انشطار المثقف بين الثقافي والسياسي الحزبي
أول ما يلفت نظر القارئ قبل الدخول إلى متن الكتاب ، إشارتان وردتا على عتبة الغلاف : أولاهما أن العنوان " كأنها مصادفات " ، يومئ إلى أن الحياة لا تخضع لأي منطق أو قاعدة صارمة ، بل إن الأحداث التي تقع للإنسان فيها ، تخضع للمصادفات غير المتوقعة ، وأن ما سيتم سرده من أحداث تتعلق بحياة الكاتب هو شبيه بهذه المصادفات. وثانتيهما أن الميثاق التلفظي " تداعيات سيرذاتية " ، يشير إلى أن ما سنقرأه في هذا النص السيرذاتي لا يتخذ مساراً خطياً كرونولوجياً كما عهدنا ذلك في كثير من السير الذاتية المعروفة سواء في المشرق أو المغرب ، وإنما يتخذ شكل محكيات متفرقة في الزمان والمكان تستحضرها الذات الساردة عن طريق التداعي ، وتتلقاها " حسب ترتيب الذاكرة لا حسب تاريخ وقوعها في الزمن " ( ص : 3 ) . ويشير المؤلف في موضع آخر من الكتاب إلى طبيعة عمله السيرذاتي بقوله " لقد آليت ، وأنا أسترجع هذه الأحداث ، أن أدع ذاكرتي على تلقائيتها تنتقي ما تعتبره أهم وتلغي ما لا أثر له عليها " ( ص :212 ) ، فـ" البناء السيرذاتي .. قد يختار حسب الإمكانيات التي تتيحها الكتابة السردية ، أشكالاً مبتدعة ومتنوعة في رصد منحنيات التطور الذاتي ، والتأمل في منعرجاته الحدثية ... إن العودة إلى الماضي لا تفترض بالضرورة منطقاً معيناً لسرد أطوار التجربة الشخصية ، فقد تأتي على غير ما نتصور من حيث التقديم والتأخير. " ( عبدالقادر الشاوي ، الكتابة والوجود / السيرة الذاتية في المغرب ، إفريقيا الشرق ، الدار البيضاء ، 1998 ، ص : 153 )
يتألف كتاب " كأنها مصادفات " من سبعة عشر فصلاً ، يعنى المؤلف بوضع عناوين دالة على مضامينها والمواقف والأحداث التي يسردها بين ثناياها. وهي كالتالي : "بين التذكر والتناسي" ـ " الكتَّاب أو المسيد " ـ " التحليق في فضاء العش " ـ "صندوق الكتب " ـ " أحلام الفقراء ، خيار صعب " ـ " الحمامة التي كانت بيضاء " ـ " الدار لبيضاء " ـ " النضال الطلابي " ـ " مهرجان الشعر " ـ " الأنثى : القطب الأقوى " ـ " انشطار " ـ " نبل السياسة وبؤسها " ـ " الشاعر والآخرون " ـ " الضجر" ـ " المصالحة مع الذات " ـ " الزمن " ـ " سعة الصمت "
يقدم لنا المؤلف تداعياته السيرذاتية من خلال هذه الفصول ، بكثير من الأمانة والصراحة والصدق ، ويسمي الأشياء بمسمياتها ، ويوجه نقداً لاذعاً إلى كثير من عيوب المجتمع في مدينة صغيرة منغلقة مثل مدينة شفشاون في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي ، وإلى العديد من التقاليد البالية التي كانت تسوده ، ومن أفظعها تزويج الفتيات القاصرات ، وحرمانهن من الخروج من بيت الزوجية حسب الأعراف والتقاليد ، واتخاذ المرأة أداة لتفريخ الأولاد ، وسيادة السلطة الأبيسية القاهرة ، ناهيك عن التعليم التقليدي الذي كان يغتصب طفولة الإنسان ، ويحرمه من الحرية والانطلاق وإشباع حاجاته إلى اللعب البريء ، إلى غير ذلك من المشاهد والمواقف المؤثرة الشديدة الرهافة سواء فيما يتصل بعلاقته بعائلته في مرحلة الطفولة ، أو فيما يتعلق بعلاقته بأصدقائه في عهد اليفاعة والشباب بمسقط رأسه مدينة شفشاون. كما يعرض في فصول متفرقة تجربته في مجال النضال الطلابي والحزبي. ويذكر بالخصوص الفترة التي تحمل فيها مسؤولية قيادية في فرع