د. عبد الجبار العلمي - هجرة مضادة إلى الصحراء المصرية بحثاً عن علاج الروح والجسد.. "واحة الغروب" لبهاء طاهر

" واحة الغروب" رواية جديدة للكاتب الروائي المصري بهاء طاهر. وهذه هي آخر رواية صدرت له، نرجو أن تليها أعمال روائية أخرى.
فما زالت ذخيرة هذا الكاتب الموهوب زاخرة بالعطاء الأدبي الرفيع. إنها تأتي بعد روائعه: " شرق النخيل" (1985) ؛ " قالت ضحى" (1985) ؛ " خالتي صفية والدير" (1991) ؛ " الحب في المنفى" (1995) ؛ " نقطة النور" (2001) والحقيقة أن جميع هذه الأعمال الروائية تدخل في باب الأدب الراقي الإنساني العميق الجيد.
فشخصيا أعتبر أن كل ما خطته يد هذا الفنان الرقيق المبدع من كتابات روائية كلها جيد بدون استثناء. ولم يكن د. علي الراعي مبالغاً حين وصف إحدى رواياته وهي " الحب في المنفى" بأنها " كاملة الأوصاف" وهي مثلها مثل بقية رواياته تعد علامات مضيئة في مسيرة الرواية المصرية المعاصرة". والأمر يرجع إلى إحساس الكاتب بمسؤوليته أمام الكلمة، وإيمانه بقداسة الكتابة، فهو يخضعها لعين ناقدة متفحصة قبل أن ينشرها على الملأ. بهاء طاهر يخرج علينا بروايته الجميلة "واحة الغروب" مستكملاً مشروعه الروائي الناجح، ممتعاً إيانا بأدبه الإنساني الرفيع الذي بتنا نفتقر إلى مثله في عالم لا يسوده إلا مظاهر الرداءة على مختلف الأصعدة .
تتألف الرواية من قسمين: القسم الأول: يتضمن ثمانية فصول يعنون المؤلف أغلبها باسمي شخصيتيه الرئيسيين: " محمود" و " كاثرين" باستثناء الفصلين الخامس، فيعنونه باسم الشيخ يحيى، والثامن يعنونه باسم الإسكندر الأكبر.
القسم الثاني: يتضمن عشرة فصول وخاتمة، يقدم فيها المؤلف لقارئه المصادر والمراجع التي اعتمدها في كتابة روايته. والفصول في هذا القسم كنظيره السابق معظمها معنون باسم الشخصيتين الرئيسيين المذكورين آنفاً عدا فصلين هما: الثاني عشر والثالث عشر. أما الأول فيعنونه باسم ثلاث شخصيات: " كاثرين" ـ " محمود" ـ " الشيخ يحيى"، وأما الثاني، فيسميه باسم شخصية الشيخ صابر. وهذه الشخصيات التي اتخذ المؤلف أسماءها عناوين لفصول الرواية، هي التي ستتولى بالتناوب مهمة السرد مستخدمة ضمير المتكلم، كل شخصية من زاويتها الخاصة.
والرواية غنية بالأحداث والشخصيات، كما تعالج العديد من القضايا الهامة في حياة المجتمع العربي، وسنحاول أن نقارب هذا العمل السردي الجميل كما يلي: ارتبط السارد ـ المشارك محمود بمجموعة من النساء: كاثرين: زوجه الايرلندية المهتمة بالبحث في الآثار الفرعونية والمترجمة للنقوش المحفورة على جدران بعض المعابد خاصة في "واحة سيوة" لتثبت نظريتها التي مفادها أن قبر الإسكندر الأكبر يوجد بهذه الواحة.
فيون: شقيقتها الجميلة العليلة التي ما قصدت الواحة والصحراء إلا من أجل الاستشفاء من ضيق التنفس والأزمات التي يتكرر حصولها في الأجواء الرطبة في بلادها .
نعمة: الأمة التي اشتراها أبو محمود طفلة وتربت معه في بيتهم. ثم عندما أصبحت شابة صارت عشيقته وحبيبته التي تركت آثاراً عميقة في نفسه لدى اختفائها من البيت. لقد ظلت ذكرى من أجمل الذكريات في حياته. وهي المرأة التي أحبها حباً خالصاً صادقاً من بين النساء اللواتي تعرف عليهن، وكانت له بهن رابطة من الروابط .
