نورالدين الطويليع - الذاكرة المفجوعة والسرد الجريح في المجموعة القصصية “ ذاكرة التراب” للقاص أحمد نشاطي.. مقاربة حجاجية

أصدر الإعلامي المغربي أحمد نشاطي مجموعته القصصية “ذاكرة التراب”، تتويجا لمسار مهني ونضالي رهن فيه حياته بمسقط رأسه “اليوسفية”، المدينة الفوسفاطية ذات التاريخ النضالي الذي يؤوب إلى المرحلة الاستعمارية، والذي كانت تشعل شراراته حركة عمالية، عانت من الاستغلال البشع على امتداد عقود طويلة. يتكئ الكاتب أحمد نشاطي في هذا الكتاب على الذاكرة المفجوعة، ويعتمد على مشرط السرد لفتح لحظة فاصلة في تاريخ المدينة، تتعلق بما صار يعرف في أوساط اليوسفيين ب “إضراب 1986” الذي يعد لحظة مفصلية فارقة في تاريخ الحركة العمالية الفوسفاطية، ومحطة تاريخية توثق لجانب من مغرب سنوات الرصاص. تنوس المجموعة القصصية “ذاكرة التراب” بين أدب السجون والأدب المنجمي، فهي، من جهة، ترتبط ارتباطا وثيقا بالنوع الأدبي الأول لأنها تتحدث عن السجن والاعتقال والمطاردات والمحاكمات التي كان ضحيتها جيل شبابي يساري حالم بمغرب الديمقراطية والعدل والمساواة والعدالة الاجتماعية، وطبقة عمالية ضاقت ذرعا بهدر كرامتها، ومَنَّتِ النفسَ بتحسين وضعيتها وإسماع صوتها للمسؤولين عن طريق إضراب مفتوح توسمت فيه زحزحة صخرة سيزيف الجاثمة على صدرها، لتتفاجأ بارتداد حركيتها عليها، وبفتح أبواب المعتقلات لاستقبالها، وهي من جهة أخرى تحيل على الأدب المنجمي، لأنها تؤرخ لنضال الحركة العمالية وملاحمها ومآسيها الناتجة عن ظروف عملٍ حاطَّةٍ من الكرامة الإنسانية، مُسْتَلِبَةٍ لكيان الإنسان الذي أريد له أن يذوب بصمت في مناجمَ كانت أشبه ما تكون بالمعتقلات السرية التي لا يعرف تفاصيل قهرها إلا من احتضنته.
ينتقل بنا أحمد نشاطي في سفره السردي من مأساة إلى أخرى، ويفقأ جرحا تلو آخر، تارك إياه مفتوحا، ينزف بإحساس هوان الذات وانحسارها، ففي كل المحطات التي توقف عندها كانت لغة الحداد سائدة مهيمنة، والشعور بالإحباط والخيبة والخذلان سمة بارزة، بدءا بالتنويه أو المقدمة التي عَبَّرَ الكاتبُ من خلالها عن مفارقة الحلم والواقع، مرورا بقصة حمدان، الطالب الجامعي اليساري الذي أدخلَهُ حماسُه الثوري إلى التغيير السجنَ، بعد أن توبع بتهم ثقيلة، وحُكِمَ عليه بخمس سنوات، وانتهاء بالانكسارات والخيبات التي ارتبطت بالوصول إلى النفق المسدود في محطة إضراب 1986، وبواقع السجن المفتوح الذي يختنق فيه مواطن وجد نفسه في مواجهة مباشرة مع القهر والحرمان، مما يحيلنا على قولة الأديب التونسي محمود المسعدي: “الأدب مأساة أو لا يكون”.
في ظل وضعية هذه سماتها تأتي قراءتنا للمجموعة القصصية “ذاكرة التراب” لتستنطق النص وتسائله، متوسلين في ذلك بمقاربة حجاجية، سنحاول الإجابة من خلالها عن الأسئلة الآتية: إلى أي حد ساهمت عتبات النص في التأشير على ما يمور في النص من حجاج؟ ما دور العنوان ولوحة الغلاف والمقدمة بهذا الصدد؟ كيف توزعت أحداث النص بين الملحمية والمأساوية، وإلى أي اتجاه آل الأمر أخيرا؟ كيف رسم الكاتب إيتوسه، وعلامَ اعتمد في ذلك؟ كيف ساهم الحجاج بالنمذجة في الانتصار للنموذج، وفي القتل الرمزي لعكس النموذج؟
1ـ حجاجية العتبات في “ذاكرة التراب”.
تعد العتبات مقدمات حجاجية يتوسل بها القارئ لفك شفرات النص والاطلاع الأولي على عناصره الحجاجية، إذ لا يمكنه بأي من الأحوال أن يدلف إلى سراديبه، دون المرور بعتباته التي تهيئه للقراءة، وتلفت عنايته إلى الطاقة الحجاجية التي يتمتع بها النص، فهي مجس يستطلع به نبض النص الحجاجي، ويعرف من خلاله ما إذا كانت فعاليته بهذا الصدد قوية أم دون ذلك، كما يُمكِّنُهُ من أخذ نظرة أولية عن “مظاهر الحجاج و طبيعته ودرجته (التي) تختلف من نص لنص، ومن خطاب لخطاب”[1]، فيستشرف عن طريق العتبات الواقع الحجاجي للنص الذي هو بصدد الإقبال على قراءته، ويقيس درجة حضور الكاتب فيه عن طريقها، بما تعكسه مرآتها وتَشِفُّ عنه ، وبما تعطي من انطباع أولي، قد يكون حافزا على القراءة، ودافعا قويا إليها، أو مثبطا يبعث الفتور في النفس، ويدعوها إلى الإعراض والنكوص، بسبب فوضى العرض، أو بسبب الحضور الباهت للذات الكاتبة الذي يؤشر على حضور، هو كذلك في متن النص، لأن “الكاتب الذي لا يوجد قبل متن كتابه، لا يوجد بعده”[2]، كما يقول “موريس بلانشو”. وهنا لا بد من التنويه إلى أن حضور الذات الكاتبة في هذه المجموعة القصصية ظاهر وجلي، فالكاتب أحمد نشاطي يختار حججه بدقة اقتضاها السياق السجالي والرغبة في التأثير والإقناع، ويتجلى ذلك في عتبات النص، فقد اختيرت كل عتبة وصيغت صياغة دقيقة لتكون حجة خادمة للمعنى، ولمقصدية صاحبها، وهذا من مقتضيات الحجاج، فمن المعلوم أن “الحجة وحدها لا يمكن أن تكون فعالة لمجرد أنها كذلك، بل ينبغي بالضرورة لكي تكون فعالة حقا أن تصاغ الصياغة المناسبة”[3].
