تقديم
"إن لذة النص كامنة في تلك اللحظة التي ينقاد فيها
جسدي لأفكاره الخاصة، لأن جسدي له أفكار غير أفكاري"
* رولان بارث - لذة النص
"في انتظار حَبّ الرّشاد" هي المجموعة الأولى لمبدعة كان الشعر أولى القارات التي وطئتها قدماها، بكثير من الحزم والثقة في النفس، كتاباتها ليست سليلة لأحد، ولا تقتفي رؤيتها أثرا، ذلك أن المبدعة المغربية سعيدة عفيف أتت إلى السرد القصير متخمة بعذوبة الشعر، متسلحة برحابة الخيال، أكثر احتفاء بمسرات اللغة، وأكثر اطلاعا على آفاق أخرى كونها حاصلة على الإجازة في الأدب الفرنسي، ولها رواية مخطوطة تنتظر دورها إلى المطابع، ولا غرابة في أن تزاوج كتابتها بين النظرة الفلسفية للحياة، والتأمل الصوفي، واللغة الشاعرية الباذخة، باعتبار القصة بمثابة الأخ الأصغر للشعر، حسب تعبير خوليو كورتازار، وهي خلافا لكل شيء، من أكثر الأشكال الأدبية قدرة على سبر أغوار النفس، والتعبير عن دواخلها وتفاعلها مع الوجود، فضلا عن أنها تتيح حرية قصوى للبحث عن صيغ تعبيرية فاعلة ومؤثرة، مبنية على التركيز والتكثيف، والاكتفاء من الشيء بالإشارة، وهي أيضا بحث لا مشروط عن المعنى الذي يكمن في مكان ما بين التفاصيل، ومطاردة الجميل والفاتن والمهيب أيضا وأيضا، مما يحيل بكيمياء الدهشة كل نص إلى تحفة أدبية بديعة، ولأن القاص أو القاصة قناص حكايات، وأن كل حكاية هي بالضرورة كشف للسر، مثل النبوءة والسحر سواء بسواء، بحيث "إن الأدب يعبر عن الحياة، مثلما تعبر الخمر عن العنب" هكذا يزعم محمد خير الدين بطريقته السوريالية المعهودة.
تسبح بنا المبدعة المغربية سعيدة عفيف، من خلال قصص المجموعة العشر، داخل عوالم عجائبية تجريدية، بداية من العنوان المخاتل الماكر دون ريب، الذي سيفاجئ القارئ للوهلة الأولى، لغرابته إلى حد واضح، الغرابة التي تصدم القارئ، الجمال الذي ينهض على المفارقة العجيبة، وفتح الشهية على مزيد من الأسئلة التي توسّع الزمان، كما يعبّر عن ذلك موريس بلانشو، فعبد الفتاح كيليطو يستعمل مصطلح الغرابة بتعدد مستوياتها وأبعادها، من حيث إنها من أسس العملية الإبداعية، لكن قد نجد جوابا مباشرا فيما ذهب إليه رولان بارت، من أن العنوان هو البنية المستقلة التي نستشف من خلالها العلاقة التواصلية ما بين الخطاب والمتلقي، ويتقدم النص ويؤشر، فالجملة الإسمية التي تكون هذا العنوان تحيل من أول وهلة، على خصوصيات المطبخ المغربي وعلاقته الوطيدة بعوالم النساء، وثرائه وتنوعه، وما يحفل به من أصناف الأكل والمشهيات، التي بحسب علمي المتواضع، تناولها الأدب العربي في شقيه المعرب والشعبي بإسهاب كبير على مر العصور
كما أن القاصة تتوسل بترسانة من المقتبسات، والاستهلالات، والتصديرات، والأسانيد، أسماء لمعنى واحد لتلك المقدمات التي اختارتها المبدعة بعناية فائقة لتزين بها نواصي النصوص، جاء في كلام أبي هلال العسكري قوله: "أحسنوا معاشر الكتاب الابتداءات فهن دلائل البيان"، وفي نصوص خورخي لويس بورخيس أو أمبيرتو إيكو، قلما نجد نصا من دون استهلالات مستمدة من مصادر عدة ولغات متعددة، إنها بمثابة تجسيرات نصوصية موازية، تحوي قدرا من الحكمة والتبصر والمتعة والعبرة، خطابات قائمة بذاتها، عتبات على هيئة متون مضمرة تشارك في بنية النصوص، خطاب منتج لمعادلات سردية، نص ملحق بنص، نص مواز لنص يحقق في عمقه أغراضا فنية وبلاغية، وأخرى جمالية مرتبطة أساسا بالمتن القصصي، و"اختيار الكلام أصعب من تأليفه" كما يقول محمد بن عبد ربه، كما تشي إلى امتلاك القاصة سعيدة عفيف لكل مقومات وأدوات الكتابة القصصية الجادة، واعتمادها لغة أنيقة سلسة بسيطة وثراء أفكارها وتنوع المواضيع التي تعالجها.
