قمت صباح أمس، بزيارة خاطفة إلى تلك المدينة الشاطئية الخانعة بعد شهور من مغادرتها، وبها كنتُ تابعتً دروسي الثانوية قبل أكثر من نصف قرن، ثم عدت إلى الإقامة بها في السنوات الأربع الماضية ، لكن حدث بعد ذلك ما حملني على اللجوء إلى السكن في مدينة مجاورة.
وبمجرد وصولي إلى المصلحة الإدارية التي قصدتها هذه المرة في أمر خاص، أخْبِرْتُ أن موظفة المكتب لن تحضر إلا بعد الساعة العاشرة، وكان أمامي ما يقرب من نصف ساعة سمحت لخطواتي فيها بالتسكع ، فاتجهت إلى البحر عبر محطة الحافلات القديمة ،إلى طريق مدار «لاشوب»ثمّ إلى مقهى « لا إسكينا « لألتفت إلى حيث كانت سينما «كوليسيو» قديماً،ولأمرَّ بعد ذلك بـ»البلاسا:» حيث زكمت أنفاسي روائح الأسماك من كل العيِّنات والأشكال، وحين وصلتُ إلى عين شقة أسفل الشرفة الأطلسية، تأملت البحر، كان هدير الموج الهائج إلى جانبي، كأنه زئير أسود في أقفاصها في سيرك، ذكرني بهتافات شوارع بلدان مقيدة ، رغم ما يجتاحها من حَراك:
خراء، وحده بحر هذا الشارع ما لا يهدر هنا بموجٍ أو حتى بزلزال، بعد أن تحركت شوارع كل الأرض في الشرق والغرب. !!
ردَّدْت بثورة يائسة، وأنا أشير إلى الطرقات والممرات الواسعة من حولي ،وأعض على شفتيَّ ثمَّ أعود إلى الغرق في أعماقي الباردة، بهدوء قاهر.
وبعدها الْتَفَتُّ إلى حيث رأيتُ مبنى إعدادية قريبة، هي مدرسة الكروبو، التي ربما أصبحت تحمل الآن اسم أحد الائمة الأربعة ، لأرى امتداداً مفتوحاً أمامي إلى المقبرة البحرية والسجن المحلي، فالمنارة التي تعلو الشاطئ المتهاوي، دون ان تكون إحداها دلتْ يوماً ، ضالاً على سبيل في البحر أو البر. فقد أصبحت لا تُثير نظر أيَّ عابر في زحمة أضواء أصبحت تلوث الأسماع والأبصار.
كانت الطريق أمامي خالية هذا الصباح ، هادئة أيضاً،بل خانعة، رغم الجريمة المروِّعة التي زلزلت هدوء المدينة منذ يومين، فلقد كنتُ انشغلتُ عن استحضار حادث تقطيع أوصال طفل بريء، فُصل رأسُه عن جسده، ووضع رأسه المقطوع مع بعض أطرافه في ثلاجة .
على رغم بشاعة مراحل الجريمة، فقد كان منظر هدوء مبنى الإعدادية المذكورة وهو يصغي إلى صوت المحيط الهادر، كفيلاً بإرجاعي إلى ذكرى كانت لي بين جنبات هذا المبنى، منذ أيام دراستي بهذه المدينة.