مليكة: الفتاة السيوية ( نسبة إلى واحة سيوة) التي ذهبت ضحية التقاليد القاسية في مجتمع واحتها، باعتبارها أرملة، حيث ان الأعراف تحكم على الأرملة بعدم الخروج من بيتها إلى أن تكمل عدتها الشرعية . وتعتبر غولة إن خرجت تجلب على أهلها وسكان الواحة الشر والوبال. فيحرق الزرع والبيوت، ويتعرض الأطفال للأمراض المميتة، وتسقط الأشجار المثمرة، وتحل بها عموما كارثة من الكوارث، يصير قتلها ضرورياً ومشروعاً لأهل قريتها، و ذلك لكي يدفنوا شرها معها.
إن السارد ـ المشارك محمود ترك حادثة موت مليكة مبهماً، يتأرجح بين انتحارها ردَّ فعل على هذه التقاليد التي تقيد حرية المرأة ليس لأي ذنب إلا لأنها أصبحت أرملة، وهو أمر لا يد لها فيه، أو قتلها من لدن أهل "سيوة" الجهلاء. بيد أن السارد ـ المشارك محمود ظل موزعاً بين امرأتين اثنتين من بين النساء اللواتي تم ذكرهن آنفاً: كاثرين التي صاحبته إلى واحة "سيوة" بجسدها، و"نعمة" المرأة التي لم تفارقه عمره كله. تزوره في أحلام النوم وأحلام اليقظة (انظر ص: 109) وتعيده إلى أيام البراءة والأعياد. إن "نعمة السمراء" ترمز إلى الشرق وحضارة بلاد النيل.
لقد " اكتسبت اسمها من لون بشرتها الناعمة الخمري الرائق كلون النيل أيام الفيضان" (ص: 109). أما " كاثرين" فهي رمز الحضارة الغربية المادية المعجبة بالآثار الفرعونية وبباني الإسكندرية (الإسكندر الأكبر)، إنهما تمثلان الصراع بين الجسد والروح، بين قيم الشرق، وقيم الغرب "فكاثرين" مع محمود بجسدها، أما "نعمة السمراء"، فمعه بطيفها وبروحها الهائمة في أحلامه.. لقد عاشا معاً طفولتهما وشبابهما .اشتراها والده الثري من سوق الجلابين . وحين شبا عن الطوق فجر محمود في جسدها الناعم غرائزه .
وكانت فضلا عن ذلك شهر زاده التي تحكي له حكايات غريبة عن الملوك الشريرين والطيبين، وهو واضع رأسه فوق فخذها. " كبرنا معاً، وبقيت " نعمة" في البيت حتى بعد إفلاس أبي" (ص: 110)، ولكنها ذات يوم هربت ولم يعرف طريقها.كانت "نعمة" المرأة التي أحبها كما لم يحب سواها، ولكنه لم يكتشف الأمر إلا بعد فوات الأوان (انظر ص: 112) .يقول محمود: " كانت صاحبتي وكانت تردني بحكاياتها طفلا وتستردني بالعشق رجلاً". (ص: 112). الرحلة المضادة: إذا كانت رحلة بطل " الحي اللاتيني" لسهيل إدريس، تتجه نحو الغرب الأوروبي:
فرنسا ليتابع دراسته العليا قصد الحصول على الدكتوراه في الأدب العربي، فإن رحلة محمود بطل " واحة الغروب" لبهاء طاهر تأخذ طريقها إلى الصحراء بمصر وإلى واحة " سيوة" على وجه التحديد، وذلك بهدف القيام بجمع الضرائب من أهالي الواحة المتعنتين. وإذا كان هاجس البطل الشاب في الرواية الأولى هو المرأة، وإشباع النزوات منها، والتحرر من مكبوتات الإنسان الشرقي، فإن الشخصية الرئيسية في الرواية الثانية، قد اصطحب معه زوجه كاترين ثم لحقت بها شقيقتها فيون العليلة، وهما تمثلان الإنسان الغربي العاشق لروحانية الشرق، الباحث عن أسراره وعالمه العجائبي.