أقول تماما أني أروم التقديم لهذه القصص القصيرات – دون الرغبة في توجيه القارئ والسقوط في التأويل أو نية إحداثه - بأنها تكاد تلتقي في رسالتها ومراميها الإنسانية، مشرعة شرفاتها علي فضاءات سوريالية، ابتداء من النص الأول "على المرقص"، الذي يثير مجموعة من الأسئلة الفلسفية، الرامية للوصول بنوعية حياة الكائن إلى الطمأنينة الروحية والصفاء الجواني، كما يجسدها راقصان يؤديان مشهدا استعراضيا يشتغل على عدة إيماءات جسدية وحوارية عميقة وأداء ممسرح، وعبر توليف أليغوري يجمع بين الواقع والخيال، مما يجعلنا ننساق لغواية السرد والرقص معا، لنكتشف في الختام أننا إزاء خدعة لإحدى اللعب الآلية، حيث الحياة لعب ولهو في كل أوجهها، ومتى وحيثما عرفنا كيف نجيد الرقص نكتشف سر الوجود وثراء الحياة، ومغزاها الحقيقي. خدعة فنية نجحت الساردة في سبك حبكتها بفنية ودربة راقية، فيما تحيل قصة "في انتظار حَبّ الرّشاد" على المطبخ المغربي وتنوعه، وتبيان علاقته بالعنصر النسوي أساسا، والتوجس مما قد يتهدده من أخطار في مواجهة تهديدات الأكلات السريعة وزحف العولمة، ويؤكد في بعده الرمزي على روح التضامن والتسامح وعلاقة الرجل بالمرأة، فــ "فْتاتْ الشَّطْبَة" مؤنث و"حَبّ الرّشاد" مذكر، هذا الاهتمام بحال المرأة ككائن بشري وإنسان بالدرجة الأولى هو محور مجمل النصوص، وبديهي بالنسبة للكتابة النسوية عموما، إذ تجتهد في رصد أوجه الاستغلال البشع والعنف والدمار الذي يحيق بالمجتمع، والبحث عن الهوية بين ركام التشظي والاستلاب والتيه، مما ينعكس بوعي أو دونه على مصير شخوص الحكايات، من خلال تهيؤات الغالية بطلة قصة "مسخ" وتوظيف حكاية هيبا ورغبته في الإفلات من لعنة عزازيل، وعبر شخصية "عايشة" التي ترمز لكل النساء، وإحساسهن بوعيهن الطبقي، وتمردهن على الوصاية، على الصمت، على التخطية، وعلى ما يحيق بهن من مظالم وعسف وغبن، وتعرية للجرح الأنثوي الذي يحاكم المجتمع الذي يعتبر جسد المرأة رهينة وغنيمة قسمة ونصيب، بينما يفتح نص "بحر الدماء"، بملامحه التجريدية ذات معالم الخيال العلمي، كوة على الحروب وما تخلفه من آثار جانبية ومن دمار شامل، ويرصد تنامي ظاهرة العنف والقتل ببرودة دم، وبلا أخلاقيات، وبلا جبهات مرسومة، ولا ضحايا محددين، إنه التاريخ المشترك للبشرية، ذلك الذي تحاول القاصة سعيدة عفيف النبش عنه في خزين الذاكرة، وتحويله إلى حلبة احتجاج ومعترك ميداني من أجل خلخلة الجاهز في الوعي الفحولي، والدفاع عن المرأة التي تخصص لها حيزا كبيرا في كتاباتها الإبداعية، مما يساعد على تعزيز وتقوية مكانتها الطبيعية والمستحقة في المشهد الإبداعي المغربي والعربي
لا يفوتني في نهاية هذا التقديم المتواضع، التنويه بهذا الإصدار الذي يسعد رابطة أقلام أحمر تقديمه، في إطار سلسلتها الدورية التكافلية الطوعية، التي تعتبر تعاملا حضاريا مع النشر، باعتباره ضرورة وجود، وظاهرة صحية تسعى إلى بعث مشهد ثقافي خلاق ومتطور ومنفتح على كل الحساسيات، في غياب الدعم التام للكتاب، وتراجع نسبة القراءة بين جمهور المتعلمين.
