ترى هل يأتي يوم تصبح فيه لكل أمة لهجة واحدة من لغتها، يتكلم بها عليتها أو سوادها ويكتب بها أدباؤها ويتحدث سوقتها؟ نحن نقول: لا نظن، ويقول أناس: بل هذا الذي يحدث يومًا بعد يوم حتى تزول اللهجات الفصحى، ويقل التفاوت بين ما يتكلم به الأثرياء في مجالسهم ومؤلفاتهم، وما يتكلم به الغوغاء في السوق وفي الطريق، ويستدلون بهذا التحريف الذي لا يزال يدخل في كل لغة فصيحة فينزل بها إلى اللهجة الدارجة، أو يرتفع باللهجة الدارجة إليها، ثم يقولون: وما عسى أن يكون مصير ذلك إلا أن تنعدم الفوارق، وتتوحد الأساليب ويتساوى العلية والسوقة في الكتابة وفي الكلام؟
هذا رأي لأصحابه يسهل عليك تمحيصه بسؤال تسأله وهو: هل وجدت قط قبل الآن أمة ذات حضارة وعمران كانت تنطق بلهجة واحدة في الكتابة والكلام؟ أو لعلك تذكرهم خطل هذا الرأي إذا سألتهم: وكيف وجدت اللهجات الفصيحة في الأمم أو كيف وجدت القواعد والمحسنات في كل لسان قديم أو حديث؟ أيرون أنها نجمت لتستعرض ساعة ثم تزول؟ أو أنها نجمت مصادفة واتفاقًا بغير أسباب داعية إلى ظهورها، وتثبيتها وتأصيل قواعدها، وإذا كانت السنة الغالبة في كل شيء هي أن تنتقل الأشياء من التوحد إلى التعدد، ومن التماثل إلى التنوع، فلماذا تشذ اللغات عنها فتنشأ متوحدة ثم تتفرق، ثم تعود إلى توحدها القديم، فالذي نشاهده ونحققه بالتجربة والاستقراء أن الناس ما تكلموا ولا يتكلمون الآن جميعًا بأسلوب واحد ولهجة واحدة، وسبب ذلك بسيط مفهوم، وهو أنهم لا يفكرون ولا يحسون على نمط واحد، ولا مناص من الاختلاف في التعبير إذا اختلف الناس في الفكر والإحساس، بل لا مناص من اختلاف الرجل الواحد في النطق بالعبارة الواحدة إذا اختلف موقعها من فكره وإحساسه بين ساعة وساعة، وبين موضوع وموضوع، وليس هذا شأن التعبير دون غيره، فإنه هو شأنهم كذلك في اللباس والسكن وأدوات الطعام والشراب، وسائر ما يشتركون فيه من مرافق الحياة، فكيف تريدهم مختلفين في أساليب الطعام الذي يكاد يتساوى فيه جميع الأحياء، ولا ترى أنهم يختلفون في اللهجات والعبارات وهي أولى أن تتشعب وتفترق على حسب ما بينهم من تشعب في الذوق والشعور والفكر والمعرفة والمقام؟ فلو أنك أتيت بلغة مصطلح عليها لا تفاوت بين لهجاتها وأساليبها ثم تركتها لأناس يرتضونها على حسب حظهم من الفهم والإحساس، لما مضى على ذلك حين حتى تكون هناك لهجة مهذبة ولهجة مبتذلة، وعبارات تستعمل في التوضيح العلمي والسياق الشعري، وأخرى تستعمل في مساومات الأسواق ومحادثات الطرقات، ولن يتكلم الناس على أسلوب واحد ولو كان كلامهم مقصورًا على معاني السوق والطريق، فكيف وهم يتناولون من المعاني ما تضيق به رحاب العلوم والفنون، وتتمثل أغراضه في معارض شتى من الفلسفة، والدين، والأدب، والسياسة، والصناعة، وسائر المعارف والأغراض.
