الخطاب الأدبي كما يدخل الطفل الروض، حيث يخرج من فردانيته ويلتقي بأطفال آخرين، وحيث يلعب ويتعلم وينمو ويتحول، وحيث يبدأ كونه (فلانا) في التنازل لحساب كونه (مواطنا).
كيف يستخدم المثل في الخطاب الأدبي، وفي القصة خاصة؟
أعتقد أنه:
أولا: لا يستخدم بقصد، إنه يدخل القصة تلقائيا، من خلال تعبير الشخصية القصصية عن عواطفها وآرائها، أو من خلال تعبير السارد عن موقفه من الوقائع والشخصيات. إنه جزء من حياة الشخصية أو السارد، يجري تلقائيا على قلم الكاتب في غمرة حرارة الكتابة.
ثانيا: المثل نص مكتمل مستقل، لكن بعد دخوله الكتابة يصبح جزءا من نص، عنصرا فقط لا نصا، وتبعا لذلك فإن دلالته تتسع لأنها لم تعد مستمدة من المثل وحده، بل من كل عناصر النص الكبير (القصة مثلا)، وإذن تصبح أغنى وأقوى إلى حد أنه يمكن أن نصوغ قانونا عاما لهذه العملية كما يلي:
"كل نص موظف في نص أكبر منه، يصبح أقل استقلالا وأوسع دلالة".
وسأضرب مثلا لذلك من تجربتي الخاصة: في قصة بعنوان: (الأعرج يتزوج): حاج مسن يقارن نفسه –هو المحارب القديم الذي حمل السلاح مع عبد الكريم وحارب الاستعمار مع جيش التحرير- بابنه التاجر الذي يهرب السلع ويغش في البيع ويكيد للنساء والأطفال، فيقول: (النار تلد الرماد)، بالنسبة لهذا الرجل، النار تتسع فتشمل كل تاريخ المغرب قبل الاستقلال، النار الولود المنجبة النبيلة، والرماد يتسع ليشمل كل أوضاع المغرب بعد الاستقلال، الرماد العقيم الباهت. هذا المثل (النار تلد الرماد) في هذه القصة، يصبح مثل الحاج تماما: فقد استقلاله واكتماله، ولكنه اكتسب سلطة رمزية أقوى. لم تعد له سلطة في الواقع، لكن سلطته اتسعت في مجال القيم.
ثالثا: المثل في القصة يحيا، لا يعود عبارة مسكوكة جاهزة، إنه يعيش، ويسير، ويصير، ويتحول، كيف؟
ـ يتحول بتغير الدلالة: هناك مثل يقول: (اللي ينفخ على الحليب يشتاقو)، وواضح أن معناه البسيط: (الذي يترفع عن شرب الحليب يحرم منه). في قصة بعنوان (غيابات القلب): يغلي السارد الحليب، وقبل أن يشربه ساخنا ينفخ في الكأس ليبرده، ويتذكر خلال ذلك أمه الميتة، وقولها له وهو صغير: (اللي ينفخ على الحليب يشتاقو)، فتصبح الدلالة حسية.
ـ كما يتحول المثل في القصة بتغيير الصيغة، مثلا من الدارجة إلى الفصحى: (النار تخلي الرماد) تصبح (النار تلد الرماد).
إنما ترد في قصة (الأعرج يتزوج) على لسان السارد الذي يتقمص شخصية الحاج، لكن السارد مهما تماهى مع الشخصية فهو غيرها، ولعل هذا التغيير الطفيف في صيغة المثل دليل على ذلك.
ـ ويتحول المثل في القصة بتغيير الدلالة والصيغة معا: في قصة بعنوان (صياد النعام) تكتب الشخصية قصة بعنوان (العصفور على الشجرة ولا شيء في اليد)، وواضح أن هذا العنوان يشير إلى المثل (عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة)، والتغيير نابع من واقع الشخصية التي تفقد حتى عصفور اليد، ولا يعود المثل يعبر عنها فتكيفه صيغة ودلالة مع واقعها.