حزب الاتحاد الاشتراكي بمدينة تطوان. وعن تلك الفترة يتحدث بكثير من الصراحة والمرارة والألم ، عما آل إليه العمل الحزبي في السنوات الأخيرة في حزبه ، من انتهازية بعض مناضليه ، وتنكرهم للمبادئ التي قام عليها هذا الحزب المغربي العتيد. يقول موجهاً نقده اللاذع إلى هذا الانحراف عن الخط الصحيح لمبادئ الحزب : " في تجربتي المتأخرة واجهني الوجه الكريه لبعض محترفي السياسة ، فنفرني من السلوك الحزبي الغبي الذي يطل على الحياة من كوة ضيقة لا يرى منها إلا مصالحه الآنية العاجلة " ( ص : 214 ) ، لذلك نجده في بعض الفصول والمقاطع السردية ، يعبر عن ما يعانيه المثقف من انشطار وتمزق بين المبادئ والقيم الإنسانية النبيلة التي ينحاز إليها وينافح عنها ، وبين العمل الحزبي الذي يحكمه في الغالب ما هو عرضي وآني متحول. يقول معبراً عن هذه المعاناة : " كنت أعيش في نقطة تصادم عالمين متضادين ، عالم العبث والعقم والجهالة والسخف والتهافت الذي يحاصرني من كل جانب وأنا أمارس مهمتي الحزبية ، وعالم المعرفة والتعمق في الجوهر الإنساني الذي يستحق التضحية من أجل الرقي به والحفاظ عليه باعتباره ثروة إنسانية مشاعة لا تعادلها ثروة. " ( ص : 201 )
إن ميزة الصدق التي تم التنويه إليها آنفاً ، تطالع القارئ في كل صفحات هذا النص السيرذاتي ، سواء لدى سرد الكاتب أطوار حياته المختلفة ، أو لدى الإفصاح عن مكنون ذاته تجاه ما كان يراه من تحولات سلبية داخل الحزب الذي انتمى إليه ، وناضل فيه بكل التزام ومسؤولية طيلة عقود من عمره. والكتابة الصادقة تخرج من القلب لتستقر في قلوب الناس ، وتُحْدثَ فيها الأثر العميق.
إن كتاب " كأنها مصادفات " مصدر تاريخي وسياسي واجتماعي وأدبي ، فهو مصدر تاريخي يرصد فيه المؤلف فترة تاريخية عصيبة تتصل بالاستعمار الإسباني لمدينة شفشاون ، وحرب الريف بقيادة الزعيم محمد عبدالكريم الخطابي ، والآثار الاقتصادية والاجتماعية التي أفرزتها الحرب الأهلية والحرب العالمية الثانية على المغاربة ، وعلى الإسبان أنفسهم تحت نير الحكم الديكتاتوري لفرانكو ( ص : 118 ) ؛ وهو مصدر سياسي يتحدث فيه عن دور الحركة الوطنية في منطقة الشمال على عهد الاستعمار ، وعن مرحلة بداية الاستقلال التي عمت فيها فرحة الشعب العارمة بعهد جديد تسوده الحرية والعدالة والتقدم ، ولكن تلك الفرحة لم تدم طويلاً ، فلم تنل مدينة شفشاون ومنطقة الشمال برمتها إلا الإقصاء والتهميش خلال سنوات طويلة من الاستقلال ، ( انظر ص : 109 وما بعدها ) ، فثمة عوامل كثيرة " أبقت مدينة شفشاون مغمورة كجوهرة في محارة ، كل للآلئها الباهرة محجوبة عن الأنظار. " ( ص : 81 ) ؛ وهو مصدر اجتماعي يذكر فيه المؤلف العديد من التقاليد والعادات الاجتماعية السلبية والإيجابية ، وبعض المعتقدات الخرافية السائدة في مجتمع المدينة المنغلق آنذاك ، ونجد ذلك متفرقاً في فصول وصفحات من الكتاب يأتي الحديث عنها عن طريق التداعي مثل إيراده حكاية الحمَّار الذي قتل شقيقته ذبحاً لمجرد سماعه أنها خرجت من البيت أثناء غيابه ، وشكه في أنها اقترفت ما يسيء إلى سمعة العائلة وشرفها ، وذلك في فصل تحدث فيه عن المرأة ووفائها وقدرتها على تحمل أعباء الحياة ومآسيها ، بكثير من التقدير والتبجيل ، جدةً وأماً وأختاً وزوجةً ( انظر فصل " الأنثى : القطب الأقوى ، ص : 176 وما بعدها ) ؛ وهو مصدر أدبي ، يسجل فيه ما كانت تشهده الساحة الثقافية والأديبة من ازدهار في مدينة تطوان في الثلاثينيات والأربعينيات وأوائل الخمسينيات من القرن الماضي ، متمثلة في ظهور صحف ومجلات كان لها الدور الفعال في الإشعاع الثقافي والأدبي داخل المنطقة وخارجها ، يذكر منها مجلة " السلام " للمؤرخ الأستاذ محمد داود ، وجريدة " المعرفة " الأسبوعية التي أصدرها محمد العربي الخطابي ، وجرائد ومجلات أخرى من بينها جريدة "الأمة " اليومية ، ومجلة "الأنيس" الأدبية. ويتحدث بشكل أكثر استفاضة عن مجلة " المعتمد " الشعرية التي أصدرتها في سنوات الأربعين الشاعرة الإسبانية إيلينا ميركادير ، لأنه يعتبرها أهم هذه المجلات ، فقد كان لها " دور أساسي في خلق حركة شعرية امتد أثرها إلى حركة التحديث الشعري في المغرب خلال الستينيات " ( ص : 99 ) كما يتصدى المؤلف إلى الحديث في فصل خاص عن مهرجان الشعر بشفشاون الذي دعا إليه ثلة من شباب المدينة ومثقفيها ، هذا المهرجان الذي اكتسى صبغة وطنية ، و ظل قبلة لأجيال من الشعراء والأدباء المغاربة منذ سنة تأسيسه 1965 إلى الآن رغم تعرضه للتضييق والتوقيف التعسفي من لدن السلطات لأكثر من عقد من الزمن ( من : 1969 ـ 1983) . ويأبى الكاتب لدى حديثه عن تاريخ هذا المهرجان إلا أن يذكر الفضل لأهله ، فيشير إلى الشاعر عبدالكريم الطبال الذي بقي في المدينة حريصاً على تنظيم هذه التظاهرة الشعرية الفريدة ، مذكراً إخوته بموعدها في كل صيف لدى عودتهم من أعمالهم خارجها . ( ص : 154 ) ، كما يشير إلى الجيل التالي من نشطاء "جمعية أصدقاء المعتمد " التي كان لها حضور ثقافي بارز في شفشاون منذ تأسيسها سنة 1959 ، وكان من بين أهم إنجازاتها إصدارها مجلة " الشراع " . وهذه الثلة من نشطاء هذه الجمعية هي التي كان لها الفضل في إحياء المهرجان واستمراره بقيادة الشاعر أحمد بنميمون ، حيث استأنف نشاطه منذ سنة 1984 ، وما زالت دوراته تنعقد كل سنة إلى الآن. ( ص : 158 ( . وهكذا جاءت هذه السيرة الذاتية شبيهة بالسجل العام ، كنظيرتها من السير التي كتبها مؤلفو السيرة الذاتية في المغرب ، فثمة ما هو ذاتي صرف ، يخص الكاتب ، وثمة ما هو تاريخي يرتبط بتوثيق الأحداث التي مر بها ومرت به ، سواء كانت فردية أو عائلية أو مجتمعية ، وثمة ما له طبيعة اعتبارية تتصل بالمجال الذي احتواه واستغرقه ، كالثقافة والأدب وسوى ذلك. ( انظر الكتابة والوجود ، عبدالقادر الشاوي ، ص : 134 )
تدور الأحداث التي عاشتها الأنا الساردة في فضاءات متعددة تتمثل في مدن مغربية لكل منها طابعها الخاص ، ونكهتها المتميزة ، وهذه المدن هي : مدينة شفشاون ، وتمثل فضاء الطفولة والبراءة وبداية اكتشاف العالم / مدينة الدار البيضاء ، وتمثل فضاء الانفتاح على عوالم جديدة شاسعة ، والانغمار في حياة العمل بالتعليم ، والانكباب على التثقيف الذاتي . فضاء أليف رغم شساعة أطرافه ، " مشبع بروح النضال والمواطنة التلقائية الصادقة " ( ص : 140 ) / مدينة الرباط ، وتمثل فضاء الدراسة الجامعية ، والنضال الطلابي والنشاط الثقافي زمن الستينيات, ( انظر ص : 147 وما بعدها ) / مدينة طنجة ، وتمثل فضاء التعدد الثقافي واللغوي / مدينة تطوان ، وتمثل فضاء النضال والمسؤولية الحزبية في إطار حزب الاتحاد الاشتراكي.
