كنت وأنا أقود سيارتي على الطريق المؤدية إلى المطار، أراجع في ذهني تفاصيل المكالمة الهاتفية التي دارت بيني وبين البروفيسور كاتاني، منذ ثلاثة أيام خلت. والبروفيسور كاتاني هو من أشرف على بحث التخرج الذي أعددته في علم الآثار في إحدى الجامعات الإيطالية، وللرجل عليّ في الواقع فضائل لن أستطيع ردها ما حيّيت، فلقد كان يعتبرني أبنا لم ينجبه من صلبه، ولم يدخر وسعا في مساعدتي، خاصة عندما زارني هنا وتأكد أني أنحدر من عائلة معدمة أو تكاد. وقد سعى بعد تخرجي إلى أن أعمل معه في إيطاليا، وقدم من المغريات ما يجعلني أوافق، ولكني اعتذرت بكل لطف.
كنت ولا زلت أعتقد أنه لابد من رد دين بلدي المعلق برقبتي. عدت لتدريس علم الآثار هنا، لطلبة يتحرّقون شوقا إلى كشف أسرار التاريخ،ونبش مخلفات أمم بائدة. ولم يزدني ذلك إلا احتراما عند البروفيسور كاتاني، فلعله راى في موقفي نوعا من الوفاء لم يتعود عليه، فعمل على بقاء حبل الود بيننا متصلا.
كان يزورني أكثر من مرة في السنة الواحدة، وأردّ الزيارة كلما كان ذلك ممكنا. ومنذ ثلاثة أيام هاتفني في مكتبي وأخبرني أن صديقة له ستزورني وعليّ أن أساعدها في ما ستأتي من أجله. وفي الحقيقة أعربت له عن سعادتي بذلك، فأنا حين أساعد صديقة أستاذي إنما أرد بعض ما عليّ من دين.
عندما دلفت إلى بهو المطار كانت الطائرة قد حطّت، لكن ركابها مازالوا لم ينهوا إجراءات القدوم بعد. اقتربت من بوابة الوصول، وأخرجت من جيبي ورقة كتبت عليها«فرانشيسكا» قمت بعرضها أمام أنظار القادمين الذي بدؤوا في التقاطر على البّوابة. كانت تلك الطريقة الأمثل لتتعرّف علىّ ضيفتي، فعلى ما يبدو كان قرار السفر مفاجئا بالنسبة لها، فأغفلت ترتيب بعض الأمور المتعارف عليها في مثل هذه الوضعيات.
كان أعضاء الفوج السياحي يمرون امام الورقة التي أعرضها، يقرؤونها ثم يسترقون النظر إلي، يبتسم ويتظاهر البعض الآخر بعدم المبالاة. وأوشك آخر المسافرين على المغادرة ولم يقترب منّي أحد. وسرعان ما ابتسمت حينما خطر لي أن صديقة البروفيسور لابّد وأن تكون من العجائز، وبالتالي فإنها ستسغرق وقتا أطول من المعتاد حتى تتمكن من الوصول إلى حيث أنا. وقررت أن أنتظر وقتا آخر. ومرت أكثر من ربع ساعة دون جدوى، حتّى كاد اليأس يستولي عليّ، ولكن حين هممت بطي الورقة، ومغادرة المكان، أحسست بيد ناعمة توضع على كتفي من الخلف، وصوت ملائكي يقول«سنيور نسيم...أنا فرانشيسكا»
* * * * * *
وجدت فمي ينفغر من تلقاء نفسه من شدة الدهشة التي أصابتي. كانت محدثتي امرأة في العقد الثالث من العمر متوسطة القامة. شعرها الليلي الحالك، ينسدل ليغطّي بالكاد أذنيها. وجهها صبوح بأنف دقيق وعينان كأنهما البحر يشع منهما بريق عجيب. لاحظت فرنشيسكا دهشتني فابتسمت وقالت: « كنت تنتظر عجوزا سنها فوق الستين، أليس كذلك؟»
زادت دهشتي لذكائها وقلت في ما يشبه الهمس : «الواقع أن ذلك صحيح...صحيح تماما يا سيدتي فعندما قال البروفيسور كاتاني أن صديقته ستزورني، اعتقدت أنك ستكونين في مثل سنه».
نظرت إليّ وأشارت إلى حقيبة زرقاء اللون كانت غير بعيدة عنا وقالت: «حسنا يا سنيور نسيم...يمكننا أن نكمل بقية الحديث في الطريق إلى النزل».
قمت بحمل الحقيبة، ثم أشرت إليها أن تتبعني وقد خطر ببالي للتو أن هذه المرأة لاشك من أهل الشمال الإيطالي، وذلك لسببين، لهجتها الراقية وغطرستها التي حاولت إخفاءها فلم تفلح.
هيمن الصمت علينا لبعض الوقت ونحن في السيارة باتجاه النزل، ولكنها كانت من مزقه حينما قالت: «سنيور نسيم أرى أنك لم تطلق العزوبية بعد».
كانت الملاحظة مفاجئة بالنسبة لي، لكني حاولت أن أبدو هادئا، وقلت: «هل تعرفين عني أشياء أخرى؟».
شع ذلك البريق العجيب من عينيها الزرقاوين وقالت في هدوء أعجب: «لا تستغرب يا سنيور فأنا أعرفك منذ كنت طالبا هناك...فالبروفيسور كاتاني صديق لوالدي، وكثيرا ما كنت أزوره في بيته او في مكتبه...وما أكثر ما كنت أراك عنده، ولكنك لم تكن تعيرني أي اهتمام على ما يبدو، بالرغم اننا كنّا ندرس نفس الإختصاص بفارق وحيد أنك كنت في سنة التخرج، بينما كنت لا أزال في سنتي الثالثة ».
حاولت أن أجد ردا على ما قالته لي، بل حاولت أن أنبش في ذاكرتي عن صورتها، لقد عرفت الكثيرات هناك، ولكن لم اعرف امرأة في مثل جمالها. ولعلها فهمت ما يدور في رأسي، فقالت وهي تنظر إلى الطريق من خلال النافذة: «لا عليك لقد وصلنا...هل أطمع في تناول العشاء معك الليلة؟».
ودونما تفكير وجدتني أقول لها وأنا أنظر إليها في استسلام: «هذا شرف كبير لي يا سيدتي».
