[SIZE=26px] [/SIZE]للروائي الأردني الفلسطيني صبحي فحماوي رصيد إبداعي يتوزع بين أجناس أدبية متنوعة: الرواية ـ القصة القصيرة ـ القصة القصيرة جداً ـ المسرحية. ولعل أهم أعماله تدخل ضمن إطار جنس الرواية التي وصل رصيده منها إلى حد الآن عشر روايات، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: «الحب في زمن العولمة» ـ «قصة عشق كنعانية» ـ «حرمتان ومحرم» ـ «الإسكندرية 2050» ـ «سروال بلقيس» وآخر هذه الأعمال «قاع البلد». وسنحاول في هذه الدراسة الوقوف عند مكونين أساسين من مكونات الخطاب الروائي في روايته «الأرملة السوداء»، هما المنظور السردي وتعدد اللغات.
1 ـ المنظور السردي:
اعتمد المؤلف في السرد الروائي على نوعين من الرواة على امتداد المتن النصي هما: أ ـ الراوي العارف بكل شيء ـ غير المشارك في الحدث، وهو المهيمن على السرد في أغلب الفصول والمقاطع السردية. ب ـ الراوي ـ المشارك، وهذا الأخير تمثله مجموعة من الشخصيات الروائية هي شهريار وشهرزاد وأبو شهزمان ودنيا، ويضطلع هذا الراوي بدورين أساسيين: سرد مجموعة من المحكيات الصغرى ـ رسم الملامح الداخلية لبعض الشخصيات، والتعبير عن الهواجس والأفكار والأسرار التي تعتمل في دواخلها، وذلك عن طريق الحوار الخارجي والحوار الداخلي. والملاحظ أن الحوار بنوعيه، يتسم غالباً بطول يتسع لسرد المحكيات، وسبر الدواخل.
إن الراوي العارف بكل شيء المقتحم، يستحوذ على دفة السرد، ولا يسلمها إلى هذه الشخصيات لتقول كلمتها بنفسها، وتبوح بأسرارها ومشاعرها وأفكارها، إلا خلال هذه الحوارات السردية، أو خلال الحوار الداخلي.
أـ الحوار بين الشخصيات: بين «أبو شهزمان» سراج البدر، وزوجته ميسون، حيث يتم سرد محكيات صغرى تتعلق بعمله في نقل البضائع في سيارته البدفورد القديمة، ومعاناته من مصاعب في حياته اليومية، وذلك بضمير المتكلم تارة، وضمير المخاطب تارة أخرى. يقول: «أنا رجل أعصابي تعبانة.. طوال اليوم ألف وأدور مع حر الشمس الذي يذيب رأسي ودخان السيارات الذي يخنق صدري، ويقول كذلك: «زحمة السوق يابا تخلق مشاكل، فممكن تقضي يومك بلا شغل، وتعود للمَرَة : يد من قدام، ويد من وراء».
ب ـ الحوار الداخلي: نمثل له بالمنولوج الذي يدور في دواخل شهريار، وهو ينتظر قدوم «دنيا» المستخدمة في متجر بيع الملابس التي اتفق معها على اللقاء. ويتضمن هذا المونولوج كثيراً من الهواجس والأفكار والتأملات الفلسفية والتساؤلات حول طبيعة المرأة، وأساليب إغرائها، والعلاقة بينها وبين الرجل. إن السارد العليم المقتحم، يأخذ زمام السرد نيابة عن الشخصيات التي كان الأولى أن تقدم نفسها بنفسها من خلال وجهة نظر سردية خاصة بها في فصول تفرد لها، خاصة الشخصيتين الرئيستين شهريار وشهرزاد، لاسيما وأن الرواية تقدم وجهتي نظر متقابلتين حول مسألة العلاقة بين الرجل والمرأة. وربما كان المنظور السردي المتعدد، أقرب لطبيعة المضمون الروائي وأنسب من الناحية الفنية والدلالية.
الراوي العارف بكل شيء المقتحم، يستحوذ على دفة السرد، ولا يسلمها إلى هذه الشخصيات لتقول كلمتها بنفسها، وتبوح بأسرارها ومشاعرها وأفكارها، إلا خلال هذه الحوارات السردية، أو خلال الحوار الداخلي.