وقد كان الكاتب في كل هذه الفضاءات ، مؤثراً فعالاً في المجال الذي خاض فيه خلال مختلف أطوار حياته ، سواء على مستوى العمل الجمعوي الثقافي أو التربوي أوالنضال الطلابي والحزبي.
والجدير بالملاحظة أن هذه التداعيات السيرذاتية ، تزخر بالشخصيات الأعلام من كتاب وأدباء وشعراء. يذكرهم بكل تقدير وتبجيل ، ويقدم عن بعضهم شهادات تتسم بالموضوعية والصدق والإعجاب ، ومن هؤلاء الأعلام ، نذكر منهم على سبيل التمثيل لا الحصر : عبدالله كنون ـ محمد العربي الخطابي ـ محمد شكري ـ محمد الصباغ ـ عبدالكريم الطبال ـ أحمد بنميمون ـ مصطفى المعداوي ـ عبدالسلام عامر ـ امحمد عزيمان ، وعن هذا الأخير يقدم شهادة رائعة تشيد بموقفه الديموقراطي الشجاع المتمثل في إذنه للكاتب بأداء مهمته النضالية المتمثلة في دعوة المنظمة الطلابية طلبة المدرسة العليا للأساتذة ( تطوان ) التي كان مديراً لها لخوض إضراب طلابي ، حيث سمح له بالاتصال بالطلبة في أقسامهم لإقناعهم بطريقة ديموقراطية ، فإن استجابوا ، فلاشأن له ، وذلك لاقتناعه بحقهم في الاضراب من أجل مطالبهم الطلابية ، وإلا فلينصرف بسلام . يقول المؤلف في شهادته : " هكذا عبر هذا الرجل الديموقراطي المعروف بنقاء سريرته وصدق وطنيته وغزارة معارفه ، عن حياد إيجابي حقيقي شجاع في زمن كان القمع والاستبداد هو سيد الكل !. فأين نحن اليوم من أمثال الأستاذ مَـحمد عزيمان في نزاهته وسعة أفقه " ( ص : 149 ) ، كما يقدم شهادات أخرى عن العلامة عبدالله كنون ، وعن صديقيه محمد شكري ومحمد الجعيدي.
ومن الملاحظ كذلك أن الكاتب في هذه التداعيات السيرذاتية ، يوظف النصوص المضمنة المتمثلة في ثلاث قصائد شعرية وردت في سياق حديثه عن أشخاص له علاقة حميمة بهم : صديقه الكاتب محمد شكري ، وزوجه فوزية ، وشقيقته فاطمة ( انظر ص : 173 ـ ص : 185 ـ ص : 188 ) ، وكأن حديثه النثري عنهم لم يكن ليشفي غليله للتعبير عما يكنه لهم من حب وتقدير بالصورة الجمالية التي تنقل أعمق وأدق الأحاسيس التي ربما عجز النثر عن نقلها ، كما يوظف العديد من الحكايات الشعبية والعجائبية التي كانت تروج في محيطه الطفولي في مدينة شفشاون ، إلى جانب حكايات واقعية حزينة عن واقع الجنود المغاربة الذين شاركوا في الحرب الأهلية الإسبانية إلى جانب فرانكو ، وعادوا تملأ أجسامهم الأعطاب والعاهات المتنوعة ( ص : 88 وما بعدها ) ، وذلك للتعبير عما كان يسود مجتمع مدينته الصغيرة من فكر خرافي أسطوري ، وعما كان يعانيه من مظاهر البؤس والحرمان والتهميش.
أسلوب الكتابة يتسم بطابع الخطاب المقالي ، حين يوجه المؤلف نقده إلى الحزب الذي كان ينتمي إليه ، ويبتعد عن الأسلوب الذي استعمله لدى كتابته عن مراحل حياته الخاصة ، وهو أسلوب يتسم بالطابع السردي المتسربل في كثير من الفقرات والمقاطع السردية بغلائل الشعر .
إن هذا الكتاب السيرذاتي الذي كتبه الشاعر المغربي محمد الميموني ، ليفوق في نظري بما فيه من صدق وصراحة وذكر خصوصيات حميمة عن حياته الخاصة والعائلية ، العديد من السير الذاتية التي كتبت عربياً ومغربياً .
* د. عبدالجبار العلمي / كاتب من المغرب
* * "كأنها ىمصادفات " / تداعيات سيرذاتية ،محمد الميموني ، منشورات ، سليكي إخوان ، طنجة ، 2013 م.