مرت الساعات القليلة التي انقضت بين لحظة انفصالي عن فرنشيسكا وموعد العشاء، في بطء شديد، حتّى خلت أنها أعوام. تقاذفتني فيها الهواجس والظنون...امرأة بمثل هذا الجمال، تأتي في مهمة مازلت أجهل كنهها، وتقول أنها كانت تعرفني هناك، بل أنها ألمحت لي أنها سعت إلى الارتباط بي ولم تفلح. أتراها من عصابة المافيا؟
وماذا ستجد المافيا عندي؟ غير مرتّب شهري لا يكاد يفي بالحاجة. أو لعلّها تريد السطو على أحد أبحاثي... لكنني سرعان ما طردت الفكرة من رأسي عندما تذكرت أنّي أنشرها أوّلا بأوّل. دار كل ذلك في ذهني المتعب وأنا في الطريق إلى النزل الذي تقيم فيه فرنشيسكا. ولكني حين دخلت إلى المطعم ورأيتها جالسة في انتظاري نسيت كل شيء.
كانت تلبس فستانا طويلا، أسود اللون وبلا أكمام، بحيث بكشف عن زنديها المرمرين، وجسد متناسق جذّاب. اقتربت منها وحييتها بكل أدب. نظرت إليّ مبتسمة واكتفت بمد يدها في حركة فهمت منها أنه يجب عليّ تلك اليد. انحنيت وقبلت يدها كما يفعل أيّ جنتلمان. أثار ذلك سرورها، وهمست مرحّبة بي بعد أن أشارت إليّ بالجلوس. كان النور خافتا، وعدد النزلاء قليل، ووجدتني أنظر إليها في صمت. أكثر ما شدّني إليها عيناها الزرقاوان، حتىّ أنها لاحظت ذلك فأسرعت إلى تحويل نظرها، متظاهرة بالبحث عن النادل. أنقذها النادل من الحرج، فطلبت عشاء خفيفا، واكتفيت أنا بفطيرة جبن. أثناء ذلك رفعت رأسها و نظرت إليّ مليا ثم قالت : «تريد أن تعرف سبب حضوري أليس كذلك ».
وضعت الشوكة والسكين على الطاولة ، ثم شبكت يديها على صدرها وقالت : « قبل أن أجيبك أحب أن أذكرك أنّك وعدت البروفسور كاتاني بمساعدتي.
- وأنا ما زلت عند وعدي.
- إذا وجدت الفكرة سيئة يمكنك أن تعتبر نفسك في حل من هذا الوعد»
ران الصمت لبعض الوقت بيننا، وأحسست أنها تحاول استفزازي، وقررت أن أستمر معها في هذه اللعبة المثيرة إلى نهايتها.
قلت لها في ما يشبه التهكم : « هل الأمور صعبة إلى هذه الدرجة ؟»
وكأنها فهمت ما أرمي إليه، فقالت بسرعة : « سنيور نسيم، لا أحب أن أضيع وقتك في ما لا يعنى ...أنا هنا من أجل جد ي و أنت الوحيد من يستطيع مساعدتي.
- ولكني لا أفهم يا سيدتي، ما علاقة جدّك بكل هذا؟
- أوه ... هذه حكاية طويلة ملخّصها أن جدي كان مهندس مناجم في مدينة المتلوي في بدايات القرن الماضي، ومات في ذلك الانهيار الكبير.
- هل تقصدين انهيار منجم جبل الوصيف ؟
- نعم هو ذاك !!»
أعترف أن معرفتي بفرنشيسكا اتخذت في تلك اللحظة منعرجا جديدا، بل أن العلاقة بيننا اكتسبت معنى لم أكن لأسمح به لولا شعور المغامر وشوق العالم اللذان تحركا في داخلي فجأة. فتحت فرنشيسكا حقيبة يدها وأخرجت منها كتابا بغلاف جلدي ناولتني إيّاه قانلة : « هذه يومياته التي كان يكتبها بانتظام... سلمتني إياها جدتي عندما علمت أني أنوي الحضور إلى هنا. هذه اليوميات هي الشيء الوحيد الذي عادت به من تونس. حتّى الجثة لم يتم العثور عليها، بالرغم من الجهود الجبّارة التي قامت بها السلطات المدنية الفرنسية».
تصفحت اليوميات بعناية نسبية، ثم قلت : « شيء محزن حقا، لقد اطلعت على الكثير من الوثائق التي تحدثت عن تلك الكارثة، وأعتقد أن علا الجثث التي لم يعثر عليها كان تسعة عشرة جثة، كما أذكر أن من بين الضحايا مهندس واحد... أريد أن أقرا هذه اليوميات، بعد إذنك طبعا».
نظرت إليّ فرنشيسكا في شيء من الحزن، وأومأت برأسها أن نعم. قفزت في ذهني فكرة مفاجئة، فوقفت وقلت لفرنشيسكا : « هل تريدين أن تسمعي شهادة حية على تلك الكارثة ؟
- نعم ...نعم! أريد ذلك بالتأكيد
- هيّا اتبعيني إذن.»
* * * * *
لا أعرف لماذا خطر ببالي في تلك اللحظة إبراهيم الزبيدي المعروف بالسرجان. وهو محار ب قديم، كان والده من بين الذين قضوا في انهيار المنجم ولم يعثر أحد على جثته. فقررت أن أجمعه بفرنشيسكا.
كان السرجان قد بلغ من العمر عتيّا، وانقطع عن الناس في كوخ بناه بنفسه في جنّة في عمق الواحة، كان قد ورثها عن العائلة. وكنت على علم أني سأجده هناك، فقد زرته أكثر من مرة، لقرابة قديمة كانت تجمعه بوالدتي
بعد عشرين دقيقة من التوغل في الواحة، وجدتني وفرنشيسكا أمام باب الكوخ ندقه، وقد شجعنا على نلك أن نورا كان ينبعث من داخله. خرج إلينا السرجان وكان مخمورا كعادته. وحين رآنى تهللت أساريره ودعانا إلى الدخول. كان الكوخ قذرا، وزجاجات الخمر تملأ المكان. عرّفته بفرنشيسكا، ففوجئت بأنّه يتكلم لغة إيطالية لا بأس بها. وعزا ذلك إلى أنه كان صديقا لبعض الإيطاليين، وإلى أسره من طرف الجيش الإيطالي في الحرب العالمية الثانية.