أـ عتبة العنوان: يعد العنوان عتبة رئيسة، وعنصرا أساسيا يؤدي دورا بارزا في تلقي النص وفهمه وإدراك دلالاته، و”في إيضاح الغوامض وخلق الانسجام بين المادة المعنونة وبين مؤلفها وسياق التأليف والقراءة معا، مع الحرص على الإغراء وفتح الشهية للقراءة”[4]، وعنوان المجموعة القصصية “ذاكرة التراب” لا يعدم هذه الوظائف، وهو يأخذ قيمته من خلال موقعه الاعتباري الذي يشغله على رأس الصفحة، ومن خلال كتابته بخط مضغوط، وهذه تقنية من تقنيات العرض الحجاجي، يتغيى صاحبها إثارة انتباه القارئ واستقطابه لقراءة المتن النصي، لاسيما وأنه يبعث على الإغراء والإثارة من خلال كلمة “ذاكرة” التي تحيل على الماضي، وعلى العثور عليه ولقائه من جديد، وإنقاذه من النسيان، وامتلاك ناصية زمن هارب ومنفلت من قبضة الإنسان، فهي ذات بعد عاطفي يرتبط بالمصالحة مع الماضي الذي تحن النفس الإنسانية إليه، ولا تستطيع أن تعيش منفصلة عنه، وتأتي كلمة “التراب” لِتُكَوِّنَ مع سابقتها مركبا إضافيا استعاريا يمنح للمكان سطوة الحضور، ويؤشر على بصمته القوية بوصفه مُشَكِّلاً سرديا له دوره الحجاجي البارز في احتضان الأحداث ووسمها بميسمه، يقول غاستون باشلار بهذا الصدد: “المكان يدعونا للفعل، ولكن قبل الفعل ينشط الخيال، ينقي الأرض ويحرثها”[5]. كلمة تراب تستفز القارئ، وتدعوه إلى البحث عن المكان الذي جاءت كناية عنه، وجعلت من هذا العنوان عنوانا مكانيا، رغم الحضور الضمني للشخصيات التي يعود لها الفضل في صنع الذاكرة، وهذا الإضمار له بعده الحجاجي المتمثل في ما مورس على إنسان التراب من استلاب و تذويب لذاته، وإلغاء لوجوده المعنوي، وقتل رمزي لنضاله، مما يجعل الأرض (التراب) وريثا سيتكفل بحمل الذاكرة. هذا الانزياح “ذاكرة التراب” كان ضروريا لتصوير واقع تحولت فيه الكلمة إلى المكان، وفقدت فيه الشخصية ذاكرتها بعد أن استودعتها إياها، يقول الحسين بنو هاشم: “إن بعض الاستعمالات للغة تفترض الانزياح عن المعنى المألوف، فوحده الانزياح عن المعنى يمنح للعبارة قيمتها العاطفية المبتغاة”[6]، وهذا يسري على هذا العنوان الذي اختيرت لفظتاه اختيارا حجاجيا يتعالق مع مقاصد الكاتب، لاسيما كلمة “التراب” التي تؤشر على حياة خاصة يعيها جيدا أبناء المناطق الفوسفاطية، فهو يحيل على الأمل والألم في الوقت نفسه، وعلى مشاعر متضاربة ومتناقضة ترتبط بالحزن والفرح، وبالسعادة والشقاء، فوقع هذه الكلمة قوي على المتلقي، ولا يمكن أن يتركه، دون أن يثير عاطفته ويستثير ذاكرته، لأن هذه الكلمة لها قيمتها المعنوية الكبيرة عند إنسان المناطق الفوسفاطية، مما يجعل منها مُوَجِّهًا حجاجيا يتجاوز الإخبار إلى التوجيه والإثارة العاطفية، وقد ساعدت الصيغة الإثباتية للعنوان في ترسيخ حجاجية توجيه يضعنا في صلب حفر أركيولوجي من قِبَلِ كاتب/سارد لا تتلخص مهمته في الحكي فقط، بل تتجاوزها إلى الحفر عميقا في الأحداث والوقائع، مع ربطها بقراءته الناقدة التي لازمت الحكي الاسترجاعي وواكبته.
ب ـ عتبة صورة الغلاف: يؤدي النسق الأيقوني البصري وظائف متعددة تتوزع بين الجمالي الذي يثير الذوق، ويقترح المشاهدة، والتوجيهي بما يتيحه من إمكانيات للقراءة والتأويل، والتمثيلي الذي يقدم من خلاله الأشياء والأشخاص في أبعادها وأشكالها بالدقة التي تعجز عنها اللغة المكتوبة في كثير من الأحيان[7]، وتتواشج هذه الوظائف لتساهم في خدمة المقصد الحجاجي للكاتب، لأن الرسالة البصرية، كما يرى “كريستيان ميتز Christian Metz” مثل الكلمات وكل الأشياء الأخرى، لا يمكن أن تنفلت من تورطها في لعبة المعنى، بل إنها تتبوأ، في كثير من الأحيان، صدارة الوسائل الحجاجية، بوصفها “لغة ثانية تروم اقتصاد الدلالة وانفتاحها الأقصى حتى تتخلص مما يسميه بارت بفاشية اللغة الأولى”[8].