أول ما يلفت نظر القارئ قبل الدخول إلى متن الكتاب ، إشارتان وردتا على عتبة الغلاف : أولاهما أن العنوان " كأنها مصادفات " ، يومئ إلى أن الحياة لا تخضع لأي منطق أو قاعدة صارمة ، بل إن الأحداث التي تقع للإنسان فيها ، تخضع للمصادفات غير المتوقعة ، وأن ما سيتم سرده من أحداث تتعلق بحياة الكاتب هو شبيه بهذه المصادفات. وثانتيهما أن الميثاق التلفظي " تداعيات سيرذاتية " ، يشير إلى أن ما سنقرأه في هذا النص السيرذاتي لا يتخذ مساراً خطياً كرونولوجياً كما عهدنا ذلك في كثير من السير الذاتية المعروفة سواء في المشرق أو المغرب ، وإنما يتخذ شكل محكيات متفرقة في الزمان والمكان تستحضرها الذات الساردة عن طريق التداعي ، وتتلقاها " حسب ترتيب الذاكرة لا حسب تاريخ وقوعها في الزمن " ( ص : 3 ) . ويشير المؤلف في موضع آخر من الكتاب إلى طبيعة عمله السيرذاتي بقوله " لقد آليت ، وأنا أسترجع هذه الأحداث ، أن أدع ذاكرتي على تلقائيتها تنتقي ما تعتبره أهم وتلغي ما لا أثر له عليها " ( ص :212 ) ، فـ" البناء السيرذاتي .. قد يختار حسب الإمكانيات التي تتيحها الكتابة السردية ، أشكالاً مبتدعة ومتنوعة في رصد منحنيات التطور الذاتي ، والتأمل في منعرجاته الحدثية ... إن العودة إلى الماضي لا تفترض بالضرورة منطقاً معيناً لسرد أطوار التجربة الشخصية ، فقد تأتي على غير ما نتصور من حيث التقديم والتأخير. " ( عبدالقادر الشاوي ، الكتابة والوجود / السيرة الذاتية في المغرب ، إفريقيا الشرق ، الدار البيضاء ، 1998 ، ص : 153 )
يتألف كتاب " كأنها مصادفات " من سبعة عشر فصلاً ، يعنى المؤلف بوضع عناوين دالة على مضامينها والمواقف والأحداث التي يسردها بين ثناياها. وهي كالتالي : "بين التذكر والتناسي" ـ " الكتَّاب أو المسيد " ـ " التحليق في فضاء العش " ـ "صندوق الكتب " ـ " أحلام الفقراء ، خيار صعب " ـ " الحمامة التي كانت بيضاء " ـ " الدار لبيضاء " ـ " النضال الطلابي " ـ " مهرجان الشعر " ـ " الأنثى : القطب الأقوى " ـ " انشطار " ـ " نبل السياسة وبؤسها " ـ " الشاعر والآخرون " ـ " الضجر" ـ " المصالحة مع الذات " ـ " الزمن " ـ " سعة الصمت "
يقدم لنا المؤلف تداعياته السيرذاتية من خلال هذه الفصول ، بكثير من الأمانة والصراحة والصدق ، ويسمي الأشياء بمسمياتها ، ويوجه نقداً لاذعاً إلى كثير من عيوب المجتمع في مدينة صغيرة منغلقة مثل مدينة شفشاون في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي ، وإلى العديد من التقاليد البالية التي كانت تسوده ، ومن أفظعها تزويج الفتيات القاصرات ، وحرمانهن من الخروج من بيت الزوجية حسب الأعراف والتقاليد ، واتخاذ المرأة أداة لتفريخ الأولاد ، وسيادة السلطة الأبيسية القاهرة ، ناهيك عن التعليم التقليدي الذي كان يغتصب طفولة الإنسان ، ويحرمه من الحرية والانطلاق وإشباع حاجاته إلى اللعب البريء ، إلى غير ذلك من المشاهد والمواقف المؤثرة الشديدة الرهافة سواء فيما يتصل بعلاقته بعائلته في مرحلة الطفولة ، أو فيما يتعلق بعلاقته بأصدقائه في عهد اليفاعة والشباب بمسقط رأسه مدينة شفشاون. كما يعرض في فصول متفرقة تجربته في مجال النضال الطلابي والحزبي. ويذكر بالخصوص الفترة التي تحمل فيها مسؤولية قيادية في فرع حزب الاتحاد الاشتراكي بمدينة