شعّت عينا فرنشيسكا بذلك البريق العجيب وهتفت : « سيدي هل تعرف مهندسا اسمه جوليانو تراباتوني؟»
دهش السرجان، بل بدا كما لو أنه أصيب بصعقة. بلع ريقه بصعوبة، وبقي بلا حراك لبضع ثوان،
ثم قام إلى صندوق قديم، وأفرغ محتواه على طاولة كانت هناك. تناثرت مجموعة من الصور بلا نظام. وبعد لحظات تناول إحداها، ومدها إلى فرنشيسكا قانلا : « هل تقصدين هذا ؟»
أخذت فرنشيسكا الصورة وتأملتها بلهفة ثم صاحت : « أعرفه من الصور فقط... ولكن... إنّه... إنّه هو... يا إلاهي كم أنت عظيم».
تنهد السرجان وأغمض عينيه محاولا العودة بذكرياته إلى زمن بعيد: « في الصورة أبي وجدك وأنا، وكان لي من العمر تسع سنوات. لقد أُخذت هذه الصورة قبل الكارثة بأسبوع واحد... جوليانو... لا أحد يعرفه في صفوف العمّال بهذا الاسم... كانوا ينادونه بالجنيور الجيلاني،لأنه كان رجلا طيبا وعلى علاقة حميمة بالعمّال التونسيين... في إحدى المرات، أصابتني الحمى، فحملني في سيارته إلى المدينة المجاورة في منتصف الليل. وكان كثيرا ما يتدخل لمساعدة أبي الذي كان غير محبوب من الإدارة لنشاطه النقابي.... رحمه الله برحمة النصارى».
انقضى أكثر الليل في حكايات قديمة، وكان السرجان يجيب فرنشيسكا عن كل سؤال تطرحه بإسهاب. ثم اتفقنا أن نسافر ثلاثتنا في الغد إلى مدينة المتلوي حتى تتمكن فرنشيسكا من معاينة المكان الذي كان مسرحا لتلك الكارثة الأليمة.
* * * * *
قبل أن نقترب من باب النزل أمسكتني فرنشيسكا من ذراعي، وألصقت رأسها بصدري، و همست : «كنت على يقين أنك ستساعدني يا نسيم ! فشكرا لك ».
كانت تسير ملتصقة بي كطفلة صغيرة تريد اتقاء البرد بجسد أبيها. وفي حركة مفاجئة لم أتوقعها، كانت مزيجا من الرقّة و الجرأة واللهفة، قامت فرنشيسكا بطبع قبلة على خدي وانطلقت تعدو نحو باب النزل.
ولم أنم تلك الليلة...
ولم يكن السبب قبلة فرنشيسكا، لكنها تلك اليوميات التي كتبها جدها. الغريب في الأمر أن كثيرا من الأحداث التي رواها السرجان، تطابقت مع ما كتبه جوليانو. كان هو المسؤول عن المنجم الذي انهار، وقد اشتكى له العمّال المحليّون من بعض العمّال المغاربة الذي كانوا يصرّون على العمل في النوبة الليلية، وينزوون في أحد الدواميس، بعد منتصف الليل لتأدية طقوس غريبة ويغنون بلغة غير مفهومة. وكان ذلك يصيب زملاءهم بالهلع، خاصة بعد المرّات التي بدأت فيها قطعان بنات آوى في الظهور من شقوق الداموس. بل أن بعضهم زعم أنه رأى مخلوقات غريبة بجسد آدمي ورأس ابن آوى، تظهر أمام المغاربة الذين يسارعون بالانحناء لها...
ولم أجد في ما أعلم من أصل لهذه الطقوس إلا عند قدماء المصريين، ولكني استهجنت الأمر لانتفاء الترابط المادي وقررت أن أعرف رأي فرنشيسكا في الأمر
* * * * *
قبيل بزوغ شمس ذلك اليوم كنا في سيارتي على مشارف مدينة المتلوي. أثناء الطريق حدثتني فرنشيسكا عن تلك الطقوس التي كان المغاربة يقومون بها قبل حلول الكارثة بالمنجم. وعاد السرجان فأكدالحادثة، بل انه كان يذكر وهو صغير السن أن الناس كانوا على يقين من أن انهيار المنجم جاء عقابا من الله لتلك الفءة من العمال المغاربة الذين يعبدون مخلوقا غريبا برأس ابن آوى.
كان المنجم قد هُجر منذ سنوات عديدة، وحين دخلناه، انبعثت رائحة الرطوبة تزكم الأنوف، واستولى الحزن على كل من فرنشيسكا والسرجان. وبما أننا كنا قد عزمنا على التوغل في داخل المنجم فقد أحضرت معي كل ما يلزم. كانت الدعامات الخشبية لا تزال قائمة في بعض الأماكن، بينما اختفت تماما في أماكن أخرى. كان الظلام يوغل في الحلكة كلما تقدمنا أكثر، حتى اختفى آخر خيط من نور كان ينبعث
من باب المنجم. ومزّق الصمت صوت فرنشيسكا قانلة : « لقد دخل جدي المنجم في تلك الليلة ليقف بنفسه على تلك الظواهر التي كانت تحدث في الداخل .«
أخرج السرجان زجاجة صغيرة كان قد أخفاها تحت ثيابه،وعبّ منها جرعة أو جرعتين، ثم مسح شاربه بكم قميصه وقال : « في تلك الليلة لم يكن والدي يعمل في النوبة الليلية، ولكنه لما علم أن الجنيور الجيلاني سيدخل إلى الداموس أصرّ على الدخول معه لأنه خاف أن يصاب بمكروه».
تقدمنا أكثر وأكثر، وفرنشيسكا لا تنقطع عن حديث الذكريات التي دونّها جدها في يومياته، والسرجان يؤيد تارة ويتجاهل أخرى.
كل ذلك وفرنشيسكا تتفحص المكان وتأخذ بعض العينات، إلى أن وصلنا إلى ساحة كبيرة، تناثرت فيها أدوات العمل المعطبة، والدعامات المحطمة. كان المشهد كئيبا حتى خُيل إلينا أننا نسمع أصوات استغاثة العمال في تلك اللحظة التي أحسوا فيها بحلول الكارثة. كان أكثرهم يعرفون ذلك من صوت الفرقعة المتكررة التي تنطلق عادة من الدعامات الخشبية. وعنّ لي أن أنظر إلى فرنشيسكا من خلال نور المصباح الذي كل معي، فرأيت الدموع تتلألأ على وجنتيها.