هل هي هجرة مضادة نحو أعماق الصحراء المصرية في الشرق العربي بحثاً عن علاج الروح والجسد؟ فكاثرين ببحثها عن الحقيقة: ما يوصلها من نقوش ورسوم في معابد الواحة إلى معرفة مدفن الإسكندر الأكبر الذي تضاربت النظريات في مكان دفنه . " الحقيقة أن كاثرين في بحثها عن الآثار الفرعونية وعن مدفن الإسكندر، إنما تبحث لحياتها عن معنى" (ص: 136 ).
وفيون شقيقتها العليلة لجأت إلى الصحراء لعلاج مرضها الصدري المزمن بالطرق الطبية الشعبية العتيقة، وباستنشاق هواء الصحراء الجاف النقي بعد أن يئست من الطب المعاصر في وطنها. هل يود المؤلف أن يقول لنا هنا إن الشرق واحة الروح الخالدة (الغروب عند قدماء المصريين يعني الخلود)، ومدفن للأجساد الفانية ذات النفوس الجميلة الرقيقة المؤمنة بالروحيات التواقة إلى آفاق الخلود بدورها؟ جاء في أحد الحوارات بين محمود ورئيسه المتعاطف معه لدى تكليفه بمهمته الشاقة في قلب الصحراء:
" قال لي الأميرلاي سعيد صدقني أنني من ناحية أحسدك لأنك ذاهب إلى الصحراء، جنة الأنبياء والشعراء.. إليها يفر كل من يترك الدنيا لكي يجد نفسه، وفيها تورق الأنفس الذابلة، وتزهر الروح". (ص: 54).
أزمة السارد ـ المشارك محمود: يبدو أن محموداً نفسه أراد أن يكون مدفنه في "واحة سيوة" الجنة الصحراوية لكي يتطهر من آثامه، ويتخلص من أزمة ضميره ليعانق آفاق الخلود، فيقرر أن ينسف المعبد المشؤوم بعد أن تعرضت فيه زوجه كاثرين للرجم من لدن الأهالي أثناء قيامها بالبحث فوق جدرانه وترجمة ما بها من نقوش ورسوم بهدف الوصول إلى نظرية كون الإسكندر الأكبر كان مدفنه في هذه الواحة، بينما كان الأهالي يظنون أنها إنما تتسلل إلى المعبد بحثاً عن الكنوز المخبوءة في أحشائه .
وهكذا لقي محمود حتفه بسبب الشظايا المسنونة التي كانت تتطاير بعد أن زرع في كل زوايا المعبد أصابع الديناميت. فمات محمود أو انتحر، ونسف المعبد الذي يمثل رمز الفعل الإيجابي للأجداد العظام، وكأنني بالكاتب هنا يوجه دعوة حارة إلى أبناء مصر اليوم للنهوض من جمودهم، وعدم الركون إلى التغني بالأمجاد الغابرة التي خلفها أجدادهم الذين شيدوا حضارة إنسانية عريقة متحدية الموت والفناء، راسخة في شموخ في عالم الخلود. ويرى أحد الباحثين أن تدمير المعبد إنما كان بهدف قتل الماضي ـ الأب، ذلك أن الأب أقام مجداً في التاريخ السحيق، فتح بلاداً، بنى أهراماً ثم رقد يراقب أولاده وأحفاده بتيقظ.. وهم يحنون إليه، ويشكون إليه هزائم الحاضر، ولا يجدون إلا الأب ـ الماضي ظهراً لهم يتكئون عليه، ويتوعدون المستقبل بمجد لايقل عن مجد أبيهم التليد.
إن شخصية محمود في الرواية تمثل الإنسان المأزوم المهزوم، الذي يوبخه ضميره باستمرار عن سلوكات مارسها في حياته رآها تتسم بالجبن والخيانة . تقول كاثرين في أحد المونولوجات: " لكن محمود يتلهف على الأسباب التي تجعله تعيسا". (ص: 138) . ويقول محمد السيد إسماعيل: "أما رواية "واحة الغروب"، فهي تعرض لسنوات ما بعد الثورة العرابية من خلال تصوير أزمة بطل الرواية ملازم شرطة محمود عبد الظاهر، وعلاقة التوتر والسخط المكتوم بينه وبين قياداته الإنكليزية، وصراعه النفسي بسبب كراهيته لهم واضطراره الانصياع لأوامرهم وتنفيذ سياستهم".