ـ ويتحول المثل في القصة بتفكيكه، وأقصد بالتفكيك هنا: مزيجا من النقد والنقض والتحليل. الفقه اللغوي يصبح معه المثل موضوعا للكتابة لا أداة لها، تزرع القصة ألغاما صغيرة داخله، وتفجره، وبدلا من أن يبقى النص الصغير الموظف (حجرا ملموما) كما يقول ابن مقبل، يتفتت إلى مجموعة من الصيغ والأسئلة والاحتمالات.. إن ذلك لا يحدث مع المثل فقط، بل مع كل النصوص الموظفة داخل القصة. قصة (موسيقى) مثلا تفكك نص (الاستثناء يبرر القاعدة) كما يلي:
"..فهل القاعدة هي الوسط التاريخي المعتدل والاستثناء موضة تنقرض وتمحي كالزبد؟ وهل الاستثناء هو التاريخ لأنه الحركة، والقاعدة جمود رجعي يهدد الحياة والتاريخ؟ وهل الاستثناء يبرر القاعدة وهي وضعت من أجله من أجل الجواب عن سؤاله والأخذ بيده: الخروف الضال؟ وهل القاعدة تبرر الاستثناء وهي وضعت من أجله من أجل قتله ولا بد أن يتحرك وأن يتحرر؟ وهل هذا كله هراء والاستثناء جزء من القاعدة وهذا مخيف فليبقيا منفصلين ولو على الورق ومتصلين ولو بالأرق؟ وهل هما ضرتان ولودان غيوران؟ وهل نتزوج الثالثة والثالثة ثابتة والرابعة رائعة والخامسة والسادسة والخ.. والخ.. والخ".
هناك مثل يقول: (ولو طارت معزة)، تفككه أقصوصة صغيرة جدا بعنوان (تعاليق)، تقول الأقصوصة:
"قرؤوا في الجريدة أن معزة طارت في (بن احمد)، فعلق الأول: "ولو طارت معزة"، وعلق الثاني: "كل شيء يهرب من هذا البلد حتى المعيز"، وعلق الثالث: "يديروها المزابيات"، و..علقت المعزة".
وفي إطار التفكيك أيضا يمكن أن يضرب المثل بالمثل (وكلمة "يضرب" هنا مستعملة بجميع معانيها): في حوار درامي في قصة (الأوان تلعب الورق) يصبح المثل كرة طاولة يتقاذفها المتحاورون، تجتمع الألوان السياسية وتتداول بشأن مواطن قتل أجنبيا:
"الأبيض: عشر سنوات كاملة عقاب عادل
الأسود: كاملة رغم أنه قتل
الأزرق: قتل أجنبيا، خمس سنوات مثلا
الأسود: شوفينية حمقاء. الأجنبي بقة؟
الأزرق: الشوفينية ولا الخيانة
الأسود: إنه يتهمني بالخيانة، هذا الحفرية المتحجرة، أما الإخلاص والوطنية فهما قتل كل أجنبي، ثم بالطبع قتل كل مواطن.
حتى لا يبقى غير وجهك الأزرق اللعين.
الأزرق: انظروا إلى (الذئب يبكي على الغنم)
الأسود: المواطنون ليسوا أغناما
الأزرق: ولذلك نريد تخليدهم في السجون.."
ويستمر الحوار...
"الأسود: المهم هو التطبيق، كل قانون صالح إذا كان مطبقا
الأزرق: والتقاليد؟ والأصالة؟ والتاريخ؟ والشخصية القومية؟ ألا تعني هذه الكلمات شيئا عندك؟
الأسود: والنظام؟ والأمن؟ والإنتاج؟ والتقدم؟ ألا تفهمها؟
الأزرق: أنت لا تريد غير الربح، ترى بأي ثمن تبيع الوطن؟
الأسود: أنت أدرى يا سيدي، يقولون: (سل المجرب..)……"
المثل في مثل هذه الحوارات يصبح سلاحا ارتداديا قابلا لأن يصيب الخصم، وأن يصيب صاحبه نفسه، ويصبح في نفس الوقت عجينة قابلة للتشكيل حسب تطور السجال.
ـ وأخيرا قد يتحول المثل بتذويبه في سرد القصة حتى لا يبدو منه على سطح الدلالة شيء. في قصة (موسيقى): تنخرط الشخصية في مونولوج طويل تقول فيه: ".. ولكي تذوق الموسيقى استمع إليها مرتين والمرأة أيضا والكأس أيضا والحياة أيضا وكل شيء أيضا والمرة الثانية هي الأحلى وهل هناك مرة ثانية إطلاقا؟.."، وواضح أن النص يستبطن مثل هيراقليطس الشهير: "لا يسبح الإنسان في النهر الواحد مرتين".