ويقول أصحاب هذا الرأي: ما لنا لا نكتب باللغة التي نتكلم بها في البيت، ونقضي بها مصالحنا في السوق، وكأن هذا أوجه ما يحتجون به للعامية على الفصيحة، وأظهر ما يظهرون به فضل اللغة التي لا قواعد لها على لغة القواعد والأساليب، ولو سألتهم: ما لنا لا نلبس الجلابيب في الأندية ومراكز الأعمال، أو ما لنا لا نخلع كل لباس في حمارة القيظ، ولا حاجة لأكثرنا باللباس في وقدة الحر الشديد؟ لو سألتهم هذا السؤال لتذكروا أن ما يصنع في البيت ليس من الضروري أن يصنع في كل مكان، وليس من اللازم المتفق عليه أن يكون هو أصل التقاليد وقسطاس المعاملات. فما كان البيت بيتًا إلا ليجوز فيه من دعة الجسد والفكر، ما ليس يجوز في الديوان والدكان، فضلًا عن المدرسة والنادي، ومحافل البحث والظهور، وما كانت النفس لتستحضر جميع مواقف الحياة، وهي في حالة التبذل والراحة، أو حالة الاضطرار ومعالجة مطالب الأجسام.
•••
وقد تسمع من هؤلاء من يبشر باللغة العامية، ويحب أن تكتب بها روايات المسارح، وتبسط بها مواقف الروعة والإحساس، وحجته في هذه الدعوة أننا نحكي الطبيعة في التمثيل، ونريد أن نتكلم على المسرح كما نتكلم في كل مكان! ولكنك تراه يذهب إلى دار التمثيل فلا يفوته أن يلبس رداءها الخاص الذي اصطلح القوم على لبسه في هذه الدور، ولا ينسى أن ينبذ عنه عاداته التي تعودها في مجالسه وأشغاله ورياضاته، فما باله يا ترى لا يلبس في دار التمثيل كما يلبس في كل مكان؟ وما باله يذكر «الزينة» في الردهة وينساها حيث تجب الزينة على معرض الفن والتجميل؟ بل لماذا يبرز لنا الممثل على المسرح وقد طلى وجهه بالمساحيق، وصبغ جفونه بالكحل، ولا يتراءى لنا بوجهه وجفنه كما خلقهما الله، وكما نراهما في القهوة وغرف الاستقبال!
فالحق أن «التهيؤ» ركن لا غنى عنه في جميع الفنون وفي مقدمتها التمثيل، ولا بد لإلقاء الأثر البليغ في نفس المشاهد من «تهيئة» خاصة تنسيه الحياة الدارجة، وتغمره في جو الفن والجمال وبيئة البلاغة والتفكير، فما الموسيقى وما المناظر والصور وما المساحيق والألوان وما الشارات والمياسم والحركات التي تنبث هنا وهناك في الملاعب والمعارض الفنية إلا وسائل «للتهيؤ الفني»، وتحضير الذهن لحالة شعورية غير التي كان عليها في البيت أو في الطريق، فمن حق اللغة أن تشترك في ذلك التهيؤ، الذي لا غنى عنه وأن تشعر المشاهد أنه في مكان تجب له الرعاية، ويحرم فيه الابتذال، وانظر أنت إلى الرجل الساذج تلقى إليه الموعظة باللغة الفصحى، ثم انظر إليه وأنت تلقي إليه تلك الموعظة باللغة التي يستخدمها هو في مخاطبة زملائه وأهله، فإنك لتجدنه في الحالة الثانية وقد تبسم وترخص ونظر إلى الأمر نظرته إلى القصص والفكاهة والقول الذي يؤخذ أو ينبذ على حد سواء، كما يضحك حين يرى الإمام العالم في ثياب الباعة والمكارين، أو يرى الأمير الحاكم في غير سمته وحواشيه، فليس من الكسب للحاسة الفنية أن تفقدها «تهيؤ» اللغة التي يحتاج إليه المشاهد أشد من حاجته إلى كسوة تذكره حين يذهب إلى الملعب أنه ذاهب إلى مكان غير البيت وغير الطريق، وليس من حسن التخريج أن تظهر اللغة على المسرح بغير طلائها الذي يناسب ذلك المقام.