يوم أقيمت بها إحدى الحفلات الرسمية التي كنا نشارك فيها قسراً، بتنشيط من تلاميذ الإعدادية أنفسهم، وآخرين من ثانوية كنت أتابع بها دروسي، وقد اشتمل البرنامج على مواد مختلفة، إلا أن ما ظل راسخاً في ذهني كان ردُّ فعل استاذ عراقي لم أنس اسمه لشبهه باسم كاتب القصة العراقي: محمد خضير، الذي أثارني أنه كان ينسحب كلما أُعلن عن ظهور مجموعة موسيقية أطلقت على نفسها اسم :» المغتربون»، لتقدم أغاني إسبانبة في هيئة وحضور يشبهان فرقة «البيتلز» الإنجليزية، كانت مشاركة المجموعة مقبولة ، ولكن قد يكون ما دفع الأستاذ إلى مقاطعتها رفضه أن يكون بين تلاميذه مقلدون للغرب، أو ربما لأن ما كانت تصدح به لم يكن في نظره أكثر من مجرد جعجعة، وأغاني خرساء تؤديها أصوات غير واعية ، أو ربما لأنه تنبه إلى ما لم نفهمه في حينه، بين مواد الاحتفال مما يكون قد أخافه حقاً، مع بداية انسحاب لون أحمر كان قد غطى أعلى جبهة البحر، وصل الطرب بالحاضرين إلى أقصاه ، فجاء من الأفق القريب نداء يصيح:
… ـ حَيًّ على الصلاة…..لاة …لاح……
وتكرر مرتين، فانطلق صوت أحد مدرسينا المغتربين الملقى بهم مكرهين إلى التيه، وهو يحسب أن هناك من ينادي بصلاح أو يبشر بربيع بطولات، ورافعاً عقيرته بأنشودة تدين خاشعة لجلادٍ كانت قبضته المرعبة مهيمنة علينا، برؤيا عودة نظام الخلافة في ما كانت تجهر به قصيدته العصماء التي بشرتْ ببوادر إرهاب كان لا يزال يومذاك جنيناً يتخلق في ظلمات رحم مرحلة عمياء،قال الأستاذ الشامي مدافعاً عن سيف الدولة المصلت على الرقاب:
« إذا ذكر الذكاء فأنت حقاً على الأيام أذكى الحاكمينا»
فعلَتْ الأصوات لكن دون أن يفهم منها أهي تأكيد أم استنكار؟ أو يُتَبيَّنُ منها أصفيرٌ هي أم هديرُ تذَمُّر، فغمغم صوت الخطيب الضائع عن ذاته، وهو في أعلى ما استبدَّ به من حالات إحساس بالتيه ، قبل أن يعود فينزل إلى أرض كان يشعر أنها لا ترحب به، فلا يملك إلا أن يحلق ويحلِّق، ويضيف
« وإن ذكر الصلاحُ فقد أعدتُمْ إلى الإسلام عهد الراشدينا»
فقهقه في الآفاق صوتُ مَّا مشتعلاً بهجةً، على مقربة منا ـ دون أن يكون من بيننا ـ أوبعيداً أيضاً دون أن يكون منفصلاً عنا، فتبينا
صوتَ أبي بكر البغدادي يأتينا قبل أوانه، محاطاً ببروق ورعود وأحزمة ناسفة لم يك يعلم شيئاً عن أشكالها أو ضحاياها إلا الله:
ها…ها…ها…ها..هاه
ورغم ذلك لم يلتفت أحد في غمار الطرب والنشوة به، أو ينتبه رقيب إلى ما كان يتحرك في آفاق السماء وأعماق الأرض، بدليل أن إصرار أستاذ الفلسفة على الانسحاب محتجاً في صمت، لم يؤثر على مسار الحفل إذ لم يكن يجهرْ بشيء، وقد بدا لي، في ما بعد ،أنه لم يكن على ضلال أو خطإ ، وهو يتطيّر أمام ما كان يعلنه صوت الرجل الفلسطيني الضخم الهيئة، الذي كان يصرّ بدوره على الهروب من أشباح تاريخ تطارده، ليصمّ أذنيه عن صرخات نكبة جاءنا حاملاً جراحاتها، وهي تتناوح بشدةٍ في أعماق نفسه، ستتحول بعد أيام قليلة مع الهزيمة إلى نكسة فاضحة لحكام القبضة الحديدية، لذلك لاذ الأستاذ بقشة الشعر بحثاً عن موطئ قدم على أرض من متخيل الشعر التي كانت ولا تزال أرضاً مشاعاً مباحة أمام كل لاجئٍ أو دخيل ، إذ انطلق الحفل وانتهى كما كان محدَّداً له. وإنما كان مثيراً لي أن يقف أستاذالفلسفة ، موقف التحريم أو المنع ، لنوع من الممارسة الفنية، أو لشكلٍ موسيقي بالأحرى، كأنه كان يريد لذوق تلاميذ كانوا يعيشون في مدينة ظل الطابع الكولونيالي طاغياً على شكل الحياة فيها ، رغم مرور عشر سنوات على الاستقلال؛ فقد ظلت بها جالية أجنبية تلون أوقاتها ونظرات الناس فيها إلى العالم والأشياء ، بأضواء من ماضيها وحاضرها، ففي أحد باراتها سمعت ذات مساء أصوات أشهر مغني بلدها تنطلق بمواويل الفلامنكو النادبة في حزن، كما كانتقاعة سينما مسرح أعطته الجالية اسم وطنها، لا تتوقف عن عرض أفلام مغنٍّ طفل فاتن الأداء، ،طوال أسابيع العام الدراسي. فكيف غاب عن أستاذ الفلسفة تأثير كل هذا في نفوس شباب هذه المدينة الخانعة خلال فترة بداية الستينات.