تلكم كانت بعض أشكال استخدام المثل في الخطاب الأدبي، لكن ماذا عن الوظائف؟ لماذا المثل في القصة؟ وما هي الوظائف الفنية التي يمكن أن يؤديها داخل النص؟
ـ أول وظيفة فيما يبدو لي هي الإيحاء بالحياة، لأنه موجود في الحياة، على ألسنة الناس، والقصة حياة تستمد أنفاسها من الواقع الحي من حولها، وهذا الواقع فيه شخصيات وأحداث ووقائع وخطابات، وفيه أمثال.
ـ ثانيا: للتعبير عن الصمت، فأحيانا نقول المثل لكي لا نقول شيئا، مثلما نهرب إلى الحديث عن الجو، أو السؤال عن الأولاد. في قصة (الألوان تلعب الورق): تستقبل الفتاة حبيبها بعد خروجه من السجن، الفتى تحولت عواطفه ولا يريد الدخول في أي حديث عن العلاقة بينهما، والفتاة على العكس، تريد إحياء هذه العلاقة من جديد، تقول له:
ـ لماذا لا تعاتبني؟
ـ أعاتبك؟ علام؟
ـ لم أزرك في السجن ولا مرة
ـ آه صحيح، كنت أقول لنفسي: "الغائب حجته معه".
ـ ثالثا: اللعب على الدلالة المزدوجة في العناوين خاصة: (سبعة رجال – صياد النعام – الغابر الظاهر..الخ)، ما هو هذا الغابر الظاهر؟ ربما هو الثقافة الشعبية، هذه الثقافة هي من جهة: مهمشة كليا، فكأنها قد اختفت: (الغبير الظهير) يقول المثل، وهي من جهة أخرى: حياتنا اليومية، نعيش فيها وبها، نتنفسها يوميا، ونخجل منها في خطاباتنا النخبوية، فكأنها غابر ظاهر، مع أنها كامنة في نصوصنا كمونا حلوليا، وفي القصة المغربية على الخصوص: ليس في جبة الفصحى إلا الدارجة.
ـ رابعا: قد يوظف المثل لاستغلال أدائه الصوتي، لخلق إيقاع معين يصور صوتيا الدلالة المتوخاة: في قصة (موسيقى): (لا أدري لماذا أعود دائما إلى هذا النص؟) يتموسق المونولوج مستغلا كل إيقاعات اللغة بما فيها المثل: "ومن خلف القفطان تستجيب الوفرة والخصب والطراوة وترتخي وتستسلم وتهمس: "فيدك، فيدك، وفصل على قدك، والموسيقى تنهمر والمخ ينصوت يأكل الأصوات في العالم آلم آلم آلم وأسراب الموسيقى ترتمي في المخ كالسائحات الشقراوات في مسبح مراكشي..".
ـ خامسا: لوظائف سيكولوجية لا أستطيع تبينها في مستوى الوعي، لا بد أن هناك دوافع كامنة في اللاشعور تدفع الكاتب خلال الكتابة إلى إدماج نصوص أخرى ضمن نصه الذي يكتبه، ومنها المثل. لماذا نص آخر؟ لماذا هذا النص بالذات دون غيره؟ ولماذا في هذا الموقع بالضبط وليس في موقع آخر من القصة؟ لا بد أن هناك حافزا أو حوافز لا يستطيع مقاربتها إلا ناقد سيكولوجي، ومع الاستعانة بوثائق أو حوارات..الخ.
ـ سادسا: لوظائف سياسية، فقد لاحظت وأنا أعد هذه المداخلة أن أغلب الأمثال التي استخدمتها أمثال مغربية شعبية، ويبدو لي أن هذا ينسجم مع موقف سياسي عام يرى أن هوية شعبنا كامنة في نفوس الأحياء لا في كتب الأموات، وأنها كامنة في سلوك وخطابات الطبقات الدنيا وليس في أفكار النخبة، وأنها هوية قابلة للصيرورة والتحول تماما كما يحدث للمثل في القصة، وأنها إذن هوية نصنعها نحن، ولا نتلقاها هبة من الآخر، أو من الماضي.
وإذن، وكخلاصة عامة، فإن المثل في الخطاب الأدبي، وكما يبدو لي من خلال تجربة محددة ومحدودة، ليس مشكاة ينبع منها نور الحقيقة المطلقة، إنه مجرد نص من نصوص كثيرة تنسج العمل الأدبي. المثل في الخطاب الأدبي ليس شيخا يملي الحكم. إنه طفل، يدخل الخطاب الأدبي كما يدخل الطفل الروض، حيث يخرج من فردانيته ويلتقي بأطفال آخرين، وحيث يلعب ويتعلم وينمو ويتحول، وحيث يبدأ كونه (فلانا) في التنازل لحساب كونه (مواطنا)
.
