الإهداء: إلى العزيز الدكتور سعيد يقطين
" الحقيقة تجلو أكثر عندما تكون محفوفة بالصعوبات الشائكة، والسر يعجبنا أكثر عندما يصعب علينا كشفه."
"إمبيرطو إيكو"
ونحن نتعقب آثار المحققين ومكافحي الجريمة الأوائل في أدبنا العربي الكلاسيكي، يطل عليها، من خلال صفحات بعض حكايات " الليالي العربية"، المقدم البغدادي؛ شخصية التحري (détection) الفذة، التي لطالما أهمل وضعها الأدبي الاستقصائي الباحثون و النقاد الغربيون والعرب من الذين اهتموا، من منظور تأصيلي، بالمحكي البوليسي في مدونتنا النقدية من أمثال "رجيي ميساك" (1) ، و "ميا جيرهاردت" (2) و "روجر آلان" (3) و "فدوى مالطي دوجلاس" (4).
إذن حلت الساعة لنفتح الأذرع كبيرا لمعانقة هذا الفتى البغدادي و أقرانه من المنصفين (justiciers) ، الذين حفروا أسماءهم في ذاكرة التاريخ الشعبي ، وشكلوا لقرون المخيال العربي لشهرتهم و استثنائيتهم بحيث أصبحوا نماذج بطولية و إنسانية لا تبلى.
تتركز محاولاتنا في هذه الدراسة على إبراز صفات وقدرات و أساليب المقدم البغدادي في التحقيق ، مع محاولة إبراز التماثلات و الفروق التي يحققها بالنسبة لبعض نظراته من المحققين في الغرب .
**
نتخد كنص انطلاق في هذه الدراسة حكاية " دليلة المحتالة وزينب النصابة " (5)
تروى هذه الحكاية ذات الشهرة الواسعة في تراثنا السردي الشعبي ابتداء بالليلة السابعة والتسعين بعد الستمائة إلى و انتهاء بالليلة الثامنة بعد السبعمائة.
وفيما يلي ملخص بأهم المفاصل السردية و العلائقية بهذا النص الحكائي الشيق:
" عجوز بغدادية تعيش و ابنتيها ("زينب النصابة " العازبة، و أخرى لها ولد لقيط) ظروفا معيشية مزرية بعد إيقاف المرتب الشهري لزوجها المتوفى ( مقدم خان حمام الخليفة هارون الرشيد). و للخروج من أزمتها المادية و الغبن و التهميش الذي لحق بأسرتها تعمل–بمساعدة ابنتها – عدة مقالب (؛ أعمال إجرامية ) لأشخاص من حرف مختلفة ومن فئات مجتمعية متنوعة ( كبار التجار ، رؤساء الجند، حرفيون) للفت الانتباه إليها وتمكينها من مرتب شهري إسوة بآخرين (أحمد الدنف ورفاقه) .
عقب هذه الأعمال التي مست الأمن العام و السلم الاجتماعي في عاصمة كسموبوليتية كبغداد،(6) انطلقت في إثرها للقبض عليها شرطة بغداد، إلا أن العجوز العسيرة الطبخ (dure à cuir) (قالت عن نفسها بأنها "سقط الفول"!)، كانت في كل مرة تعتقل فيها تنسل بطريقة روكامبولية من بين أيدي رجال الأمن وتعاود الفعل كأننا في أحد الأفلام أو المدن الهوليودية و الشرطة تطارد فارا في أحد شوارعها ! بعد فشل السلطات العمومية التي تسهر على أمن البلاد و العباد في التعرف على هوية الفاعل المسلسل (serial criminel) لهذه الأعمال و الحوادث ووصول الأمر إلى أعلى السلطات في المدينة بغداد، يكلف الخليفة هارون الرشيد، شخصين لهما سوابق عدلية جنائية وعرفا بالاختلاط بالأوساط السفلى (bas-fonds) البغدادية (؛ المقدمان أحمد الدنف وزميله حسن شومان هنا)، بالمساعدة في القبض على الفاعل الحقيقي لهذه الأحداث و إزاحة العباد من شره.
يفشل أحمد الدنف في الوصول إلى الجاني ("يرمي الطوق") (7) ثم يكلف الخليفة من جديد زميله المقدم حسن شومان، الذي – بعد تحرياته – يلقى القبض على دليلة ويسلمها إلى الخليفة، بعد أن أخذ لها الأمان حتى تأمن على حياتها .
إذاً"الليالي العربية" تمنحنا قصة بمرتكزات بوليسية صريحة: لغز جرائم من فعل فاعل
( مجهول بالنسبة للسلطات الأمنية في بغداد ولكنه معروف لنا كقراء)، و المحرك أو الدافع (الخروج من ضائقة مالية،تهميش اجتماعي)، ودخول جهاز أمني رسمي على الخط لإلقاء القبض على الفاعل المجهول، وفشل ذريع لهذا الجهاز ، وتسليم ملف القضية – بتكليف من الخليفة هارون الرشيد – إلى المقدم أحمد الدنف ثم إلى حسن شومان، الذي بوسائله الخاصة يكشف عن الفاعل ويسلمه إلى العدالة لتقول فيه كلمتها الفصل .
ما يهمنا هنا أكثر هو وضع (statut) المقدم العباسي ودوره في محكي التحقيق في هذه الحكاية على اعتبار أن المحقق و التحقيق مكونان جوهريان (8) في المحكي البوليسي .
نحو بناء متماسك لمفهوم المحقق العربي العتيق ( المقدم البغدادي نموذجا)
قبل أن يصبح أحمد الدنف مقدما كان – وكذلك زميله حسن شومان – من أصحاب السوابق، إذ ارتكب في سيرته الحياتية مقالب ومناصف أي أنه كان جانحا. ثم إن ميل الخليفة هارون الرشيد إلى الاستعانة بهذا الصنف من الرجال له أكثر من دلالة. وقد يرى البعض في هذا "التوظيف" استخدام السلطات العليا في بغداد لـ "بلاطجة" (9) وقد يرى آخرون -ونحن منهم – في الأمر دلالة على نوع من الحداثة المدنية العباسية. فالخليفة هارون الرشيد سعى إلى إدماج هؤلاء الجانحين ليسهلوا المأموريات المتعذرة على الجهاز الأمني الرسمي لقدراتهم الخاصة (كما نقول " أهل مكة أدرى بشعابها" !)، وحاليا، وعلى المستوى الأمني ، تلجأ السلطات الرسمية في الكثير من البلدان المتقدمة والنامية إلى استخدام الكثير من هؤلاء "الجانحين سابقا/التائبين" بغرض اختراق أوساط العصابات و المافيا، وتعتبرهم "مرشدين" و "متعاونين".
فتحول أحمد الدنف ( ومعه زميله حسن شومان) من قاطع الطريق إلى "درك الطريق" (10) يجعل وضعه متذبذبا. فهو لا يتدخل إلا بتكليف؛ يتدخل فقط حينما تعجز الشرطة عن تحقيق الأمن و إعادة النظام ولا يأتمر بأوامر هذه المؤسسة الأمنية ( جند، شرطة، شاوشية). فهو ليس شخصا ينكر ماضيه الجانح و إنما يتباهى به لأنه أوصله إلى الشهرة وحقق له الاعتراف (reconnaissance) وضمن له مرتبا شهريا و فسطاطا يعسكر فيه (،مكتب تحقيقاته بلغة العصر!) مع فريق عمله (أربعون تابعا من ذوي السوابق). فهو نصف قاطع طريق (mi-brigand) ونصف شرطي (mi-policier)، يتموضع بطيبة خاطر على هامش المؤسسة (؛الشرطة)، له حريته الخاصة في العمل، مما يسمح له بأن يناور بحرية أكبر من مجرد مطبق لقيود وتعليمات أمنية /قانونية كأي رجل أمن آخر. فولاءه الوحيد – كأقرانه في الثقافة اليابانية من أمثال "الساموراي" و "النينجا"- هو لسيده الأعلى (؛ الخليفة في الحالة العباسية و السيد الاقطاعي أو الحاكم في الحالة اليابانية). وهدفه الأسمى هو حماية "السيد" (seigneur) وخدمته.