لم ندر كم قضينا من الوقت في ذلك المكان، ولكننا حين أردنا العودة، استوقفنا السرجان قائلا : لم نأت من هنا ها هي طريق الخروج !».
أشار السرجان إلى ممرّ بعينه. أردت أن أنفي ذلك لكن الشك ساورني بعد أن اختلطت علي الممرات. وكذلك كان شأن فرنشيسكا.
بقينا مدّة على تلك الحالة، وقررنا أن نسلك ممرّا كما اتفق. كان ذلك القرار خطيرا، فبعض الممرات ما زال محفوفا بالمهالك، خاصة أن أحدها هو الذي حدث فيه ذلك الانهيار الكبير.
بدأنا نتقدم في الظلام وكلنا أمل في أن نرى النور في آخر النفق، ولكن دون جدوى. بدأ الاضطراب واليأس يغمراننا. وبعد ساعات من المشي قررنا العودة على أعقابنا. والمشكلة في الحقيقة بدأت حينما أصيبت البوصلة التي أحملها بالجنون، فراحت إبرتها تدور وتدور، دون أن تشير إلى أي اتجاه.
لما وصلنا إلى تلك الساحة التي تلتقي فيها الممرات كان التعب قد أخذ منا جميعا. أما السرجان فكاد يصاب بالجنون حينما ألفى زجاجته فارغة. نظر إليها ولعنها ثم طوّح بها في الهواء، فسقطت غير بعيد
عنه. في تلك اللحظة انتبهنا إلى وجود كوة صغيرة في السقف. أدركنا ذلك عندما انبعث نور القمر نازلا حتىّ انعكس على قارورة السرجان، مشكلا زاوية حادة، ومتجها إلى كوة أخرى كانت في الجدار المقابل.
ساد صمت رهيب لبعض الوقت، ثم سمعنا هديرا كهزيم الرعد. وإذا بجزء من الجدار ينزاح، وتظهر أمامنا قاعة فسيحة. بعد خطوات حذرة اندفعنا جميعا ننزل الرجات المؤدية إلى تلك القاعة وكم كانت
مفاجئتنا كبيرة عندما وجدنا داخلها تسعة عشر ناووسا متكئة على جدران القاعة. كنت وفرنشيسكا على علم بأن تلك النواوييس يستعملها المصريون القدامى لحفظ المومياء عند دفنها.
ران صمت رهيب على المكان، ثم بدأت في فحص التوابيت مع فرنشيسكا. وفجأة صاحت : « جدي !! إنها جثة جدي».
اقتربت منها فأشارت إلى التابوت وقالت : « اسمه مكتوب بالهيروغليفية هنا... انظر »
كنت على مقدرة لقراءة تلك الكتابة البائدة، ووجدت أن اسم جدها منقوش فعلا على التابوت. فأسرعت أتفحص بقية التوابيت فإذا هي تحمل أسماء العمال الذين لم يعثر على جثثهم بعد الانهيار الكبير.
أصبنا جميعا بالدهثة . كيف يمكن تفسير هذا .؟
إنه لغز كبير وخطير. ونسينا ما نحن فيه من خطر باعتبار أننا لم نهتد بعد إلى مكان الخروج. ويبدو أن فكر العالم لم يغادر فرنشيسكا التي هتفت فجأة : « نسيم ! ساعدني على فتح تابوت جدي».
وكان ذلك ما أريد. أسرعنا إلى وضع التابوت على الأرض، ودون عناء كبير رفعنا الغطاء، فرأينا مومياء حقيقية ممددة بداخله .امتدت أيادينا المدربة إلى الربائط نزيحها في لهفة. وفى النهاية بدا لنا الوجه واضح الملامح كأنه ملت بالأمس.
اقترب منا السرجان، ونظر مليّا إلى الجثمان وتمتم بصوت مبحوح : « إنه هو ... إنّه هو ...»
كنت قد لاحظت لفافة من ورق البردي بين ربائط المومياء، لكن يد فرنشيسكاكانت أسرع إليها. وعندما أردت فحصها، عاد ذلك الهدير، فعرفنا أن باب القاعة سينغلق. وهذا ما حدث. انغلق الجدار وصرنا سجناء تلك القاعة مع تسعة عشرة من المومياء.
كاد يصيبنا اليأس لولا انفتاح كوّة في الجدار المقابل للباب الذي انغلق. وسرعان ما بدأت الرمال في الانسياب من تلك الكوّة إلى داخل القاعة. ثم ظهر نور طبيعي منها. أسرعنا إلى المخرج المحتمل، وقمت بمساعدة فرنشيسكا» ثم السرجان على الخروج، وكنت آخر المغادرين.
وجدنا أنفسنا في مكان قفر، واستطعنا أن نشاهد غابات النخيل تلوح من بعيد. وفجأة أحسسنا بالأرض تهتز تحت أقدامنا، ودون اتفاق مسبق، قفزنا ثلاثتنا، مبتعدين عن المكان وحسنا فعلنا، فقد انهار الحيّز الذي كنا نقف فيه واختفت القاعة ولم يبق دليل على أي شيء.
* * * * *
في الغد كنت فى بهو المطار لوداع فرنشيسكا. وقفت أمامي في حبور تتأملني بعينيها الجميلتين، ثم قالت: « كانت مغامرة رائعة أليس كذلك ؟
- رائعة نعم... ولكنها دون دليل.
- أروع ما فيها أنها كانت كذلك، فأنت وأنا لا نحتاج إلى دليل.
اقتربت مني فرنشيسكا حتّى التصقت بي، ووجدتني أضمها إلى صدري، لنروح بعد ذك في قبلة عميقة. امتدت يدي - وأنا أقبلها - إلى حقيبة يدها، ودون أن تشعر بي، سحبت لفافة البردي التي وجدناها بين ربائط مومياء جدها. وكانت فرنشيسكا قد تعمدت عدم الحديث عنها أثناء ذك وبعده. وضعت اللفافة في جيب سترتي في الوقت الذي انتهت فيه القبلة.