تكشف صورة غلاف المجموعة القصصية “ذاكرة التراب”، التي أبدعها الفنان بوبكر عبيبي، لا حيادية الذات الكاتبة، وتشير إلى ذاكرة ترابية تأبى النسيان، وتصر على استعادة ماضٍ مثقل بالجراح ومشاعر الانكسار، معتمدة في ذلك على اللون الذي يمثل الجزء الأكبر في صورة الغلاف البصرية التي وردت خالية من أي سند بصري من شأنه أن يكبح عملية التأويل، أو يوجهها، مما يعري لا براءة الذات الكاتبة التي لا تريد أن تُلْجِمَ المعنى، أو توقفه عند نقطة محددة، ويشي بحجاج يحرك العاطفة، ويستثير الانفعال، ويسعى إلى التعبئة والتجييش، مستغلا دلالة اللون التي اتخذت هنا طابعا انزياحيا، فاللون الأصفر الذي يحتل مساحة كبيرة في صورة الغلاف، يشير إلى حياة يسودها الفرح والسرور والانشراح، كما جاء في قوله تعالى: “إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين”[9]، لكن الغبار الأصفر المتطاير، والخطوط الصفراء الممتدة، والآلة التي يكدر غبارها الفوسفاطي الفضاء الأزرق، ويفقده نُصُوعَهُ، يجعلنا نستعيض عن الدلالة السطحية للون الأصفر في معناه العام، إلى دلالة خاصة ترتبط بإحساس إنسان المناطق الفوسفاطية وشعوره الذي يميل غالبا إلى الحزن وعدم الرضا، وينظر إلى هذه المادة، التي يُطلق عليها الذهب الأصفر، بوصفها مصدر شقاء له، تكدر صفو حياته وتخترقها، وتضيق أفقها لتجعله محدودا. هذه المعاني لخصها صاحب الصورة في لونين استطاع أحدهما أن يزحف على الآخر من جميع الاتجاهات، فاللون الأزرق الذي يرمز إلى الأفق الممتد، وإلى السعادة احتفظ
بمساحة ضيقة، ولم يحظ حتى في حيزه المحدود بصفائه وبريقه، وفي هذا إشارة إلى تمدد الإمبراطورية الفوسفاطية وحضورها الكبير في مناطق استخراج هذه المادة، لاسيما مدينة اليوسفية التي يشير صاحب الصورة بالخطوط الممتدة على طول صورة الغلاف إلى سياستها التي اقتحمت عالم الإنسان، وقضت على أحلامه، وحولته إلى ركام من اليأس والضياع والوجود المنكسر عقب محطة إضراب 1986 التي كان الكاتب عضوا في فريق واكبها بالتغطية الإعلامية، وساهم في تدبيج البيانات وتوزيعها، وفي تحريض العمال على مزيد من العصيان، كما يشير بالغبار النازل من أعلى والصاعد من أسفل إلى تحول النعمة إلى نقمة، وإلى تلظي ساكنة المدينة بالغبار ومعاناتها المريرة معه، يقول السارد: “قل ضيعة مسبية..أو قل قلعة عشق ترابي فاتر…التراب ذاكرة للجراح وشهادة عسف وإدانة صارخة”[10]، مما يضعنا في صورة مفارقة صارخة، فالفوسفاط الذي كان من المفروض أن يكون مصدر سعادة، وأن يجعل المدينة جنة فوق الأرض، استحال جحيما، وخلف وراءه ضحايا اصطبغت حياتهم بالمأساة، ومُنوا بخسارة الإحساس بجمال الحياة بعد محاولات فاشلة لتكسير القيد وتغيير الوضع، والنصوص المبثوثة على امتداد الكتاب تجلي من هذا الإحساس الأقرب إلى الانكسار والانشطار، يقول السارد متحدثا عن أحلام جيله المحبطة: “جيل قرر مواجهة الوضع المجتمعي العام السائد في مدينة اليوسفية، متحديا مظاهر التهميش والتيئيس واللا تسييس واللامبالاة وانهيار القيم”[11]، ويقول، مستعرضا واقع المدينة الفوسفاطية الرتيب: “أناس يمشون ويجيئون في اتجاهات مختلفة: هناك السربيس والعطش والطاشرون وسكة الحديد والتسكع والفراغ والبطالة واللواط وغير ذلك كثير…ذرات الفوسفاط مترامية، تعطي للمكان والكائنات ألوانا صهباء وباهتة كما الحريرة البائتة…صبايا أبرياء وزوجات مقهورات وأزواج مثخنون بجراح قرارات جائرة لسياسة لا مسؤولة…بيني وبين رفيقتي مسافة مشتركة من الهمِّ والحلم والتراب الفوسفاطي والأسنان القهوية أو السوداء أو لعنة الألوان…سئمنا من الموت الرخيص داخل الأنقاض والتراب والأنفاق والحديد والسمطة والحشة الساقطة…سئمنا هذي الأرجل المبتورة والأيدي المقطوعة، لا ممنوعة، والمبالغة في التشويه من غير فائدة”[12]. هكذا إذن تنطق نصوص المجموعة القصصية باللغة نفسها التي تعبر عنها صورة الغلاف، مما يجعلنا أمام دلالة واحدة تتخذ من سخرية الموقف وسيلتها لإظهار جروح الذات المتقيحة، مع وجود فارق بين السندين اللغوي والبصري، فالأول استهلك كثيرا من الكلمات من أجل إيصال الصرخة، في حين اعتمد الثاني على التلميح، وبدا أكثر اختراقا للذات القارئة بعد تخلصه من عامل اللغة التي قد تقصر في مثل هذه الحال عن وصف حجم الفظاعة، وعن احتواء المعنى.
ج ـ عتبة المقدمة: تكتسي المقدمة، بوصفها عتبة نصية، أهمية كبيرة لا تقل عن عتبة صورة الغلاف، ما عدا في نوعية العلامة التواصلية التي تعتمدها كل منهما، فالمقدمة تعتمد على اللغة المكتوبة، في الوقت الذي تعتمد فيه صورة الغلاف على التواصل العلاماتي.