وما أثار استغرابي أكثر أن يكون هذا العراقي المحافظ يحمل اسم مواطنه رائد فن القصة القصيرة في العراق كان ينشر إبداعاته بمجلة الآداب التي كنتُ من قرائها منذ عثوري عليها بين ركام ما كان شقيقي يحرص على اقتنائه من كتب ومجلات . وإلى هذا المبدع السارد يعود الفضل في احتفاظ ذاكرتي باسم استاذ الفلسفة العراقي. الذي كنت أحصل معه على أعلى نقطة في هذه المادة ، في صف الباكلوريا سنة انهيار ما كان يبني من آمال تحت أنقاض نكسة غير مسبوقة، أنا أيضاً كنت مغترباً، فقدتُ بوصلتي: لا أعرف أين تمضي بي خطواتي الواهنة ، شأني في ضياعي هذا الصباح، وكل صباح، مستوحشا لم أقابل وجه قريب، ولم أرَ وجه صديق . لا شيء ظل يشدني إلى حياتي غير حبْل حُلْمٍ غيرِ وثيق. كان بحر « عين شقة» بأمواجه الهادرة التي تسرِّع من انهيار أتربتها على اتساع الشاطئِ من ورائي ، وكنت أسير كمغترب حقيقي عن ذاته ، وعن مدينة لم أتآلف معها قط، وإن كنت لم أتوقف عن أقناع نفسي بحبها لوداعتها التي أصبحت في نظري خنوعاً لا أرضاه..
…..
زحفت العقارب نحو العاشرة صباحاً، وعشر دقائق، فطاردتني لأعود إلى المصلحة التي أتيت إلى هذه المدينة الخانعة من أجل زيارتها ، دون أن أتذكر أية جهة أخرى ، حتى طبيب العيون الذي يستعجلني في إجراء عملية جراحة على إحدى عيني، بل لم أتذكر حتى طبيب القلب والشرايين، بل لم ألق في غمار ما كنت أخوض فيه،إنساناً يمكنني أن أسأله عما آل إليه المتورطان في حادث قطع أوصال طفل برئ روَّع سكان هذه المدينة عن آخرهم، فحين دخلتُ المكتب كانت الموظفة الوحيدة به قد حضرتْ ، فبعد قراءتها لملف جئتُ أحمله إليها مثقلٍاً بأدوية هوس واكتئاب، يبدو أنها ملّتْ وهي تقرأه بخوفٍ أكبر ، لاعتقادها أنه يعنيني، وقد رأت مني وجها تكسوه لحية بيضاء شبيهة بلحية الفرنسي فيكتور هيجو، في صورته المعروفة، وحزنٍ يفوق الحزن الذي كان ينوء به قلب هذا الشاعر، وهيئة تشهد بأقسى حالات الاكتئاب.
انصرفت المرأة بخنوع ظاهر إلى تأمل أوراقي بهلع حاولتْ إخفاءه ، فلم ترفعْ إليّ وجهها قطّ، لأعرف ما لون عينيها، ولم تحاول أن تسألني عن أي تفصيل، بل أسرعتْ، إثرَ مراجعة خاطفة إلى قبول الملف، لتؤشر بطابع المؤسسة على ورقة توصيل، وبنفس السرعة ،أسلمت خطواتي إلى الريح ، في عجلة لم تكن منذ شهور من عادتي، لأستقلّ أول سيارة أجرة تمر بي، جاهراً باسم الجهة التي أريد الذهاب إليها ، غير مهتم بأي شيء وقد كان اشتدّ بي هاجس احتمال انفجار شيءٍ في أحشائي، لم أعد أتحكم فيه، يستعجلني في الوصول إلى بيتي ، في مدينة قريبة مجاورة،على أسرع جناح.