كان إحساس المغامر ينبئني أن وراء هذه البردية سرّا كبيرا، فلم أشأ أن يعود شرف اكتشافه إلى غيرنا. انطلقت فرنشيسكا إلى صالة المغادرين وأنا أشير إليها مودعا بيد، بينما كانت اليد الأخرى على لفافة البردي.
لا أدري لماذا، غمرني إحساس بأنها سوف تعود.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* (نص من المجموعة القصصية: حكايات جريدية - دار مآثر للإنتاج الثقافي الرقمي - توزر)
.
كنت ولا زلت أعتقد أنه لابد من رد دين بلدي المعلق برقبتي. عدت لتدريس علم الآثار هنا، لطلبة يتحرّقون شوقا إلى كشف أسرار التاريخ،ونبش مخلفات أمم بائدة. ولم يزدني ذلك إلا احتراما عند البروفيسور كاتاني، فلعله راى في موقفي نوعا من الوفاء لم يتعود عليه، فعمل على بقاء حبل الود بيننا متصلا.
كان يزورني أكثر من مرة في السنة الواحدة، وأردّ الزيارة كلما كان ذلك ممكنا. ومنذ ثلاثة أيام هاتفني في مكتبي وأخبرني أن صديقة له ستزورني وعليّ أن أساعدها في ما ستأتي من أجله. وفي الحقيقة أعربت له عن سعادتي بذلك، فأنا حين أساعد صديقة أستاذي إنما أرد بعض ما عليّ من دين.
عندما دلفت إلى بهو المطار كانت الطائرة قد حطّت، لكن ركابها مازالوا لم ينهوا إجراءات القدوم بعد. اقتربت من بوابة الوصول، وأخرجت من جيبي ورقة كتبت عليها«فرانشيسكا» قمت بعرضها أمام أنظار القادمين الذي بدؤوا في التقاطر على البّوابة. كانت تلك الطريقة الأمثل لتتعرّف علىّ ضيفتي، فعلى ما يبدو كان قرار السفر مفاجئا بالنسبة لها، فأغفلت ترتيب بعض الأمور المتعارف عليها في مثل هذه الوضعيات.
كان أعضاء الفوج السياحي يمرون امام الورقة التي أعرضها، يقرؤونها ثم يسترقون النظر إلي، يبتسم ويتظاهر البعض الآخر بعدم المبالاة. وأوشك آخر المسافرين على المغادرة ولم يقترب منّي أحد. وسرعان ما ابتسمت حينما خطر لي أن صديقة البروفيسور لابّد وأن تكون من العجائز، وبالتالي فإنها ستسغرق وقتا أطول من المعتاد حتى تتمكن من الوصول إلى حيث أنا. وقررت أن أنتظر وقتا آخر. ومرت أكثر من ربع ساعة دون جدوى، حتّى كاد اليأس يستولي عليّ، ولكن حين هممت بطي الورقة، ومغادرة المكان، أحسست بيد ناعمة توضع على كتفي من الخلف، وصوت ملائكي يقول«سنيور نسيم...أنا فرانشيسكا»
* * * * * *
وجدت فمي ينفغر من تلقاء نفسه من شدة الدهشة التي أصابتي. كانت محدثتي امرأة في العقد الثالث من العمر متوسطة القامة. شعرها الليلي الحالك، ينسدل ليغطّي بالكاد أذنيها. وجهها صبوح بأنف دقيق وعينان كأنهما البحر يشع منهما بريق عجيب. لاحظت فرنشيسكا دهشتني فابتسمت وقالت: « كنت تنتظر عجوزا سنها فوق الستين، أليس كذلك؟»
زادت دهشتي لذكائها وقلت في ما يشبه الهمس : «الواقع أن ذلك صحيح...صحيح تماما يا سيدتي فعندما قال البروفيسور كاتاني أن صديقته ستزورني، اعتقدت أنك ستكونين في مثل سنه».
نظرت إليّ وأشارت إلى حقيبة زرقاء اللون كانت غير بعيدة عنا وقالت: «حسنا يا سنيور نسيم...يمكننا أن نكمل بقية الحديث في الطريق إلى النزل».
قمت بحمل الحقيبة، ثم أشرت إليها أن تتبعني وقد خطر ببالي للتو أن هذه المرأة لاشك من أهل الشمال الإيطالي، وذلك لسببين، لهجتها الراقية وغطرستها التي حاولت إخفاءها فلم تفلح.
هيمن الصمت علينا لبعض الوقت ونحن في السيارة باتجاه النزل، ولكنها كانت من مزقه حينما قالت: «سنيور نسيم أرى أنك لم تطلق العزوبية بعد».
كانت الملاحظة مفاجئة بالنسبة لي، لكني حاولت أن أبدو هادئا، وقلت: «هل تعرفين عني أشياء أخرى؟».
شع ذلك البريق العجيب من عينيها الزرقاوين وقالت في هدوء أعجب: «لا تستغرب يا سنيور فأنا أعرفك منذ كنت طالبا هناك...فالبروفيسور كاتاني صديق لوالدي، وكثيرا ما كنت أزوره في بيته او في مكتبه...وما أكثر ما كنت أراك عنده، ولكنك لم تكن تعيرني أي اهتمام على ما يبدو، بالرغم اننا كنّا ندرس نفس الإختصاص بفارق وحيد أنك كنت في سنة التخرج، بينما كنت لا أزال في سنتي الثالثة ».
حاولت أن أجد ردا على ما قالته لي، بل حاولت أن أنبش في ذاكرتي عن صورتها، لقد عرفت الكثيرات هناك، ولكن لم اعرف امرأة في مثل جمالها. ولعلها فهمت ما يدور في رأسي، فقالت وهي تنظر إلى الطريق من خلال النافذة: «لا عليك لقد وصلنا...هل أطمع في تناول العشاء معك الليلة؟».
ودونما تفكير وجدتني أقول لها وأنا أنظر إليها في استسلام: «هذا شرف كبير لي يا سيدتي».