تُعَرَّفُ المقدمة بأنها “كل نص سابق عن متنه أو لاحق له، قصد تقديمه للقارئ ومده بمنهج صاحبه وخطته في التأليف، وقصده منه، وكثيرا ما تدخل في علاقة مع المتن المقدم له، إن المقدمة بهذا المعنى عبارة عن تعاقد ضمني بين المؤلف وقارئه”[13]، وقد جاءت مقدمة المجموعة القصصية “ذاكرة الترتب” في صورة تنويه جَلَّى فيه كاتبُهُ مجموعة من الحقائق التي يمكن أن ندرجها في ما يمكن أن نصطلح عليه “استراتيجية البوح والاعتراف” التي سعى من خلالها القاص إلى تنبيه القارئ وإحاطته علما بمجموعة من الحقائق نجملها في ما يلي:
ــ التأكيد على واقعية أحداث نصوص المجموعة القصصية، وهذا خرق آخر ينضاف إلى خرق العنوان وصورة الغلاف، فخلافا لمن يتبرؤون مما قد توحي به قصصهم من واقعية، مرجعين حصول ذلك إلى محض الصدفة، يخرج القاص أحمد نشاطي قصصه من دائرة السرد التخييلي، ويلحقها بعالم الواقع، مما جعلها أقرب إلى روبورطاج نَقَلَ من خلاله وقائعَ وأحداثٍ عرف كيف يلبسها لبوس الحكي ليجعلها أكثر إثارة وتأثيرا في المتلقي، لا سيما أنها نشرت في حينها في جريدة أنوال التي كان لها قراء من نوع خاص، وكانت تحظى بمتابعة كبيرة أيام الإضراب من لدن عمال كانت تستهويهم الصيغة القصصية للأخبار والوقائع التي كانوا صُنَّاعَهَا.
ــ التأكيد على ثنائية الحلم بالتغيير، والانكسار وخيبة الأمل، مع الإشارة إلى الانتماء السياسي لجيل الثمانينيات اليوسفي الذي حمل الحلم وفُجِعَ بالانكسار، وهو جيل ينتمي إلى تيارات اليسار المختلفة: “كل الشكر والحب لجيل يساري حالم كان هنا، في تلك السنوات الحافلة التي تحبل بها ذاكرة المدينة…جيل من شباب كان يتنفس نسائم اليسار، لا تهم عناوين تياراته”[14]. هذا التنويه يؤشر على كتابة غير بريئة، وعلى انخراط الذات الكاتبة واصطفافها إلى جانب الضحية بإيعاز من انتماء إيديولوجي يمتاح نظرته إلى العالم من مقولة “المثقف العضوي” للمفكر اليساري الإيطالي “أنطونيو غرامشي”. وإجابةً عن سؤال محتمل قد يطرحه قارئ لم يعايش اللحظة، سارع الكاتب إلى الاستدلال بالوقائع التي وقفت وراءها تنظيمات يسارية جعلت هدفها الأسمى “تكسير الحصار الثقافي المشدد المضروب على المدينة”[15]، ومن هذه التنظيمات: جمعية الطريق ـ النادي السينمائي ـ حركة الشبيبة الديمقراطية ـ مجموعة الطريق الغنائية، وقد انخرط أفرادها، بالإضافة إلى الأنشطة الثقافية، في مجموعة من الاحتجاجات في سبيل تحقيق الهدف المشار إليه، وفي سبيل رفع التهميش ومواجهة التيئيس واللامبالاة وانهيار القيم: “باتت معارك الوطن تجد صداها في الويجانطي (اليوسفية)، بدءا من احتجاجات المعطلين والتلاميذ، ومساندة احتجاجات عدة فئات شعبية من “أصحاب الكرارس” إلى عمال المناجم، وصولا إلى مسيرات التضامن مع العراق وفلسطين”[16].
يضعنا هذا التنويه، إذن، في صورة الكتابة الملتزمة التي يصر صاحبها على استعادة ذاكرة مجروحة، ليس من أجل الألم، أو من أجل تعذيب الذات، ولكن من أجل ربط الماضي بالحاضر، واستعادة تاريخ يُرادُ له أن يُطْمَرَ وأن تُطوى صفحتُهُ دون قراءة، والكاتب يتكئ في هذه الاستعادة على ما يسميه “شاييم بيرلمان” ب حجة التبديد L’argument du gaspillage “التي ترتكز على القول: بما أننا سبق أن بدأنا عملا تَجَشَّمْنا، لأجل إنجازه، تضحياتٍ ستذهب هباء إن استسلمنا وتقاعسنا عن مواصلة الجهد لإتمامه، فينبغي، إذن، أن نواظب على العمل في نفس الاتجاه”[17].
2ـ صورة الذات أو الإيتوس في المجموعة القصصية “ذاكرة التراب”
يؤكد الكاتب في مقدمة كتابه على الطابع الواقعي لأحداث قصصه، ويشير إلى حضور الذات القوي في نسج هذه الأحداث على مستوى الواقع، مما يجعل هذه المجموعة القصصية قريبة إلى جنس الأوتوبيوغرافيا، ويسمح لنا بنقل مفهوم الإيتوس من حقل البلاغة، وتوظيفه في قراءة هذه النصوص السردية، لاسيما وأن الإيتوس يعني “ميزات الشخصية”[18]، ويتعلق ب “صورة الذات التي يبنيها المتكلم في خطابه ليمارس تأثيرا في المخاطَب”[19].