إن إقدام السلطات السياسية العليا في بغداد متمثلة في الخليفة هارون الرشيد على الاستعانة بخدمات المقدم أحمد الدنف ( وزميله حسن شومان) وتكليفه – بناءا على قدراته الخاصة ( خبرة إجرامية سابقة ولياقة بدنية متميزة وشجاعة ودهاء...)- بمطاردة أعتى المجرمين ممن عجز رجال الأمن العاديون في اقتناء آثارهم ورمي القيد في أيديهم ، يكشف عن سلوك حضاري هو أميل إلى الليبرالية.
نقصد بـ " الليبرالية" (libéralisme) التطلع إلى جعل الفعل الأمني [؛الفعل الأمني الرسمي بامتياز] شأنا خاصا (privé) (10)، مؤسسا على تعاقد بين السلطات العمومية و أشخاص غير منتسبين إليها. وهي مسألة في غاية الأهمية لأنها تؤشر مستقبليا إلى الميلاد الحقيقي للمتحري الخاص (détective privé)، الذي يعمل بتواز (en parallèle) مع [عمل] الشرطة الرسمية، لكنه مكلف من طرف أصحاب القضية للتحقيق في خيانة زوجية أو فقدان أشياء ثمينة أو نصب أو قتل ...،إلخ.
ومما لا شك فيه أن مثل هذا التوظيف الجريء للمقدمين، جعل من هذه الممارسات مشبوهة آنذاك، و آثار سخط البعض من ساكنة بغداد (العجوز دليلة،مثلا)، ويمكن القول بأن هذا الفتى العربي ( أي المقدم البغدادي)، يعد من أوائل عملاء التقصي(investigation) و التحري بالمفهوم البوليسي الحديث، إن لم يكن أولهم! (12) فهو بعمله الاستقصائي هذا قد أعطى ، بالفعل ، دفعة جديدة لهذا الحقل من الأنشطة الأمنية و بعدا (dimention) لم يكن معروفا من قبل.
نحن إذن أمام منتوج جديد أوجدته الحاجة المتزايدة للحماية و الأمن في واحدة من أهم مدن العالم آنذاك بغداد. ويعود الفضل في ذلك إلى هارون الرشيد الذي استعان بخدمات عملاء (agents) أحرار ذوي أوضاع مشكوك فيها. وبطريقة غير مباشرة يكون قد فتح السوق الأمني لمنتوج جديد وعمل على توسيعه و إعادة توزيع الصيغ التقليدية للضبط و المراقبة (contrôle )و الاستعلام(renseignement).
فنحن إذن في حضرة رجال ظل يتحركون على تخوم الشرعي. ومع ذلك فالصورة السلبية ستظل عالقة بهذه الحرفة الجديدة ، ولعل المثل الشعبي العربي "حاميها حراميها" أصدق تعبير عن هذا النشاط الأمني الجديد. وسيظل البورتريه الذي رسم للوافد الجديد (عميل الاستعلامات هنا) ، ورغم سلبيته، مستداما، وبرحابة مكونا لهوية المهنة (12) حتى يومنا هذا.
يشترك هؤلاء الأبطال (العجوز دليلة ومطارديها الدنف وشومان) في مجموعة من الصفات النوعية (génériques) مع المحقق في الأدب البوليسي الحديث (خاصة مع شخصية المتحري الخاص كهولمز و رولوطابيل ولوبين أو جوف). من أبرز هذه الصفات؛ التقنع (أو التنكر) .فالعجوز البغدادية (و أيضا ابنتها زينب النصابة) لا تخوض المعركة من أجل الاعتراف بها وإنصاف عائلتها بوجه مكشوف؛ فهي على مسار هذه الحكاية الشيقة تظهر في عدة هيئات:
+ في هيئة شيخة صوفية،
+ في هيئة خادمة من خادمات الأكابر،
+ في هيئة أعرابية
فهي تلج مختلف الأوساط (من الوسط الحرفي (حوانيت أشخاص كالصباغ و الحلاق و التاجر) إلى الوسط الأمني (دار رئيس الشاوشية و الوالي...)) متنكرة ومتخفية.
فالقناع (هنا بمعنى التنكر و الظهور في شكل شخص آخر) هو في هذه الحكاية سلاح ذو حدين؛ تلجأ إليه الشخصية للدفاع عن النفس و أيضا سلاح للهجوم على الأعداء للنيل منهم وتحقيق المآرب. فلعبة التقنع و التخفي تستهوي أيضا معاوني الشرطة (؛المقدمان شومان و الدنف). فكل واحد منهما قد قام في حياته الإجرامية السابقة بمقالب ومناصف وملاعب و أوقع ضحايا كثر في شباكه وفي كل مرة يلقى فيها القبض عليه، كان يتنكر وينجو بجلده،و أصبح، بعد أن تسلق مدارج سلم الفتوة و الشطارة، مقدما محاطا بأربعين معاونا وله مرتب شهري من خزينة الخليفة، ولا يتوانى في استخدام التقنع و التنكر ليلج بسهولة أوساط الأوغاد و المجرمين والخارجين على القانون ، وبهذه السمة (؛التقنع هنا) تعطي "الليالي العربية" ومن خلال هذه الحكاية ، بإقدام مسلكا عصريا للبوليسي كنوع.
لمعرفة ما وقع للضحايا لا بد من كشف الآثار و القرائن. فاستعمالها يسمح للمتحري بالذهاب إلى أبعد من المظاهر و كشف الحقيقة (14). فالفاعلة ( العجوز البغدادية هنا) تحولت إلى طريدة وتحول المقدم ( المتحري عنها) إلى متعقب وقصاص أثر. فالتحقيق (enquête) هو في العمق بحث و اقتفاء أثر [الطريدة]. فالاثنان معا ( أي التحقيق و اقتفاء الأثر) يمتزجان في هذه الحكاية.
كيف تصرف المقدم حسن شومان حينما أسند إليه ملف القضية بعد تخلي أحمد الدنف؟ وماهي الأساليب و الطرائق التي استخدمها للكشف عن هوية الفاعل(ة)؟
ما ميز تجربة المطاردة التي خاضها أحمد الدنف ورجاله هو الفعل المباشر، أي الدخول في مواجهة وجها لوجه مع دليلة و ابنتها زينب . لكن حسن شومان، وبعد أن جمد أحمد الدنف مشاركته في القبض على الجاني(ة)، كان له حدس (intuition) بأن الفشل الذريع سيكون من نصيب أحمد الدنف ورجاله: "قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن الخليفة لما ألزم المقدم الدنف بإحضار العجوز قال له: ضمانها علي يا أمير المؤمنين، ثم نزل هو واتباعه إلى القاعة (أي مكتب تحقيقاته) ، فقالوا لبعضهم كيف يكون قبضنا عليها وكم من عجائز في البلد؟ فقال واحد منهم يقال له كتف الجمل لأحمد الدنف: على أي شيء تشاورون حسن شومان، وهل حسن شومان أمر عظيم؟ فقال حسن: ياعلي كيف تستقلني (؛تهملني) و الاسم الأعظم لا أرافقكم في هذه المرة وقام غضبانا(...) (18).
ثم حين التقى حسن شومان بجماعة أحمد الدنف، قال لهم:"من لعب عليكم وعراكم؟ فقالوا: تعهدنا بعجوز نفتش عليها و ما عرانا إلا صبية مليحة. فقال حسن شومان: نعم ما فعلت بكم. فقالوا: هل أنت تعرفها يا حسن؟ فقال: أعرفها و أعرف العجوز(...)"(19) .