مرت الساعات القليلة التي انقضت بين لحظة انفصالي عن فرنشيسكا وموعد العشاء، في بطء شديد، حتّى خلت أنها أعوام. تقاذفتني فيها الهواجس والظنون...امرأة بمثل هذا الجمال، تأتي في مهمة مازلت أجهل كنهها، وتقول أنها كانت تعرفني هناك، بل أنها ألمحت لي أنها سعت إلى الارتباط بي ولم تفلح. أتراها من عصابة المافيا؟
وماذا ستجد المافيا عندي؟ غير مرتّب شهري لا يكاد يفي بالحاجة. أو لعلّها تريد السطو على أحد أبحاثي... لكنني سرعان ما طردت الفكرة من رأسي عندما تذكرت أنّي أنشرها أوّلا بأوّل. دار كل ذلك في ذهني المتعب وأنا في الطريق إلى النزل الذي تقيم فيه فرنشيسكا. ولكني حين دخلت إلى المطعم ورأيتها جالسة في انتظاري نسيت كل شيء.
كانت تلبس فستانا طويلا، أسود اللون وبلا أكمام، بحيث بكشف عن زنديها المرمرين، وجسد متناسق جذّاب. اقتربت منها وحييتها بكل أدب. نظرت إليّ مبتسمة واكتفت بمد يدها في حركة فهمت منها أنه يجب عليّ تلك اليد. انحنيت وقبلت يدها كما يفعل أيّ جنتلمان. أثار ذلك سرورها، وهمست مرحّبة بي بعد أن أشارت إليّ بالجلوس. كان النور خافتا، وعدد النزلاء قليل، ووجدتني أنظر إليها في صمت. أكثر ما شدّني إليها عيناها الزرقاوان، حتىّ أنها لاحظت ذلك فأسرعت إلى تحويل نظرها، متظاهرة بالبحث عن النادل. أنقذها النادل من الحرج، فطلبت عشاء خفيفا، واكتفيت أنا بفطيرة جبن. أثناء ذلك رفعت رأسها و نظرت إليّ مليا ثم قالت : «تريد أن تعرف سبب حضوري أليس كذلك ».
وضعت الشوكة والسكين على الطاولة ، ثم شبكت يديها على صدرها وقالت : « قبل أن أجيبك أحب أن أذكرك أنّك وعدت البروفسور كاتاني بمساعدتي.
- وأنا ما زلت عند وعدي.
- إذا وجدت الفكرة سيئة يمكنك أن تعتبر نفسك في حل من هذا الوعد»
ران الصمت لبعض الوقت بيننا، وأحسست أنها تحاول استفزازي، وقررت أن أستمر معها في هذه اللعبة المثيرة إلى نهايتها.
قلت لها في ما يشبه التهكم : « هل الأمور صعبة إلى هذه الدرجة ؟»
وكأنها فهمت ما أرمي إليه، فقالت بسرعة : « سنيور نسيم، لا أحب أن أضيع وقتك في ما لا يعنى ...أنا هنا من أجل جد ي و أنت الوحيد من يستطيع مساعدتي.
- ولكني لا أفهم يا سيدتي، ما علاقة جدّك بكل هذا؟
- أوه ... هذه حكاية طويلة ملخّصها أن جدي كان مهندس مناجم في مدينة المتلوي في بدايات القرن الماضي، ومات في ذلك الانهيار الكبير.
- هل تقصدين انهيار منجم جبل الوصيف ؟
- نعم هو ذاك !!»
أعترف أن معرفتي بفرنشيسكا اتخذت في تلك اللحظة منعرجا جديدا، بل أن العلاقة بيننا اكتسبت معنى لم أكن لأسمح به لولا شعور المغامر وشوق العالم اللذان تحركا في داخلي فجأة. فتحت فرنشيسكا حقيبة يدها وأخرجت منها كتابا بغلاف جلدي ناولتني إيّاه قانلة : « هذه يومياته التي كان يكتبها بانتظام... سلمتني إياها جدتي عندما علمت أني أنوي الحضور إلى هنا. هذه اليوميات هي الشيء الوحيد الذي عادت به من تونس. حتّى الجثة لم يتم العثور عليها، بالرغم من الجهود الجبّارة التي قامت بها السلطات المدنية الفرنسية».
تصفحت اليوميات بعناية نسبية، ثم قلت : « شيء محزن حقا، لقد اطلعت على الكثير من الوثائق التي تحدثت عن تلك الكارثة، وأعتقد أن علا الجثث التي لم يعثر عليها كان تسعة عشرة جثة، كما أذكر أن من بين الضحايا مهندس واحد... أريد أن أقرا هذه اليوميات، بعد إذنك طبعا».
نظرت إليّ فرنشيسكا في شيء من الحزن، وأومأت برأسها أن نعم. قفزت في ذهني فكرة مفاجئة، فوقفت وقلت لفرنشيسكا : « هل تريدين أن تسمعي شهادة حية على تلك الكارثة ؟
- نعم ...نعم! أريد ذلك بالتأكيد
- هيّا اتبعيني إذن.»
* * * * *
لا أعرف لماذا خطر ببالي في تلك اللحظة إبراهيم الزبيدي المعروف بالسرجان. وهو محار ب قديم، كان والده من بين الذين قضوا في انهيار المنجم ولم يعثر أحد على جثته. فقررت أن أجمعه بفرنشيسكا.
كان السرجان قد بلغ من العمر عتيّا، وانقطع عن الناس في كوخ بناه بنفسه في جنّة في عمق الواحة، كان قد ورثها عن العائلة. وكنت على علم أني سأجده هناك، فقد زرته أكثر من مرة، لقرابة قديمة كانت تجمعه بوالدتي
بعد عشرين دقيقة من التوغل في الواحة، وجدتني وفرنشيسكا أمام باب الكوخ ندقه، وقد شجعنا على نلك أن نورا كان ينبعث من داخله. خرج إلينا السرجان وكان مخمورا كعادته. وحين رآنى تهللت أساريره ودعانا إلى الدخول. كان الكوخ قذرا، وزجاجات الخمر تملأ المكان. عرّفته بفرنشيسكا، ففوجئت بأنّه يتكلم لغة إيطالية لا بأس بها. وعزا ذلك إلى أنه كان صديقا لبعض الإيطاليين، وإلى أسره من طرف الجيش الإيطالي في الحرب العالمية الثانية.
