أكتوبر الرُّوسية وتجربتها الشيوعية بعد التصفيات المشهورة على عهد استالين، واختناقها بالبيروقراطية وشمولية الدولة والحزب).
يُضَاف لما سبق عامل آخر يميِّز كتابات هوركهيمر، كما يميِّز كتابات صديقه تيودور أدورنو، فهذه الكتابات الفلسفية والاجتماعية النقدية تَسرِي فيها الحساسية الفنية وتغلب عليها روح الفنان وضمير الأديب أكثر من عقلانية العالم وموضوعيَّته، يدلُّ على هذا أنه ظلَّ طوال حياته مُتأثرًا بتشاؤُم شوبنهاور الذي قرأه في شبابه، وأنه تأثَّرَ بعد ذلك أو اقترب على الأقلِّ من فلاسفة يمكن وصفُهم بأنهم ذاتيُّون أو جماليُّون أو إنسانيُّون، مثل نيتشه ودلتاي وفرويد وبرجسون (الذي التقى به في باريس في طريقه إلى المهجر بالولايات المتحدة الأمريكية، وكتب بحثًا عن ميتافيزيقا الزمان عنده يُعَد من أفضل بحوثه)، فضلًا عن نفوره من «المذهبية» و«النَّسَقيَّة»، وإيثاره في بعض كتاباته الهامَّة لأسلوب الحِكَم والتأمُّلات المُوجَزَة الذي يتجلَّى في ملاحظاته عن ألمانيا التي نشَرَها عام ١٩٣٤م في زيوريخ تحتَ عنوان «الفجر» باسمٍ مُستعار هو هينريش ريجبيوس، قبل أن يتوسَّع فيها ويضيف إليها ملاحظات أخرى عن السنوات التي عاشها بين عامي: ١٩٥٠م و١٩٦٩م (نُشِرَت في فرانكفورت سنة ١٩٧٤م وظهرت ترجمتها الإنجليزية الكاملة في نيويورك سنة ١٩٧٩م تحت عنوان فجر وتدهور)، وكل هذا مع غضِّ النظر عن سلسلة الروايات التي يُقَال إنه كتَبَها في شبابه ولم تَرَ النور أبدًا، وعن الأقَاصِيص واليوميَّات التي نُشِرَت بعد موته تحت عنوان «من فترة المراهقة» (نُشِرَت سنة ١٩٧٤م).
شارك هوركهيمر — كما سبق القول — مشاركة فعالة في تأسيس معهد فرانكفورت للبحث الاجتماعي والنظرية النقدية المعبِّرة عنه، بجانب تولِّيه إدارته والإشراف على مجلته التي تابعت نشر دراسات أعضائه ودراسات غيرهم من الباحثين البارزين (مثل رايموند آرون وإريش فروم وفالتر بنيامين وأدورنو وإرنست كرينيك وفريدريش بولوك وهربرت ماركوز وليو لوفنتال … إلخ)، وقد كان الهدف من المعهد والمجلَّة في بداية أمرهما هو الاهتمام بدراسة تاريخ الحركة العمالية الألمانية والتحليل الاجتماعي النقدي القائم على أسس ماركسية عامة والمتأثر — بوجه خاص — بكتابات جورج لوكاتش، ومن أهمها التاريخ والوعي الطبقي، وكتابات كارل كورش عن الماركسية والفلسفة والإنتاج الرأسمالي وظروفه وعلاقاته السلبية. ومع أواخر العشرينيات ازداد توجُّه أعضاء المعهد نحو بناء فلسفتهم الاجتماعية وتأسيس نظريَّتهم النقدية للثقافة الرأسمالية عامةً، واقترن هذا الاتجاه بتزايد تحفُّظهم من الانخراط في السياسة العملية والممارسة الثورية التي ظهر لهم تخبُّطها وفشلها كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
بدأ هوركهايمر سنة ١٩٣٠م في نشر سلسلة مقالاته بمجلة المعهد (وقد جُمِعَت بعد ذلك في مجلدين، وقام الأستاذ ألفرد شميت بنشرها تحت عنوان النظرية النقدية، وظهرت لدى الناشر فيشر في فرانكفورت عام ١٩٦٨م، كما صدرت ترجمتها الإنجليزية لدى الناشر هيردر في نيويورك عام ١٩٧٢م)، وتناولت هذه المقالات موضوعات متفرِّقة كالسلطة والعائلة والمادية الجدلية والثقافة الجماهيرية والوضعية المنطقية، وبقِي الخطُّ الفكري الذي يَنْتَظِمُها هو تحديد النظرية النقدية بوصفها نقد الأيديولوجية (المنظومة الفكرية) السائدة ونفِيها أو سلبها، في سبيل مجتمع عقلاني وإنساني حر، ثم نشر أربع مقالات أخرى في سنة ١٩٣٧م تحت عنوان النظرية التقليدية والنظرية النقدية (جُمِعَت وصدرت في فرانكفورت سنة ١٩٧٠م)، وقد استطاع هوركهيمر في هذا الكتاب أن يستكمل بناء منهجه النقدي الخصب، وأن يعقد مقارنة مُفَصَّلة بين المحاولات التي بُذِلَت في الفلسفة الحديثة لتفسير الواقع من خلال الأنظمة أو الأنْسَاق الميتافيزيقية النظرية التأمُّلية، وبين المشروع النقدي ﻟ «النظرية النقدية» التي تتَّخذ موقف السلب أو النفي للواقع الاجتماعي السائد، وتُحاول التعبير عن أشواق الناس «الخَفيَّة» وعن حاجاتهم «الحقيقية» التي لم يُكْتَب لها التَّحقُّقُ. ويؤكد هوركهيمر — بنغمة ظاهرة التأثُّر بأفكار لوكاتش الأساسية في كتابه الشهير عن التاريخ والوعي الطبقي — أن انفصال النظريات التقليدية في الفكر والعلم والفلسفة عن الواقع المادي أمر واضح للعيان، وأن سقوط الفكر الحديث في هذا النوع من خداع الذات هو في الحقيقة صورة من صُور التواطؤ مع أشكال القهر والقمع التي تمارسها الأنظمة والمؤسسات الاجتماعية. والظَّاهر أنه اقتنع في هذه الفترة بأن الطبقة العاملة (البروليتاريا) لم يَعُد من الممكن اعتبارها «الحامل التاريخي» للوعي التقدُّمي والثوري لمجرد دورها في العملية الإنتاجية، وأنه يئس من قدرة هذه الطبقة على إحداث التَّغيير الاجتماعي الجِذري، بعد أن تبيَّنَ عجزها حِيَال زحف البربرية النازية التي اكتسحت المجتمع الألماني وقبضت على زمام السلطة، والظاهر أيضًا أن بداية انحِصَار جهود النظرية النقدية في تَعْرِيَة «الشروط» الاجتماعية الفاسدة، والكشف عن نماذج الوعي الفردي والجماعي الزائف في ظلِّ الأنظمة الشمولية التسلطية، قد بدأ أيضًا في هذه الفترة التي أدرك فيها هوركهيمر — مع معظم أعضاء معهد فرانكفورت والمدرسة النقدية الاجتماعية — غياب العنصر البشري القادر على تحقيق الحرية والعقل والسعادة.