لكن ما مبررات حماس حسن شومان لاستعجال تسلم ملف هذه القضية الشائكة؟ وكيف توصل إلى الكشف عن هوية العجوز ومعرفة مقر سكناها؟
كإجابة أولى نقول بأن المقدم البغدادي حسن شومان اعتمد في هذا الكشف على حدسه (intuition) حينما قال لجماعة الدنف ( من لعب عليكم وعراكم؟(...) وأعرفها (أي زينب) و أعرف العجوز(...)) فالحدس بهذا المعنى هو شكل أسمى من المعرفة؛[هو] انطباع مبني على استنتاج منطقي أو على التجربة، ولا علاقة له بالتكهن (divination)؛ فتراكم التجارب الحياتية و اختمارها في ذهن المقدم (؛سيناريوهات معينة سلفا (20) (scénarios préétablis) تضيء له دربه كلما مر بمشكل مماثل، وتقوده هذه البصيرة و الفكر النير إلى الحل السليم (عجوز وابنتها شطارة عطالة وبؤس سهل هذا السيناريو مهمة القبض على الفاعلة).
و لإنارة القارئ، ندرج هنا حكاية ثانية لأحمد الدنف وزميله شومان في ملف جرمي آخر، تميط اللثام عن أسلوبها في البحث و معالجة الأحداث إجرائيا (؛تقنيا).
وفيما يلي ملخص بأهم المفاصل السردية و العلائقية بهذه الحكاية المعنونة بـ"علاء الدين أبي الشامات".
"يتعرض علاء الدين أبو الشامات – شخصية تجارية مرموقة في بغداد ومقربة من البلاط العباسي – لنصب و إدعاء أحد الجانحين البغداديين و اسمه أحمد قماقم السراق. فالأخير استولى أشياء ثمينة من قصر الخليفة ؛ يتعلق الأمر ببدلة الخليفة وخاتمه وسبحته ومنديله ومصباحه، ودفن هذه المسروقات في مكان ما من قصر علاء الدين
أبي الشامات.اغتاظ هارون الرشيد غيضا شديدا وطلب من المكلف بالأمن الأمير خالد وبمساعدة أحمد قماقم (باعتباره خبيرا بمثل هذه الأمور الجرمية) أن يفتشوا قصره وقصور الشخصيات السامية المجاورة لمحل إقامته ، فالوالي(؛ الأمير خالد هنا) و لغاية في نفسه ألقى القبض على علاء الدين أبي الشامات وقدمه إلى الخليفة ليتخلص منه ويسطو على جاريته ياسمين – زوجة علاء الدين أبي الشامات – ويعطيها لابنه حبظلم بظاظة المغرم بها.
بعد سماع المقدم الدنف بالخبر عن طريق شبكة من مخبريه، يتدخل لإنقاذ علاء الدين أبي الشامات من محنته(...)".
تبرز من خلال القراءة الماتعة لهذه الحكاية مجموعة من الصيغ الإجرامية" و"التقنيات" التي تشكل – إلى جانب الحدس – أرضية عمل المقدم البغدادي في التحقيق:
( فلما دخل علاء الدين على الدنف وشومان، قال علاء الدين: "جزاك الله خيرا يا كبيري، فقال له أحمد الدنف: ماهذا العمل الذي فعلته؟ ورحم الله من قال : من ائتمنك فلا تخنه ولو كنت خائنا ، و الخليفة مكنك عنده وسماك بالثقة الأمين، كيف تفعل معه هكذا وتأخد أمتعته(...)).
يمشهد هذا النوع من السرود الحكائية شخصيات نسوية ورجالية بغدادية هامشية مقصية من الاستفادة من خيرات المجتمع ، لكنها ترفض أن تلطم من القهر. و يأتي تمردها لجملة من الأسباب؛
+ اقتصادية : البطلة دليلة هي امرأة عجوز و أرملة وربة أسرة وعاطلة عن العمل.
+ اجتماعية: انتماء العجوز دليلة إلى الفئات الدنيا للمجتمع العباسي وتحديدا للأوساط الخطيرة (؛زوجها كان لصا قبل أن يصلح مقدم خان حمام الخليفة، و أخوها زريق السماك هو رئيس سابق لفتيان أرض العراق قبل أن يتوب...).
+ إقصاء نسوي (sexisme) : كونها امرأة وكون حفيدها (؛ولد ابنتها الثانية) المسمى أحمد لقيطا (؛مجهول الأب)، وتعيش حياة مغبونة أسريا.
فهذه السرود – ومثيلاتها من حكايات اللصوص والشطارين والعيارين و المحتالين والزعار في الليالي العربية – تقدم تمثيلات (représentations) للفئات الدنيا في المجتمع العباسي،و " استرجاعا لمتخيل الفئات الخطيرة. (21)
إن قراءة الحكايتين السابقتين، تبرز ما كان عليه المقدم البغدادي من مرؤة وشهامة و جرأة.لا يتعلق الأمر هنا بالإنسان الهاوي المستنير كالذي نلتقي به في رواية اللغزالغربية، (22)
مع المقدم البغدادي نحن في حضرة رجل لا يتوانى في تقديم المساعدة و إحقاق الحق و العدالة مهما كلفه الثمن؛ رجل يبدي تعاطفا، فهو ينتعل نعلي الضحية .
و للتدليل على ذلك نقدم شواهد من الحكاية الأولى و الحكاية الثانية:
"(...) قالت زينب لعلي: " إن أبي كان خمارا في الموصل وخلف لي مالا كثيرا،فجئت هذا البلد خوفا من الحكام،و سألت الناس من يحميني، فقالوا:ما يحميك إلا أحمد الدنف(...))(23)
"(...) فلما رآها الخليفة أمر برميها في بقعة الدم، فقالت: أنا في جيرتك يا شومان، فقام شومان وقبل أيادي الخليفة وقال له: العفو أنت أعطيتها الأمان، فقال الخليفة: وهي في كرامتك، تعالي يا عجوز(...)"(26)
"(...) – ما الخبر يا سقاء؟
فالمقدم البغدادي، حسن الشومان أو أحمد الدنف، لم يعد ذلك الابن الجانح كما في السابق، لكن كمنصف مديني (justicier urbain)، ورغم اختلاف الأزمنة و البيئات، يبقى في نظرنا الابن الشرعي للصعلوك الجاهلي؛ فهو يحترم قانون سلوك مبني على قيم الفارس العربي المعروفة: الاخلاص،الحكمة،الشجاعة العدل .
كما أن التقاليد التي يحياها تشبه إلى حد بعيد الصعاليك من عرب الجاهلية ؛ فـ " الصعاليك كانوا فتيانا ذوي بأس يسوؤهم أن تقع الأرزاق بين الناس قسمة جائرة".(30)
و المقدم بدوره يرفض أيضا أن يلطم من القهر. فإذا كانت بطولة الأسلاف تتميز بفروسية السيف و الشعر الملحمي، فبطولة أحمد الدنف أو حسن شومان هي "بطولة الرجل العادي الذي طحنه الظلم و البؤس، فآثر أن يحارب الطغاة بأسلحتهم، فتعلم اللصوصية ليسطو على اللصوص،سواء أكانوا من أهل الشارع أو لصوصا من أهل الحكم، كأن لسان حاله يقول:
" كلنا لصوص يا عزيزي"!
فهو يلطف قصور العدالة العمومية (كما في قضية العجوز التي لم تجد ما تأكله، فتمردت) أو التواطئات الآثمة للعدالة (كما في اتهام أبي الشامات البريء بالسرقة و الدفع به إلى الاعدام!)،وذلك بطريقة مماثلة لزميلهم الانجليزي هولمز، الهاوي الخبير، الذي يتهكم على رجال الشرطة المدفوعين في نفس القضية. وهذا ما سيكون عليه الوضع (statut) المستقبلي للمتحري الخاص(31)
إنه البطل الذي يأخد مكانه أبعد من الخير و الشر، لا تعوقه الأحكام المنقوشة على رخامة القانون؛ لأن عليه أن يصارع في نفس الوقت ضد الجريمة وضد الأجهزة ( رجال شرطة فاسدون (الوالي خالد المتواطئ) ،قضاة مرتشون (كالقاضيان المتواطئان اللذان جندهما قماقم...) التي تعرقل مجراها الصحيح.