المهدي نقوس
اليوسفية 26 - 06 - 2015
"إن لذة النص كامنة في تلك اللحظة التي ينقاد فيها
جسدي لأفكاره الخاصة، لأن جسدي له أفكار غير أفكاري"
* رولان بارث - لذة النص
"في انتظار حَبّ الرّشاد" هي المجموعة الأولى لمبدعة كان الشعر أولى القارات التي وطئتها قدماها، بكثير من الحزم والثقة في النفس، كتاباتها ليست سليلة لأحد، ولا تقتفي رؤيتها أثرا، ذلك أن المبدعة المغربية سعيدة عفيف أتت إلى السرد القصير متخمة بعذوبة الشعر، متسلحة برحابة الخيال، أكثر احتفاء بمسرات اللغة، وأكثر اطلاعا على آفاق أخرى كونها حاصلة على الإجازة في الأدب الفرنسي، ولها رواية مخطوطة تنتظر دورها إلى المطابع، ولا غرابة في أن تزاوج كتابتها بين النظرة الفلسفية للحياة، والتأمل الصوفي، واللغة الشاعرية الباذخة، باعتبار القصة بمثابة الأخ الأصغر للشعر، حسب تعبير خوليو كورتازار، وهي خلافا لكل شيء، من أكثر الأشكال الأدبية قدرة على سبر أغوار النفس، والتعبير عن دواخلها وتفاعلها مع الوجود، فضلا عن أنها تتيح حرية قصوى للبحث عن صيغ تعبيرية فاعلة ومؤثرة، مبنية على التركيز والتكثيف، والاكتفاء من الشيء بالإشارة، وهي أيضا بحث لا مشروط عن المعنى الذي يكمن في مكان ما بين التفاصيل، ومطاردة الجميل والفاتن والمهيب أيضا وأيضا، مما يحيل بكيمياء الدهشة كل نص إلى تحفة أدبية بديعة، ولأن القاص أو القاصة قناص حكايات، وأن كل حكاية هي بالضرورة كشف للسر، مثل النبوءة والسحر سواء بسواء، بحيث "إن الأدب يعبر عن الحياة، مثلما تعبر الخمر عن العنب" هكذا يزعم محمد خير الدين بطريقته السوريالية المعهودة.
تسبح بنا المبدعة المغربية سعيدة عفيف، من خلال قصص المجموعة العشر، داخل عوالم عجائبية تجريدية، بداية من العنوان المخاتل الماكر دون ريب، الذي سيفاجئ القارئ للوهلة الأولى، لغرابته إلى حد واضح، الغرابة التي تصدم القارئ، الجمال الذي ينهض على المفارقة العجيبة، وفتح الشهية على مزيد من الأسئلة التي توسّع الزمان، كما يعبّر عن ذلك موريس بلانشو، فعبد الفتاح كيليطو يستعمل مصطلح الغرابة بتعدد مستوياتها وأبعادها، من حيث إنها من أسس العملية الإبداعية، لكن قد نجد جوابا مباشرا فيما ذهب إليه رولان بارت، من أن العنوان هو البنية المستقلة التي نستشف من خلالها العلاقة التواصلية ما بين الخطاب والمتلقي، ويتقدم النص ويؤشر، فالجملة الإسمية التي تكون هذا العنوان تحيل من أول وهلة، على خصوصيات المطبخ المغربي وعلاقته الوطيدة بعوالم النساء، وثرائه وتنوعه، وما يحفل به من أصناف الأكل والمشهيات، التي بحسب علمي المتواضع، تناولها الأدب العربي في شقيه المعرب والشعبي بإسهاب كبير على مر العصور
كما أن القاصة تتوسل بترسانة من المقتبسات، والاستهلالات، والتصديرات، والأسانيد، أسماء لمعنى واحد لتلك المقدمات التي اختارتها المبدعة بعناية فائقة لتزين بها نواصي النصوص، جاء في كلام أبي هلال العسكري قوله: "أحسنوا معاشر الكتاب الابتداءات فهن دلائل البيان"، وفي نصوص خورخي لويس بورخيس أو أمبيرتو إيكو، قلما نجد نصا من دون استهلالات مستمدة من مصادر عدة ولغات متعددة، إنها بمثابة تجسيرات نصوصية موازية، تحوي قدرا من الحكمة والتبصر والمتعة والعبرة، خطابات قائمة بذاتها، عتبات على هيئة متون مضمرة تشارك في بنية النصوص، خطاب منتج لمعادلات سردية، نص ملحق بنص، نص مواز لنص يحقق في عمقه أغراضا فنية وبلاغية، وأخرى جمالية مرتبطة أساسا بالمتن القصصي، و"اختيار الكلام أصعب من تأليفه" كما يقول محمد بن عبد ربه، كما تشي إلى امتلاك القاصة سعيدة عفيف لكل مقومات وأدوات الكتابة القصصية الجادة، واعتمادها لغة أنيقة سلسة بسيطة وثراء أفكارها وتنوع المواضيع التي تعالجها.