كيف يستخدم المثل في الخطاب الأدبي، وفي القصة خاصة؟
أعتقد أنه:
أولا: لا يستخدم بقصد، إنه يدخل القصة تلقائيا، من خلال تعبير الشخصية القصصية عن عواطفها وآرائها، أو من خلال تعبير السارد عن موقفه من الوقائع والشخصيات. إنه جزء من حياة الشخصية أو السارد، يجري تلقائيا على قلم الكاتب في غمرة حرارة الكتابة.
ثانيا: المثل نص مكتمل مستقل، لكن بعد دخوله الكتابة يصبح جزءا من نص، عنصرا فقط لا نصا، وتبعا لذلك فإن دلالته تتسع لأنها لم تعد مستمدة من المثل وحده، بل من كل عناصر النص الكبير (القصة مثلا)، وإذن تصبح أغنى وأقوى إلى حد أنه يمكن أن نصوغ قانونا عاما لهذه العملية كما يلي:
"كل نص موظف في نص أكبر منه، يصبح أقل استقلالا وأوسع دلالة".
وسأضرب مثلا لذلك من تجربتي الخاصة: في قصة بعنوان: (الأعرج يتزوج): حاج مسن يقارن نفسه –هو المحارب القديم الذي حمل السلاح مع عبد الكريم وحارب الاستعمار مع جيش التحرير- بابنه التاجر الذي يهرب السلع ويغش في البيع ويكيد للنساء والأطفال، فيقول: (النار تلد الرماد)، بالنسبة لهذا الرجل، النار تتسع فتشمل كل تاريخ المغرب قبل الاستقلال، النار الولود المنجبة النبيلة، والرماد يتسع ليشمل كل أوضاع المغرب بعد الاستقلال، الرماد العقيم الباهت. هذا المثل (النار تلد الرماد) في هذه القصة، يصبح مثل الحاج تماما: فقد استقلاله واكتماله، ولكنه اكتسب سلطة رمزية أقوى. لم تعد له سلطة في الواقع، لكن سلطته اتسعت في مجال القيم.
ثالثا: المثل في القصة يحيا، لا يعود عبارة مسكوكة جاهزة، إنه يعيش، ويسير، ويصير، ويتحول، كيف؟
ـ يتحول بتغير الدلالة: هناك مثل يقول: (اللي ينفخ على الحليب يشتاقو)، وواضح أن معناه البسيط: (الذي يترفع عن شرب الحليب يحرم منه). في قصة بعنوان (غيابات القلب): يغلي السارد الحليب، وقبل أن يشربه ساخنا ينفخ في الكأس ليبرده، ويتذكر خلال ذلك أمه الميتة، وقولها له وهو صغير: (اللي ينفخ على الحليب يشتاقو)، فتصبح الدلالة حسية.
ـ كما يتحول المثل في القصة بتغيير الصيغة، مثلا من الدارجة إلى الفصحى: (النار تخلي الرماد) تصبح (النار تلد الرماد).
إنما ترد في قصة (الأعرج يتزوج) على لسان السارد الذي يتقمص شخصية الحاج، لكن السارد مهما تماهى مع الشخصية فهو غيرها، ولعل هذا التغيير الطفيف في صيغة المثل دليل على ذلك.
ـ ويتحول المثل في القصة بتغيير الدلالة والصيغة معا: في قصة بعنوان (صياد النعام) تكتب الشخصية قصة بعنوان (العصفور على الشجرة ولا شيء في اليد)، وواضح أن هذا العنوان يشير إلى المثل (عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة)، والتغيير نابع من واقع الشخصية التي تفقد حتى عصفور اليد، ولا يعود المثل يعبر عنها فتكيفه صيغة ودلالة مع واقعها.