فالتحقيق (enquête)، بهذا المعنى، ليس تقديم مسار انتصاري لذهن مستنير (هولمز مثلا)، و إنما عرض تجربة مكابدة. شخصية المقدم البغدادي بهذا المعنى، هي أقرب إلى المحقق الخاص في الرواية السوداء(الأمريكية) منها إلى المستنير كما في رواية اللغز؛ فهما كائنان متميزان، لا ينتميان إلى نفس الطبقة الاجتماعية لموكليهما أو لعالم الشرطة (فهما بخلافها لا يخدمان الوضع القائم)، فهما ينظران إليها بكثير من الحذر ولا سيما و أنهما يجسدان بعدا متحررا.(32) ("إن سأل الخليفة فقل له: إنه راح يطول على البلد،قال الدنف لأحمد شومان"). حينما يقدمان خدماتهما، فإنهما يبقيان سيدا نفسيهما و المسؤولان عن قرارهما في العمل: فهما يختاران قبول أو رفض المهمة التي تقترح عليهما ( مثلا المقدم أحمد الدنف "رمى الطوق" في قضية العجوز دليلة)، ويمكنهما، في أي لحظة أن يعملا على تطويرها (مثلا أحمد الشومان، أخد الأمان للعجوز، وشفع لها أمام الخليفة). لايقلقهما كثيرا أن يؤنبهما الضمير، أو أن يتجاوزا إطار القضية التي تم تكليفهما بها. قوتهما المعنوية تأتي من جهة أنهما لا يربحان أكثر من مرتبهما الشهري الذي من أجله – إذا أرادا – يمكنهما أن يحميا البريء ويساعد البائسين ويزهقا الباطل (مثلا:" قول حسن شومان للخليفة : إن العجوز ما عملت هذه الملاعب طمعا في حوائج الناس، ولكن لبيان شطارتها، لأجل أن ترتب لها راتب زوجها") [وهو الدافع الحقيقي لتحرك العجوز التي رفضت أن تلطم من الفقر].
واقعة كون المقدم البغدادي يقوم بما يقوم به مقابل مرتب شهري هزيل، في نظرنا، بالنسبة لما يملكه موكله هارون الرشيد! في عالم فاسد هو ما يميزه عن الآخرين. فهو لا يمتنع عن طرق الأماكن المحرمة (؛تقصيه الأخبار من داخل البلاط ،إعتاق علاء الدين من حبل المشنقة دون الرجوع إلى الخليفة موكله). يرفض التنازل و التراجع، فهو يمثل في رمزيته الإبن الشرعي لتلك "الفردانية" التي طرقتها همم رجال كحامي الديار عنترة وعروة بن الورد الجاهليين. فهو يحاول، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، " أن يبين للعيان ما يسعى البعض إلى تركه في الظل و التعتيم عليه".(33)
***
ملاك القول؛ إن فسيفساء الصورة السابقة ( الوضع بين – بين، التكليف، موضوعاتيات التعقب و المطاردة و التقنع و الإقصاء، والتسلسلية (sérialité)،...) تشكل في نظرنا لحمة نموذج عربي أصيل للمتحري البوليسي، يمكن أن ينافس أشكالا(figures) بوليسية عالمية (مثلا؛ "فيدوك"، "هولمز"،"بوارو"). فالمقدم البغدادي، شخصية التحري العباسية الفذة، تعكس القدرات الإبداعية لمجتمعاتنا العربية – في تلك الفترة التاريخية – في تدبير شؤونها الأمنية من خلال "صناعة" و ابتكار أشكال أمنية تستجيب لحاجيات مجتمعاتها المتزايدة
و الطارئة.
الهوامش
19-ألف ليلة و ليلة م.س.ص.1209
20- Boileau-Narcejac ,Le roman policier,Payot, Paris,1964,p.28
21- Jean –Claude Vareille,op.cit.p.40
22-Boileau-Narcejac, op.cit.p.52
23- ألف ليلة وليلة ،م.س، ص.1208
24- نفسه، ص1209
25- نفسه، ص. 1209
26- نفسه، ص. 1210
27- نفسه، ص. 578
28- نفسه ، ص.579
29- نفسه، ص.578
30- مجد رجب النجار، الشطار و العيارين، سلسلة عالم المعرفة العدد 45، الكويت، ص.168
:" يقول : ابن حمدي ََ[لص بغداد الشريف] (...) الله بيننا وبين هذا السلطان الذي أحوجنا إلى هذا ، فإنه قد أسقط أرزقنا و أحوجنا إلى هذا الفعل، ولسنا فيما نفعله أمرا عظيما أعظم مما يرتكبه السلطان".
31- Jean-Claude Vareille , op.cit.p47
32- Patrick Pécherot, L’engagement lucide du polar, Le roman social, Eds. L’Atelier/Eds.Ouvriers,Paris,2002,p.251
" الحقيقة تجلو أكثر عندما تكون محفوفة بالصعوبات الشائكة، والسر يعجبنا أكثر عندما يصعب علينا كشفه."
"إمبيرطو إيكو"
ونحن نتعقب آثار المحققين ومكافحي الجريمة الأوائل في أدبنا العربي الكلاسيكي، يطل عليها، من خلال صفحات بعض حكايات " الليالي العربية"، المقدم البغدادي؛ شخصية التحري (détection) الفذة، التي لطالما أهمل وضعها الأدبي الاستقصائي الباحثون و النقاد الغربيون والعرب من الذين اهتموا، من منظور تأصيلي، بالمحكي البوليسي في مدونتنا النقدية من أمثال "رجيي ميساك" (1) ، و "ميا جيرهاردت" (2) و "روجر آلان" (3) و "فدوى مالطي دوجلاس" (4).
إذن حلت الساعة لنفتح الأذرع كبيرا لمعانقة هذا الفتى البغدادي و أقرانه من المنصفين (justiciers) ، الذين حفروا أسماءهم في ذاكرة التاريخ الشعبي ، وشكلوا لقرون المخيال العربي لشهرتهم و استثنائيتهم بحيث أصبحوا نماذج بطولية و إنسانية لا تبلى.
تتركز محاولاتنا في هذه الدراسة على إبراز صفات وقدرات و أساليب المقدم البغدادي في التحقيق ، مع محاولة إبراز التماثلات و الفروق التي يحققها بالنسبة لبعض نظراته من المحققين في الغرب .
**
نتخد كنص انطلاق في هذه الدراسة حكاية " دليلة المحتالة وزينب النصابة " (5)
تروى هذه الحكاية ذات الشهرة الواسعة في تراثنا السردي الشعبي ابتداء بالليلة السابعة والتسعين بعد الستمائة إلى و انتهاء بالليلة الثامنة بعد السبعمائة.
وفيما يلي ملخص بأهم المفاصل السردية و العلائقية بهذا النص الحكائي الشيق:
" عجوز بغدادية تعيش و ابنتيها ("زينب النصابة " العازبة، و أخرى لها ولد لقيط) ظروفا معيشية مزرية بعد إيقاف المرتب الشهري لزوجها المتوفى ( مقدم خان حمام الخليفة هارون الرشيد). و للخروج من أزمتها المادية و الغبن و التهميش الذي لحق بأسرتها تعمل–بمساعدة ابنتها – عدة مقالب (؛ أعمال إجرامية ) لأشخاص من حرف مختلفة ومن فئات مجتمعية متنوعة ( كبار التجار ، رؤساء الجند، حرفيون) للفت الانتباه إليها وتمكينها من مرتب شهري إسوة بآخرين (أحمد الدنف ورفاقه) .