أقول تماما أني أروم التقديم لهذه القصص القصيرات – دون الرغبة في توجيه القارئ والسقوط في التأويل أو نية إحداثه - بأنها تكاد تلتقي في رسالتها ومراميها الإنسانية، مشرعة شرفاتها علي فضاءات سوريالية، ابتداء من النص الأول "على المرقص"، الذي يثير مجموعة من الأسئلة الفلسفية، الرامية للوصول بنوعية حياة الكائن إلى الطمأنينة الروحية والصفاء الجواني، كما يجسدها راقصان يؤديان مشهدا استعراضيا يشتغل على عدة إيماءات جسدية وحوارية عميقة وأداء ممسرح، وعبر توليف أليغوري يجمع بين الواقع والخيال، مما يجعلنا ننساق لغواية السرد والرقص معا، لنكتشف في الختام أننا إزاء خدعة لإحدى اللعب الآلية، حيث الحياة لعب ولهو في كل أوجهها، ومتى وحيثما عرفنا كيف نجيد الرقص نكتشف سر الوجود وثراء الحياة، ومغزاها الحقيقي. خدعة فنية نجحت الساردة في سبك حبكتها بفنية ودربة راقية، فيما تحيل قصة "في انتظار حَبّ الرّشاد" على المطبخ المغربي وتنوعه، وتبيان علاقته بالعنصر النسوي أساسا، والتوجس مما قد يتهدده من أخطار في مواجهة تهديدات الأكلات السريعة وزحف العولمة، ويؤكد في بعده الرمزي على روح التضامن والتسامح وعلاقة الرجل بالمرأة، فــ "فْتاتْ الشَّطْبَة" مؤنث و"حَبّ الرّشاد" مذكر، هذا الاهتمام بحال المرأة ككائن بشري وإنسان بالدرجة الأولى هو محور مجمل النصوص، وبديهي بالنسبة للكتابة النسوية عموما، إذ تجتهد في رصد أوجه الاستغلال البشع والعنف والدمار الذي يحيق بالمجتمع، والبحث عن الهوية بين ركام التشظي والاستلاب والتيه، مما ينعكس بوعي أو دونه على مصير شخوص الحكايات، من خلال تهيؤات الغالية بطلة قصة "مسخ" وتوظيف حكاية هيبا ورغبته في الإفلات من لعنة عزازيل، وعبر شخصية "عايشة" التي ترمز لكل النساء، وإحساسهن بوعيهن الطبقي، وتمردهن على الوصاية، على الصمت، على التخطية، وعلى ما يحيق بهن من مظالم وعسف وغبن، وتعرية للجرح الأنثوي الذي يحاكم المجتمع الذي يعتبر جسد المرأة رهينة وغنيمة قسمة ونصيب، بينما يفتح نص "بحر الدماء"، بملامحه التجريدية ذات معالم الخيال العلمي، كوة على الحروب وما تخلفه من آثار جانبية ومن دمار شامل، ويرصد تنامي ظاهرة العنف والقتل ببرودة دم، وبلا أخلاقيات، وبلا جبهات مرسومة، ولا ضحايا محددين، إنه التاريخ المشترك للبشرية، ذلك الذي تحاول القاصة سعيدة عفيف النبش عنه في خزين الذاكرة، وتحويله إلى حلبة احتجاج ومعترك ميداني من أجل خلخلة الجاهز في الوعي الفحولي، والدفاع عن المرأة التي تخصص لها حيزا كبيرا في كتاباتها الإبداعية، مما يساعد على تعزيز وتقوية مكانتها الطبيعية والمستحقة في المشهد الإبداعي المغربي والعربي
لا يفوتني في نهاية هذا التقديم المتواضع، التنويه بهذا الإصدار الذي يسعد رابطة أقلام أحمر تقديمه، في إطار سلسلتها الدورية التكافلية الطوعية، التي تعتبر تعاملا حضاريا مع النشر، باعتباره ضرورة وجود، وظاهرة صحية تسعى إلى بعث مشهد ثقافي خلاق ومتطور ومنفتح على كل الحساسيات، في غياب الدعم التام للكتاب، وتراجع نسبة القراءة بين جمهور المتعلمين.
المهدي نقوس
اليوسفية 26 - 06 - 2015