بيد أن موت البطل أو انتحاره في آخر الرواية، ليس له دلالة اليأس والعدمية تجاه واقع الهزيمة وسيادة الخيانة والخزي إن على المستوى العام أو الشخصي، بل إن له دلالة أخرى مفادها الدعوة إلى تغيير هذا الواقع الأليم. يقول الكاتب: "لا أرى أن رسالة الرواية رسالة يأس إطلاقاً، بل اعتراضاً على الواقع، وليس مطلوباً مني أن أجمل واقعاً مريضاً، أو أنشر رسالة أمل زائفة، بينما لا أجد فيه ملامح الأمل، وأعتقد أن هذه رسالة الأدب عموماً". القضايا التي تعالجها الرواية:
بالإضافة إلى تيمة العلاقة بين الشرق والغرب التي عالجها في روايته "الحب في المنفى" و "واحة الغروب"، نصادف تيمات أخرى يتكرر بعضها في المتن الروائي لبهاء طاهر. من أهمها: الهزيمة ـ الخيانة ـ الثأر ـ الغربة في الوطن ـ الموت.
1 ـ العلاقة بين الشرق والغرب: تتبدى موضوعة العلاقة بين الشرق والغرب في الرواية من خلال المظاهر التالية: أ ـ الصراع بين الغرب الاستعماري والشرق المستعمَر. ونجد ذلك في الحوار المتوتر الدائر بين السارد ـ المشارك محمود الضابط ورئيسه الإنكليزي "مستر هارفي" (ص: 13 وما بعدها).
ب ـ الغرب الباحث عن روحانية الشرق وحضارته العريقة الضاربة في أغوار الزمن. (وتمثله شخصيتان هما: كاثرين وشقيقتها فيون) تقول كاثرين في حديث لها عن أبيها " إنه أول من علمني أن أحب الشرق وأعشق آثاره.. نعم.. أثار فضولي بالذات إلى ما تركه اليونان والرومان من آثار ما زالت مجهولة" (ص: 30).
ج ـ الاختلاف بين تقاليد المجتمع الغربي والمجتمع العربي اختلافاً يجعل بعض العلاقات الاجتماعية عسيرة وغير قابلة في الغالب للاستمرار والدوام مثل العلاقة الزوجية (زواج المسلم من الأجنبية غير المسلمة)، ويمثل هذه العلاقة محمود وكاثرين. والواقع أنها علاقة مرفوضة من الجانبين: ( الشرق والغرب) . تقول كاثرين: "بدا الشيخ الذي عقد قراننا في القاهرة تعيساً وهو يرى مسلماً وضابطاً محترماً يتزوج امرأة أجنبية من غير دينه" (ص: 25) وتقول متحدثة عن استحالة قبول أبيها، إذا كان ما زال على قيد الحياة، الزواج من غير المسيحي الكاثوليكي "لكنني واثقة أني ما كنت أستطيع إقناعه بزواجي من محمود .
مستحيل" (ص: 31) وهكذا "تعكس الرواية الفجوة الحضارية بين محمود الزوج العربي المسلم وكاترين زوجته الأوروبية المسيحية". إن ما لاحظناه آنفاً من توزع محمود بين"كاثرين" و"نعمة" تؤكد هذه الفجوة، وترسخ فكرة الصراع بين حضارة الشرق وحضارة الغرب . ولذا نلاحظ فتور العلاقة بين محمود وكاثرين التي تشاركه حياته في بيته في الواحة باعتبارها زوجه، بينما تزداد رابطته قوة ومتانة بـ"نعمة" التي لا حضور لها إلا في خياله وأحلامه وذكرياته. فكـأن "نعمة" تجسد بالنسبة للبطل تلك العرى الوثقى التي تربطه بأرضه وقومه وهويته.