عقب هذه الأعمال التي مست الأمن العام و السلم الاجتماعي في عاصمة كسموبوليتية كبغداد،(6) انطلقت في إثرها للقبض عليها شرطة بغداد، إلا أن العجوز العسيرة الطبخ (dure à cuir) (قالت عن نفسها بأنها "سقط الفول"!)، كانت في كل مرة تعتقل فيها تنسل بطريقة روكامبولية من بين أيدي رجال الأمن وتعاود الفعل كأننا في أحد الأفلام أو المدن الهوليودية و الشرطة تطارد فارا في أحد شوارعها ! بعد فشل السلطات العمومية التي تسهر على أمن البلاد و العباد في التعرف على هوية الفاعل المسلسل (serial criminel) لهذه الأعمال و الحوادث ووصول الأمر إلى أعلى السلطات في المدينة بغداد، يكلف الخليفة هارون الرشيد، شخصين لهما سوابق عدلية جنائية وعرفا بالاختلاط بالأوساط السفلى (bas-fonds) البغدادية (؛ المقدمان أحمد الدنف وزميله حسن شومان هنا)، بالمساعدة في القبض على الفاعل الحقيقي لهذه الأحداث و إزاحة العباد من شره.
يفشل أحمد الدنف في الوصول إلى الجاني ("يرمي الطوق") (7) ثم يكلف الخليفة من جديد زميله المقدم حسن شومان، الذي – بعد تحرياته – يلقى القبض على دليلة ويسلمها إلى الخليفة، بعد أن أخذ لها الأمان حتى تأمن على حياتها .
إذاً"الليالي العربية" تمنحنا قصة بمرتكزات بوليسية صريحة: لغز جرائم من فعل فاعل
( مجهول بالنسبة للسلطات الأمنية في بغداد ولكنه معروف لنا كقراء)، و المحرك أو الدافع (الخروج من ضائقة مالية،تهميش اجتماعي)، ودخول جهاز أمني رسمي على الخط لإلقاء القبض على الفاعل المجهول، وفشل ذريع لهذا الجهاز ، وتسليم ملف القضية – بتكليف من الخليفة هارون الرشيد – إلى المقدم أحمد الدنف ثم إلى حسن شومان، الذي بوسائله الخاصة يكشف عن الفاعل ويسلمه إلى العدالة لتقول فيه كلمتها الفصل .
ما يهمنا هنا أكثر هو وضع (statut) المقدم العباسي ودوره في محكي التحقيق في هذه الحكاية على اعتبار أن المحقق و التحقيق مكونان جوهريان (8) في المحكي البوليسي .
نحو بناء متماسك لمفهوم المحقق العربي العتيق ( المقدم البغدادي نموذجا)
- الوضع بين – بين
قبل أن يصبح أحمد الدنف مقدما كان – وكذلك زميله حسن شومان – من أصحاب السوابق، إذ ارتكب في سيرته الحياتية مقالب ومناصف أي أنه كان جانحا. ثم إن ميل الخليفة هارون الرشيد إلى الاستعانة بهذا الصنف من الرجال له أكثر من دلالة. وقد يرى البعض في هذا "التوظيف" استخدام السلطات العليا في بغداد لـ "بلاطجة" (9) وقد يرى آخرون -ونحن منهم – في الأمر دلالة على نوع من الحداثة المدنية العباسية. فالخليفة هارون الرشيد سعى إلى إدماج هؤلاء الجانحين ليسهلوا المأموريات المتعذرة على الجهاز الأمني الرسمي لقدراتهم الخاصة (كما نقول " أهل مكة أدرى بشعابها" !)، وحاليا، وعلى المستوى الأمني ، تلجأ السلطات الرسمية في الكثير من البلدان المتقدمة والنامية إلى استخدام الكثير من هؤلاء "الجانحين سابقا/التائبين" بغرض اختراق أوساط العصابات و المافيا، وتعتبرهم "مرشدين" و "متعاونين".
فتحول أحمد الدنف ( ومعه زميله حسن شومان) من قاطع الطريق إلى "درك الطريق" (10) يجعل وضعه متذبذبا. فهو لا يتدخل إلا بتكليف؛ يتدخل فقط حينما تعجز الشرطة عن تحقيق الأمن و إعادة النظام ولا يأتمر بأوامر هذه المؤسسة الأمنية ( جند، شرطة، شاوشية). فهو ليس شخصا ينكر ماضيه الجانح و إنما يتباهى به لأنه أوصله إلى الشهرة وحقق له الاعتراف (reconnaissance) وضمن له مرتبا شهريا و فسطاطا يعسكر فيه (،مكتب تحقيقاته بلغة العصر!) مع فريق عمله (أربعون تابعا من ذوي السوابق). فهو نصف قاطع طريق (mi-brigand) ونصف شرطي (mi-policier)، يتموضع بطيبة خاطر على هامش المؤسسة (؛الشرطة)، له حريته الخاصة في العمل، مما يسمح له بأن يناور بحرية أكبر من مجرد مطبق لقيود وتعليمات أمنية /قانونية كأي رجل أمن آخر. فولاءه الوحيد – كأقرانه في الثقافة اليابانية من أمثال "الساموراي" و "النينجا"- هو لسيده الأعلى (؛ الخليفة في الحالة العباسية و السيد الاقطاعي أو الحاكم في الحالة اليابانية). وهدفه الأسمى هو حماية "السيد" (seigneur) وخدمته.
- التكليف
إن إقدام السلطات السياسية العليا في بغداد متمثلة في الخليفة هارون الرشيد على الاستعانة بخدمات المقدم أحمد الدنف ( وزميله حسن شومان) وتكليفه – بناءا على قدراته الخاصة ( خبرة إجرامية سابقة ولياقة بدنية متميزة وشجاعة ودهاء...)- بمطاردة أعتى المجرمين ممن عجز رجال الأمن العاديون في اقتناء آثارهم ورمي القيد في أيديهم ، يكشف عن سلوك حضاري هو أميل إلى الليبرالية.
نقصد بـ " الليبرالية" (libéralisme) التطلع إلى جعل الفعل الأمني [؛الفعل الأمني الرسمي بامتياز] شأنا خاصا (privé) (10)، مؤسسا على تعاقد بين السلطات العمومية و أشخاص غير منتسبين إليها. وهي مسألة في غاية الأهمية لأنها تؤشر مستقبليا إلى الميلاد الحقيقي للمتحري الخاص (détective privé)، الذي يعمل بتواز (en parallèle) مع [عمل] الشرطة الرسمية، لكنه مكلف من طرف أصحاب القضية للتحقيق في خيانة زوجية أو فقدان أشياء ثمينة أو نصب أو قتل ...،إلخ.
ومما لا شك فيه أن مثل هذا التوظيف الجريء للمقدمين، جعل من هذه الممارسات مشبوهة آنذاك، و آثار سخط البعض من ساكنة بغداد (العجوز دليلة،مثلا)، ويمكن القول بأن هذا الفتى العربي ( أي المقدم البغدادي)، يعد من أوائل عملاء التقصي(investigation) و التحري بالمفهوم البوليسي الحديث، إن لم يكن أولهم! (12) فهو بعمله الاستقصائي هذا قد أعطى ، بالفعل ، دفعة جديدة لهذا الحقل من الأنشطة الأمنية و بعدا (dimention) لم يكن معروفا من قبل.
نحن إذن أمام منتوج جديد أوجدته الحاجة المتزايدة للحماية و الأمن في واحدة من أهم مدن العالم آنذاك بغداد. ويعود الفضل في ذلك إلى هارون الرشيد الذي استعان بخدمات عملاء (agents) أحرار ذوي أوضاع مشكوك فيها. وبطريقة غير مباشرة يكون قد فتح السوق الأمني لمنتوج جديد وعمل على توسيعه و إعادة توزيع الصيغ التقليدية للضبط و المراقبة (contrôle )و الاستعلام(renseignement).