أ ـ صورة الذات المتألمة: تعلن الذات الكاتبة في مستهل الكتاب، وفي كثير من صفحاته عن إحساسها بالمرارة وخيبة الأمل بسبب تبخر الحلم بالتغيير الذي كانت تنشده للوطن والمدينة: “كنا نحلم بكل شيء جميل لبلدنا الجميل، ولمدينتنا الجميلة…واليوم بعد أزيد من أربعة عقود، مازالت المدينة على حالها…مازالت البنايات باهتة كما الحريرة البائتة”. تضعنا الذات الكاتبة في صلب مقارنة صارخة بين فترتين زمنيتين تفصل بينهما أربعة عقود، فترة الثمانينيات المفعمة بالأمل، وبغليان ثوري ينشد التغيير لمدينة ووطن تعلقت بهما إلى جانب جيل يساري حالم، تقاسمت وإياه هذا الحلم، لأن النفس الآملة/المتألمة، كما يقول جبران خليل جبران “تجد راحتها بانضمامها إلى نفس أخرى تماثلها بالشعور و تشاركها الإحساس، مثلما يستأنس الغريب بالغريب في أرض بعيدة عن وطنهما”، لكنها فُجِعَتْ باستمرار الوضع على ما هو عليه، وبافتقاد المدينة للنموذج القادر على حمل المشعل، وكأنها تحولت إلى مدينة أشباح تؤثثها البنايات الجامدة، دون أن يظهر عليها أثر الحياة الثورية، ولم يجد الكاتب غير الصورة التشبيهية لتجسيد مفارقة الغياب هذه، فاستدعى “الحريرة البائتة” لتصوير واقع الجمود النضالي الذي أصاب المدينة والوطن، قبل أن يعبر عن استبعاده إمكانية تغيير الوضع، وإزالة البؤس عن واقع ينطق بالرتابة والانكسار: “كم يلزمنا من الحلم بالتغيير لتصبح هذه المدينة، كما في مخيالنا، جميلة فاتنة، حنونا دافئة”، استغل الكاتب هنا دلالة “كم” الخبرية لتعزيز طاقة كلامه الحجاجية، وتصوير الهوة الشاسعة بين المأمول والمبتغى، وبين الواقع الذي فَقَدَ كل معاني الجمال والحنان والدفء، واستوطنه القبح بكل تفاصيله المؤلمة. وتمضي الذات الكاتبة معبرةً عن ألمها الممضي، وهي تستعرض درب النضال الطويل وما تَعْتَوِرُهُ من أشواك وعقبات، وما يعانيه من اندساس عديمي الضمائر والمتاجرين بالقضايا، أو تُصَوِّرُ حجم الفساد الذي ينخر البلاد في جميع المجالات: “الدرب طويل يا فاتنة…طويل وصعب وشائك…ونازف بجراحات وعربدات المتاجرين في الضمائر والذمم…والمال الحرام..في عمليات مسخ ومصادرة منظمة للإرادات والأصوات والاختيارات، وعرض مؤسسات في مزادات علنية أو سرية في المقرات والتجمعات، وخلف الأبواب الموصدة لتلك البيوتات..التي تؤرخ لملاحم عقود من التزييف والتزوير..وكل مظاهر الغش والتدليس.. والتعسف والتدهور.. والفساد الذي تشرنق في الإدارة والسياسة والاجتماع والاقتصاد..تفرَّعَ وتمدَّدَ وعشَّشَ وشيَّد جدار سميكا في وجه البلاد”[20]. يثيرنا هنا إكثار الكاتب من استعمال حرف الواو في الربط بين أوصاف تنتمي كلها إلى حقل المأساة، وذلك لتفضي إلى حكم واحد، وقد تحدث ابن يعيش عن هذه الخاصية التي تميز حرف العطف “الواو”، ولخص ميزتها “في جمعها بين ملافيظ مشتركة في حكم واحد”[21]، وهذا يسري على هذا النص الذي أراد كاتبه، بتكثيف استعمال حرف الواو فيه، إثارة انتباه المتلقي إلى الجرح المفتوح الذي يستنزف الوطن، ويَهُدُّ الصف النضالي، مما أضفى على هذا المقطع، وكل مقاطع المجموعة هي كذلك، مسحة حدادية، وعَزَّزَ إيتوس الذات المتألمة التي تتفطر حزنا على وطنها، وعلى الواقع النضالي، وهو ما رفع من قيمتها بوصفها ذاتا مناضلة تنكر نفسها في سبيل الوطن، الأمر الذي يجعل ألمها “ألما إيجابيا يرفع الإنسان في درجات إنسانيَّته ليصل إلى روحانيته. فلا يتألم إلا العظيم، أما الأناني فإنه يعتبر الموضوع مجرد أمر اجتماعي واقعي… وهكذا، لا يشعر بالألم إلا صاحب الشعور الإنساني العظيم”[22].
ب ـ صورة الذات المحبة لمدينتها: تظهر الذات الكاتبة في صورة الهائم الولهان المُنْهَكِ بحب مَلَكَ عليه الفؤاد، والمحبوبة هنا هي مسقط الرأس، مدينة اليوسفية، التي كان سماع اسمها يبعث في الكاتب قشعريرة التعلق والهيام: “كان نطق اسم المدينة يثير فِيَّ شيئا غامضا يشبه أحلامنا الأولى، فأتسكع في التأمل وأسأل عن حال مدينتنا المقصية إلى هامش دورة الزمان”[23]. يرتبط المكان عند الكاتب هنا بما يسميه باشلار: “سمات المأوى التي تبلغ حدًّا من البساطة، ومن التجدر العميق في اللاوعي، يجعلها تستعاد بمجرد ذكرها أكثر مما تستعاد من خلال الوصف الدقيق لها“[24]، فمدينة اليوسفية عالقة في القلب، ليس بوصفها مساحة جغرافية فحسب، بل باعتبارها وعاءً لِمَاضٍ ارتبط بالحلم، وبالرغبة الجامحة في التغيير، وبالانخراط في الحركات الاحتجاجية لمختلف الفئات المهمَّشَة والمقصية والمنبوذة، وهذا ما يجعل استحضار المكان نوعا من البكاء على الأطلال لذات أبت أن تبرحه دون طرح أسئلة قلقلة تثير المتلقي وتستفزه، دون أن يكون لها أفق جواب، مع الحرص على تضمين الأسئلة ما يسمى استراتيجية “الحضور La présence ” التي تعتمد على “استحضار العنصر المنتقى للمحاجة وجعله ماثلا بين أعين المخاطَبين، وفي أذهانهم”[25]، فبعد أن وصف الكاتب مدينته بالحبيبة استحضر الكلاب المريضة التي تعبث بالمدينة، وهي كناية لها دلالاتها القوية عند المواطن اليوسفي، كما استحضر الظلام والنهار المستعار، وهما كذلك كناية تتواشج مع إحساس هذا المواطن بهوان الذات وانغلاق الأفق، فالحاضر مظلم، والمستقبل كذلك: “هل تخلصت الحبيبة من الكلاب المريضة المتربصة بالأبناء، ومن الظلام الذي ينتهك الجسد بالليل، وبالنهار المستعار؟ كيف حال البنايات القديمة، الأزقة، فوضى البنيان، طوابير صغار الحوانيت الفقيرة، الفوسفاط المجفف والقهر؟ كيف صار الحال يا مساحة عمال دامية؟”[26]، وقد عمد الكاتب إلى تكثيف الكناية، لأنها أكثر تأثيرا في المتلقي، يقول عبد القاهر الجرجاني: “إنه أجمع الجميع على أن الكناية أبلغ من الإفصاح، والتعريض أَوْقَعُ من التصريح…وأن المجاز أبلغ من الحقيقة”[27]، ويستمر الكاتب في إثارة المتلقي وتقليب مَوَاجِعِهِ، معتمدا على استراتيجية الحضور، فبالإضافة إلى استحضار عنصر المكان (الحبيبة ـ البنايات القديمة ـ فوضى البنيان ـ الحوانيت الفقيرة)، استدعى شخوصا تمثل معالم المدينة ببؤسها وشقائها، وتشهد على واقعٍ أصابها بالخبل، وجعلها تفر إلى عالم اللا عقل، بعد أن قَصُرَ بها العقل عن إدراك ما لم يعد قابلا للإدراك: ” وددت لو أغوص بكل رؤاي في المكان..أملأ عيني بالناس وأديرها في كل الجهات.. “السي حميد” يدخن عقب سيجارة رخيصة ويدمدم بكلام غير مفهوم.. “كرشاح” عند بائع كرموس يقهقه بصوت عال وينفجر بشتم بذيء في وجه أحد المارة.. “عبد العالي” في جلسته المعتادة يدخن الكيف ويبحلق في الفراغ. أناس يمشون ويجيئون في اتجاهات مختلفة: هناك السربيس والعطش والطاشرون وسكة الحديد والتسكع والفراغ والبطالة واللواط، وغير ذلك كثير”[28]. يضعنا الكاتب في صورة العاشق المتيم بمحبوبة سُلِبَت منها الحياة، مما يضفي على هذا العشق طابع المأساوية، ويجعل الذات الكاتبة في وضع الراثي الذي يذرف الدموع، ويعزف سمفونية الحزن حدادا على مكان فَقَدَ معالمَ المكان، وعلى شخوص هاجمهم الجنون والتسكع والضياع.
ج ـ صورة الذات المثقفة: استطاعت الذات الكاتبة أن تخرج عن نطاق الخبر الصحفي في نقل الأحداث المرتبطة بوقائع إضراب 1986، وأن تصوغ هذه الأحداث في قالب قصصي مشوق، مما يدل على وعي نظري بأهمية الحكي ودوره في التأثير في المتلقي، وعلى امتلاك قدرات إبداعية في مجال السرد، ويرجع هذا إلى تخصص الكاتب الجامعي، فهو حاصل على الإجازة في الأدب العربي، وإلى تخصصه الإعلامي، بوصفه من أبرز الوجوه التي تؤثث المشهد الإعلامي بالمغرب، وقد ترجم الكاتب معرفته العالمة بحجز مكان لذاته الكاتبة في التشكيل السردي، وَبَصْمِهِ على حضور قوي في مسار الأحداث العاصفة التي شهدتها مدينة اليوسفية في ثمانينيات القرن الماضي، لاسيما إضراب 1986، فشخصية “بوشعيب الجبوري” ليست سوى كاتب المجموعة القصصية، وقد اختار لها اسم بوشعيب الذي يحيل على كلمة الشعب المرتبطة بالجمهور، وبالفئات المقهورة، وأضاف إلى هذا الاسم لقب “الجبوري” نسبة إلى منطقة الجبورات ذات التاريخ العريق، وهي مسقط رأس والدته.
اضطلعت هذه الشخصية بمجموعة من المهام إبان إضراب 1986، فقد كانت جزءا من خلية إعلامية تتتبع الأحداث أولا بأول، وتُدَبِّجُ المقالات والقصاصات حول الإضراب، وتنشرها بجريدة أنوال، كما كانت تتكفل بصياغة بيانات المكتب النقابي، وكانت كذلك قوة اقتراحية تساهم في إثراء النقاش المفتوح حول مسار المعركة وحدودها: “بوشعيب الجبوري ظاهرة فوسفاطية عجيبة..عندما تجالسه يغرقك في بحر تحليلاته التي تشمل كل الأشياء والقضايا المطروحة، يبحث عن الأسباب والمسببات ويتقصى النتائج..يتحدث في السياسة، وفي العمل النقابي، وبينهما يمارس شغفه المفرط بالمطالعة ومتابعة الأحداث الوطنية والعربية والدولية في مختلف مجالاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية…القليل جدا من يعرف أنه هو الذي يصوغ أغلب البيانات التي يصدرها المكتب النقابي”[29]، وبوصفه مثقفا عضويا ظل بوشعيب الجبوري (الكاتب) مرتبطا بالأحداث التي صاحبت الإضراب، ولم تبرح ذاكرتَهُ تفاصيلُها المأساوية وملاحمُها البطولية: “بات اعتياديا إلى حد الرتابة أن يعيد بوشعيب، بمناسبة وبغير مناسبة، قراءة الأحداث…استحضر الأحداث واستعرض شريط الوقائع: المداهمات، الاعتقالات، المسيرات، تعنت الإدارة، الإضراب اللا محدود، الاعتصام بالمناجم، التهديد بالانتحار الجماعي، المجنزرات وقوات الردع”[30]، ولم يكن بوشعيب الجبوري يستدعي هذه الأحداث لذاتها وفي ذاتها، وإنما كانت تحركه رغبة جامحة في قراءتها وبيان أسباب الفشل والإخفاق في إطار نقد الذات: “كان بوشعيب الجبوري يدرك أن الحركة الإضرابية لم تكن واضحة الأهداف والوسائل بالشكل الكافي لدى القواعد العمالية..ضعف التنظيم والتأطير والتكوين، بالإضافة إلى انعدام الخبرة والتقاليد النضالية بفعل مرور العمل النقابي بهذه المدينة المنجمية بسنوات طويلة من الجمود الأجوف الأعجف”[31]
3ـ الحجاج بالنموذج وعكس النموذج في المجموعة القصصية ذاكرة التراب
تنقل لنا المجموعة القصصية “ذاكرة التراب” صورتين متناقضتين، الأولى لمناضلين شرفاء، لم يبيعوا ذمتهم، ولم يخضعوا للمساومات والتهديدات، والثانية لمستهترين لم تكن تهمهم إلا نزواتهم الشخصية. هذه الثنائية هي ما يصطلح عليها في الحجاج ب”النموذج”و”عكس النموذج”، وقد أدرجها بيرلمان ضمن الحجاج بواسطة الحالات الخاصة، وفيما يلي تعريف مختصر للمفهومين. يرى أوليفيي روبول (Olvier Reboul) أن النموذج (modèle) هو”المثال الذي يظهر بمظهر يستوجب تقليده”[32]، بما يصدر عنه من أفعال وتصرفات، تجعله أهلا للتشبه به، وتضعه في مصاف النخبة المتميزة والمتفردة الجديرة بأن تكون قدرة ومثلا أعلى، أما عكس النموذج anti-modèle)’L)، فيمثل “النموذج المضاد غالبا، وفي الوقت نفسه خصما يجب محاربته، واحتمالا القضاء عليه”[33]، عكس النموذج إذن هو المثال الذي قد “تُقْصَى جميع صفاته الإيجابية، وتُنْسَبُ إليه كل الصفات السلبية الممكنة”[34].