هكذا نجد النظرية النقدية — باتِّجاهها «السالب» للنظريات التقليدية — تتحول بالتدريج إلى حركة تنوير جديدة، يَنبُع التزامها بالتغيير الاجتماعي — على حدِّ تعبير هوركهيمر — من طبيعتها نفسها وليس مجرد إضافة معرفية إليها، كما تذَكِّرنا في الوقت نفسه بأن حركات التنوير كانت دائمًا تُقاوم الظلم السائد وتُشارك بدور فعَّال في القضاء عليه. وقد تمثَّل هذا في كتاب «جدل التنوير» الذي اشترك هوركهيمر مع صديقه أدورنو في تأليفه أثناء فترة الأربعينيات التي أمضياها في مهجرهما في نيويورك، (وقد ظهر لأول مرة بعنوان شذرات فلسفية سنة ١٩٤٤م عن معهد البحث الاجتماعي في مقره الجديد بهذه المدينة الأخيرة قبل مراجعته وصدوره بالعنوان السابق في أمستردام سنة ١٩٤٧م، ثم ترجمته للإنجليزية سنة ١٩٧٢م).
ينتقد هذا الكتاب مفهوم التقدُّم التاريخي الذي تؤمن الماركسية بحتميَّتِه كما ينطوي مفهوم التنوير نفسه عليه؛ ففيه يذهب المؤلفان إلى أن «العقلنة» المتزايدة للعلاقات الاجتماعية في العصر الحديث قد أدَّت إلى تناقص استقلال الفرد، بحيث أفضت في النهاية إلى فظائع النزعة الشمولية ومعاداة الساميَّة، وجعلت الرأسمالية — التي تعدُّ النازية ذروة تطورها — تحوِّل مُثُل التنوير المعروفة إلى الواقع المُخيف الذي تجسَّدَ في معسكرات الاعتقال.
وتُفرِّقُ النظرية النقدية هنا بين نَمَطيْن للعقل؛ فالأول تنويري وتحريري، يقوم على أفكار الثورة الفرنسية وقِيَمها ومُثُلها في العدالة والحرية والسعادة والإخاء والسلام. أما الثاني فهو نقيضُ الأول، وقد أخذ المؤلفان تسميتَه ﺑ «العقل الأداتي» من الفيلسوف الاجتماعي ماكس فيبر، وزعَمَا أنه يُستغل لتحقيق أهداف السيطرة والتسلط الشمولي في استعباد الفرد واحتواء وعيه لصالح السلطة المُتحكمة، ويُلقِي «جدل التنوير» الأضواء على هذا العقل «الأداتي» المُتَمثِّل في التفكير العقلي والتِّقَني السائد في الصناعة والإدارة الحديثة بما يخدم السيطرة والتسلُّط لا التحرير والتحرُّر. وقد كانت النتيجة أنْ تَدَهْوَر التنوير — بمعناه المعروف في التراث العقلي والعلمي الغربي — وأصبح نَبْعًا مَسمومًا تَغْتَرف منه إرادة التحكُّم والاستعباد، وتحوِّل العقل — في التفكير الوضعي بوجه خاص — إلى أداة للسيطرة الكلية على الطبيعة والإنسان.
بَيْدَ أن العقل «الأداتي» كانت تكمن فيه بذور انهياره التي تولَّدت عنها النَّزَعات الشمولية والاستبدادية، وبذلك دمر التنوير نفسه وانتهى إلى البربرية. ولم تأتِ هذه البربرية من أعداء الحضارة الإنسانية، ولا من قوى خارجية، بل جاءت من العقل نفسه، ومن ثَمَّ لم تكن النزعة الشمولية والتسلطية في النظم المُخْتلفة وليدةَ اتجاهات لا عقلية، وإنما نشأت عن «التنوير» الضارب بجذوره في العصر الأسطوري وفي منطقِ أرسطو وذاتيَّة ديكارت، بحيث لم تكن إلا النتيجة النهائية لأصول شكلية وأداتية كامنة في عقلانيته التي فتَّتَت الطبيعة إلى موضوعات وذرَّاتٍ منفصلة لتُحكِم سيطرتها عليها، وتحكَّمت في عالم الفرد وأخضَعَتْه لمقاييسها الكمِّيَّة ومؤسساتها الإدارية والبيروقراطية وأجهزة دعايتها وتصنيع ثقافتها الجماهيرية؛ ولذلك فإن عمرها أطول من عمر الرأسمالية وسائر النظم التسلُّطيَّة.