وإذا كان فتور العلاقة بين"محمود" و"كاثرين" يرمز إلى هشاشة الروابط التي يمكن أن تربط بين الأنا والآخر الغربي، فإن العلاقة بين "محمود " و "نعمة" السمراء على عكس ذلك تتسم بالدفء والحميمية والروابط الروحية المتينة، وبذلك ترمز إلى انجذاب الشرقي مهما تحرر من ترسبات وتقاليد مجتمعه إلى جذوره وتراثه وحضارته العريقة. ويرى الناقد القاص يوسف الشاروني لدى دراسته لروايتي" الحي اللاتيني" لسهيل إدريس، و"الخيط الأبيض" لمحمد مفيد الشوباشي "أن التزاوج بين الحضارتين الغربية والعربية لا يمكن أن يتم في الوقت الراهن، فما زالت عشرات الرواسب والعقد تحول بيننا وبينه، فالحضارة الأوروبية بجانبيها المتفوق والاستعماري (وأحدهما للأسف أدى إلى الآخر) ما يزال يقف عقبة في سبيل هذا التزاوج". 2 ـ الهزيمة: سواء على المستوى العام أو المستوى الخاص .
فعلى المستوى الأول تتم الإشارة في الرواية إلى فشل ثورة الزعيم عرابي، واحتلالِ الإنكليز أرضَ الكنانة، وخضوعِها للاستبداد من لدن الحكم الخديوي التركي، وعلى المستوى الثاني، نلاحظ معاناةَ محمود عبد الظاهر من الإحباط والإحساس بالهزيمة والتضاؤل حتى إزاء دليله البدوي الذي كان هو القائد الفعلي في الرحلة الشاقة إلى واحة " سيوة "، وانصياعَه لأوامر الإنكليز بقبوله الاضطراري القيامَ بمهمة جمع الضرائب الثقيلة المفروضة على سكان تلك الواحة النائية لفائدتهم، رغم أنه متعاطف مع الثورة العرابية من جهة، ومع أهالي الواحة من جهة أخرى .
إن محموداً يمثل طبقة البرجوازية الصغرى التي تتميز بالتذبذب في المواقف وعدم القدرة على الحسم. فـ"هو نصف تقي ونصف فاسق ..نصف وطني ونصف خائن.. لسبب ما لا يواصل محمود ما بدأه. يتحمس في البداية لكن يتردد في المنتصف، وتالياً يخسر الكثير. مشدود هو إلى أكثر من اتجاه"، وتزداد أزمته وإحساسه بالهزيمة والعجز سواء أثناء الرحلة أو لدى قيامه بمهمته في الواحة.
" يكره نفسه ثم مرة أخرى يشله عجزه عن الثورة ضد ما لا يريده". يطارده الماضي وهو في قلب الصحراء بآلامه وأحزانه وهزائمه وشخوصه. يقول محمود " لكن لا مهرب من الوجوه التي تزحم الفضاء وتفرض وجودها فجأة على غير انتظار. يطل أبي ..يهاجمني بالوجه العجوز الكسير بعد هزيمته.يظهر أخي سليمان الذي غاب عني من زمن ..وأرى وجه نعمة السمراء.. ويطفو وجه طلعت زميلي وصديق الشباب ..ويطن في أذني صوت المدافع". (ص: 56). 3 ـ الخيانة: تتجلى الخيانة على مستويين:
أ ـ جماعي: ويمثله الباشاوات والبكوات، نواب البرلمان الذين كانوا يلقون الخطب الحماسية ضد الإنكليز أيام الثورة، "يراهم السارد ـ المشارك محمود ينضمون إلى الخديوي في منصته وهو يستعرض جيش الاحتلال، وعلى يساره الجنرال ولسلي الذي أباد بمعونة الخونة جيشنا في التل الكبير".( ص: 55) والأدهى والأمر أن هؤلاء يقدمون هدايا معتبرة لسيمور وولسلي. (انظر أيضاً ص: 55).