احتفى الكاتب بالنموذج وألبسه كل المكارم والقيم النبيلة، وهذا النموذج يحضر في صورة شخصيات لها امتداد واقعي مثل علي الشعبي الإطار الفوسفاطي الذي كان “يحب المدينة حتى فوسفاط الأنفاق…كان إطارا عاليا يزاوج العمل الذهني بالعمل العضلي في مناجم الفوسفاط”[35]، وهذه ميزة تحسب له، لأن الإطار الفوسفاطي لم يكن العمل العضلي من اختصاصه، لكن انتماءه اليساري جعله يلغي الفوارق التي كانت الإدارة الفوسفاطية تحرص على وضعها للفصل بين العمال والأطر، وهو ما عَرَّضَهُ للطرد والاعتقال، يقول السارد: “تذكر يا علي؟ كنتَ أول من اعتُقِلَ..هل ضاقوا بك إلى هذا الحد..وبعنادك إلى درجة أن الإدارة والسلطة اختاراك أنت بالضبط هدفا لجور أصحاب الحال..وعبرة..وترهيبا لكل العمال؟!”[36]، وإلى جانب علي الشعبي احتفى السارد بنماذج أخرى مثل عمر الذي كان من العقول المدبرة للخطوات النضالية المرتبطة بالإضراب، يقول السارد، معددا صفات هذا النموذج الإيجابية: “أنت الزميل والرفيق..المتوج قائدا، بجدارة الالتزام والنضال، وبإجماع ثقة العمال..أنت نور حياتنا المثقلة بالبؤس وبالظلام وجراح الكلاب المسعورة. تعرف يا عمر، كنت كلما دخلت علينا تفرض على المكان حميمية مفتقدة..فنعشق اللحظة ونستعذب الوجود الذي بمعنى.. وروحك الحية تنفخ فينا حرارة الأمل، ويناعة الصمود، وفيض الحب الذي أصبح يطل على حياتنا وعلاقاتنا بلا حساب”[37]، وإلى جانب هاتين الشخصيتين تنتصب شخصية أخرى تمثل بدورها نموذجا في الصمود والتحدي والأخلاق الحميدة: “السي عبد الرحمان عامل طيب يخلص لواجبات الله، ويحب الخير ومساعدة الناس، ويقنع من الدنيا بزوجة حنون، وبأطفال على خلق قويم…كان سي عبد الرحمان يلتجئ إلى التعبد، ويطيل الصلاة، ويطلب الرحمة والمغفرة للجميع…وعند اندلاع حركة الإضراب اللا محدود انحاز مباشرة إلى صف زملائه في العمل، وشاركهم حماس النضال ومرارته”. خص الكاتب، إذن، نماذجه النضالية بكرم حاتمي، وأظهرها في صورة متميزة خَلْقًا وخُلُقًا وإنسانية، مما يؤشر على ذات كاتبة مشبعة بقيم النضال، وعلى كتابة غير بريئة، تطالعك سطورها الأولى على نَفَسٍ نضالي، وعلى رغبة ملحة في الانتصار لقيم النضال، واستهجان واضح لمن افتقدها، ويتجلى هذا فيما خص به عكس النموذج من صفات تجعل من يطلع عليها ينظر إليه بازدراء، فشخصية رشيد، التي أوعز إليها أداء دور عكس النموذج، أثقلها بالوصف السلبي، واختار لها اسم “رشيد” على سبيل السخرية، لأنها تفتقد إلى الرشد، ولا تعرف من الحياة سوى جانبها العبثي، وهي شخصية منحلة أخلاقيا، وعاقة لوالدها، لا تتردد في ذكره بسوء، مبخسةٌ للنضال، فاقدةٌ للثقة في كل الناس بمن فيهم الوالد: “الدنيا ما فيها غير النفاق والغدر..ما كاين أمان ولا ثقة.. حتى الوالد الله يعفو علينا وعليه..حتى هو ما كنثيق فيه..أنا كنضرب تمارة على المانضة، وهو باغي يلهفها مني…أنا حضرت اليوم إلى الاجتماع في النقابة على محمل التَّفَكُّه..هؤلاء الحمقى لا يعرفون ماذا يقولون…لا يعمل في هذا الزمن ضد الحكومة إلا المزاليط والمساخيط….أنا لا أعادي الحكومة، عاطيها التيقار”[38]. يضعنا الكاتب في صورة عكس نموذجٍ تافهٍ، مستهتر، ليست لديه أي رؤى، ويملأ وقته بالعربدة والمجون مع “فطومة” التي يصفها والداه ب “الصُّوبيصة”[39]، ويستمر الكاتب في تسفيه عكس النموذج “رشيد” والنيل من السلطة التي كانت طرفا في صراع العمال والإدارة الفوسفاطية، بضغطها على العمال من أجل تكسير الإضراب، وباعتقالها للقيادات النقابية، يقول: “حوالي منتصف الليل، سمع رشيد وفطومة طرقات وديعة على باب الدار..نهض رشيد متمايلا، متثاقلا، مخدرا، مخمورا، وفتح..كان مقدم الحي الذي سلم بتأدب، وقال بلطف: غدا آولدي عافاك خاصك تمشي للخدمة..أجابه رشيد مستكينا: واخا السي المقدم.. وتمنى لهما المقدم ليلة طيبة سعيدة ، وانصرف”[40]. يمارس الكاتب هنا تعرية مزدوجة، فالمُعْرِضُ عن النضال تافه، عديم المروءة، مستغرق في المجون والعربدة، والسلطة التي تعتقل المناضلين يرعى عَوْنُهَا العربدة، ويباركها.