أليس من الأجدر أن يعبر كل من طرفي المشكل عن قضيتهما بصوتهما، وليس بصوت راو يروي من الخلف، من خارج الحدث الروائي؟ ناهيك عن أن شهرزاد الشخصية الرئيسة في الرواية كانت الأجدر بسرد قضيتها، وهي التي ارتبط اسمها بأندر وأغرب الحكايات وأكثرها إثارة وتشويقاً في ألف ليلة وليلة؟ إن الرواية بما تطرحه من تعدد في وجهات النظر حول القضية التي تعالجها كانت تقتضي تبني تقنية تعدد الأصوات، لا الاعتماد على صوت الراوي العارف بكل شيء المستبد. ولقد ربطت الناقدة اللبنانية يمنى العيد بين استعمال هذه التقنية وحاجة الإنسان إلى الحرية في أن يقول ما يريد قوله بنفسه بدون وصاية، «لأن الحقيقة لم تعد في صوت الراوي وحده، بل هي في هذه الأصوات وقد تعددت، وعاد لها نطقها ورؤاها». (القصة القصيرة والأسئلة الأولى مجلة الكرمل، عدد 8، سنة 1983)
2 ـ تعدد اللغات:
إذا كانت رواية «الأرملة السوداء»، لا تتبنى الرؤية السردية المتعددة، فإنها تحتفي بتعدد اللغات بشكل لافت للنظر. ويمكن أن نصنف هذه اللغات كما يلي:
أ ـ اللغة الفصيحة: وهي التي تهيمن على النص الروائي، لكن المؤلف يطعمها أحياناً بكلمات من اللغة العامية مثل (تخنفرـ تنكات الفلفل ـ انقطم المسكين ومات). وهذا الصنيع يدخل في إطار استخدام كلمات من صميم الحياة اليومية لإضفاء الواقعية على الحوار.
ب ـ لغة الحديث اليومي : تتحدث به شخصيات تنتمي إلى الفئات الشعبية التي يمثلها في الرواية العمال المياومون المهاجرون من بلدان عربية، وأبو شهزمان وزوجته ميسون. وتتوزع هذه اللغة بين اللهجة المصرية واللهجة الأردنية. وغالباً ما يتم المزج في مثل هذا الحوار بين اللهجة الأردنية واللغة الفصيحة، وكأنني بالمؤلف هنا، يخشى أن يكون استخدامه للهجة الأردنية الخالصة في حوار شخصياته، عائقاً دون التواصل اللازم مع القارئ العربي في المشرق والمغرب. والحقيقة أن هذا التوازن بين الفصحى والعامية في الرواية العربية «يفرضه واقع التلقي وضرورة الانفتاح، في إطار إثراء وتطوير وصيانة الفصحى، باعتبارها مركز الوعي القومي العربي». (أحمد اليبوري، في الرواية العربية ـ التكون والاشتغال، المدارس)
ج ـ لغة علمية: وتقوم على الدراسات الميدانية والأرقام والإحصائيات، وهذه تتفوه بها الشخصيات المثقفة مثل شهريار وشهرزاد والدكتور علاء الكاشف والدكتور مصطفى الجمال وعالم النفس بديع الطاهر. والملاحظ أن النص يمتلئ بشواهد عديدة، ذكر بعضها داخل المتن الروائي.
د ـ لغة السخرية: ونجدها متناثرة في العديد من الفقرات والمقاطع السردية: قالت إحدى زوجات (أبو مخلوف) الثلاث وهن يشيعن جنازته بالبكاء والعويل لمن سألها عن سبب هذا الحزن مع أنهن تخلصن منه بموته: «والله نخشى أن يعود من قبره فيصرخ بنا قائلاً (لماذا لا تصرخن خلف جنازتي، وتشعرنني بأنني عزيز عليكن؟) ثم ينزل فينا ضرباً مبرحاً». يستخدم المؤلف المحاكاة الساخرة، فوكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين، اقتصر دورها على تزويدهم ببطانيات مهلهلة؛ والرجل لا يمشي منتصب القامة، مرفوع الهامة، دلالة على العزة والكرامة، كما يصف الرجولة الشاعرالفلسطيني سميح القاسم، بل يمشي أمام الملأ بصلف وكبرياء زائفين. والملاحظ أن التعدد اللغوي يعكس تعدد وتنوع المستويات الاجتماعية والثقافية والفكرية والنفسية للشخصيات الروائية. يبقى أن نقول إن صبحي فحماوي استطاع في روايته «الأرملة السوداء»، أن يضع قضية العلاقة بين المرأة والرجل في موضعها الصحيح، ويقدم لنا عملاً روائياً يجمع بين المتعة والمعرفة.