أحمد بنميمون
وبمجرد وصولي إلى المصلحة الإدارية التي قصدتها هذه المرة في أمر خاص، أخْبِرْتُ أن موظفة المكتب لن تحضر إلا بعد الساعة العاشرة، وكان أمامي ما يقرب من نصف ساعة سمحت لخطواتي فيها بالتسكع ، فاتجهت إلى البحر عبر محطة الحافلات القديمة ،إلى طريق مدار «لاشوب»ثمّ إلى مقهى « لا إسكينا « لألتفت إلى حيث كانت سينما «كوليسيو» قديماً،ولأمرَّ بعد ذلك بـ»البلاسا:» حيث زكمت أنفاسي روائح الأسماك من كل العيِّنات والأشكال، وحين وصلتُ إلى عين شقة أسفل الشرفة الأطلسية، تأملت البحر، كان هدير الموج الهائج إلى جانبي، كأنه زئير أسود في أقفاصها في سيرك، ذكرني بهتافات شوارع بلدان مقيدة ، رغم ما يجتاحها من حَراك:
خراء، وحده بحر هذا الشارع ما لا يهدر هنا بموجٍ أو حتى بزلزال، بعد أن تحركت شوارع كل الأرض في الشرق والغرب. !!
ردَّدْت بثورة يائسة، وأنا أشير إلى الطرقات والممرات الواسعة من حولي ،وأعض على شفتيَّ ثمَّ أعود إلى الغرق في أعماقي الباردة، بهدوء قاهر.
وبعدها الْتَفَتُّ إلى حيث رأيتُ مبنى إعدادية قريبة، هي مدرسة الكروبو، التي ربما أصبحت تحمل الآن اسم أحد الائمة الأربعة ، لأرى امتداداً مفتوحاً أمامي إلى المقبرة البحرية والسجن المحلي، فالمنارة التي تعلو الشاطئ المتهاوي، دون ان تكون إحداها دلتْ يوماً ، ضالاً على سبيل في البحر أو البر. فقد أصبحت لا تُثير نظر أيَّ عابر في زحمة أضواء أصبحت تلوث الأسماع والأبصار.
كانت الطريق أمامي خالية هذا الصباح ، هادئة أيضاً،بل خانعة، رغم الجريمة المروِّعة التي زلزلت هدوء المدينة منذ يومين، فلقد كنتُ انشغلتُ عن استحضار حادث تقطيع أوصال طفل بريء، فُصل رأسُه عن جسده، ووضع رأسه المقطوع مع بعض أطرافه في ثلاجة .
على رغم بشاعة مراحل الجريمة، فقد كان منظر هدوء مبنى الإعدادية المذكورة وهو يصغي إلى صوت المحيط الهادر، كفيلاً بإرجاعي إلى ذكرى كانت لي بين جنبات هذا المبنى، منذ أيام دراستي بهذه المدينة.
يوم أقيمت بها إحدى الحفلات الرسمية التي كنا نشارك فيها قسراً، بتنشيط من تلاميذ الإعدادية أنفسهم، وآخرين من ثانوية كنت أتابع بها دروسي، وقد اشتمل البرنامج على مواد مختلفة، إلا أن ما ظل راسخاً في ذهني كان ردُّ فعل استاذ عراقي لم أنس اسمه لشبهه باسم كاتب القصة العراقي: محمد خضير، الذي أثارني أنه كان ينسحب كلما أُعلن عن ظهور مجموعة موسيقية أطلقت على نفسها اسم :» المغتربون»، لتقدم أغاني إسبانبة في هيئة وحضور يشبهان فرقة «البيتلز» الإنجليزية، كانت مشاركة المجموعة مقبولة ، ولكن قد يكون ما دفع الأستاذ إلى مقاطعتها رفضه أن يكون بين تلاميذه مقلدون للغرب، أو ربما لأن ما كانت تصدح به لم يكن في نظره أكثر من مجرد جعجعة، وأغاني خرساء تؤديها أصوات غير واعية ، أو ربما لأنه تنبه إلى ما لم نفهمه في حينه، بين مواد الاحتفال مما يكون قد أخافه حقاً، مع بداية انسحاب لون أحمر كان قد غطى أعلى جبهة البحر، وصل الطرب بالحاضرين إلى أقصاه ، فجاء من الأفق القريب نداء يصيح:
… ـ حَيًّ على الصلاة…..لاة …لاح……
وتكرر مرتين، فانطلق صوت أحد مدرسينا المغتربين الملقى بهم مكرهين إلى التيه، وهو يحسب أن هناك من ينادي بصلاح أو يبشر بربيع بطولات، ورافعاً عقيرته بأنشودة تدين خاشعة لجلادٍ كانت قبضته المرعبة مهيمنة علينا، برؤيا عودة نظام الخلافة في ما كانت تجهر به قصيدته العصماء التي بشرتْ ببوادر إرهاب كان لا يزال يومذاك جنيناً يتخلق في ظلمات رحم مرحلة عمياء،قال الأستاذ الشامي مدافعاً عن سيف الدولة المصلت على الرقاب:
« إذا ذكر الذكاء فأنت حقاً على الأيام أذكى الحاكمينا»
فعلَتْ الأصوات لكن دون أن يفهم منها أهي تأكيد أم استنكار؟ أو يُتَبيَّنُ منها أصفيرٌ هي أم هديرُ تذَمُّر، فغمغم صوت الخطيب الضائع عن ذاته، وهو في أعلى ما استبدَّ به من حالات إحساس بالتيه ، قبل أن يعود فينزل إلى أرض كان يشعر أنها لا ترحب به، فلا يملك إلا أن يحلق ويحلِّق، ويضيف
« وإن ذكر الصلاحُ فقد أعدتُمْ إلى الإسلام عهد الراشدينا»
فقهقه في الآفاق صوتُ مَّا مشتعلاً بهجةً، على مقربة منا ـ دون أن يكون من بيننا ـ أوبعيداً أيضاً دون أن يكون منفصلاً عنا، فتبينا
صوتَ أبي بكر البغدادي يأتينا قبل أوانه، محاطاً ببروق ورعود وأحزمة ناسفة لم يك يعلم شيئاً عن أشكالها أو ضحاياها إلا الله:
ها…ها…ها…ها..هاه
ورغم ذلك لم يلتفت أحد في غمار الطرب والنشوة به، أو ينتبه رقيب إلى ما كان يتحرك في آفاق السماء وأعماق الأرض، بدليل أن إصرار أستاذ الفلسفة على الانسحاب محتجاً في صمت، لم يؤثر على مسار الحفل إذ لم يكن يجهرْ بشيء، وقد بدا لي، في ما بعد ،أنه لم يكن على ضلال أو خطإ ، وهو يتطيّر أمام ما كان يعلنه صوت الرجل الفلسطيني الضخم الهيئة، الذي كان يصرّ بدوره على الهروب من أشباح تاريخ تطارده، ليصمّ أذنيه عن صرخات نكبة جاءنا حاملاً جراحاتها، وهي تتناوح بشدةٍ في أعماق نفسه، ستتحول بعد أيام قليلة مع الهزيمة إلى نكسة فاضحة لحكام القبضة الحديدية، لذلك لاذ الأستاذ بقشة الشعر بحثاً عن موطئ قدم على أرض من متخيل الشعر التي كانت ولا تزال أرضاً مشاعاً مباحة أمام كل لاجئٍ أو دخيل ، إذ انطلق الحفل وانتهى كما كان محدَّداً له. وإنما كان مثيراً لي أن يقف أستاذالفلسفة ، موقف التحريم أو المنع ، لنوع من الممارسة الفنية، أو لشكلٍ موسيقي بالأحرى، كأنه كان يريد لذوق تلاميذ كانوا يعيشون في مدينة ظل الطابع الكولونيالي طاغياً على شكل الحياة فيها ، رغم مرور عشر سنوات على الاستقلال؛ فقد ظلت بها جالية أجنبية تلون أوقاتها ونظرات الناس فيها إلى العالم والأشياء ، بأضواء من ماضيها وحاضرها، ففي أحد باراتها سمعت ذات مساء أصوات أشهر مغني بلدها تنطلق بمواويل الفلامنكو النادبة في حزن، كما كانتقاعة سينما مسرح أعطته الجالية اسم وطنها، لا تتوقف عن عرض أفلام مغنٍّ طفل فاتن الأداء، ،طوال أسابيع العام الدراسي. فكيف غاب عن أستاذ الفلسفة تأثير كل هذا في نفوس شباب هذه المدينة الخانعة خلال فترة بداية الستينات.