فنحن إذن في حضرة رجال ظل يتحركون على تخوم الشرعي. ومع ذلك فالصورة السلبية ستظل عالقة بهذه الحرفة الجديدة ، ولعل المثل الشعبي العربي "حاميها حراميها" أصدق تعبير عن هذا النشاط الأمني الجديد. وسيظل البورتريه الذي رسم للوافد الجديد (عميل الاستعلامات هنا) ، ورغم سلبيته، مستداما، وبرحابة مكونا لهوية المهنة (12) حتى يومنا هذا.
- موضوعاتية التنكر و التقنع
يشترك هؤلاء الأبطال (العجوز دليلة ومطارديها الدنف وشومان) في مجموعة من الصفات النوعية (génériques) مع المحقق في الأدب البوليسي الحديث (خاصة مع شخصية المتحري الخاص كهولمز و رولوطابيل ولوبين أو جوف). من أبرز هذه الصفات؛ التقنع (أو التنكر) .فالعجوز البغدادية (و أيضا ابنتها زينب النصابة) لا تخوض المعركة من أجل الاعتراف بها وإنصاف عائلتها بوجه مكشوف؛ فهي على مسار هذه الحكاية الشيقة تظهر في عدة هيئات:
+ في هيئة شيخة صوفية،
+ في هيئة خادمة من خادمات الأكابر،
+ في هيئة أعرابية
فهي تلج مختلف الأوساط (من الوسط الحرفي (حوانيت أشخاص كالصباغ و الحلاق و التاجر) إلى الوسط الأمني (دار رئيس الشاوشية و الوالي...)) متنكرة ومتخفية.
فالقناع (هنا بمعنى التنكر و الظهور في شكل شخص آخر) هو في هذه الحكاية سلاح ذو حدين؛ تلجأ إليه الشخصية للدفاع عن النفس و أيضا سلاح للهجوم على الأعداء للنيل منهم وتحقيق المآرب. فلعبة التقنع و التخفي تستهوي أيضا معاوني الشرطة (؛المقدمان شومان و الدنف). فكل واحد منهما قد قام في حياته الإجرامية السابقة بمقالب ومناصف وملاعب و أوقع ضحايا كثر في شباكه وفي كل مرة يلقى فيها القبض عليه، كان يتنكر وينجو بجلده،و أصبح، بعد أن تسلق مدارج سلم الفتوة و الشطارة، مقدما محاطا بأربعين معاونا وله مرتب شهري من خزينة الخليفة، ولا يتوانى في استخدام التقنع و التنكر ليلج بسهولة أوساط الأوغاد و المجرمين والخارجين على القانون ، وبهذه السمة (؛التقنع هنا) تعطي "الليالي العربية" ومن خلال هذه الحكاية ، بإقدام مسلكا عصريا للبوليسي كنوع.
- موضوعاتية التعقب و المطاردة
لمعرفة ما وقع للضحايا لا بد من كشف الآثار و القرائن. فاستعمالها يسمح للمتحري بالذهاب إلى أبعد من المظاهر و كشف الحقيقة (14). فالفاعلة ( العجوز البغدادية هنا) تحولت إلى طريدة وتحول المقدم ( المتحري عنها) إلى متعقب وقصاص أثر. فالتحقيق (enquête) هو في العمق بحث و اقتفاء أثر [الطريدة]. فالاثنان معا ( أي التحقيق و اقتفاء الأثر) يمتزجان في هذه الحكاية.
- التسلسلية و تكرارية البطل
- طريقة العمل
كيف تصرف المقدم حسن شومان حينما أسند إليه ملف القضية بعد تخلي أحمد الدنف؟ وماهي الأساليب و الطرائق التي استخدمها للكشف عن هوية الفاعل(ة)؟
ما ميز تجربة المطاردة التي خاضها أحمد الدنف ورجاله هو الفعل المباشر، أي الدخول في مواجهة وجها لوجه مع دليلة و ابنتها زينب . لكن حسن شومان، وبعد أن جمد أحمد الدنف مشاركته في القبض على الجاني(ة)، كان له حدس (intuition) بأن الفشل الذريع سيكون من نصيب أحمد الدنف ورجاله: "قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن الخليفة لما ألزم المقدم الدنف بإحضار العجوز قال له: ضمانها علي يا أمير المؤمنين، ثم نزل هو واتباعه إلى القاعة (أي مكتب تحقيقاته) ، فقالوا لبعضهم كيف يكون قبضنا عليها وكم من عجائز في البلد؟ فقال واحد منهم يقال له كتف الجمل لأحمد الدنف: على أي شيء تشاورون حسن شومان، وهل حسن شومان أمر عظيم؟ فقال حسن: ياعلي كيف تستقلني (؛تهملني) و الاسم الأعظم لا أرافقكم في هذه المرة وقام غضبانا(...) (18).
ثم حين التقى حسن شومان بجماعة أحمد الدنف، قال لهم:"من لعب عليكم وعراكم؟ فقالوا: تعهدنا بعجوز نفتش عليها و ما عرانا إلا صبية مليحة. فقال حسن شومان: نعم ما فعلت بكم. فقالوا: هل أنت تعرفها يا حسن؟ فقال: أعرفها و أعرف العجوز(...)"(19) .
لكن ما مبررات حماس حسن شومان لاستعجال تسلم ملف هذه القضية الشائكة؟ وكيف توصل إلى الكشف عن هوية العجوز ومعرفة مقر سكناها؟
كإجابة أولى نقول بأن المقدم البغدادي حسن شومان اعتمد في هذا الكشف على حدسه (intuition) حينما قال لجماعة الدنف ( من لعب عليكم وعراكم؟(...) وأعرفها (أي زينب) و أعرف العجوز(...)) فالحدس بهذا المعنى هو شكل أسمى من المعرفة؛[هو] انطباع مبني على استنتاج منطقي أو على التجربة، ولا علاقة له بالتكهن (divination)؛ فتراكم التجارب الحياتية و اختمارها في ذهن المقدم (؛سيناريوهات معينة سلفا (20) (scénarios préétablis) تضيء له دربه كلما مر بمشكل مماثل، وتقوده هذه البصيرة و الفكر النير إلى الحل السليم (عجوز وابنتها شطارة عطالة وبؤس سهل هذا السيناريو مهمة القبض على الفاعلة).
و لإنارة القارئ، ندرج هنا حكاية ثانية لأحمد الدنف وزميله شومان في ملف جرمي آخر، تميط اللثام عن أسلوبها في البحث و معالجة الأحداث إجرائيا (؛تقنيا).
وفيما يلي ملخص بأهم المفاصل السردية و العلائقية بهذه الحكاية المعنونة بـ"علاء الدين أبي الشامات".
"يتعرض علاء الدين أبو الشامات – شخصية تجارية مرموقة في بغداد ومقربة من البلاط العباسي – لنصب و إدعاء أحد الجانحين البغداديين و اسمه أحمد قماقم السراق. فالأخير استولى أشياء ثمينة من قصر الخليفة ؛ يتعلق الأمر ببدلة الخليفة وخاتمه وسبحته ومنديله ومصباحه، ودفن هذه المسروقات في مكان ما من قصر علاء الدين
أبي الشامات.اغتاظ هارون الرشيد غيضا شديدا وطلب من المكلف بالأمن الأمير خالد وبمساعدة أحمد قماقم (باعتباره خبيرا بمثل هذه الأمور الجرمية) أن يفتشوا قصره وقصور الشخصيات السامية المجاورة لمحل إقامته ، فالوالي(؛ الأمير خالد هنا) و لغاية في نفسه ألقى القبض على علاء الدين أبي الشامات وقدمه إلى الخليفة ليتخلص منه ويسطو على جاريته ياسمين – زوجة علاء الدين أبي الشامات – ويعطيها لابنه حبظلم بظاظة المغرم بها.