د. عبد الجبار العلمي
٭ كاتب من المغرب
[SIZE=18px] رواية «الأرملة السوداء» لصبحي فحماوي: المنظور السردي وتعدد اللغات | عبد الجبار العلمي [/SIZE]
للروائي الأردني الفلسطيني صبحي فحماوي رصيد إبداعي يتوزع بين أجناس أدبية متنوعة: الرواية ـ القصة القصيرة ـ القصة القصيرة جداً ـ المسرحية. ولعل أهم أعماله تدخل ضمن إطار جنس الرواية التي وصل رصيده منها إ
www.alquds.co.uk
1 ـ المنظور السردي:
اعتمد المؤلف في السرد الروائي على نوعين من الرواة على امتداد المتن النصي هما: أ ـ الراوي العارف بكل شيء ـ غير المشارك في الحدث، وهو المهيمن على السرد في أغلب الفصول والمقاطع السردية. ب ـ الراوي ـ المشارك، وهذا الأخير تمثله مجموعة من الشخصيات الروائية هي شهريار وشهرزاد وأبو شهزمان ودنيا، ويضطلع هذا الراوي بدورين أساسيين: سرد مجموعة من المحكيات الصغرى ـ رسم الملامح الداخلية لبعض الشخصيات، والتعبير عن الهواجس والأفكار والأسرار التي تعتمل في دواخلها، وذلك عن طريق الحوار الخارجي والحوار الداخلي. والملاحظ أن الحوار بنوعيه، يتسم غالباً بطول يتسع لسرد المحكيات، وسبر الدواخل.
إن الراوي العارف بكل شيء المقتحم، يستحوذ على دفة السرد، ولا يسلمها إلى هذه الشخصيات لتقول كلمتها بنفسها، وتبوح بأسرارها ومشاعرها وأفكارها، إلا خلال هذه الحوارات السردية، أو خلال الحوار الداخلي.
أـ الحوار بين الشخصيات: بين «أبو شهزمان» سراج البدر، وزوجته ميسون، حيث يتم سرد محكيات صغرى تتعلق بعمله في نقل البضائع في سيارته البدفورد القديمة، ومعاناته من مصاعب في حياته اليومية، وذلك بضمير المتكلم تارة، وضمير المخاطب تارة أخرى. يقول: «أنا رجل أعصابي تعبانة.. طوال اليوم ألف وأدور مع حر الشمس الذي يذيب رأسي ودخان السيارات الذي يخنق صدري، ويقول كذلك: «زحمة السوق يابا تخلق مشاكل، فممكن تقضي يومك بلا شغل، وتعود للمَرَة : يد من قدام، ويد من وراء».
ب ـ الحوار الداخلي: نمثل له بالمنولوج الذي يدور في دواخل شهريار، وهو ينتظر قدوم «دنيا» المستخدمة في متجر بيع الملابس التي اتفق معها على اللقاء. ويتضمن هذا المونولوج كثيراً من الهواجس والأفكار والتأملات الفلسفية والتساؤلات حول طبيعة المرأة، وأساليب إغرائها، والعلاقة بينها وبين الرجل. إن السارد العليم المقتحم، يأخذ زمام السرد نيابة عن الشخصيات التي كان الأولى أن تقدم نفسها بنفسها من خلال وجهة نظر سردية خاصة بها في فصول تفرد لها، خاصة الشخصيتين الرئيستين شهريار وشهرزاد، لاسيما وأن الرواية تقدم وجهتي نظر متقابلتين حول مسألة العلاقة بين الرجل والمرأة. وربما كان المنظور السردي المتعدد، أقرب لطبيعة المضمون الروائي وأنسب من الناحية الفنية والدلالية.
الراوي العارف بكل شيء المقتحم، يستحوذ على دفة السرد، ولا يسلمها إلى هذه الشخصيات لتقول كلمتها بنفسها، وتبوح بأسرارها ومشاعرها وأفكارها، إلا خلال هذه الحوارات السردية، أو خلال الحوار الداخلي.