شعّت عينا فرنشيسكا بذلك البريق العجيب وهتفت : « سيدي هل تعرف مهندسا اسمه جوليانو تراباتوني؟»
دهش السرجان، بل بدا كما لو أنه أصيب بصعقة. بلع ريقه بصعوبة، وبقي بلا حراك لبضع ثوان،
ثم قام إلى صندوق قديم، وأفرغ محتواه على طاولة كانت هناك. تناثرت مجموعة من الصور بلا نظام. وبعد لحظات تناول إحداها، ومدها إلى فرنشيسكا قانلا : « هل تقصدين هذا ؟»
أخذت فرنشيسكا الصورة وتأملتها بلهفة ثم صاحت : « أعرفه من الصور فقط... ولكن... إنّه... إنّه هو... يا إلاهي كم أنت عظيم».
تنهد السرجان وأغمض عينيه محاولا العودة بذكرياته إلى زمن بعيد: « في الصورة أبي وجدك وأنا، وكان لي من العمر تسع سنوات. لقد أُخذت هذه الصورة قبل الكارثة بأسبوع واحد... جوليانو... لا أحد يعرفه في صفوف العمّال بهذا الاسم... كانوا ينادونه بالجنيور الجيلاني،لأنه كان رجلا طيبا وعلى علاقة حميمة بالعمّال التونسيين... في إحدى المرات، أصابتني الحمى، فحملني في سيارته إلى المدينة المجاورة في منتصف الليل. وكان كثيرا ما يتدخل لمساعدة أبي الذي كان غير محبوب من الإدارة لنشاطه النقابي.... رحمه الله برحمة النصارى».
انقضى أكثر الليل في حكايات قديمة، وكان السرجان يجيب فرنشيسكا عن كل سؤال تطرحه بإسهاب. ثم اتفقنا أن نسافر ثلاثتنا في الغد إلى مدينة المتلوي حتى تتمكن فرنشيسكا من معاينة المكان الذي كان مسرحا لتلك الكارثة الأليمة.
* * * * *
قبل أن نقترب من باب النزل أمسكتني فرنشيسكا من ذراعي، وألصقت رأسها بصدري، و همست : «كنت على يقين أنك ستساعدني يا نسيم ! فشكرا لك ».
كانت تسير ملتصقة بي كطفلة صغيرة تريد اتقاء البرد بجسد أبيها. وفي حركة مفاجئة لم أتوقعها، كانت مزيجا من الرقّة و الجرأة واللهفة، قامت فرنشيسكا بطبع قبلة على خدي وانطلقت تعدو نحو باب النزل.
ولم أنم تلك الليلة...
ولم يكن السبب قبلة فرنشيسكا، لكنها تلك اليوميات التي كتبها جدها. الغريب في الأمر أن كثيرا من الأحداث التي رواها السرجان، تطابقت مع ما كتبه جوليانو. كان هو المسؤول عن المنجم الذي انهار، وقد اشتكى له العمّال المحليّون من بعض العمّال المغاربة الذي كانوا يصرّون على العمل في النوبة الليلية، وينزوون في أحد الدواميس، بعد منتصف الليل لتأدية طقوس غريبة ويغنون بلغة غير مفهومة. وكان ذلك يصيب زملاءهم بالهلع، خاصة بعد المرّات التي بدأت فيها قطعان بنات آوى في الظهور من شقوق الداموس. بل أن بعضهم زعم أنه رأى مخلوقات غريبة بجسد آدمي ورأس ابن آوى، تظهر أمام المغاربة الذين يسارعون بالانحناء لها...
ولم أجد في ما أعلم من أصل لهذه الطقوس إلا عند قدماء المصريين، ولكني استهجنت الأمر لانتفاء الترابط المادي وقررت أن أعرف رأي فرنشيسكا في الأمر
* * * * *
قبيل بزوغ شمس ذلك اليوم كنا في سيارتي على مشارف مدينة المتلوي. أثناء الطريق حدثتني فرنشيسكا عن تلك الطقوس التي كان المغاربة يقومون بها قبل حلول الكارثة بالمنجم. وعاد السرجان فأكدالحادثة، بل انه كان يذكر وهو صغير السن أن الناس كانوا على يقين من أن انهيار المنجم جاء عقابا من الله لتلك الفءة من العمال المغاربة الذين يعبدون مخلوقا غريبا برأس ابن آوى.
كان المنجم قد هُجر منذ سنوات عديدة، وحين دخلناه، انبعثت رائحة الرطوبة تزكم الأنوف، واستولى الحزن على كل من فرنشيسكا والسرجان. وبما أننا كنا قد عزمنا على التوغل في داخل المنجم فقد أحضرت معي كل ما يلزم. كانت الدعامات الخشبية لا تزال قائمة في بعض الأماكن، بينما اختفت تماما في أماكن أخرى. كان الظلام يوغل في الحلكة كلما تقدمنا أكثر، حتى اختفى آخر خيط من نور كان ينبعث
من باب المنجم. ومزّق الصمت صوت فرنشيسكا قانلة : « لقد دخل جدي المنجم في تلك الليلة ليقف بنفسه على تلك الظواهر التي كانت تحدث في الداخل .«
أخرج السرجان زجاجة صغيرة كان قد أخفاها تحت ثيابه،وعبّ منها جرعة أو جرعتين، ثم مسح شاربه بكم قميصه وقال : « في تلك الليلة لم يكن والدي يعمل في النوبة الليلية، ولكنه لما علم أن الجنيور الجيلاني سيدخل إلى الداموس أصرّ على الدخول معه لأنه خاف أن يصاب بمكروه».
تقدمنا أكثر وأكثر، وفرنشيسكا لا تنقطع عن حديث الذكريات التي دونّها جدها في يومياته، والسرجان يؤيد تارة ويتجاهل أخرى.
كل ذلك وفرنشيسكا تتفحص المكان وتأخذ بعض العينات، إلى أن وصلنا إلى ساحة كبيرة، تناثرت فيها أدوات العمل المعطبة، والدعامات المحطمة. كان المشهد كئيبا حتى خُيل إلينا أننا نسمع أصوات استغاثة العمال في تلك اللحظة التي أحسوا فيها بحلول الكارثة. كان أكثرهم يعرفون ذلك من صوت الفرقعة المتكررة التي تنطلق عادة من الدعامات الخشبية. وعنّ لي أن أنظر إلى فرنشيسكا من خلال نور المصباح الذي كل معي، فرأيت الدموع تتلألأ على وجنتيها.
لم ندر كم قضينا من الوقت في ذلك المكان، ولكننا حين أردنا العودة، استوقفنا السرجان قائلا : لم نأت من هنا ها هي طريق الخروج !».