من الواضح أن هذه الاتهامات الموجَّهة للتنوير والعقل الأداتي — على لسان هوركيهمر وأدورنو وماركوز — كان ينبغي أن توجَّه لتطبيقاته التِّقَنية الفاسدة وممارساته غير الإنسانية. وكان المُتوقَّع أن يُعاد توجيه العقل الأداتي بما يتفق مع أهداف العقل التَّحرُّري، ولكن أصحاب النظرية النقدية مَضَوا في نقدِهم للعقل الأداتي إلى النهاية، وجسَّدوه في صورة عملية فكرية وعلمية وتقنية هائلة استَقلَّت بنفسها وبأهدافها التي تصبُّ في السيطرة والتسلُّط الشامل على الطبيعة والإنسان. بذلك أتمَّ العقل في رأيهم تصفية نفسه، وأصبح الفرد وحيدًا في مواجهة قوى لا عقلية قاهرة، تمثلت له في صورة أعتى أعدائه: التقنية والبيروقراطية. وكلما تزايدت الجوانب السلبية للعقلانية الأداتية ضَعُفَ أمَلُهم في المستقبل، وتركزت جهودهم في مرحلتهم الأخيرة في نقد الثقافة السائدة، بكلِّ عناصرها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفنية والأدبية، وقَصَرُوا مهمة الفلسفة أو وظيفتها الاجتماعية — على حدِّ تعبير هوركهيمر في كتاب ضمَّ مقالًا هامًّا تحت هذا العنوان مع مقالات أخرى — على تحرير الإنسان وتمكينه من مقاومة الواقع السائد وعدم الاستسلام لقِيَمِه التي تصوِّر له «النظم» أنها أبديَّة راسخة، وعلى تشخيص مرض العصر وعلاجه. ولم يكن هذا المرض المستشري في النظامين الشموليَّيْن المُعاصِرَيْن — الرأسمالية والشيوعية — غير التسلُّطية التي تُبرر نفسها تبريرًا عقلانيًّا (فكريًّا وفلسفيًّا وعلميًّا)، وتحتوي وعْيَ الفرد والجماعة وطاقَتَهما لتسويغ أوضاعها التي تجرد الإنسان من الوجود الحر المستقل، والحياة المباشرة الحميمية المبدعة.
والحق أن هوركهيمر وزملاءه لم يكفُّوا عن السعي إلى التغيير الجذري للمجتمع، ولم يفقدوا الأمل في مجتمع إنساني أفضل، على الرغم من ضياع ثِقَتهم بالعمل والممارسة الثورية التي تَبيَّن لهم إخفاق الجهات والأحزاب السياسية القائمة بها، ومن غَلَبَة التَّشاؤُم القائم على كتاباتهم الأخيرة بصورة تُوحي للقارئ بأنها تَنبُع من رؤية مأسوية للتاريخ الاجتماعي البشري، جعلتهم ينظرون إليه باعتباره تاريخ العذاب والظلم والشر المُلازم لطبيعة الإنسان، كما أشرنا إلى ذلك من قبل.
ولكن هذا الحسَّ الفاجع لم يمنعهم في مرحلة تطوُّرهم الأخيرة من وضع آمالهم في تحقيق نوع من «اليوتوبيا» أو الفردوس «المفقود» الذي يَستعيد فيه البشر إنسانيتهم، ويتخلَّصُون من التَّشيُّؤ والاغتراب، ويتخفَّفُون من أحمال الظلم والشقاء، وذلك دون إفراط في التفاؤل والأمل اللذين أسرف فيهما معاصرهما الفيلسوف اليوتوبي الكبير إرنست بلوخ، ولهذا لا نَعْجَب من رجوعهم إلى البدايات التي أثَّرت عليهم في مطلع حياتهم، وتحوُّلهم في النهاية إلى نزعة شبيهة بتلك التي نَجِدُها في فلسفة الحياة والحركة التعبيرية والرومانتيكية الجديدة. وها نحن نجد هوركهيمر يعود إلى تشاؤم شوبنهور الذي أثَّر عليه في مطلع حياته ويعكف في سويسرا — بعد تقاعُدِه وسفره إليها مع صديقه بولوك سنة ١٩٥٨م — على كتابة بعض المقالات عنه وعن ماركس، كما يدوِّن عددًا من حِكَمِه وتأمُّلاته ويوميَّاته التي يقول في إحداها تحت عنوان «النظرية النقدية»: «إن تحريم اليهود لتصوير الله، أو تحريم كانط للضَّلال في عالم الحقائق في ذاتها، لَدَليل على اعترافهما بالمُطلق الذي يَستحيل تحديده. ويصدق هذا أيضًا على النظرية النقدية عندما تُقَرِّر أن الشر — وبخاصة في المجال الاجتماعي، وكذلك أيضًا في الأفراد — يمكن تحديد هويته، على العكس من الخير الذي يتعذَّر ذلك بالنسبة له. إن التحليل النقدي للمجتمع يشير إلى الظلم الغالب عليه، ومحاولة الانتصار على هذا الظلم قد أدَّت باستمرار إلى قدْرٍ أعظمَ من الظلم. وتعذيب شخص إلى حد الموت هو بكل بساطة نوبة غضب، أما إنقاذه — إن كان ذلك مُمكنًا — فهو واجب إنساني. وإذا شاء أحد أن يُعَرِّف الخير بأنه محاولة القضاء على الشرِّ، فإن ذلك معناه أن تحديده أمرٌ ممكن، وهذا هو الدرس الذي تُعلِّمُه النظرية