تكتسي الكتابة في المجموعة القصصية “ذاكرة التراب” طابعا تحريضيا، يروم نفض الغبار عن مرحلة مهمة من تاريخ مدينة اليوسفية، وتعرية حقائق يُرادُ لها أن تُقْبَر، وهو ما يمكن أن نعتبره انتصارا للذاكرة وإعادة اعتبار لها رغم ما أثارته هذه الكتابة من مواجع، وما أحيته من مآس.



[1]ـ أبو بكر العزاوي، الخطاب والحجاج، مؤسسة رحاب الحديثة للطباعة والنشر، بيروت لبنان، الطبعة الأولى 2010، ص12
[2]ـ عبد الرزاق بلال، مدخل إلى عتبات النص، دراسة في مقدمات النقد ـ دراسة في مقدمات النقد العربي القديم، أفريقيا الشرق 2000، ص 53
[3]ـ محمد الولي، من بلاغة الحجاج إلى بلاغة المحسنات، مجلة فكر ونقد، العدد 08، ص 126
[4] ـ مولود هيط الله مزايط، نظرية الحجاجيات اللسانية…تطبيقات على قصيدة “شخص واقعي” لأحمد مطر، ضمن كتاب التحليل الحجاجي للخطاب، إشراف وتقديم أحمد قادم وسعيد العوادي، كنوز المعرفة، الطبعة الأولى 2016، ص 618
ـ غاستون باشلار، جماليات المكان، ترجمة غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثانية 1984، ص 41[5]
ـ الحسين بنو هاشم، نظرية الحجاج عند شاييم بيرلمان، دار الكتاب الجديد، الطبعة الأولى 2014، ص 54[6]
ـ صالح علي مسعود قحلوص، سيميائية الخطاب البصري، مجلة كلية الفنون والإعلام ـ ليبيا، العدد الثالث، ص 79ـ 80 بتصرف[7]
ـ أسامة الملا، قراءة في عتبات العصفورية، مجلة علامات في النقد، المجلد السابع، الجزء29، شتنبر 1998، ص 212[8]
ـ سورة البقرة، الآية 69[9]
ـ أحمد نشاطي، ذاكرة التراب، مطبعة تيم برنت، الطبعة الأولى 2019[10]
ـ أحمد نشاطي، ذاكرة التراب، ص 5ـ 6[11]
ـ نفسه، ص ص 59ـ61ـ62[12]
ـ عبد الرزاق بلال، مدخل إلى عتبات النص، دراسة في مقدمات النقد العربي القديم، أفريقيا الشرق 2000، ص37[13]
ـ أحمد نشاطي، ذاكرة التراب، ص 05[14]
ـ أحمد نشاطي، ذاكرة التراب، ص 05[15]
ـ نفسه، ص 06[16]
ـ الحسين بنو هاشم، نظرية الحجاج عند شاييم بيرلمان، دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة الأولى 2014، ص 74[17]
[18] ـ سعيد علوش، معجم المصطلحات الأدبية، دار الكتاب اللبناني ـ بيروت، سوشبريس ـ الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1985، ص 41
[19] ـ باتريك شارودو ـ دومينيك منغونو، معجم تحليل الخطاب، ترجمة عبد القادر المهيري ـ حمادي صمود، دار سيناترا، 2008، ص231
ـ أحمد نشاطي، ذاكرة التراب، ص 53ـ 54[20]
ـ نقلا عن عز الدين الناجح، العوامل الحجاجية في اللغة العربية، مكتبة علاء الدين، القاهرة، الطبعة الأولى 2009، ص 100 [21]
ـ ندرة اليازجي، فلسفة الألم، موقع معبر الإلكتروني.[22]
ـ أحمد نشاطي، ذاكرة التراب، ص 58[23]
ـ غاستون باشلار، جماليات المكان، ترجمة غالب هلسا، مرجع سابق، ص 42[24]
ـ عبد الله صولة، في نظرية الحجاج، مسكيلياني للنشر والتوزيع ـ تونس، الطبعة الأولى 2011، ص 31[25]
ـ أحمد نشاطي، ذاكرة التراب، ص 58ـ 59[26]
ـ عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص 108[27]
ـ أحمد نشاطي، ذاكرة التراب، ص 59[28]
ـ أحمد نشاطي، ذاكرة التراب، ص 103ـ 104[29]
ـ نفسه، ص 107[30]
ـ أحمد نشاطي، ذاكرة التراب، ص 108[31]
ـ أوليفيي روبول، مدخل إلى الخطابة، نقلا عن سامية الدريدي، دراسات في الحجاج، عالم الكتب، الطبعة الأولى 2009، ص 62[32]
[33] ـ بيرلمان وتتيكا، مصنف في الحجاج، ص 474، نقلا عن نعيمة الواجيدي، نظرية الحجاج عند بيرلمان وتتيكا من خلال مصنف في الحجاج، مخطوط مقرر لطلبة الإجازة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجديدة ، ص26.
ـ نعيمة الواجيدي، نظرية الحجاج عند بيرلمان وتتيكا، مرجع سابق، ص 26[34]
ـ أحمد نشاطي، ذاكرة التراب، ص 69[35]
ـ نفسه، ص 72[36]
ـ نفسه، ص 72[37]
ـ نفسه، ص 102[38]
ـ نفسه، ص 100[39]
ـ نفسه، ص 102 ـ 103[40]





تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...