أشار السرجان إلى ممرّ بعينه. أردت أن أنفي ذلك لكن الشك ساورني بعد أن اختلطت علي الممرات. وكذلك كان شأن فرنشيسكا.
بقينا مدّة على تلك الحالة، وقررنا أن نسلك ممرّا كما اتفق. كان ذلك القرار خطيرا، فبعض الممرات ما زال محفوفا بالمهالك، خاصة أن أحدها هو الذي حدث فيه ذلك الانهيار الكبير.
بدأنا نتقدم في الظلام وكلنا أمل في أن نرى النور في آخر النفق، ولكن دون جدوى. بدأ الاضطراب واليأس يغمراننا. وبعد ساعات من المشي قررنا العودة على أعقابنا. والمشكلة في الحقيقة بدأت حينما أصيبت البوصلة التي أحملها بالجنون، فراحت إبرتها تدور وتدور، دون أن تشير إلى أي اتجاه.
لما وصلنا إلى تلك الساحة التي تلتقي فيها الممرات كان التعب قد أخذ منا جميعا. أما السرجان فكاد يصاب بالجنون حينما ألفى زجاجته فارغة. نظر إليها ولعنها ثم طوّح بها في الهواء، فسقطت غير بعيد
عنه. في تلك اللحظة انتبهنا إلى وجود كوة صغيرة في السقف. أدركنا ذلك عندما انبعث نور القمر نازلا حتىّ انعكس على قارورة السرجان، مشكلا زاوية حادة، ومتجها إلى كوة أخرى كانت في الجدار المقابل.
ساد صمت رهيب لبعض الوقت، ثم سمعنا هديرا كهزيم الرعد. وإذا بجزء من الجدار ينزاح، وتظهر أمامنا قاعة فسيحة. بعد خطوات حذرة اندفعنا جميعا ننزل الرجات المؤدية إلى تلك القاعة وكم كانت
مفاجئتنا كبيرة عندما وجدنا داخلها تسعة عشر ناووسا متكئة على جدران القاعة. كنت وفرنشيسكا على علم بأن تلك النواوييس يستعملها المصريون القدامى لحفظ المومياء عند دفنها.
ران صمت رهيب على المكان، ثم بدأت في فحص التوابيت مع فرنشيسكا. وفجأة صاحت : « جدي !! إنها جثة جدي».
اقتربت منها فأشارت إلى التابوت وقالت : « اسمه مكتوب بالهيروغليفية هنا... انظر »
كنت على مقدرة لقراءة تلك الكتابة البائدة، ووجدت أن اسم جدها منقوش فعلا على التابوت. فأسرعت أتفحص بقية التوابيت فإذا هي تحمل أسماء العمال الذين لم يعثر على جثثهم بعد الانهيار الكبير.
أصبنا جميعا بالدهثة . كيف يمكن تفسير هذا .؟
إنه لغز كبير وخطير. ونسينا ما نحن فيه من خطر باعتبار أننا لم نهتد بعد إلى مكان الخروج. ويبدو أن فكر العالم لم يغادر فرنشيسكا التي هتفت فجأة : « نسيم ! ساعدني على فتح تابوت جدي».
وكان ذلك ما أريد. أسرعنا إلى وضع التابوت على الأرض، ودون عناء كبير رفعنا الغطاء، فرأينا مومياء حقيقية ممددة بداخله .امتدت أيادينا المدربة إلى الربائط نزيحها في لهفة. وفى النهاية بدا لنا الوجه واضح الملامح كأنه ملت بالأمس.
اقترب منا السرجان، ونظر مليّا إلى الجثمان وتمتم بصوت مبحوح : « إنه هو ... إنّه هو ...»
كنت قد لاحظت لفافة من ورق البردي بين ربائط المومياء، لكن يد فرنشيسكاكانت أسرع إليها. وعندما أردت فحصها، عاد ذلك الهدير، فعرفنا أن باب القاعة سينغلق. وهذا ما حدث. انغلق الجدار وصرنا سجناء تلك القاعة مع تسعة عشرة من المومياء.
كاد يصيبنا اليأس لولا انفتاح كوّة في الجدار المقابل للباب الذي انغلق. وسرعان ما بدأت الرمال في الانسياب من تلك الكوّة إلى داخل القاعة. ثم ظهر نور طبيعي منها. أسرعنا إلى المخرج المحتمل، وقمت بمساعدة فرنشيسكا» ثم السرجان على الخروج، وكنت آخر المغادرين.
وجدنا أنفسنا في مكان قفر، واستطعنا أن نشاهد غابات النخيل تلوح من بعيد. وفجأة أحسسنا بالأرض تهتز تحت أقدامنا، ودون اتفاق مسبق، قفزنا ثلاثتنا، مبتعدين عن المكان وحسنا فعلنا، فقد انهار الحيّز الذي كنا نقف فيه واختفت القاعة ولم يبق دليل على أي شيء.
* * * * *
في الغد كنت فى بهو المطار لوداع فرنشيسكا. وقفت أمامي في حبور تتأملني بعينيها الجميلتين، ثم قالت: « كانت مغامرة رائعة أليس كذلك ؟
- رائعة نعم... ولكنها دون دليل.
- أروع ما فيها أنها كانت كذلك، فأنت وأنا لا نحتاج إلى دليل.
اقتربت مني فرنشيسكا حتّى التصقت بي، ووجدتني أضمها إلى صدري، لنروح بعد ذك في قبلة عميقة. امتدت يدي - وأنا أقبلها - إلى حقيبة يدها، ودون أن تشعر بي، سحبت لفافة البردي التي وجدناها بين ربائط مومياء جدها. وكانت فرنشيسكا قد تعمدت عدم الحديث عنها أثناء ذك وبعده. وضعت اللفافة في جيب سترتي في الوقت الذي انتهت فيه القبلة.
كان إحساس المغامر ينبئني أن وراء هذه البردية سرّا كبيرا، فلم أشأ أن يعود شرف اكتشافه إلى غيرنا. انطلقت فرنشيسكا إلى صالة المغادرين وأنا أشير إليها مودعا بيد، بينما كانت اليد الأخرى على لفافة البردي.
لا أدري لماذا، غمرني إحساس بأنها سوف تعود.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* (نص من المجموعة القصصية: حكايات جريدية - دار مآثر للإنتاج الثقافي الرقمي - توزر)
.