- لا يستقيم الحديث عن الأدب النسوي دون الحديث عن كاهنته "شهرزاد" التي ما كان لحكاياتها أن تحظى بكل هذا الاهتمام لو لم تكن محاطة بكل أشكال القهر وانتظار القتل، ولو لم تكن صاحبتها سبق وان أهدت نفسها قربانا من أجل انبثاق التحرر وتحقيق الذات ، غير أنه في خضم الاهتمام بالحكاية الشهرزادية ولياليها الألف لم يتساءل أحد ، في حدود معرفتي، عن نهار شهرزاد بنفس الحدّة التي حصل بها التساؤل عن لياليها مع انه لم يصلنا ان شهرزاد كانت نؤوم الضحى ... وكيف لها ان تنام وهي المهددة باستمرار بالقتل المنتظر، هي التي كانت بمنطق الأشياء انما تقبع داخل جناح المحكوم عليهن بالإعدام. لم يطرح أحد كيف كانت تقضي شهرزاد نهارها في انتظار عودة شهريار مساءا كي تمطره حكايا، علما أن شهريار ، كما رسّخه التمثل القديم، لابد وأنه بعد الفاجعة ، بعد ضبط ظل شهرزاد وصورتها الأخرى في حالة تلبّس وهي تحتفي داخل مهرجان الخيانة باللذة المحرّمة ، لابد وانه كان، بعد أن اختلّ ميزان الفحولة ، قد أصدر تعليماته بحدّ السيف أن تستثب الصرامة ، ومن ثم وضع شهرزاد تحت الحراسة المشددة وقد كتبت لها الحكاية المكوث طويلا في بيت السلطان . فكيف كانت تقضي شهرزاد طول نهارها وعرضه في انتظار شهريار، أو " في انتظار حبّ الرشاد " بالصيغة الجديدة التي ورد بها عنوان الأضمومة القصصية للقاصة سعيدة عفيف ؟ هذا وقد تغيّر الشرط الموضوعي ولم يعد شهريار الجديد يطرح أمره المطاع :"احكي حكاية والا قتلتك ".
الاسم المركّب: لم تمت شهرزاد بانتهاء "ألف ليلة وليلة "، اذ الحكاية لا تموت، فشهرزاد ورثت جيناتها لبنات جنسها ، ومنحتهن بسخاء هويتها السردية ، تلك التي تتعالى عن كل هوية شخصية ، ثم ظلت قابعة في الأسفل العميق تنتظر البعث في الحلّة الجديدة سيرا على سنّة الحياة في التطور والتجدّد ، وقد سارت وشهريار ذاتا واحدة وحّدهما الانصات العميق للداخل غير المرئي ، تقول الساردة في أول نص ، وقد توحّد الراقص بالراقصة :"...لا ينتبهان لأحد ولا يلتفتان ، كأن ليس غيرهما يزين الفضاء." ، وكأني بها تومئ الى حالة البدء الأولى حيث آدم وحواء يتبادلان حالة الكمون، ويستشرفان سوء المآل في الانفصال ، يحذرانه مادام أمر الخيانة أمرا واردا يستهوي اللحظة الفارقة مابين رحيل الرقيب وعودته المفاجئة ، تقول الراقصة :" أجل قد ننتهي في أية لحظة ، قد تنتهي هذه الشحنة اللعينة في أية لحظة ثم نعلق...ويعلق كل شيء آخر...في انتظار شحنة جديدة". هي الشحنة الجامعة بين المتوحّدين ، تركيب مزجي يحمل السعادة المؤبدة المشتهاة ، ذاك الذي ظلت تحتفي به أسماء العلم في الليالي ضدا على الانفصال . "حبّ الرشاد" اسم مركّب على غرار " شهرزاد " و" شهريار" ، يقتسم معهما الصيغة والموقع الصامت في الحبل الصوتي على ايقاع اعادة التركيب المستعصي في محنة الليالي ، والشين والراء الصامتين في الأسفل يسمع لهما دوي انفجاري مكتوم تردد صداه جنبات النفق المسدود الذي تعيشه شهرزاد العصر الجديد ، فبقدر الجرس القوي الذي يطرق بقوة في الداخل بقدر لوعة انتظار التركيب ، تقول الساردة في نص " في انتظار حبّ الرشاد ":" ...