ثم أين هي محاكاة الطبيعة «الحرفية» في روايات الغناء، ومفاجآت الضحك والفكاهة؟ وأين هي محاكاة الطبيعة الحرفية في رجل فرنسي تنطقه على مسارح القاهرة بالعربية البلدية؟ وأين هي محاكاة الطبيعة الحرفية في إخلاء المسرح من لوازم الأحاديث والمعيشة، من سعال وتثاؤب ونوم وخلع ولبس وما إلى ذلك مما نراه في الحياة ولا نراه في الروايات؟ كل أولئك نتسامح فيه مرضاة لدواعي «التهيؤ» التي يتم بها جمال الحقيقة، وتشرف بها أغراض الفنون فإذا نحن تسامحنا في الحكاية اللغوية بعض هذا التسامح، فقد يكون ذلك أبر بالأدب الذي ينتمي إليه التمثيل، وأبر بالحقيقة وأبر بالفنون.
إنما يُعنى الفن المسرحي قبل كل شيء بتمثيل الحالات المعنوية، لا بنقل الألفاظ وحكاية النبرات، وليس من المعقول أن تنشأ في نفس السوقي المصري حالة معنوية لم تنشأ قبل اليوم مرات في نفس رجل متكلم باللغة العربية، فالقول بان أطوار بعض الناس لا يعبر عنها بلغة فصيحة أو قريبة من الفصيحة قول ينم على جهل وعجز ورغبة في الشعوذة باسم المحاكاة الصادقة والتمثيل المطبوع، ونحن مع هذا لا نمنع اللغة العامية على المسرح بتاتًا؛ لأنها قد ترد مورد المجانة فتملح في الذوق وتظرف في مواضعها من بعض الروايات، ولكنا نقول إن إنطاق العامي بالفصحى البليغة خير من إنطاق جميع الناس بلغة العامة، وعبارات المواقف التي لا سمو فيها ولا صيانة.
•••
أما الذين يستحسنون التعبير بالعامية، ويؤثرونها على الفصيحة لسهولة كتابتها وفهمها فهم مخطئون فيما يتوهمون، بل هم يعكسون الحقيقة، ويتكلمون من غير تجربة ولا روية، فالكتابة بالفصحى أسهل على معالجها من الكتابة بلغة العامة والجهلاء. ومن توهم غير ذلك فليتناول صفحة يكتبها بالفصحى، ثم يحاول ترجمتها إلى العامية، ولينظر أيهما أشقى عليه وأحوج إلى الدقة وكثرة التمحيص والانتقاء، ولسنا نشترط أن تكون الصفحة في غرض من الأغراض العالية في الفلسفة أو الشعر أو العلم أو الفن، فإن صعوبة التعبير بالعامية في هذه الأغراض أبين من أن تحتاج إلى بيان. ولكنا نطلبها صفحة في البيع والشراء والمساومة، وسياسة الجماهير وأشباه هذه المعاني التي لا تعز على الدهماء، فإن تبين بعد هذا أن الكتابة بالعامية ليست بأيسر من الكتابة بالفصحى لم تبق إلا دعوى الجمال والرونق، وليس يدعيها للغة العامة على لغة الخاصة إنسان له معرفة بالاثنتين.
أما سهولة الفهم فحسبك منها أن عامية القاهرة قلما تفهم على جليتها في بعض قرى الصعيد، وأن عامية مصر لا تفهم في تونس والعراق أو في اليمن وفلسطين، وأنك تكتب الفصحى فيفهمك من في مراكش، ومن في صنعاء، ومن في جاوة، ومن في نيويورك، ولكنك تكتب العامية فتحتاج إلى عشرين ترجمانًا ينقلونها إلى إخوانك في اللغة والآداب، ثم هم ينقلونها إلى لهجات تختلف في ملابسات المعاني ومقارنات الأفكار، فلا تؤدي مرادك إلا على شيء من التجوز والتبديل.
إن في كل أمة لغة كتابة ولغة حديث، وفي كل أمة لهجة تهذيب ولهجة ابتذال، وفي كل أمة كلام له قواعد وأصول، وكلام لا قواعد له ولا أصول، وسيظل الحال على هذا ما بقيت لغة وما بقي ناس يتمايزون في المدارك والأذواق، فلن يأتي اليوم الذي يكتب فيه فردوس ملتون بلغة العامل الإنجليزي، وفلسفة كانت بلغة الزارع الألماني، ولن يأتي اليوم الذي تستوعب فيه قوالب السوق كل ما يخطر على قرائح العبقريين، ويختلج في ضمائر النفوس، ويتردد في نوابغ الأذهان، فالفصيحة باقية والعامية باقية مدى الزمان، ومزية الأولى القواعد والأحكام، ومزية الثانية الفوضى والاختلاط، وإذا جاز في زمن من الأزمان أن ننسى الفوارق كلها في التفكير والإحساس والشارة والمقام، فهناك يجوز أن تلغى القواعد وتبطل اللهجات، وتطغى العامية على الفصيحة في كل بيئة وكل موضوع، وهيهات!