ب ـ فردي: ويمثله أحد الضباط الصغار هو يوسف خنفس .يقول محمود في أحد المونولوجات: " أسأل نفسي طول الوقت عن الخيانة.سألت نفسي كثيراً لماذا خان الباشاوات والكبار الذين يملكون كل شيء؟ ولماذا يدفع الصغار دائما الثمن ـ يموتون في الحرب ويسجنون في الهزيمة بينما يظل الكبار أحرارا وكبارا؟ ... لماذا خان الضابط يوسف خنفس جيش بلده في التل الكبير وقاد الإنكليز ليغدروا ويفتكوا به ليلا؟ كيف كان يفكر وهو يرى مدافع الإنكليز تحصد إخوانه ورفاق سلاحه؟
" (ص: 63 وما بعدها)، كما يجسد هذا المستوى من الخيانة أقرب الناس إلى محمود، وهو صديقه وزميله طلعت الذي قدم شهادة زور ضده أمام لجنة تحقيق كونت لاستنطاق الضباط المتهمين بخدمة الثورة والتعاطف مع الثوار " بقيت خيانة طلعت زميلك و صديقك القديم، التي ظللت أيضاً تحملها في داخلك على أن العالم خذلك وخانك".(ص: 168) وفي المقابل يبرز لنا المؤلف الوجه الآخر الإيجابي للضابط المصري الذي يمثله محمد عبيد الذي استشهد دفاعا عن بلده مقاوما الإنكليز بمدفعه حتى احترق مع مدفعه (انظر ص: 64)، وظل في الوعي الجمعي شخصا مقدسا لم يصدقوا موته بل ينتظرون رجعته ليواصل الحرب ضد العدو.
4- الثأر: ويمثله في الرواية الشيخ صابر الذي سلم له المؤلف مهمة سرد الفصل الثاني عشر. ففي هذا الفصل يسرد الشيخ صابر أحداثاً أليمة في طفولته جعلته يتربص بخصومه صابراً زمناً طويلاً حتى يذوق طعم الثأر الذي اشتاق إليه عمره كله (انظر ص: 214)، وذلك انتقاماً لأبيه ولنفسه وللشخص العجوز الذي صادفه في جامع الزيتونة بتونس، من عشيرة يوسف الغربي الذي أصبح عمدة للواحة عن طريق الكيد والحيلة، وبعث جنوده لإلقاء القبض على أبيه الذي ينتمي لقادة عشيرة الشرقيين، فتعرض هو للضرب المبرح بينما كان يتشبث بأبيه. وكان ذلك سبباً في فقدان البصر بعينه اليسرى. أما العجوز فقد بتر ساعده من منتصفه في تلك الحادثة المشؤومة.
ورغم أن غريمه يوسف الغربي لقي حتفه على يد عشيرته الشرقيين بعد سنة من الحادث، إلا أنه لم يشف غليله، ولذلك استغل ما حل بالواحة من مصائب بسبب مليكة (الغولة) فأوعز لأهلها الغربيين بقتلها رغم اعتراض الشيخ يحيى (انظر ص: 221 وما بعدها).
والملاحظ أن تيمة الثأر اشتغل عليها بهاء طاهر في عمل لا ينسى هو روايته "خالتي صفية والدير"، إذ انتقمت صفية شر انتقام من قريبها الذي كانت تعشقه. 5 ـ الغربة في الوطن: يقول بهاء طاهر في جواب له عن سؤال طرحه عليه محمد شعير في مقابلة معه حول مسألة اغتراب بطلي روايتيه "الحب في المنفى" و "واحة الغروب": "أنا مع أبي حيان التوحيدي الذي قال: وأغرب الغرباء من كان غريباً في وطنه، وبهذا المعنى كلنا غرباء، وكل من لديه في هذا المجتمع حد أدنى من الوعي، يشعر بالغربة". .
وأقسى مشاعر الغربة هي التي يحسها الإنسان وهو في وطنه . يقول الدكتور عبد الواحد لؤلؤة: "إن الاغتراب لأسباب معاشية صعب، لكن الاغتراب لأسباب أهمها تجنب مخاطر السياسة وطلب الأمان الشخصي يفوق في صعوبته وإيلامه كل شيء عداه. وقد لا يقترب من هذا الإيلام إلا شعور الإنسان بالغربة في وطنه، وهي ظاهرة عجيبة برزت في آخر عقدين أو ثلاثة عقود في بعض الأقطار العربية". 6 ـ الموت: تتبدى موضوعة الموت في الرواية في ثلاثة مظاهر: أ ـ الموت من أجل قضية أو مبدأ، ويمثله محمد عبيد الذي ظل يقصف بمدفعه جيش الاحتلال الإنكليزي مدافعاً عن حوزة الوطن إلى أن استشهد في ساحة الشرف محترقاً مع سلاحه.
