عاش السيميولوجي الفرنسي رولان بارت " بحراً" من حياته في مدينتين مغربيتين، على الأقل، مقيماً ومدرساً في ثانوياتها في فترة الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن الماضي، وقد دوَّن بعضاً من معايشاته في كتاب عن تلك المدن وبشر تلك الحقبة. لكن ما يثير حقاً، هو كون تلك الملاحظات، أو المشاهدات، مزيجاً من دهشة غير مبررة، ونظرة هي حصيلة ما أنتجته المركزية الأوروبية حول مستعمراتها.
وكأن تلك المبادئ الكبرى التي ولدت مع شعارات ثورة 1968 لم تكن إلا كلام مثقفين عن جمهورية ما بعد الحرب العالمية الثانية ومسلسل تصفية تركة المستعمرات التقليدية.
وجه الغرابة، أن رولان بارت، الذي عاش مهتدياً بالعلامات وقارئاً لها وشغوفاً بالقاع الاجتماعي، هو الأرستقراطي، المحبوب في الوسط الأكاديمي، لم يكن له أن يتصالح مع "ملذاته" ولذة نصوصه.
وحين كان مدرِّساً في المغرب، في مدن الرباط والجديدة ومكناس، كان يشاهد في عدد من الساحات الشهيرة، على أرصفة المقاهي، بتلك الجلسة الهادئة وهو يدخن ويتأمل العابرين في مغرب يخرج بصعوبة شديدة من " تخلّفه" ويعتنق حداثته المزعومة، بينما كانت البداوة لغة بصرية يسهل على عين حصيفة ومتمرّسة، مثل عين بارت، قراءة علاماتها ومضمراتها.
لقد بسط شيئاً مثل هذا في مذكراته عن المغرب التي نشرت بعد رحيله بسبع سنوات تحت عنوان " وقائع"، وهي عبارة عن هوامش وملاحظات سجلها في دفتر يومياته أثناء جولاته في عدد من المدن المغربية، وهي في جملتها لا تقدم إفادات كثيرة، في حين تعكس مزاجاً شخصياً لكاتبها.
نعرف أن بارت، القارئ الجيد لمنجز العالم اللساني فردناند دي سوسير والباحث في علم الدلالة، الذي أعلن عن موت المؤلف واعتبر حياة النصوص من سدى العلاقات التي تنسجها بينها، لم تكن تعوزه الوسيلة العلمية لقراءة المتاهة المغربية، بما هي توليد مستحيل لحداثة مضحكة من بطن تاريخ طويل من التقليد، سيجد تمظهره الواضح في نسق المعيشة ونسق الموضة وعلامات الحياة اليومية، وهي الظواهر التي برع بارت في قراءتها جيداً.
لكن في تلك اليوميات الشذرية لا نعثر كثيراً على بارت السيميولوجي، ولا على تلك الإلتقاطات المدهشة، التي حولت أعماله إلى ورشة مستقبلية للمشتغلين بالسيميائيات الحديثة، كما تحدثت عنه تلميذته جوليا كريستيفا بكثير من الحب في الذكرى المئوية لولادته .
من الغريب حقاً، أن الكاتب المغربي محمد شكري الذي أرَّخ لمرور عدد من الكتاب الأجانب في طنجة، لم يتحدث، فيما أعلم، عن إقامة بارت هناك، كما الحال بالنسبة للكتاب الأميركيين مثل بول بولز أو تبنيسي وليامز، علما أن بارت كان صاحب مكانة كبيرة في الوسط الأكاديمي المغربي ومدرساً في الجامعة وفي عدد من الثانويات الكبيرة.
لبارت هوامش حياة خاصة، كان مفتوناً بأولائك الشبان المغاربة الخارجين من ميناء الجديدة، وقد لوحت بشرتهم القمحية ملوحة البحر والشمس، هناك كان يشاهد جالساً على رصيف المقهى، تحت ظلال البنايات الكولونيالية، وهو ربما، يحلم بفرنسا التي كانت هنا، تحكم البلاد، في حين لا يتورع في إبداء امتعاضه من بقايا الفرنسيين، وهم يتصرفون بعجرفة مضحكة مع مواطني البلاد، غير مدركين أن زمن "الأم" فرنسا، انتهى بعد أن استعاد السكان الأصليون فردوسهم المفقود.
ولذلك، عندما كان بارت يكتب تلك الشذرات في مذكراته عن المغرب كان همه أن يلاحظ تلك التغيرات في النسق الاجتماعي المغربي من خلال التجليات السلوكية والأفعال اليومية وحياة الناس.
من هنا تبرز تلك المفارقة بين المفكر والباحث والمنظور الذي يصدر عنه. لقد اقترب من الرؤية السياحية الكرنفالية ، ميزة الكثير من اليوميات التي كانت تغذيها رغبة دفينة لدى جحافل من هؤلاء الكتاب، الباحثين توهما، عن حياة بدائية خارج مستنقع باريس.