تطوان. وعن تلك الفترة يتحدث بكثير من الصراحة والمرارة والألم ، عما آل إليه العمل الحزبي في السنوات الأخيرة في حزبه ، من انتهازية بعض مناضليه ، وتنكرهم للمبادئ التي قام عليها هذا الحزب المغربي العتيد. يقول موجهاً نقده اللاذع إلى هذا الانحراف عن الخط الصحيح لمبادئ الحزب : " في تجربتي المتأخرة واجهني الوجه الكريه لبعض محترفي السياسة ، فنفرني من السلوك الحزبي الغبي الذي يطل على الحياة من كوة ضيقة لا يرى منها إلا مصالحه الآنية العاجلة " ( ص : 214 ) ، لذلك نجده في بعض الفصول والمقاطع السردية ، يعبر عن ما يعانيه المثقف من انشطار وتمزق بين المبادئ والقيم الإنسانية النبيلة التي ينحاز إليها وينافح عنها ، وبين العمل الحزبي الذي يحكمه في الغالب ما هو عرضي وآني متحول. يقول معبراً عن هذه المعاناة : " كنت أعيش في نقطة تصادم عالمين متضادين ، عالم العبث والعقم والجهالة والسخف والتهافت الذي يحاصرني من كل جانب وأنا أمارس مهمتي الحزبية ، وعالم المعرفة والتعمق في الجوهر الإنساني الذي يستحق التضحية من أجل الرقي به والحفاظ عليه باعتباره ثروة إنسانية مشاعة لا تعادلها ثروة. " ( ص : 201 )
إن ميزة الصدق التي تم التنويه إليها آنفاً ، تطالع القارئ في كل صفحات هذا النص السيرذاتي ، سواء لدى سرد الكاتب أطوار حياته المختلفة ، أو لدى الإفصاح عن مكنون ذاته تجاه ما كان يراه من تحولات سلبية داخل الحزب الذي انتمى إليه ، وناضل فيه بكل التزام ومسؤولية طيلة عقود من عمره. والكتابة الصادقة تخرج من القلب لتستقر في قلوب الناس ، وتُحْدثَ فيها الأثر العميق.
إن كتاب " كأنها مصادفات " مصدر تاريخي وسياسي واجتماعي وأدبي ، فهو مصدر تاريخي يرصد فيه المؤلف فترة تاريخية عصيبة تتصل بالاستعمار الإسباني لمدينة شفشاون ، وحرب الريف بقيادة الزعيم محمد عبدالكريم الخطابي ، والآثار الاقتصادية والاجتماعية التي أفرزتها الحرب الأهلية والحرب العالمية الثانية على المغاربة ، وعلى الإسبان أنفسهم تحت نير الحكم الديكتاتوري لفرانكو ( ص : 118 ) ؛ وهو مصدر سياسي يتحدث فيه عن دور الحركة الوطنية في منطقة الشمال على عهد الاستعمار ، وعن مرحلة بداية الاستقلال التي عمت فيها فرحة الشعب العارمة بعهد جديد تسوده الحرية والعدالة والتقدم ، ولكن تلك الفرحة لم تدم طويلاً ، فلم تنل مدينة شفشاون ومنطقة الشمال برمتها إلا الإقصاء والتهميش خلال سنوات طويلة من الاستقلال ، ( انظر ص : 109 وما بعدها ) ، فثمة عوامل كثيرة " أبقت مدينة شفشاون مغمورة كجوهرة في محارة ، كل للآلئها الباهرة محجوبة عن الأنظار. " ( ص : 81 ) ؛ وهو مصدر اجتماعي يذكر فيه المؤلف العديد من التقاليد والعادات الاجتماعية السلبية والإيجابية ، وبعض المعتقدات الخرافية السائدة في مجتمع المدينة المنغلق آنذاك ، ونجد ذلك متفرقاً في فصول وصفحات من الكتاب يأتي الحديث عنها عن طريق التداعي مثل إيراده حكاية الحمَّار الذي قتل شقيقته ذبحاً لمجرد سماعه أنها خرجت من البيت أثناء غيابه ، وشكه في أنها اقترفت ما يسيء إلى سمعة العائلة وشرفها ، وذلك في فصل تحدث فيه عن المرأة ووفائها وقدرتها على تحمل أعباء الحياة ومآسيها ، بكثير من التقدير والتبجيل ، جدةً وأماً وأختاً وزوجةً ( انظر فصل " الأنثى : القطب الأقوى ، ص : 176 وما