النقدية …» (عن كتابه ملاحظات عن السنوات من ١٩٥٠–١٩٦٩م الذي نُشِرَ في عام ١٩٧٤م). إن نغَمَة التشاؤم التي تسري في النص السابق تكاد تنطق بأن شقاء الإنسان شيء كامن في وجوده وماهِيَّتِه، فهو لم يأت نتيجة تطورات تاريخية معينة، ولن ينتهيَ بانتهاء الفاشيَّة والرأسمالية والشيوعية. ولا بدَّ أن اتجاه هوركهيمر وزملائه — وفي مقدمتهم أدورنو — إلى السلب الجِذري والنفي الحاسم لكل الأوضاع القائمة، قد أدَّى بهم إلى الإغراق في الاكتئاب إلى حد العدميَّة (باستثناء أشعة أمل واهِنة في مجتمع أفضل قد يتحقق في المستقبل، وبُروق رجاء أو عزاء خطفت أبصارهم من الأعمال الفنية والأدبية العظيمة …) ولذلك يمكن أن تَصْدُق عليهما كلمة صديقهما الناقد الأدبي «فالتر بنيامين» عن اليساريين ذوي الاتَّجاهات اللاعقلية المُتطرِّفة عندما وصفهم بأنَّهم يمثِّلون اليسار المُكتئِب. وكأن الفلسفة قد أضاعت فرصة تَحَوُّلِها إلى ثورة لتغيير العالم كما أراد لها ماركس، فصارت مُهمَّتها الوحيدة مهمةً نقديةً نظرية تنحصر في توعية الناس بأن العالم لم يتغير بعدُ، وفي إعلان احتجاجها على الأوضاع القائمة، وتسمية الأشياء بأسمائها، وتمزيق أقنعة اللاعقل، والتعبير عن عذابات الإنسان مع التشبُّث بكلِّ بذرة أمل يمكن العثور عليها، وكأن لم يبق للفلسفة — في شعورها العميق بعجزها ويأْسِها — إلا أن تَسلب الواقع الفاسد وتتَّهِمه، وتصرَّ على مقاومتها الباسلة له، وتكون بمثابة جزيرة للمقاومة وسط محيط التسلُّط الذي يُغرق كل شيء. وقد كانت هذه هي النهاية الطبيعية للمثقَّفِ الماركسي «البرجوازي» ومشروعه الثوري الذي لم يتجاوز الحدود الفردية والنظرية إلى العمل والممارسة الجماعية، ولعلَّ هذا أن يكون هو سر القطيعة التامة بين أصحاب النظرية النقدية من مدرسة فرانكفورت وبين حركة الطلاب المُتَمرِّدين الذين ثاروا في سنة ١٩٦٨م على كل أشكال السلطة؛ فقد أخذوا عنهم الدَّوافع الثورية، وافتقدوا «دليل العمل» الذي كان عليهم أن يَهتَدُوا إليه بأنفسهم؛ ولذلك صُدِمَ «هوركهيمر» و«أدورنو» صدمة عميقة عندما وجَدَا الطلاب يهاجمونهما شخصيًّا، وعَرَفا أن الشباب الذين علَّقُوا عليهم أملهم الوحيد في التغيير الاجتماعي قد خذلُوهُما ورفضوهُمَا.
....................
المصدر: النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت: تمهيد وتعقيب نقدي، عبد الغفار مكاوي
وُلِدَ في مدينة أشتوتجارت سنة ١٨٩٥م، ودرس في جامعة فرانكفورت التي حصل منها على الدكتوراه سنة ١٩٢٢م، وعلى الدكتوراه المؤهلة للتدريس الجامعي سنة ١٩٢٥م، وعُيِّنَ بها في وظيفة مُدرِّس للفلسفة الاجتماعية من ١٩٢٦م إلى ١٩٣٠م، ووظيفة أستاذ من ١٩٣٠م إلى ١٩٣٣م. تولَّى سنة ١٩٣٠م إدارة «معهد فرانكفورت للبحث الاجتماعي» الذي ضمَّ مُمَثِّلي النظرية، كما أسَّسَ مجلته «مجلة البحث الاجتماعي» وأشرف على تحريرها من سنة ١٩٣٠م حتى توقُّفها عن الظهور في سنة ١٩٤٠م. هاجر إلى سويسرا ومنها إلى الولايات المتحدة الأمريكية سنة ١٩٣٤م بعد استيلاء النازيين على مقاليد السلطة في ألمانيا، وهناك أقام معهد البحث الاجتماعي في جامعة كولومبيا بمدينة نيويورك مع بعض أعضاء «مدرسة فرانكفورت» الذين هاجروا معه أو لحِقُوا به، مثل صديق عُمره «تيودور أدورنو» الذي ارتبط اسمه به واشترك معه في بحوث المعهد السابق الذِّكْر وفي تأليف أهم كِتاب معبِّر عن النظرية النقدية وهو «جدل التنوير». رجع إلى جامعة فرانكفورت سنة ١٩٤٩م، وأعاد تأسيس المعهد والإشراف عليه حتى سنة ١٩٥٨م، كما تولَّى منصب مدير الجامعة من ١٩٥١م إلى ١٩٥٣م، ثم أُحِيل إلى التقاعد فخَلَفَه أدورنو في إدارة المعهد، ورجع للولايات المتحدة الأمريكية للعمل أستاذًا زائرًا بجامعة شيكاغو من سنة ١٩٥٤م إلى سنة ١٩٥٩م. كَرَّمَتْه مدينة فرانكفورت بميدالية «جوته» سنة ١٩٥٣م، كما أهدته مدينة أشتوتجارت — مسقط رأسه — ميدالية المواطن سنة ١٩٧٠م، ومنحته مدينة هامبورج جائزة ليسينج سنة ١٩٧١م، إلى أنْ حَضَرَه الموت في مدينة نورمبرج سنة ١٩٧٣م.