ـ ويتحول المثل في القصة بتفكيكه، وأقصد بالتفكيك هنا: مزيجا من النقد والنقض والتحليل. الفقه اللغوي يصبح معه المثل موضوعا للكتابة لا أداة لها، تزرع القصة ألغاما صغيرة داخله، وتفجره، وبدلا من أن يبقى النص الصغير الموظف (حجرا ملموما) كما يقول ابن مقبل، يتفتت إلى مجموعة من الصيغ والأسئلة والاحتمالات.. إن ذلك لا يحدث مع المثل فقط، بل مع كل النصوص الموظفة داخل القصة. قصة (موسيقى) مثلا تفكك نص (الاستثناء يبرر القاعدة) كما يلي:
"..فهل القاعدة هي الوسط التاريخي المعتدل والاستثناء موضة تنقرض وتمحي كالزبد؟ وهل الاستثناء هو التاريخ لأنه الحركة، والقاعدة جمود رجعي يهدد الحياة والتاريخ؟ وهل الاستثناء يبرر القاعدة وهي وضعت من أجله من أجل الجواب عن سؤاله والأخذ بيده: الخروف الضال؟ وهل القاعدة تبرر الاستثناء وهي وضعت من أجله من أجل قتله ولا بد أن يتحرك وأن يتحرر؟ وهل هذا كله هراء والاستثناء جزء من القاعدة وهذا مخيف فليبقيا منفصلين ولو على الورق ومتصلين ولو بالأرق؟ وهل هما ضرتان ولودان غيوران؟ وهل نتزوج الثالثة والثالثة ثابتة والرابعة رائعة والخامسة والسادسة والخ.. والخ.. والخ".
هناك مثل يقول: (ولو طارت معزة)، تفككه أقصوصة صغيرة جدا بعنوان (تعاليق)، تقول الأقصوصة:
"قرؤوا في الجريدة أن معزة طارت في (بن احمد)، فعلق الأول: "ولو طارت معزة"، وعلق الثاني: "كل شيء يهرب من هذا البلد حتى المعيز"، وعلق الثالث: "يديروها المزابيات"، و..علقت المعزة".
وفي إطار التفكيك أيضا يمكن أن يضرب المثل بالمثل (وكلمة "يضرب" هنا مستعملة بجميع معانيها): في حوار درامي في قصة (الأوان تلعب الورق) يصبح المثل كرة طاولة يتقاذفها المتحاورون، تجتمع الألوان السياسية وتتداول بشأن مواطن قتل أجنبيا:
"الأبيض: عشر سنوات كاملة عقاب عادل
الأسود: كاملة رغم أنه قتل
الأزرق: قتل أجنبيا، خمس سنوات مثلا
الأسود: شوفينية حمقاء. الأجنبي بقة؟
الأزرق: الشوفينية ولا الخيانة
الأسود: إنه يتهمني بالخيانة، هذا الحفرية المتحجرة، أما الإخلاص والوطنية فهما قتل كل أجنبي، ثم بالطبع قتل كل مواطن.
حتى لا يبقى غير وجهك الأزرق اللعين.
الأزرق: انظروا إلى (الذئب يبكي على الغنم)
الأسود: المواطنون ليسوا أغناما
الأزرق: ولذلك نريد تخليدهم في السجون.."
ويستمر الحوار...
"الأسود: المهم هو التطبيق، كل قانون صالح إذا كان مطبقا
الأزرق: والتقاليد؟ والأصالة؟ والتاريخ؟ والشخصية القومية؟ ألا تعني هذه الكلمات شيئا عندك؟
الأسود: والنظام؟ والأمن؟ والإنتاج؟ والتقدم؟ ألا تفهمها؟
الأزرق: أنت لا تريد غير الربح، ترى بأي ثمن تبيع الوطن؟
الأسود: أنت أدرى يا سيدي، يقولون: (سل المجرب..)……"
المثل في مثل هذه الحوارات يصبح سلاحا ارتداديا قابلا لأن يصيب الخصم، وأن يصيب صاحبه نفسه، ويصبح في نفس الوقت عجينة قابلة للتشكيل حسب تطور السجال.
ـ وأخيرا قد يتحول المثل بتذويبه في سرد القصة حتى لا يبدو منه على سطح الدلالة شيء. في قصة (موسيقى): تنخرط الشخصية في مونولوج طويل تقول فيه: ".. ولكي تذوق الموسيقى استمع إليها مرتين والمرأة أيضا والكأس أيضا والحياة أيضا وكل شيء أيضا والمرة الثانية هي الأحلى وهل هناك مرة ثانية إطلاقا؟.."، وواضح أن النص يستبطن مثل هيراقليطس الشهير: "لا يسبح الإنسان في النهر الواحد مرتين".
تلكم كانت بعض أشكال استخدام المثل في الخطاب الأدبي، لكن ماذا عن الوظائف؟ لماذا المثل في القصة؟ وما هي الوظائف الفنية التي يمكن أن يؤديها داخل النص؟
ـ أول وظيفة فيما يبدو لي هي الإيحاء بالحياة، لأنه موجود في الحياة، على ألسنة الناس، والقصة حياة تستمد أنفاسها من الواقع الحي من حولها، وهذا الواقع فيه شخصيات وأحداث ووقائع وخطابات، وفيه أمثال.