ــــــــــــــــ
- ساعات بين الكتب، عباس محمود العقاد.
هذا رأي لأصحابه يسهل عليك تمحيصه بسؤال تسأله وهو: هل وجدت قط قبل الآن أمة ذات حضارة وعمران كانت تنطق بلهجة واحدة في الكتابة والكلام؟ أو لعلك تذكرهم خطل هذا الرأي إذا سألتهم: وكيف وجدت اللهجات الفصيحة في الأمم أو كيف وجدت القواعد والمحسنات في كل لسان قديم أو حديث؟ أيرون أنها نجمت لتستعرض ساعة ثم تزول؟ أو أنها نجمت مصادفة واتفاقًا بغير أسباب داعية إلى ظهورها، وتثبيتها وتأصيل قواعدها، وإذا كانت السنة الغالبة في كل شيء هي أن تنتقل الأشياء من التوحد إلى التعدد، ومن التماثل إلى التنوع، فلماذا تشذ اللغات عنها فتنشأ متوحدة ثم تتفرق، ثم تعود إلى توحدها القديم، فالذي نشاهده ونحققه بالتجربة والاستقراء أن الناس ما تكلموا ولا يتكلمون الآن جميعًا بأسلوب واحد ولهجة واحدة، وسبب ذلك بسيط مفهوم، وهو أنهم لا يفكرون ولا يحسون على نمط واحد، ولا مناص من الاختلاف في التعبير إذا اختلف الناس في الفكر والإحساس، بل لا مناص من اختلاف الرجل الواحد في النطق بالعبارة الواحدة إذا اختلف موقعها من فكره وإحساسه بين ساعة وساعة، وبين موضوع وموضوع، وليس هذا شأن التعبير دون غيره، فإنه هو شأنهم كذلك في اللباس والسكن وأدوات الطعام والشراب، وسائر ما يشتركون فيه من مرافق الحياة، فكيف تريدهم مختلفين في أساليب الطعام الذي يكاد يتساوى فيه جميع الأحياء، ولا ترى أنهم يختلفون في اللهجات والعبارات وهي أولى أن تتشعب وتفترق على حسب ما بينهم من تشعب في الذوق والشعور والفكر والمعرفة والمقام؟ فلو أنك أتيت بلغة مصطلح عليها لا تفاوت بين لهجاتها وأساليبها ثم تركتها لأناس يرتضونها على حسب حظهم من الفهم والإحساس، لما مضى على ذلك حين حتى تكون هناك لهجة مهذبة ولهجة مبتذلة، وعبارات تستعمل في التوضيح العلمي والسياق الشعري، وأخرى تستعمل في مساومات الأسواق ومحادثات الطرقات، ولن يتكلم الناس على أسلوب واحد ولو كان كلامهم مقصورًا على معاني السوق والطريق، فكيف وهم يتناولون من المعاني ما تضيق به رحاب العلوم والفنون، وتتمثل أغراضه في معارض شتى من الفلسفة، والدين، والأدب، والسياسة، والصناعة، وسائر المعارف والأغراض.
ويقول أصحاب هذا الرأي: ما لنا لا نكتب باللغة التي نتكلم بها في البيت، ونقضي بها مصالحنا في السوق، وكأن هذا أوجه ما يحتجون به للعامية على الفصيحة، وأظهر ما يظهرون به فضل اللغة التي لا قواعد لها على لغة القواعد والأساليب، ولو سألتهم: ما لنا لا نلبس الجلابيب في الأندية ومراكز الأعمال، أو ما لنا لا نخلع كل لباس في حمارة القيظ، ولا حاجة لأكثرنا باللباس في وقدة الحر الشديد؟ لو سألتهم هذا السؤال لتذكروا أن ما يصنع في البيت ليس من الضروري أن يصنع في كل مكان، وليس من اللازم المتفق عليه أن يكون هو أصل التقاليد وقسطاس المعاملات. فما كان البيت بيتًا إلا ليجوز فيه من دعة الجسد والفكر، ما ليس يجوز في الديوان والدكان، فضلًا عن المدرسة والنادي، ومحافل البحث والظهور، وما كانت النفس لتستحضر جميع مواقف الحياة، وهي في حالة التبذل والراحة، أو حالة الاضطرار ومعالجة مطالب الأجسام.