عُرِفَ هوركهيمر بفلسفته وتنظيره النقدي الاجتماعي بجانب رئاسته لمعهد فرانكفورت السابق الذكر (الذي سُمِّي فيما بعد بالمعهد الدولي للبحث الاجتماعي) من عام ١٩٣٠م إلى عام ١٩٥٨م. ونبدأ بالحديث عن تطوُّر تفكيره وكتاباته التي كان لها تأثير ملحوظ على حركة اليسار الجديد في الستينيات، وبخاصة في أوساط الشباب والطُّلاب في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية، فقد وُلِدَ لأبٍ يهودي من أصحاب الأعمال الأثرياء، ولكنه اتَّجه منذ شبابه الباكر إلى الاهتمام بالثقافة وتوظيفها في نقد المجتمع البرجوازي والرأسمالي الذي نشأ فيه، وقد ظهر اتجاهه النقدي في رسالته للدكتوراه التي وضعها عن كتاب نقد مَلَكة الحكم لكانط، بوصفه حلقة الوصل بين فلسفته النظرية وفلسفته العملية (نُشِرَت سنة ١٩٢٥م في مدينة أشتوتجارت)، كما بدأ التزامه بالماركسية منذ أن كان طالبًا وتوَثَّقت علاقته بصديق عمره «فريدريش بولوك» الذي كان من أنشط أعضاء «المعهد»، وتميَّزَ ببحوثه التي نشرها في مجلته في ميدان الاقتصاد السياسي، ولا بدَّ هنا من القول بأن «بولوك» كان الوحيد من بين أعضاء «المدرسة» و«النظرية» في تقيُّدِه بأصول الماركسية التقليدية في بحوثه، وإن سائر أعضائها — وعلى رأسهم هوركهيمر نفسه وأدورنو — لم تَبرُز لديهم هذه الأصول والعناصر التقليدية (المادية التاريخية والجدلية، والبنية التحتية والفوقية، والحتمية الاقتصادية وحتمية التقدُّم، والصراع الطبقي، ودور الطبقة العاملة أو البروليتاريا في قيادة وإحداث التغيير الاجتماعي الثوري) إذ استخدموها جميعًا بطريقة عامة وبمفهوم مختلف عن مفهومها الحرفي. وعلى الرغم من حرصهم على أن يُوصَفوا بأنهم ماركسيون، فإن ماركسيتهم «الجديدة» لم تَكَدْ تحتفظ من الماركسية بغيرِ المضمون التنويري والطاقة المنهجية — النَّقدية الجَدَليَّة — على تحليل الواقع الاجتماعي السائد تحليلًا علميًّا وعمليًّا بعيدًا عن التحليل النظري والفكري المجرَّد الذي سارت عليه المذاهب المثالية والفلسفات الاجتماعية التقليدية، وعن التحليل «الوضعي» الذي يدَّعِي العِلْمِيَّة في نظرته للعلاقات البشرية وكأنها علاقات بين أشياء أو ظواهر موضوعية وطبيعية خاضعة للتحكم والقياس، بُعدها في الوقت نفسه عن الانخراط في الممارسة السياسية العملية، وتحفُّظها إزاء النشاط الحزبي المحدد (لا سيما بعد فشل الثورة الشيوعية الألمانية في العشرينيات، ويأسهم من الأحزاب الاشتراكية الأوروبية التي تهاونت أو تواطأت مع السلطة البرجوازية الحاكمة، واكتشافهم في النهاية تعثُّر ثورة أكتوبر الرُّوسية وتجربتها الشيوعية بعد التصفيات المشهورة على عهد استالين، واختناقها بالبيروقراطية وشمولية الدولة والحزب).
يُضَاف لما سبق عامل آخر يميِّز كتابات هوركهيمر، كما يميِّز كتابات صديقه تيودور أدورنو، فهذه الكتابات الفلسفية والاجتماعية النقدية تَسرِي فيها الحساسية الفنية وتغلب عليها روح الفنان وضمير الأديب أكثر من عقلانية العالم وموضوعيَّته، يدلُّ على هذا أنه ظلَّ طوال حياته مُتأثرًا بتشاؤُم شوبنهاور الذي قرأه في شبابه، وأنه تأثَّرَ بعد ذلك أو اقترب على الأقلِّ من فلاسفة يمكن وصفُهم بأنهم ذاتيُّون أو جماليُّون أو إنسانيُّون، مثل نيتشه ودلتاي وفرويد وبرجسون (الذي التقى به في باريس في طريقه إلى المهجر بالولايات المتحدة الأمريكية، وكتب بحثًا عن ميتافيزيقا الزمان عنده يُعَد من أفضل بحوثه)، فضلًا عن نفوره من «المذهبية» و«النَّسَقيَّة»، وإيثاره في بعض كتاباته الهامَّة لأسلوب الحِكَم والتأمُّلات المُوجَزَة الذي يتجلَّى في ملاحظاته عن ألمانيا التي نشَرَها عام ١٩٣٤م في زيوريخ تحتَ عنوان «الفجر» باسمٍ مُستعار هو هينريش ريجبيوس، قبل أن يتوسَّع فيها ويضيف إليها ملاحظات أخرى عن السنوات التي عاشها بين عامي: ١٩٥٠م و١٩٦٩م (نُشِرَت في فرانكفورت سنة ١٩٧٤م وظهرت ترجمتها الإنجليزية الكاملة في نيويورك سنة ١٩٧٩م تحت عنوان فجر وتدهور)، وكل هذا مع غضِّ النظر عن سلسلة الروايات التي يُقَال إنه كتَبَها في شبابه ولم تَرَ النور أبدًا، وعن الأقَاصِيص واليوميَّات التي نُشِرَت بعد موته تحت عنوان «من فترة المراهقة» (نُشِرَت سنة ١٩٧٤م).