لهيب نار أخرى وظنون مرعبة كانت تلتهمها من الداخل بسبب غياب رفيق عمرها الذي لا يغيب عنها أبدا " . حينها يتحوّل الزمن النفسي الى زمن ثقيل ، رتيب يعكس ألم وحرقة المنتظر، تقول الساردة :" وأحيانا عندما يفكران في الامتزاج تكون الطبخة غاية في اللذة المتجذرة في أصالتهما وفي كنههما ككيانين يكتملان في كل لقاء." . ففي انتظار حب الرشاد ، بكل ما يحمله التركيب من معاني الاشتقاق الراشد الدال على الأمل في اكتمال الوعي بين تطليق الطفولة والرغبة في انتزاع الاعتراف من سلطة الرشد، كانت محنة شخوص الأضمومة وهي تتوثب لما بعد الوحدات العشر التي احتوتها بين الرقص في الوحدة الأولى احتفاء بلغة الجسد ، والعزف في الوحدة الأخيرة على ايقاع النغمات المتجذرة الأسى ، تقول الساردة :" ... مؤشّر الليلة يوحي بذلك ، وهي دون كل الليالي الماضية " . نزوع جامح للخروج المستحق من غرفة الانتظار لاعتناق الاسم البسيط ضدا على كل أشكال التبعية التي تضمرها صيغة الاضافة بين المضاف والمضاف اليه وخوفا من حالة فقدان الاسم أصلا ، لهذا تقول الساردة في " مسخ ":" ترينني أغوص عميقا في ذاتي لأنجو بها من هذا المسخ ".
الاصغاء للذات : تكاد تجري كل نصوص الاضمومة تحت فعل الاصغاء ، الانصات ، استراق السمع ، باشتغال مكثف لحاسّة السمع وهيمنتها على كل الحواس . الم نقل ان شهرزاد كانت تقضي نهارها وحيدة تحت الاقامة الاجبارية ؟ بذا كان للأذن مفعولها القوي في ترتيب الوقائع على غرار تفاصيل " القول الأسير" صونا للخيط الرفيع الوحيد الذي يربط عادة بين ضيق سجن الداخل بالرحابة الخارجية الممنوعة، لذا كان لفعل " الهمس" والاصغاء لصوت الأعماق حضوره الخاص ، فلطالما كررت الساردة بتنويعات تركيبة متعددة قولها :" انه صوتنا الآخر... ان نحن أصخنا السمع جيدا " حتى ليمكننا القول ان الزمكان السردي زمكان نفسي تجري متوالياته السردية بين الذات وذاتها ضمن قلق مونولوغي يعيد ترتيب الاشياء بالانصات الى حديثها . انه ما يعكسه حديث نص " ماذا يحدث لي؟" حيث تعيش شهرزاد معاناة تجميد سيولة الزمن في المكان الضيق، وخلق الرحابة في الفضاء المغلق وتكليم الأشياء التي كنا نعتقد صمتها . انها الشخصية المأزومة تجري حواراتها مع الأشياء كي يكون للفضاء لسانه الخاص، حديثه في غياب المحاور، تقول " فتات الشطبة " في انتظار" حبّ الرشاد" : " وعندما لا يجد من يكلمه، يخاطب الفرشاة أو اللوحة أو حتى الفراغ من حوله ، وتارة يكلّم نفسه ." . شهرزاد وهي تنطّق أشياء فضائها المسدود . هنا يصبح للأشياء منطقها الذي يجعل العالم ، بتعبير باشلار، قابلا للعيش ، ويصبح لنهار شهرزاد معنى عوض ليلها التابع جملة وتفصيلا لسلطة شهريار الوهمية ، كما لو أن الساردة تريد القول أن لغة شهرزاد الحقيقية هي تلك التي تعقب صمتها عن الكلام المباح بحلول الصباح ، هنا أيضا يصبح للمواد " الخرساء" تصاديها ، وتصبح لها هوية شهرزادية وانتماء شهرياري في أفق التركيب المنشود عوض ان تظلّ كثلا كتيمة صامتة ملقاة على عواهنها ، تماما كما اكتشف مرسيا الياد لغة الأشياء في التركيب الاسطوري البدئي ، بعيدا عن اسقاطات الكائن الغاشم ، تقول الساردة :" وأجدني من غير رغبة أضحك من اللاوجود الذي أصبح يفكّرمحاولا ان يعي ذاته " . حينها يصبح للأشياء ايقاعها الخام المتموج ، يقول الراقص للراقصة في عز الانصات :" متى وحيثما عرفنا كيف نجيد الرقص فتمة جوهر الحياة والمغزى الحقيقي من وجودنا " ، وبذا يردّ الجدار في نصّ " جدار المقبرة " :" من سيغني لي كل صباح ؟ من سيسعدني بتلك الترنيمة الدؤوبة التي لم تتركني لوحدي يوما ؟ " . انه الاصغاء الذي يخلص الذات من كل أشكال التحكّم وآليات التسلّط وبنيات المسخ ، تقول الساردة بضمير المتكلم المفرط في سريريته :" أرى وجهه يتقمص صفات وجه حيواني ...من تيس الى حرباء الى ثعبان" . انها مظاهر الزيف التي يعريها الاصغاء والاستجابة لنداء الدواخل ، لحديث نهار شهزاد حيث ترد عتبة جاك دريدا : " ومتى تسطع الشمس ، تكون الاستعارة قد بدأت معها ".
شهريار الجديد وسبيل الاستعارة : في النص الموسوم ب" قصص لم تقرأ بعد" لم تكن شخصية ضمير الغائب المذكر غير شخصية الخارج الجديد من نسل شهريار . رجل يزاول اشرافه على أمور مملكته الجديدة ويعيش في الآن نفسه آثار العجائبية الحكائية لشهرزاد في ما يصدّق ومالا يصدّق ومنه كثير ، وقد أصابته من فرط الانصات والحنين الى التركيب القبلي لوثة الحكي تحدوه الرغبة في عيش نهار شهرزاد لا ليلها فقط تحطيما للتمثل الذي سكنه كما سكن اللاشعور الجمعي ، تقول الساردة :" أحزنه كون بعض تلك الكتابات كانت تتحدّث عنه كإله خالد لا تناقشه في صنعه أو في ملكاته أو أفكاره " ، بذا أصبح شهريار نحّات قصص مغايرة علّ الزمن ، كما عبّر عن ذلك بول ريكور ، يبدد الهوية القديمة . فشهريار الجديد لم يعد يستسيغ استعاراته القديمة ، بل دشّن استشراف قصص جديدة مغايرة تنسّب على الأقل حقيقته المتوهمة ، تلك التي رسّبها الخلف من حيث لا يدري، وثبتها وعاش عليها شهريار ردحا من الزمن وقد استطاب وهمها ليكتشف أخيرا أنها لم تكن اطلاقا صورته الحقيقية بل كان هو نفسه الضحية فيها لا البطل ، تقول الساردة :" يقرأ أحيانا ما دوّنته تلك الكتب القديمة منذ آلاف السنين ... يبتسم ساعتئذ ويتبدّد شيء من حزنه الدفين ...بل يحدث ان يضحك عاليا..." .
تقول الساردة في نص " بحر الدماء " ، وقد استحال " الوادي " القديم الى بحر، وليل شهرزاد الى نهاره :" غير ان الشمس تفرد أجنحتها المشعة على الكون ، وتتسلل عبر زجاج النافذة ، فتدفئ ما تصقع من أحاسيس " . انها استعارة الشمس التي تجعل من الوصف الموقف عادة للسرد واقعة سردية يتحوّل بفعلها الجامد الداخلي الى حرارة سائلة تخلق للعزلة والانزواء وقائعها الصاخبة، وتدرأ بها وحشية الخارج ومنطقه الاستهلاكي الفج، بذا لم يعد شهريار ذاتا فردية مستعصية على التطويع بل بنية متوهمة قائمة بذاتها تستدعي فقط اعادة بناء الذات من الداخل عبر العيش داخل الاستعارة وتقويضها من الداخل ، وبذا أيضا كانت أضمومة " في انتظار حب الرشاد " " قصص سوف تبدو خرافات اسطورية لمن لم يعشها ، ولمن سيقرأها من الأطفال القادمين " في انتظار سن الرشد الحقيقي.