بعد سماع المقدم الدنف بالخبر عن طريق شبكة من مخبريه، يتدخل لإنقاذ علاء الدين أبي الشامات من محنته(...)".
تبرز من خلال القراءة الماتعة لهذه الحكاية مجموعة من الصيغ الإجرامية" و"التقنيات" التي تشكل – إلى جانب الحدس – أرضية عمل المقدم البغدادي في التحقيق:
- إعمال الشك في مقاربة الحالة الجرمية
- (قال حسن شومان بعد سماعه بخبر اعتقال علاء الدين أبي الشامات: أستغرب هذا الأمر، وهذا ملعوب عليه من واحد عدو (...))
- اللجوء إلى تقنية الاستجواب :
( فلما دخل علاء الدين على الدنف وشومان، قال علاء الدين: "جزاك الله خيرا يا كبيري، فقال له أحمد الدنف: ماهذا العمل الذي فعلته؟ ورحم الله من قال : من ائتمنك فلا تخنه ولو كنت خائنا ، و الخليفة مكنك عنده وسماك بالثقة الأمين، كيف تفعل معه هكذا وتأخد أمتعته(...)).
- المراوغة و المناورة من خلال استبدال علاء الدين أبي الشامات المعتقل بمحكوم آخر (قال المقدم الدنف: "فإنه مظلوم، ونفتدي اسماعيل بالكبش(...)).
- موضوعاتية الإقصاء والتهميش
يمشهد هذا النوع من السرود الحكائية شخصيات نسوية ورجالية بغدادية هامشية مقصية من الاستفادة من خيرات المجتمع ، لكنها ترفض أن تلطم من القهر. و يأتي تمردها لجملة من الأسباب؛
+ اقتصادية : البطلة دليلة هي امرأة عجوز و أرملة وربة أسرة وعاطلة عن العمل.
+ اجتماعية: انتماء العجوز دليلة إلى الفئات الدنيا للمجتمع العباسي وتحديدا للأوساط الخطيرة (؛زوجها كان لصا قبل أن يصلح مقدم خان حمام الخليفة، و أخوها زريق السماك هو رئيس سابق لفتيان أرض العراق قبل أن يتوب...).
+ إقصاء نسوي (sexisme) : كونها امرأة وكون حفيدها (؛ولد ابنتها الثانية) المسمى أحمد لقيطا (؛مجهول الأب)، وتعيش حياة مغبونة أسريا.
فهذه السرود – ومثيلاتها من حكايات اللصوص والشطارين والعيارين و المحتالين والزعار في الليالي العربية – تقدم تمثيلات (représentations) للفئات الدنيا في المجتمع العباسي،و " استرجاعا لمتخيل الفئات الخطيرة. (21)
- إيتيقا وتقاليد المقدم البغدادي
إن قراءة الحكايتين السابقتين، تبرز ما كان عليه المقدم البغدادي من مرؤة وشهامة و جرأة.لا يتعلق الأمر هنا بالإنسان الهاوي المستنير كالذي نلتقي به في رواية اللغزالغربية، (22)
مع المقدم البغدادي نحن في حضرة رجل لا يتوانى في تقديم المساعدة و إحقاق الحق و العدالة مهما كلفه الثمن؛ رجل يبدي تعاطفا، فهو ينتعل نعلي الضحية .
و للتدليل على ذلك نقدم شواهد من الحكاية الأولى و الحكاية الثانية:
- زينب مع علي كتف الجمل (تابع أحمد الدنف):
"(...) قالت زينب لعلي: " إن أبي كان خمارا في الموصل وخلف لي مالا كثيرا،فجئت هذا البلد خوفا من الحكام،و سألت الناس من يحميني، فقالوا:ما يحميك إلا أحمد الدنف(...))(23)
- زينب مع أحمد الدنف :
- حسن شومان مع الخليفة هارون الرشيد
- المقدم حسن شومان مع زينب
- العجوز دليلة مع الخليفة هارون الرشيد
"(...) فلما رآها الخليفة أمر برميها في بقعة الدم، فقالت: أنا في جيرتك يا شومان، فقام شومان وقبل أيادي الخليفة وقال له: العفو أنت أعطيتها الأمان، فقال الخليفة: وهي في كرامتك، تعالي يا عجوز(...)"(26)
- المخبر مع أحمد الدنف وحسن شومان
"(...) – ما الخبر يا سقاء؟
- إن ولدك في عهد الله علاء الدين أبي الشامات نزلوا به إلى المشنقة فقال أحمد الدنف : ما عندك من الحيلة يا حسن الشومان؟ خلاصه علينا إن شاء المولى (...) إنه مظلوم(...)"(27)
-
- أحمد شومان مع علاء الدين أبي الشامات
- حسن شومان و السجان
فالمقدم البغدادي، حسن الشومان أو أحمد الدنف، لم يعد ذلك الابن الجانح كما في السابق، لكن كمنصف مديني (justicier urbain)، ورغم اختلاف الأزمنة و البيئات، يبقى في نظرنا الابن الشرعي للصعلوك الجاهلي؛ فهو يحترم قانون سلوك مبني على قيم الفارس العربي المعروفة: الاخلاص،الحكمة،الشجاعة العدل .
كما أن التقاليد التي يحياها تشبه إلى حد بعيد الصعاليك من عرب الجاهلية ؛ فـ " الصعاليك كانوا فتيانا ذوي بأس يسوؤهم أن تقع الأرزاق بين الناس قسمة جائرة".(30)
و المقدم بدوره يرفض أيضا أن يلطم من القهر. فإذا كانت بطولة الأسلاف تتميز بفروسية السيف و الشعر الملحمي، فبطولة أحمد الدنف أو حسن شومان هي "بطولة الرجل العادي الذي طحنه الظلم و البؤس، فآثر أن يحارب الطغاة بأسلحتهم، فتعلم اللصوصية ليسطو على اللصوص،سواء أكانوا من أهل الشارع أو لصوصا من أهل الحكم، كأن لسان حاله يقول:
" كلنا لصوص يا عزيزي"!
فهو يلطف قصور العدالة العمومية (كما في قضية العجوز التي لم تجد ما تأكله، فتمردت) أو التواطئات الآثمة للعدالة (كما في اتهام أبي الشامات البريء بالسرقة و الدفع به إلى الاعدام!)،وذلك بطريقة مماثلة لزميلهم الانجليزي هولمز، الهاوي الخبير، الذي يتهكم على رجال الشرطة المدفوعين في نفس القضية. وهذا ما سيكون عليه الوضع (statut) المستقبلي للمتحري الخاص(31)
إنه البطل الذي يأخد مكانه أبعد من الخير و الشر، لا تعوقه الأحكام المنقوشة على رخامة القانون؛ لأن عليه أن يصارع في نفس الوقت ضد الجريمة وضد الأجهزة ( رجال شرطة فاسدون (الوالي خالد المتواطئ) ،قضاة مرتشون (كالقاضيان المتواطئان اللذان جندهما قماقم...) التي تعرقل مجراها الصحيح.