شارك هوركهيمر — كما سبق القول — مشاركة فعالة في تأسيس معهد فرانكفورت للبحث الاجتماعي والنظرية النقدية المعبِّرة عنه، بجانب تولِّيه إدارته والإشراف على مجلته التي تابعت نشر دراسات أعضائه ودراسات غيرهم من الباحثين البارزين (مثل رايموند آرون وإريش فروم وفالتر بنيامين وأدورنو وإرنست كرينيك وفريدريش بولوك وهربرت ماركوز وليو لوفنتال … إلخ)، وقد كان الهدف من المعهد والمجلَّة في بداية أمرهما هو الاهتمام بدراسة تاريخ الحركة العمالية الألمانية والتحليل الاجتماعي النقدي القائم على أسس ماركسية عامة والمتأثر — بوجه خاص — بكتابات جورج لوكاتش، ومن أهمها التاريخ والوعي الطبقي، وكتابات كارل كورش عن الماركسية والفلسفة والإنتاج الرأسمالي وظروفه وعلاقاته السلبية. ومع أواخر العشرينيات ازداد توجُّه أعضاء المعهد نحو بناء فلسفتهم الاجتماعية وتأسيس نظريَّتهم النقدية للثقافة الرأسمالية عامةً، واقترن هذا الاتجاه بتزايد تحفُّظهم من الانخراط في السياسة العملية والممارسة الثورية التي ظهر لهم تخبُّطها وفشلها كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
بدأ هوركهايمر سنة ١٩٣٠م في نشر سلسلة مقالاته بمجلة المعهد (وقد جُمِعَت بعد ذلك في مجلدين، وقام الأستاذ ألفرد شميت بنشرها تحت عنوان النظرية النقدية، وظهرت لدى الناشر فيشر في فرانكفورت عام ١٩٦٨م، كما صدرت ترجمتها الإنجليزية لدى الناشر هيردر في نيويورك عام ١٩٧٢م)، وتناولت هذه المقالات موضوعات متفرِّقة كالسلطة والعائلة والمادية الجدلية والثقافة الجماهيرية والوضعية المنطقية، وبقِي الخطُّ الفكري الذي يَنْتَظِمُها هو تحديد النظرية النقدية بوصفها نقد الأيديولوجية (المنظومة الفكرية) السائدة ونفِيها أو سلبها، في سبيل مجتمع عقلاني وإنساني حر، ثم نشر أربع مقالات أخرى في سنة ١٩٣٧م تحت عنوان النظرية التقليدية والنظرية النقدية (جُمِعَت وصدرت في فرانكفورت سنة ١٩٧٠م)، وقد استطاع هوركهيمر في هذا الكتاب أن يستكمل بناء منهجه النقدي الخصب، وأن يعقد مقارنة مُفَصَّلة بين المحاولات التي بُذِلَت في الفلسفة الحديثة لتفسير الواقع من خلال الأنظمة أو الأنْسَاق الميتافيزيقية النظرية التأمُّلية، وبين المشروع النقدي ﻟ «النظرية النقدية» التي تتَّخذ موقف السلب أو النفي للواقع الاجتماعي السائد، وتُحاول التعبير عن أشواق الناس «الخَفيَّة» وعن حاجاتهم «الحقيقية» التي لم يُكْتَب لها التَّحقُّقُ. ويؤكد هوركهيمر — بنغمة ظاهرة التأثُّر بأفكار لوكاتش الأساسية في كتابه الشهير عن التاريخ والوعي الطبقي — أن انفصال النظريات التقليدية في الفكر والعلم والفلسفة عن الواقع المادي أمر واضح للعيان، وأن سقوط الفكر الحديث في هذا النوع من خداع الذات هو في الحقيقة صورة من صُور التواطؤ مع أشكال القهر والقمع التي تمارسها الأنظمة والمؤسسات الاجتماعية. والظَّاهر أنه اقتنع في هذه الفترة بأن الطبقة العاملة (البروليتاريا) لم يَعُد من الممكن اعتبارها «الحامل التاريخي» للوعي التقدُّمي والثوري لمجرد دورها في العملية الإنتاجية، وأنه يئس من قدرة هذه الطبقة على إحداث التَّغيير الاجتماعي الجِذري، بعد أن تبيَّنَ عجزها حِيَال زحف البربرية النازية التي اكتسحت المجتمع الألماني وقبضت على زمام السلطة، والظاهر أيضًا أن بداية انحِصَار جهود النظرية النقدية في تَعْرِيَة «الشروط» الاجتماعية الفاسدة، والكشف عن نماذج الوعي الفردي والجماعي الزائف في ظلِّ الأنظمة الشمولية التسلطية، قد بدأ أيضًا في هذه الفترة التي أدرك فيها هوركهيمر — مع معظم أعضاء معهد فرانكفورت والمدرسة النقدية الاجتماعية — غياب العنصر البشري القادر على تحقيق الحرية والعقل والسعادة.
هكذا نجد النظرية النقدية — باتِّجاهها «السالب» للنظريات التقليدية — تتحول بالتدريج إلى حركة تنوير جديدة، يَنبُع التزامها بالتغيير الاجتماعي — على حدِّ تعبير هوركهيمر — من طبيعتها نفسها وليس مجرد إضافة معرفية إليها، كما تذَكِّرنا في الوقت نفسه بأن حركات التنوير كانت دائمًا تُقاوم الظلم السائد وتُشارك بدور فعَّال في القضاء عليه. وقد تمثَّل هذا في كتاب «جدل التنوير» الذي اشترك هوركهيمر مع صديقه أدورنو في تأليفه أثناء فترة الأربعينيات التي أمضياها في مهجرهما في نيويورك، (وقد ظهر لأول مرة بعنوان شذرات فلسفية سنة ١٩٤٤م عن معهد البحث الاجتماعي في مقره الجديد بهذه المدينة الأخيرة قبل مراجعته وصدوره بالعنوان السابق في أمستردام سنة ١٩٤٧م، ثم ترجمته للإنجليزية سنة ١٩٧٢م).
ينتقد هذا الكتاب مفهوم التقدُّم التاريخي الذي تؤمن الماركسية بحتميَّتِه كما ينطوي مفهوم التنوير نفسه عليه؛ ففيه يذهب المؤلفان إلى أن «العقلنة» المتزايدة للعلاقات الاجتماعية في العصر الحديث قد أدَّت إلى تناقص استقلال الفرد، بحيث أفضت في النهاية إلى فظائع النزعة الشمولية ومعاداة الساميَّة، وجعلت الرأسمالية — التي تعدُّ النازية ذروة تطورها — تحوِّل مُثُل التنوير المعروفة إلى الواقع المُخيف الذي تجسَّدَ في معسكرات الاعتقال.