ـ ثانيا: للتعبير عن الصمت، فأحيانا نقول المثل لكي لا نقول شيئا، مثلما نهرب إلى الحديث عن الجو، أو السؤال عن الأولاد. في قصة (الألوان تلعب الورق): تستقبل الفتاة حبيبها بعد خروجه من السجن، الفتى تحولت عواطفه ولا يريد الدخول في أي حديث عن العلاقة بينهما، والفتاة على العكس، تريد إحياء هذه العلاقة من جديد، تقول له:
ـ لماذا لا تعاتبني؟
ـ أعاتبك؟ علام؟
ـ لم أزرك في السجن ولا مرة
ـ آه صحيح، كنت أقول لنفسي: "الغائب حجته معه".
ـ ثالثا: اللعب على الدلالة المزدوجة في العناوين خاصة: (سبعة رجال – صياد النعام – الغابر الظاهر..الخ)، ما هو هذا الغابر الظاهر؟ ربما هو الثقافة الشعبية، هذه الثقافة هي من جهة: مهمشة كليا، فكأنها قد اختفت: (الغبير الظهير) يقول المثل، وهي من جهة أخرى: حياتنا اليومية، نعيش فيها وبها، نتنفسها يوميا، ونخجل منها في خطاباتنا النخبوية، فكأنها غابر ظاهر، مع أنها كامنة في نصوصنا كمونا حلوليا، وفي القصة المغربية على الخصوص: ليس في جبة الفصحى إلا الدارجة.
ـ رابعا: قد يوظف المثل لاستغلال أدائه الصوتي، لخلق إيقاع معين يصور صوتيا الدلالة المتوخاة: في قصة (موسيقى): (لا أدري لماذا أعود دائما إلى هذا النص؟) يتموسق المونولوج مستغلا كل إيقاعات اللغة بما فيها المثل: "ومن خلف القفطان تستجيب الوفرة والخصب والطراوة وترتخي وتستسلم وتهمس: "فيدك، فيدك، وفصل على قدك، والموسيقى تنهمر والمخ ينصوت يأكل الأصوات في العالم آلم آلم آلم وأسراب الموسيقى ترتمي في المخ كالسائحات الشقراوات في مسبح مراكشي..".
ـ خامسا: لوظائف سيكولوجية لا أستطيع تبينها في مستوى الوعي، لا بد أن هناك دوافع كامنة في اللاشعور تدفع الكاتب خلال الكتابة إلى إدماج نصوص أخرى ضمن نصه الذي يكتبه، ومنها المثل. لماذا نص آخر؟ لماذا هذا النص بالذات دون غيره؟ ولماذا في هذا الموقع بالضبط وليس في موقع آخر من القصة؟ لا بد أن هناك حافزا أو حوافز لا يستطيع مقاربتها إلا ناقد سيكولوجي، ومع الاستعانة بوثائق أو حوارات..الخ.
ـ سادسا: لوظائف سياسية، فقد لاحظت وأنا أعد هذه المداخلة أن أغلب الأمثال التي استخدمتها أمثال مغربية شعبية، ويبدو لي أن هذا ينسجم مع موقف سياسي عام يرى أن هوية شعبنا كامنة في نفوس الأحياء لا في كتب الأموات، وأنها كامنة في سلوك وخطابات الطبقات الدنيا وليس في أفكار النخبة، وأنها هوية قابلة للصيرورة والتحول تماما كما يحدث للمثل في القصة، وأنها إذن هوية نصنعها نحن، ولا نتلقاها هبة من الآخر، أو من الماضي.
وإذن، وكخلاصة عامة، فإن المثل في الخطاب الأدبي، وكما يبدو لي من خلال تجربة محددة ومحدودة، ليس مشكاة ينبع منها نور الحقيقة المطلقة، إنه مجرد نص من نصوص كثيرة تنسج العمل الأدبي. المثل في الخطاب الأدبي ليس شيخا يملي الحكم. إنه طفل، يدخل الخطاب الأدبي كما يدخل الطفل الروض، حيث يخرج من فردانيته ويلتقي بأطفال آخرين، وحيث يلعب ويتعلم وينمو ويتحول، وحيث يبدأ كونه (فلانا) في التنازل لحساب كونه (مواطنا)
.