وما أثار استغرابي أكثر أن يكون هذا العراقي المحافظ يحمل اسم مواطنه رائد فن القصة القصيرة في العراق كان ينشر إبداعاته بمجلة الآداب التي كنتُ من قرائها منذ عثوري عليها بين ركام ما كان شقيقي يحرص على اقتنائه من كتب ومجلات . وإلى هذا المبدع السارد يعود الفضل في احتفاظ ذاكرتي باسم استاذ الفلسفة العراقي. الذي كنت أحصل معه على أعلى نقطة في هذه المادة ، في صف الباكلوريا سنة انهيار ما كان يبني من آمال تحت أنقاض نكسة غير مسبوقة، أنا أيضاً كنت مغترباً، فقدتُ بوصلتي: لا أعرف أين تمضي بي خطواتي الواهنة ، شأني في ضياعي هذا الصباح، وكل صباح، مستوحشا لم أقابل وجه قريب، ولم أرَ وجه صديق . لا شيء ظل يشدني إلى حياتي غير حبْل حُلْمٍ غيرِ وثيق. كان بحر « عين شقة» بأمواجه الهادرة التي تسرِّع من انهيار أتربتها على اتساع الشاطئِ من ورائي ، وكنت أسير كمغترب حقيقي عن ذاته ، وعن مدينة لم أتآلف معها قط، وإن كنت لم أتوقف عن أقناع نفسي بحبها لوداعتها التي أصبحت في نظري خنوعاً لا أرضاه..
…..
زحفت العقارب نحو العاشرة صباحاً، وعشر دقائق، فطاردتني لأعود إلى المصلحة التي أتيت إلى هذه المدينة الخانعة من أجل زيارتها ، دون أن أتذكر أية جهة أخرى ، حتى طبيب العيون الذي يستعجلني في إجراء عملية جراحة على إحدى عيني، بل لم أتذكر حتى طبيب القلب والشرايين، بل لم ألق في غمار ما كنت أخوض فيه،إنساناً يمكنني أن أسأله عما آل إليه المتورطان في حادث قطع أوصال طفل برئ روَّع سكان هذه المدينة عن آخرهم، فحين دخلتُ المكتب كانت الموظفة الوحيدة به قد حضرتْ ، فبعد قراءتها لملف جئتُ أحمله إليها مثقلٍاً بأدوية هوس واكتئاب، يبدو أنها ملّتْ وهي تقرأه بخوفٍ أكبر ، لاعتقادها أنه يعنيني، وقد رأت مني وجها تكسوه لحية بيضاء شبيهة بلحية الفرنسي فيكتور هيجو، في صورته المعروفة، وحزنٍ يفوق الحزن الذي كان ينوء به قلب هذا الشاعر، وهيئة تشهد بأقسى حالات الاكتئاب.
انصرفت المرأة بخنوع ظاهر إلى تأمل أوراقي بهلع حاولتْ إخفاءه ، فلم ترفعْ إليّ وجهها قطّ، لأعرف ما لون عينيها، ولم تحاول أن تسألني عن أي تفصيل، بل أسرعتْ، إثرَ مراجعة خاطفة إلى قبول الملف، لتؤشر بطابع المؤسسة على ورقة توصيل، وبنفس السرعة ،أسلمت خطواتي إلى الريح ، في عجلة لم تكن منذ شهور من عادتي، لأستقلّ أول سيارة أجرة تمر بي، جاهراً باسم الجهة التي أريد الذهاب إليها ، غير مهتم بأي شيء وقد كان اشتدّ بي هاجس احتمال انفجار شيءٍ في أحشائي، لم أعد أتحكم فيه، يستعجلني في الوصول إلى بيتي ، في مدينة قريبة مجاورة،على أسرع جناح.
أحمد بنميمون
قصة قصيرة ... المغتربونَ -
قمت صباح أمس، بزيارة خاطفة إلى تلك المدينة الشاطئية الخانعة بعد شهور من مغادرتها، وبها كنتُ تابعتً دروسي الثانوية قبل
www.alittihad.info