أليس من الأجدر أن يعبر كل من طرفي المشكل عن قضيتهما بصوتهما، وليس بصوت راو يروي من الخلف، من خارج الحدث الروائي؟ ناهيك عن أن شهرزاد الشخصية الرئيسة في الرواية كانت الأجدر بسرد قضيتها، وهي التي ارتبط اسمها بأندر وأغرب الحكايات وأكثرها إثارة وتشويقاً في ألف ليلة وليلة؟ إن الرواية بما تطرحه من تعدد في وجهات النظر حول القضية التي تعالجها كانت تقتضي تبني تقنية تعدد الأصوات، لا الاعتماد على صوت الراوي العارف بكل شيء المستبد. ولقد ربطت الناقدة اللبنانية يمنى العيد بين استعمال هذه التقنية وحاجة الإنسان إلى الحرية في أن يقول ما يريد قوله بنفسه بدون وصاية، «لأن الحقيقة لم تعد في صوت الراوي وحده، بل هي في هذه الأصوات وقد تعددت، وعاد لها نطقها ورؤاها». (القصة القصيرة والأسئلة الأولى مجلة الكرمل، عدد 8، سنة 1983)
2 ـ تعدد اللغات:
إذا كانت رواية «الأرملة السوداء»، لا تتبنى الرؤية السردية المتعددة، فإنها تحتفي بتعدد اللغات بشكل لافت للنظر. ويمكن أن نصنف هذه اللغات كما يلي:
أ ـ اللغة الفصيحة: وهي التي تهيمن على النص الروائي، لكن المؤلف يطعمها أحياناً بكلمات من اللغة العامية مثل (تخنفرـ تنكات الفلفل ـ انقطم المسكين ومات). وهذا الصنيع يدخل في إطار استخدام كلمات من صميم الحياة اليومية لإضفاء الواقعية على الحوار.
ب ـ لغة الحديث اليومي : تتحدث به شخصيات تنتمي إلى الفئات الشعبية التي يمثلها في الرواية العمال المياومون المهاجرون من بلدان عربية، وأبو شهزمان وزوجته ميسون. وتتوزع هذه اللغة بين اللهجة المصرية واللهجة الأردنية. وغالباً ما يتم المزج في مثل هذا الحوار بين اللهجة الأردنية واللغة الفصيحة، وكأنني بالمؤلف هنا، يخشى أن يكون استخدامه للهجة الأردنية الخالصة في حوار شخصياته، عائقاً دون التواصل اللازم مع القارئ العربي في المشرق والمغرب. والحقيقة أن هذا التوازن بين الفصحى والعامية في الرواية العربية «يفرضه واقع التلقي وضرورة الانفتاح، في إطار إثراء وتطوير وصيانة الفصحى، باعتبارها مركز الوعي القومي العربي». (أحمد اليبوري، في الرواية العربية ـ التكون والاشتغال، المدارس)
ج ـ لغة علمية: وتقوم على الدراسات الميدانية والأرقام والإحصائيات، وهذه تتفوه بها الشخصيات المثقفة مثل شهريار وشهرزاد والدكتور علاء الكاشف والدكتور مصطفى الجمال وعالم النفس بديع الطاهر. والملاحظ أن النص يمتلئ بشواهد عديدة، ذكر بعضها داخل المتن الروائي.
د ـ لغة السخرية: ونجدها متناثرة في العديد من الفقرات والمقاطع السردية: قالت إحدى زوجات (أبو مخلوف) الثلاث وهن يشيعن جنازته بالبكاء والعويل لمن سألها عن سبب هذا الحزن مع أنهن تخلصن منه بموته: «والله نخشى أن يعود من قبره فيصرخ بنا قائلاً (لماذا لا تصرخن خلف جنازتي، وتشعرنني بأنني عزيز عليكن؟) ثم ينزل فينا ضرباً مبرحاً». يستخدم المؤلف المحاكاة الساخرة، فوكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين، اقتصر دورها على تزويدهم ببطانيات مهلهلة؛ والرجل لا يمشي منتصب القامة، مرفوع الهامة، دلالة على العزة والكرامة، كما يصف الرجولة الشاعرالفلسطيني سميح القاسم، بل يمشي أمام الملأ بصلف وكبرياء زائفين. والملاحظ أن التعدد اللغوي يعكس تعدد وتنوع المستويات الاجتماعية والثقافية والفكرية والنفسية للشخصيات الروائية. يبقى أن نقول إن صبحي فحماوي استطاع في روايته «الأرملة السوداء»، أن يضع قضية العلاقة بين المرأة والرجل في موضعها الصحيح، ويقدم لنا عملاً روائياً يجمع بين المتعة والمعرفة.
د. عبد الجبار العلمي
٭ كاتب من المغرب
[SIZE=18px] رواية «الأرملة السوداء» لصبحي فحماوي: المنظور السردي وتعدد اللغات | عبد الجبار العلمي [/SIZE]
للروائي الأردني الفلسطيني صبحي فحماوي رصيد إبداعي يتوزع بين أجناس أدبية متنوعة: الرواية ـ القصة القصيرة ـ القصة القصيرة جداً ـ المسرحية. ولعل أهم أعماله تدخل ضمن إطار جنس الرواية التي وصل رصيده منها إ
www.alquds.co.uk