بعدها ) ؛ وهو مصدر أدبي ، يسجل فيه ما كانت تشهده الساحة الثقافية والأديبة من ازدهار في مدينة تطوان في الثلاثينيات والأربعينيات وأوائل الخمسينيات من القرن الماضي ، متمثلة في ظهور صحف ومجلات كان لها الدور الفعال في الإشعاع الثقافي والأدبي داخل المنطقة وخارجها ، يذكر منها مجلة " السلام " للمؤرخ الأستاذ محمد داود ، وجريدة " المعرفة " الأسبوعية التي أصدرها محمد العربي الخطابي ، وجرائد ومجلات أخرى من بينها جريدة "الأمة " اليومية ، ومجلة "الأنيس" الأدبية. ويتحدث بشكل أكثر استفاضة عن مجلة " المعتمد " الشعرية التي أصدرتها في سنوات الأربعين الشاعرة الإسبانية إيلينا ميركادير ، لأنه يعتبرها أهم هذه المجلات ، فقد كان لها " دور أساسي في خلق حركة شعرية امتد أثرها إلى حركة التحديث الشعري في المغرب خلال الستينيات " ( ص : 99 ) كما يتصدى المؤلف إلى الحديث في فصل خاص عن مهرجان الشعر بشفشاون الذي دعا إليه ثلة من شباب المدينة ومثقفيها ، هذا المهرجان الذي اكتسى صبغة وطنية ، و ظل قبلة لأجيال من الشعراء والأدباء المغاربة منذ سنة تأسيسه 1965 إلى الآن رغم تعرضه للتضييق والتوقيف التعسفي من لدن السلطات لأكثر من عقد من الزمن ( من : 1969 ـ 1983) . ويأبى الكاتب لدى حديثه عن تاريخ هذا المهرجان إلا أن يذكر الفضل لأهله ، فيشير إلى الشاعر عبدالكريم الطبال الذي بقي في المدينة حريصاً على تنظيم هذه التظاهرة الشعرية الفريدة ، مذكراً إخوته بموعدها في كل صيف لدى عودتهم من أعمالهم خارجها . ( ص : 154 ) ، كما يشير إلى الجيل التالي من نشطاء "جمعية أصدقاء المعتمد " التي كان لها حضور ثقافي بارز في شفشاون منذ تأسيسها سنة 1959 ، وكان من بين أهم إنجازاتها إصدارها مجلة " الشراع " . وهذه الثلة من نشطاء هذه الجمعية هي التي كان لها الفضل في إحياء المهرجان واستمراره بقيادة الشاعر أحمد بنميمون ، حيث استأنف نشاطه منذ سنة 1984 ، وما زالت دوراته تنعقد كل سنة إلى الآن. ( ص : 158 ( . وهكذا جاءت هذه السيرة الذاتية شبيهة بالسجل العام ، كنظيرتها من السير التي كتبها مؤلفو السيرة الذاتية في المغرب ، فثمة ما هو ذاتي صرف ، يخص الكاتب ، وثمة ما هو تاريخي يرتبط بتوثيق الأحداث التي مر بها ومرت به ، سواء كانت فردية أو عائلية أو مجتمعية ، وثمة ما له طبيعة اعتبارية تتصل بالمجال الذي احتواه واستغرقه ، كالثقافة والأدب وسوى ذلك. ( انظر الكتابة والوجود ، عبدالقادر الشاوي ، ص : 134 )
تدور الأحداث التي عاشتها الأنا الساردة في فضاءات متعددة تتمثل في مدن مغربية لكل منها طابعها الخاص ، ونكهتها المتميزة ، وهذه المدن هي : مدينة شفشاون ، وتمثل فضاء الطفولة والبراءة وبداية اكتشاف العالم / مدينة الدار البيضاء ، وتمثل فضاء الانفتاح على عوالم جديدة شاسعة ، والانغمار في حياة العمل بالتعليم ، والانكباب على التثقيف الذاتي . فضاء أليف رغم شساعة أطرافه ، " مشبع بروح النضال والمواطنة التلقائية الصادقة " ( ص : 140 ) / مدينة الرباط ، وتمثل فضاء الدراسة الجامعية ، والنضال الطلابي والنشاط الثقافي زمن الستينيات, ( انظر ص : 147 وما بعدها ) / مدينة طنجة ، وتمثل فضاء التعدد الثقافي واللغوي / مدينة تطوان ، وتمثل فضاء النضال والمسؤولية الحزبية في إطار حزب الاتحاد الاشتراكي.