وتُفرِّقُ النظرية النقدية هنا بين نَمَطيْن للعقل؛ فالأول تنويري وتحريري، يقوم على أفكار الثورة الفرنسية وقِيَمها ومُثُلها في العدالة والحرية والسعادة والإخاء والسلام. أما الثاني فهو نقيضُ الأول، وقد أخذ المؤلفان تسميتَه ﺑ «العقل الأداتي» من الفيلسوف الاجتماعي ماكس فيبر، وزعَمَا أنه يُستغل لتحقيق أهداف السيطرة والتسلط الشمولي في استعباد الفرد واحتواء وعيه لصالح السلطة المُتحكمة، ويُلقِي «جدل التنوير» الأضواء على هذا العقل «الأداتي» المُتَمثِّل في التفكير العقلي والتِّقَني السائد في الصناعة والإدارة الحديثة بما يخدم السيطرة والتسلُّط لا التحرير والتحرُّر. وقد كانت النتيجة أنْ تَدَهْوَر التنوير — بمعناه المعروف في التراث العقلي والعلمي الغربي — وأصبح نَبْعًا مَسمومًا تَغْتَرف منه إرادة التحكُّم والاستعباد، وتحوِّل العقل — في التفكير الوضعي بوجه خاص — إلى أداة للسيطرة الكلية على الطبيعة والإنسان.
بَيْدَ أن العقل «الأداتي» كانت تكمن فيه بذور انهياره التي تولَّدت عنها النَّزَعات الشمولية والاستبدادية، وبذلك دمر التنوير نفسه وانتهى إلى البربرية. ولم تأتِ هذه البربرية من أعداء الحضارة الإنسانية، ولا من قوى خارجية، بل جاءت من العقل نفسه، ومن ثَمَّ لم تكن النزعة الشمولية والتسلطية في النظم المُخْتلفة وليدةَ اتجاهات لا عقلية، وإنما نشأت عن «التنوير» الضارب بجذوره في العصر الأسطوري وفي منطقِ أرسطو وذاتيَّة ديكارت، بحيث لم تكن إلا النتيجة النهائية لأصول شكلية وأداتية كامنة في عقلانيته التي فتَّتَت الطبيعة إلى موضوعات وذرَّاتٍ منفصلة لتُحكِم سيطرتها عليها، وتحكَّمت في عالم الفرد وأخضَعَتْه لمقاييسها الكمِّيَّة ومؤسساتها الإدارية والبيروقراطية وأجهزة دعايتها وتصنيع ثقافتها الجماهيرية؛ ولذلك فإن عمرها أطول من عمر الرأسمالية وسائر النظم التسلُّطيَّة.
من الواضح أن هذه الاتهامات الموجَّهة للتنوير والعقل الأداتي — على لسان هوركيهمر وأدورنو وماركوز — كان ينبغي أن توجَّه لتطبيقاته التِّقَنية الفاسدة وممارساته غير الإنسانية. وكان المُتوقَّع أن يُعاد توجيه العقل الأداتي بما يتفق مع أهداف العقل التَّحرُّري، ولكن أصحاب النظرية النقدية مَضَوا في نقدِهم للعقل الأداتي إلى النهاية، وجسَّدوه في صورة عملية فكرية وعلمية وتقنية هائلة استَقلَّت بنفسها وبأهدافها التي تصبُّ في السيطرة والتسلُّط الشامل على الطبيعة والإنسان. بذلك أتمَّ العقل في رأيهم تصفية نفسه، وأصبح الفرد وحيدًا في مواجهة قوى لا عقلية قاهرة، تمثلت له في صورة أعتى أعدائه: التقنية والبيروقراطية. وكلما تزايدت الجوانب السلبية للعقلانية الأداتية ضَعُفَ أمَلُهم في المستقبل، وتركزت جهودهم في مرحلتهم الأخيرة في نقد الثقافة السائدة، بكلِّ عناصرها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفنية والأدبية، وقَصَرُوا مهمة الفلسفة أو وظيفتها الاجتماعية — على حدِّ تعبير هوركهيمر في كتاب ضمَّ مقالًا هامًّا تحت هذا العنوان مع مقالات أخرى — على تحرير الإنسان وتمكينه من مقاومة الواقع السائد وعدم الاستسلام لقِيَمِه التي تصوِّر له «النظم» أنها أبديَّة راسخة، وعلى تشخيص مرض العصر وعلاجه. ولم يكن هذا المرض المستشري في النظامين الشموليَّيْن المُعاصِرَيْن — الرأسمالية والشيوعية — غير التسلُّطية التي تُبرر نفسها تبريرًا عقلانيًّا (فكريًّا وفلسفيًّا وعلميًّا)، وتحتوي وعْيَ الفرد والجماعة وطاقَتَهما لتسويغ أوضاعها التي تجرد الإنسان من الوجود الحر المستقل، والحياة المباشرة الحميمية المبدعة.
والحق أن هوركهيمر وزملاءه لم يكفُّوا عن السعي إلى التغيير الجذري للمجتمع، ولم يفقدوا الأمل في مجتمع إنساني أفضل، على الرغم من ضياع ثِقَتهم بالعمل والممارسة الثورية التي تَبيَّن لهم إخفاق الجهات والأحزاب السياسية القائمة بها، ومن غَلَبَة التَّشاؤُم القائم على كتاباتهم الأخيرة بصورة تُوحي للقارئ بأنها تَنبُع من رؤية مأسوية للتاريخ الاجتماعي البشري، جعلتهم ينظرون إليه باعتباره تاريخ العذاب والظلم والشر المُلازم لطبيعة الإنسان، كما أشرنا إلى ذلك من قبل.