هل سقط في شراك الجاهز، ربما، لكن العضلات المفتولة لهؤلاء البحارة، أبناء المدينة القديمة، ظلت سلواه الوحيدة، وهو في ساحة البناء الكولونيالي، حيث الشمس النقية تغسل الشرفات.
*شاعر وكاتب من أسرة "العربي الجديد"
وكأن تلك المبادئ الكبرى التي ولدت مع شعارات ثورة 1968 لم تكن إلا كلام مثقفين عن جمهورية ما بعد الحرب العالمية الثانية ومسلسل تصفية تركة المستعمرات التقليدية.
وجه الغرابة، أن رولان بارت، الذي عاش مهتدياً بالعلامات وقارئاً لها وشغوفاً بالقاع الاجتماعي، هو الأرستقراطي، المحبوب في الوسط الأكاديمي، لم يكن له أن يتصالح مع "ملذاته" ولذة نصوصه.
وحين كان مدرِّساً في المغرب، في مدن الرباط والجديدة ومكناس، كان يشاهد في عدد من الساحات الشهيرة، على أرصفة المقاهي، بتلك الجلسة الهادئة وهو يدخن ويتأمل العابرين في مغرب يخرج بصعوبة شديدة من " تخلّفه" ويعتنق حداثته المزعومة، بينما كانت البداوة لغة بصرية يسهل على عين حصيفة ومتمرّسة، مثل عين بارت، قراءة علاماتها ومضمراتها.
لقد بسط شيئاً مثل هذا في مذكراته عن المغرب التي نشرت بعد رحيله بسبع سنوات تحت عنوان " وقائع"، وهي عبارة عن هوامش وملاحظات سجلها في دفتر يومياته أثناء جولاته في عدد من المدن المغربية، وهي في جملتها لا تقدم إفادات كثيرة، في حين تعكس مزاجاً شخصياً لكاتبها.
نعرف أن بارت، القارئ الجيد لمنجز العالم اللساني فردناند دي سوسير والباحث في علم الدلالة، الذي أعلن عن موت المؤلف واعتبر حياة النصوص من سدى العلاقات التي تنسجها بينها، لم تكن تعوزه الوسيلة العلمية لقراءة المتاهة المغربية، بما هي توليد مستحيل لحداثة مضحكة من بطن تاريخ طويل من التقليد، سيجد تمظهره الواضح في نسق المعيشة ونسق الموضة وعلامات الحياة اليومية، وهي الظواهر التي برع بارت في قراءتها جيداً.
لكن في تلك اليوميات الشذرية لا نعثر كثيراً على بارت السيميولوجي، ولا على تلك الإلتقاطات المدهشة، التي حولت أعماله إلى ورشة مستقبلية للمشتغلين بالسيميائيات الحديثة، كما تحدثت عنه تلميذته جوليا كريستيفا بكثير من الحب في الذكرى المئوية لولادته .
من الغريب حقاً، أن الكاتب المغربي محمد شكري الذي أرَّخ لمرور عدد من الكتاب الأجانب في طنجة، لم يتحدث، فيما أعلم، عن إقامة بارت هناك، كما الحال بالنسبة للكتاب الأميركيين مثل بول بولز أو تبنيسي وليامز، علما أن بارت كان صاحب مكانة كبيرة في الوسط الأكاديمي المغربي ومدرساً في الجامعة وفي عدد من الثانويات الكبيرة.
لبارت هوامش حياة خاصة، كان مفتوناً بأولائك الشبان المغاربة الخارجين من ميناء الجديدة، وقد لوحت بشرتهم القمحية ملوحة البحر والشمس، هناك كان يشاهد جالساً على رصيف المقهى، تحت ظلال البنايات الكولونيالية، وهو ربما، يحلم بفرنسا التي كانت هنا، تحكم البلاد، في حين لا يتورع في إبداء امتعاضه من بقايا الفرنسيين، وهم يتصرفون بعجرفة مضحكة مع مواطني البلاد، غير مدركين أن زمن "الأم" فرنسا، انتهى بعد أن استعاد السكان الأصليون فردوسهم المفقود.
ولذلك، عندما كان بارت يكتب تلك الشذرات في مذكراته عن المغرب كان همه أن يلاحظ تلك التغيرات في النسق الاجتماعي المغربي من خلال التجليات السلوكية والأفعال اليومية وحياة الناس.
من هنا تبرز تلك المفارقة بين المفكر والباحث والمنظور الذي يصدر عنه. لقد اقترب من الرؤية السياحية الكرنفالية ، ميزة الكثير من اليوميات التي كانت تغذيها رغبة دفينة لدى جحافل من هؤلاء الكتاب، الباحثين توهما، عن حياة بدائية خارج مستنقع باريس.
هل سقط في شراك الجاهز، ربما، لكن العضلات المفتولة لهؤلاء البحارة، أبناء المدينة القديمة، ظلت سلواه الوحيدة، وهو في ساحة البناء الكولونيالي، حيث الشمس النقية تغسل الشرفات.
*شاعر وكاتب من أسرة "العربي الجديد"