•••
وقد تسمع من هؤلاء من يبشر باللغة العامية، ويحب أن تكتب بها روايات المسارح، وتبسط بها مواقف الروعة والإحساس، وحجته في هذه الدعوة أننا نحكي الطبيعة في التمثيل، ونريد أن نتكلم على المسرح كما نتكلم في كل مكان! ولكنك تراه يذهب إلى دار التمثيل فلا يفوته أن يلبس رداءها الخاص الذي اصطلح القوم على لبسه في هذه الدور، ولا ينسى أن ينبذ عنه عاداته التي تعودها في مجالسه وأشغاله ورياضاته، فما باله يا ترى لا يلبس في دار التمثيل كما يلبس في كل مكان؟ وما باله يذكر «الزينة» في الردهة وينساها حيث تجب الزينة على معرض الفن والتجميل؟ بل لماذا يبرز لنا الممثل على المسرح وقد طلى وجهه بالمساحيق، وصبغ جفونه بالكحل، ولا يتراءى لنا بوجهه وجفنه كما خلقهما الله، وكما نراهما في القهوة وغرف الاستقبال!
فالحق أن «التهيؤ» ركن لا غنى عنه في جميع الفنون وفي مقدمتها التمثيل، ولا بد لإلقاء الأثر البليغ في نفس المشاهد من «تهيئة» خاصة تنسيه الحياة الدارجة، وتغمره في جو الفن والجمال وبيئة البلاغة والتفكير، فما الموسيقى وما المناظر والصور وما المساحيق والألوان وما الشارات والمياسم والحركات التي تنبث هنا وهناك في الملاعب والمعارض الفنية إلا وسائل «للتهيؤ الفني»، وتحضير الذهن لحالة شعورية غير التي كان عليها في البيت أو في الطريق، فمن حق اللغة أن تشترك في ذلك التهيؤ، الذي لا غنى عنه وأن تشعر المشاهد أنه في مكان تجب له الرعاية، ويحرم فيه الابتذال، وانظر أنت إلى الرجل الساذج تلقى إليه الموعظة باللغة الفصحى، ثم انظر إليه وأنت تلقي إليه تلك الموعظة باللغة التي يستخدمها هو في مخاطبة زملائه وأهله، فإنك لتجدنه في الحالة الثانية وقد تبسم وترخص ونظر إلى الأمر نظرته إلى القصص والفكاهة والقول الذي يؤخذ أو ينبذ على حد سواء، كما يضحك حين يرى الإمام العالم في ثياب الباعة والمكارين، أو يرى الأمير الحاكم في غير سمته وحواشيه، فليس من الكسب للحاسة الفنية أن تفقدها «تهيؤ» اللغة التي يحتاج إليه المشاهد أشد من حاجته إلى كسوة تذكره حين يذهب إلى الملعب أنه ذاهب إلى مكان غير البيت وغير الطريق، وليس من حسن التخريج أن تظهر اللغة على المسرح بغير طلائها الذي يناسب ذلك المقام.
ثم أين هي محاكاة الطبيعة «الحرفية» في روايات الغناء، ومفاجآت الضحك والفكاهة؟ وأين هي محاكاة الطبيعة الحرفية في رجل فرنسي تنطقه على مسارح القاهرة بالعربية البلدية؟ وأين هي محاكاة الطبيعة الحرفية في إخلاء المسرح من لوازم الأحاديث والمعيشة، من سعال وتثاؤب ونوم وخلع ولبس وما إلى ذلك مما نراه في الحياة ولا نراه في الروايات؟ كل أولئك نتسامح فيه مرضاة لدواعي «التهيؤ» التي يتم بها جمال الحقيقة، وتشرف بها أغراض الفنون فإذا نحن تسامحنا في الحكاية اللغوية بعض هذا التسامح، فقد يكون ذلك أبر بالأدب الذي ينتمي إليه التمثيل، وأبر بالحقيقة وأبر بالفنون.