فالتحقيق (enquête)، بهذا المعنى، ليس تقديم مسار انتصاري لذهن مستنير (هولمز مثلا)، و إنما عرض تجربة مكابدة. شخصية المقدم البغدادي بهذا المعنى، هي أقرب إلى المحقق الخاص في الرواية السوداء(الأمريكية) منها إلى المستنير كما في رواية اللغز؛ فهما كائنان متميزان، لا ينتميان إلى نفس الطبقة الاجتماعية لموكليهما أو لعالم الشرطة (فهما بخلافها لا يخدمان الوضع القائم)، فهما ينظران إليها بكثير من الحذر ولا سيما و أنهما يجسدان بعدا متحررا.(32) ("إن سأل الخليفة فقل له: إنه راح يطول على البلد،قال الدنف لأحمد شومان"). حينما يقدمان خدماتهما، فإنهما يبقيان سيدا نفسيهما و المسؤولان عن قرارهما في العمل: فهما يختاران قبول أو رفض المهمة التي تقترح عليهما ( مثلا المقدم أحمد الدنف "رمى الطوق" في قضية العجوز دليلة)، ويمكنهما، في أي لحظة أن يعملا على تطويرها (مثلا أحمد الشومان، أخد الأمان للعجوز، وشفع لها أمام الخليفة). لايقلقهما كثيرا أن يؤنبهما الضمير، أو أن يتجاوزا إطار القضية التي تم تكليفهما بها. قوتهما المعنوية تأتي من جهة أنهما لا يربحان أكثر من مرتبهما الشهري الذي من أجله – إذا أرادا – يمكنهما أن يحميا البريء ويساعد البائسين ويزهقا الباطل (مثلا:" قول حسن شومان للخليفة : إن العجوز ما عملت هذه الملاعب طمعا في حوائج الناس، ولكن لبيان شطارتها، لأجل أن ترتب لها راتب زوجها") [وهو الدافع الحقيقي لتحرك العجوز التي رفضت أن تلطم من الفقر].
واقعة كون المقدم البغدادي يقوم بما يقوم به مقابل مرتب شهري هزيل، في نظرنا، بالنسبة لما يملكه موكله هارون الرشيد! في عالم فاسد هو ما يميزه عن الآخرين. فهو لا يمتنع عن طرق الأماكن المحرمة (؛تقصيه الأخبار من داخل البلاط ،إعتاق علاء الدين من حبل المشنقة دون الرجوع إلى الخليفة موكله). يرفض التنازل و التراجع، فهو يمثل في رمزيته الإبن الشرعي لتلك "الفردانية" التي طرقتها همم رجال كحامي الديار عنترة وعروة بن الورد الجاهليين. فهو يحاول، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، " أن يبين للعيان ما يسعى البعض إلى تركه في الظل و التعتيم عليه".(33)
***
ملاك القول؛ إن فسيفساء الصورة السابقة ( الوضع بين – بين، التكليف، موضوعاتيات التعقب و المطاردة و التقنع و الإقصاء، والتسلسلية (sérialité)،...) تشكل في نظرنا لحمة نموذج عربي أصيل للمتحري البوليسي، يمكن أن ينافس أشكالا(figures) بوليسية عالمية (مثلا؛ "فيدوك"، "هولمز"،"بوارو"). فالمقدم البغدادي، شخصية التحري العباسية الفذة، تعكس القدرات الإبداعية لمجتمعاتنا العربية – في تلك الفترة التاريخية – في تدبير شؤونها الأمنية من خلال "صناعة" و ابتكار أشكال أمنية تستجيب لحاجيات مجتمعاتها المتزايدة
و الطارئة.
الهوامش
- 1-Regis Messac ,Le detective novel et l'influence de la pensée scientifique , Librairie ancienne Honoré champion, Paris, 1929
- 2-Mia Gerhardt, Theart of story-Telling: Aliterary stady of the thousandand one nights ,E.J.Brill, leden 1963.
- 3-Roger Allen, The arabic novel: An historical and critical introduction,Syracuse University press,1982.
- 4- فدوى مالطي "وجلاس" من التقليد إلى ما بعد الحداثة، مطبوعات المشروع القومي للترجمة، الطبعة الأولى،مصر، 2003،ص.31-89
- 5- ألف ليلة وليلة، دار صبح، الطبعة الأولى،2010، ص 1194-1210، كما استعنا بالترجمة الفرنسية: " ل ج.ش- مارديس:
- - Les mille et une nuit (contes traduits par Joseph Charless Mardrus,Robert Laffont,Paris,1995,p-936-962
- 6-Vivette Parent-Schaefer et Margaret Sironval, Les milles et une nuit (Les secrets de Shéhérazade),TDC n°502, Décembre,1988,P6
- في هذه الدراسة يذكر الباحثان بعظمة بغداد في تلك الفترة: "(...) في القرن العاشر [الميلادي]، كانت ساكنة بغداد تقارب المليون و النصف المليون نسمة، في حين أن باريس لا يتعدى عدد سكانها بضع آلاف..."
- 7- عبارة وردت في الحكاية تفيد عجزه عن حلحلة اللغزأي الوصول لمعرفة الجاني.
- 8-File:///D
olarophiles les grands domaine du roman policier Files/domaines T.htm - 9- المقصود بـ "البلاطجة" مرتزقة ذوو أوضاع مشبوهة يستخدمون في المهمات القذرة (نصب،اغتيال،سرقة، كسر الإضرابات،...)
- 10- ألف ليلة وليلة، حكاية دليلة...،ص1194
- 11- Dominique Kalifa, Histoire des détectives privés en France (1832-1942) Eds .Nouveau monde Paris,2007,p.14
- المقصود هنا "ليبرالية مركتيلية (؛تجارية) لا ترى خطرا في المساومة على الأمن، تنظر إليه عائدا كخير (bien) أكثر منه كحق (droit)"
- 12- يعتبر المقدم العباسي سابقا على الفرنسي "أوجين فيدوك"، الذي سلك مسارا مماثلا للمقدم العباسي؛ انحراف- اعتراف رسمي به- تقلد أمن باريس
- أيضا - ثم فتح وكالة استعلامات خاصة في 1832، و الذي ألهمت تجربته الجانحة كبار كتاب الرواية المسلسلة في فرنسا كهوجو وبلزاك. بخصوص هذه النقطة انظر :
- Dominique Kalifa.Op.cit.p.53
- 13- D.Kalifa, ibid.p55
- 14-Jean-Claude Vareille, l'Homme masqué ,le Justicier et le Détective.PUL. 1989.P47
- " pour enlever les masques d'autrui, rien de tel que d'en endosser un soi-même"
- 15- Jean-Claude Vareille, Ibid.p.45
- 16- Laurence Doury, Le mal dans la série télévisée policier, mémoire de Master, Université Jean Moulin Lyon3 ,Juin2006,p11
- :"السلسلة (série) هي شكل تخيلي سردي يمتلك فيها كل فصل أو ) حلقة( وحدته السردية الخاصة به وتتكرر تيماته وشخصياته من حلقة إلى أخرى"
- 17- انظر رواياته البوليسية التي تشكل حلقة بطلها الضابط البكري:
- الفجر، منشورات عكاظ ، الرباط2002 ،
- مخالب الموت، نفسه ، دجنبر 2003
- اغتيال الفضيلة، نفسه ، يناير 2003
19-ألف ليلة و ليلة م.س.ص.1209
20- Boileau-Narcejac ,Le roman policier,Payot, Paris,1964,p.28
21- Jean –Claude Vareille,op.cit.p.40
22-Boileau-Narcejac, op.cit.p.52
23- ألف ليلة وليلة ،م.س، ص.1208
24- نفسه، ص1209
25- نفسه، ص. 1209
26- نفسه، ص. 1210
27- نفسه، ص. 578
28- نفسه ، ص.579
29- نفسه، ص.578
30- مجد رجب النجار، الشطار و العيارين، سلسلة عالم المعرفة العدد 45، الكويت، ص.168
:" يقول : ابن حمدي ََ[لص بغداد الشريف] (...) الله بيننا وبين هذا السلطان الذي أحوجنا إلى هذا ، فإنه قد أسقط أرزقنا و أحوجنا إلى هذا الفعل، ولسنا فيما نفعله أمرا عظيما أعظم مما يرتكبه السلطان".
31- Jean-Claude Vareille , op.cit.p47
32- Patrick Pécherot, L’engagement lucide du polar, Le roman social, Eds. L’Atelier/Eds.Ouvriers,Paris,2002,p.251