ب ـ قتل النفس البشرية بغير حق، بيد أن القتلة في مجتمع جاهل ظالم، يعتقدون أنه فعل مشروع، بل واجب تفرضه الأعراف والتقاليد المرعية اتقاءً لشر القتيل، وحماية للجماعة. وتمثل هذا المظهر من مظاهر الموت شخصية " مليكة " التي باتت شؤماً على أهل واحة "سيوة" بمختلف عشائرها حينما ثارت على تقاليدها.
ج ـ الموت انتحاراً، وذلك بدافع الغضب والسخط وعدم القدرة على الحياة في واقع مأزوم مليء بدواعي الإحباط واليأس والعجز عن تغييره. ويمثله السارد ـ المشارك محمود الذي دمر المعبد متمرداً على عجزه وتذبذبه متخلصاً من أزمته وإحساسه بالخزي والهزيمة . ويذهب بهاء طاهر إلى " أن التمرد في مثل ظروف الواحة، وفي هذا الظرف التاريخي، وفي تلك التقاليد الجامدة والوحشية، لا يمكن أن يسفر إلا عن ضياع المتمرد، لكنها (رسالة الرواية) ليست رسالة ضد التمرد بل هي رسالة لتمجيده".
ويرى د.شاكر عبد الحميد أن الموت في عالم بهاء طاهر " موجود بشكله الفعلي الجسدي المحدد، وموجود أيضاً بشكله الرمزي الاستعاري الإيماني. فهو موت ليس بالجسد فقط، ولكنه موت المعاني والرموز والمثل.حتى الحب عنده محاصر بالموت". والملاحظ أن الكاتب عمد إلى استخدام العديد من الوسائل الفنية أغنت الرواية، وشحنتها بالدلالات العميقة، نذكر منها: ـ استخدام الأسطورة الشعبية ـ توظيف الحكايات العجائبية عربية وأجنبية ـ استغلال الأحلام والكوابيس ـ توظيف التاريخ القديم على عهد الإسكندر الأكبر الذي يخصص له المؤلف الفصل الثامن كله من القسم الأول من الرواية، ويضعه على لسانه (ص: 139 وما بعدها)، وتوظيف التاريخ الحديث على عهد الثورة العرابية، والحكم الخديوي، والاحتلال البريطاني.
وإذا كان بهاء طاهر يوظف التاريخ في روايته "واحة الغروب "، حيث إن زمن الرواية يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر أيام قيام الثورة العرابية سنة 1882 وفشلها، والى حقبة الاحتلال البريطاني لمصر، فإنه يعمد إلى ذلك لطرح قضايا الحاضر. يقول المؤلف في حوار أجراه معه محمد شعير في جريدة الأخبار: "أنا أكتب عندما يلح علي سؤال، قد يكون تاريخيا أو معاصرا. لكن في كل الأحوال، لا أكتب من برج عاجي، بل مهموما بالواقع ومنشغلاً بالأسئلة التي يطرحها. اكتشفت من خلال كتابة روايتي الأخيرة، أن الكثير من الأسئلة التي كانت مطروحة في القرن التاسع عشر هي أسئلتنا نفسها اليوم كأن شيئاً لم يتغير".
لذلك نرى أن الرسالة الإنسانية العميقة الدلالة التي يريد الكاتب أن يوصلها إلينا من خلال روايته الجميلة "واحة الغروب"، هي نبذ الخيانة والجبن والكراهية والأخذ بالثأر، وفي المقابل: الاحتماء بالهوية والموروث الثقافي الإيجابي، والسعي الحثيث للقضاء على آثار الهزائم المتكررة وتجاوزها بالجد والعمل والأخذ بأسباب التقدم الحضاري حتى نكون جديرين بما خلفه لنا الأجداد في غابر الزمان، وما زال مفخرة للإنسان المصري، ولإرادته القوية من أجل بناء الحضارة الإنسانية في كل عصر.


* كاتب من المغرب

* جريدة القدس العربي
بتاريخ 18 يوليوز 2008 .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...