ولكن هذا الحسَّ الفاجع لم يمنعهم في مرحلة تطوُّرهم الأخيرة من وضع آمالهم في تحقيق نوع من «اليوتوبيا» أو الفردوس «المفقود» الذي يَستعيد فيه البشر إنسانيتهم، ويتخلَّصُون من التَّشيُّؤ والاغتراب، ويتخفَّفُون من أحمال الظلم والشقاء، وذلك دون إفراط في التفاؤل والأمل اللذين أسرف فيهما معاصرهما الفيلسوف اليوتوبي الكبير إرنست بلوخ، ولهذا لا نَعْجَب من رجوعهم إلى البدايات التي أثَّرت عليهم في مطلع حياتهم، وتحوُّلهم في النهاية إلى نزعة شبيهة بتلك التي نَجِدُها في فلسفة الحياة والحركة التعبيرية والرومانتيكية الجديدة. وها نحن نجد هوركهيمر يعود إلى تشاؤم شوبنهور الذي أثَّر عليه في مطلع حياته ويعكف في سويسرا — بعد تقاعُدِه وسفره إليها مع صديقه بولوك سنة ١٩٥٨م — على كتابة بعض المقالات عنه وعن ماركس، كما يدوِّن عددًا من حِكَمِه وتأمُّلاته ويوميَّاته التي يقول في إحداها تحت عنوان «النظرية النقدية»: «إن تحريم اليهود لتصوير الله، أو تحريم كانط للضَّلال في عالم الحقائق في ذاتها، لَدَليل على اعترافهما بالمُطلق الذي يَستحيل تحديده. ويصدق هذا أيضًا على النظرية النقدية عندما تُقَرِّر أن الشر — وبخاصة في المجال الاجتماعي، وكذلك أيضًا في الأفراد — يمكن تحديد هويته، على العكس من الخير الذي يتعذَّر ذلك بالنسبة له. إن التحليل النقدي للمجتمع يشير إلى الظلم الغالب عليه، ومحاولة الانتصار على هذا الظلم قد أدَّت باستمرار إلى قدْرٍ أعظمَ من الظلم. وتعذيب شخص إلى حد الموت هو بكل بساطة نوبة غضب، أما إنقاذه — إن كان ذلك مُمكنًا — فهو واجب إنساني. وإذا شاء أحد أن يُعَرِّف الخير بأنه محاولة القضاء على الشرِّ، فإن ذلك معناه أن تحديده أمرٌ ممكن، وهذا هو الدرس الذي تُعلِّمُه النظرية النقدية …» (عن كتابه ملاحظات عن السنوات من ١٩٥٠–١٩٦٩م الذي نُشِرَ في عام ١٩٧٤م). إن نغَمَة التشاؤم التي تسري في النص السابق تكاد تنطق بأن شقاء الإنسان شيء كامن في وجوده وماهِيَّتِه، فهو لم يأت نتيجة تطورات تاريخية معينة، ولن ينتهيَ بانتهاء الفاشيَّة والرأسمالية والشيوعية. ولا بدَّ أن اتجاه هوركهيمر وزملائه — وفي مقدمتهم أدورنو — إلى السلب الجِذري والنفي الحاسم لكل الأوضاع القائمة، قد أدَّى بهم إلى الإغراق في الاكتئاب إلى حد العدميَّة (باستثناء أشعة أمل واهِنة في مجتمع أفضل قد يتحقق في المستقبل، وبُروق رجاء أو عزاء خطفت أبصارهم من الأعمال الفنية والأدبية العظيمة …) ولذلك يمكن أن تَصْدُق عليهما كلمة صديقهما الناقد الأدبي «فالتر بنيامين» عن اليساريين ذوي الاتَّجاهات اللاعقلية المُتطرِّفة عندما وصفهم بأنَّهم يمثِّلون اليسار المُكتئِب. وكأن الفلسفة قد أضاعت فرصة تَحَوُّلِها إلى ثورة لتغيير العالم كما أراد لها ماركس، فصارت مُهمَّتها الوحيدة مهمةً نقديةً نظرية تنحصر في توعية الناس بأن العالم لم يتغير بعدُ، وفي إعلان احتجاجها على الأوضاع القائمة، وتسمية الأشياء بأسمائها، وتمزيق أقنعة اللاعقل، والتعبير عن عذابات الإنسان مع التشبُّث بكلِّ بذرة أمل يمكن العثور عليها، وكأن لم يبق للفلسفة — في شعورها العميق بعجزها ويأْسِها — إلا أن تَسلب الواقع الفاسد وتتَّهِمه، وتصرَّ على مقاومتها الباسلة له، وتكون بمثابة جزيرة للمقاومة وسط محيط التسلُّط الذي يُغرق كل شيء. وقد كانت هذه هي النهاية الطبيعية للمثقَّفِ الماركسي «البرجوازي» ومشروعه الثوري الذي لم يتجاوز الحدود الفردية والنظرية إلى العمل والممارسة الجماعية، ولعلَّ هذا أن يكون هو سر القطيعة التامة بين أصحاب النظرية النقدية من مدرسة فرانكفورت وبين حركة الطلاب المُتَمرِّدين الذين ثاروا في سنة ١٩٦٨م على كل أشكال السلطة؛ فقد أخذوا عنهم الدَّوافع الثورية، وافتقدوا «دليل العمل» الذي كان عليهم أن يَهتَدُوا إليه بأنفسهم؛ ولذلك صُدِمَ «هوركهيمر» و«أدورنو» صدمة عميقة عندما وجَدَا الطلاب يهاجمونهما شخصيًّا، وعَرَفا أن الشباب الذين علَّقُوا عليهم أملهم الوحيد في التغيير الاجتماعي قد خذلُوهُما ورفضوهُمَا.
....................
المصدر: النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت: تمهيد وتعقيب نقدي، عبد الغفار مكاوي