وقد كان الكاتب في كل هذه الفضاءات ، مؤثراً فعالاً في المجال الذي خاض فيه خلال مختلف أطوار حياته ، سواء على مستوى العمل الجمعوي الثقافي أو التربوي أوالنضال الطلابي والحزبي.
والجدير بالملاحظة أن هذه التداعيات السيرذاتية ، تزخر بالشخصيات الأعلام من كتاب وأدباء وشعراء. يذكرهم بكل تقدير وتبجيل ، ويقدم عن بعضهم شهادات تتسم بالموضوعية والصدق والإعجاب ، ومن هؤلاء الأعلام ، نذكر منهم على سبيل التمثيل لا الحصر : عبدالله كنون ـ محمد العربي الخطابي ـ محمد شكري ـ محمد الصباغ ـ عبدالكريم الطبال ـ أحمد بنميمون ـ مصطفى المعداوي ـ عبدالسلام عامر ـ امحمد عزيمان ، وعن هذا الأخير يقدم شهادة رائعة تشيد بموقفه الديموقراطي الشجاع المتمثل في إذنه للكاتب بأداء مهمته النضالية المتمثلة في دعوة المنظمة الطلابية طلبة المدرسة العليا للأساتذة ( تطوان ) التي كان مديراً لها لخوض إضراب طلابي ، حيث سمح له بالاتصال بالطلبة في أقسامهم لإقناعهم بطريقة ديموقراطية ، فإن استجابوا ، فلاشأن له ، وذلك لاقتناعه بحقهم في الاضراب من أجل مطالبهم الطلابية ، وإلا فلينصرف بسلام . يقول المؤلف في شهادته : " هكذا عبر هذا الرجل الديموقراطي المعروف بنقاء سريرته وصدق وطنيته وغزارة معارفه ، عن حياد إيجابي حقيقي شجاع في زمن كان القمع والاستبداد هو سيد الكل !. فأين نحن اليوم من أمثال الأستاذ مَـحمد عزيمان في نزاهته وسعة أفقه " ( ص : 149 ) ، كما يقدم شهادات أخرى عن العلامة عبدالله كنون ، وعن صديقيه محمد شكري ومحمد الجعيدي.
ومن الملاحظ كذلك أن الكاتب في هذه التداعيات السيرذاتية ، يوظف النصوص المضمنة المتمثلة في ثلاث قصائد شعرية وردت في سياق حديثه عن أشخاص له علاقة حميمة بهم : صديقه الكاتب محمد شكري ، وزوجه فوزية ، وشقيقته فاطمة ( انظر ص : 173 ـ ص : 185 ـ ص : 188 ) ، وكأن حديثه النثري عنهم لم يكن ليشفي غليله للتعبير عما يكنه لهم من حب وتقدير بالصورة الجمالية التي تنقل أعمق وأدق الأحاسيس التي ربما عجز النثر عن نقلها ، كما يوظف العديد من الحكايات الشعبية والعجائبية التي كانت تروج في محيطه الطفولي في مدينة شفشاون ، إلى جانب حكايات واقعية حزينة عن واقع الجنود المغاربة الذين شاركوا في الحرب الأهلية الإسبانية إلى جانب فرانكو ، وعادوا تملأ أجسامهم الأعطاب والعاهات المتنوعة ( ص : 88 وما بعدها ) ، وذلك للتعبير عما كان يسود مجتمع مدينته الصغيرة من فكر خرافي أسطوري ، وعما كان يعانيه من مظاهر البؤس والحرمان والتهميش.
أسلوب الكتابة يتسم بطابع الخطاب المقالي ، حين يوجه المؤلف نقده إلى الحزب الذي كان ينتمي إليه ، ويبتعد عن الأسلوب الذي استعمله لدى كتابته عن مراحل حياته الخاصة ، وهو أسلوب يتسم بالطابع السردي المتسربل في كثير من الفقرات والمقاطع السردية بغلائل الشعر .
إن هذا الكتاب السيرذاتي الذي كتبه الشاعر المغربي محمد الميموني ، ليفوق في نظري بما فيه من صدق وصراحة وذكر خصوصيات حميمة عن حياته الخاصة والعائلية ، العديد من السير الذاتية التي كتبت عربياً ومغربياً .
* د. عبدالجبار العلمي / كاتب من المغرب
* * "كأنها ىمصادفات " / تداعيات سيرذاتية ،محمد الميموني ، منشورات ، سليكي إخوان ، طنجة ، 2013 م.