إنما يُعنى الفن المسرحي قبل كل شيء بتمثيل الحالات المعنوية، لا بنقل الألفاظ وحكاية النبرات، وليس من المعقول أن تنشأ في نفس السوقي المصري حالة معنوية لم تنشأ قبل اليوم مرات في نفس رجل متكلم باللغة العربية، فالقول بان أطوار بعض الناس لا يعبر عنها بلغة فصيحة أو قريبة من الفصيحة قول ينم على جهل وعجز ورغبة في الشعوذة باسم المحاكاة الصادقة والتمثيل المطبوع، ونحن مع هذا لا نمنع اللغة العامية على المسرح بتاتًا؛ لأنها قد ترد مورد المجانة فتملح في الذوق وتظرف في مواضعها من بعض الروايات، ولكنا نقول إن إنطاق العامي بالفصحى البليغة خير من إنطاق جميع الناس بلغة العامة، وعبارات المواقف التي لا سمو فيها ولا صيانة.
•••
أما الذين يستحسنون التعبير بالعامية، ويؤثرونها على الفصيحة لسهولة كتابتها وفهمها فهم مخطئون فيما يتوهمون، بل هم يعكسون الحقيقة، ويتكلمون من غير تجربة ولا روية، فالكتابة بالفصحى أسهل على معالجها من الكتابة بلغة العامة والجهلاء. ومن توهم غير ذلك فليتناول صفحة يكتبها بالفصحى، ثم يحاول ترجمتها إلى العامية، ولينظر أيهما أشقى عليه وأحوج إلى الدقة وكثرة التمحيص والانتقاء، ولسنا نشترط أن تكون الصفحة في غرض من الأغراض العالية في الفلسفة أو الشعر أو العلم أو الفن، فإن صعوبة التعبير بالعامية في هذه الأغراض أبين من أن تحتاج إلى بيان. ولكنا نطلبها صفحة في البيع والشراء والمساومة، وسياسة الجماهير وأشباه هذه المعاني التي لا تعز على الدهماء، فإن تبين بعد هذا أن الكتابة بالعامية ليست بأيسر من الكتابة بالفصحى لم تبق إلا دعوى الجمال والرونق، وليس يدعيها للغة العامة على لغة الخاصة إنسان له معرفة بالاثنتين.
أما سهولة الفهم فحسبك منها أن عامية القاهرة قلما تفهم على جليتها في بعض قرى الصعيد، وأن عامية مصر لا تفهم في تونس والعراق أو في اليمن وفلسطين، وأنك تكتب الفصحى فيفهمك من في مراكش، ومن في صنعاء، ومن في جاوة، ومن في نيويورك، ولكنك تكتب العامية فتحتاج إلى عشرين ترجمانًا ينقلونها إلى إخوانك في اللغة والآداب، ثم هم ينقلونها إلى لهجات تختلف في ملابسات المعاني ومقارنات الأفكار، فلا تؤدي مرادك إلا على شيء من التجوز والتبديل.
إن في كل أمة لغة كتابة ولغة حديث، وفي كل أمة لهجة تهذيب ولهجة ابتذال، وفي كل أمة كلام له قواعد وأصول، وكلام لا قواعد له ولا أصول، وسيظل الحال على هذا ما بقيت لغة وما بقي ناس يتمايزون في المدارك والأذواق، فلن يأتي اليوم الذي يكتب فيه فردوس ملتون بلغة العامل الإنجليزي، وفلسفة كانت بلغة الزارع الألماني، ولن يأتي اليوم الذي تستوعب فيه قوالب السوق كل ما يخطر على قرائح العبقريين، ويختلج في ضمائر النفوس، ويتردد في نوابغ الأذهان، فالفصيحة باقية والعامية باقية مدى الزمان، ومزية الأولى القواعد والأحكام، ومزية الثانية الفوضى والاختلاط، وإذا جاز في زمن من الأزمان أن ننسى الفوارق كلها في التفكير والإحساس والشارة والمقام، فهناك يجوز أن تلغى القواعد وتبطل اللهجات، وتطغى العامية على الفصيحة في كل بيئة وكل موضوع، وهيهات!
ــــــــــــــــ
- ساعات بين الكتب، عباس محمود العقاد.