د. عادل الأسطة - كأنني أعرفها جيدا: حيفا

أتذكر متى زرت حيفا أول مرة. كان ذلك بعد حزيران 1967. انتهت الحرب التي بدأت بالراديو وانتهت به، كما قالت أم سعد في رواية غسان كنفاني "أم سعد" وبدأت الحياة تدور دورتها المعتادة، وسمحت إسرائيل لأهل الضفة الغربية بزيارة المناطق المحتلة في العام 1948. ذهب شعار عائدون الذي كنا نهتف به، كل صباح، في طوابير المدرسة، وحل محله هتاف: "كله بليرة يا خواجة " وبدأ الناس يفكرون بالعمل لدى أبناء العمومة.
لم أعد أذكر كيف تم تنسيق برنامج لزيارة حيفا ويافا واللد. ولكني ما زلت أذكر (أبو الشكر ) -رحمه الله- جيداً.
كان أبو الشكر سائق حافلة (باص) على خط مخيم عسكر-نابلس، يسوق باصاً بدا لنا أبهة، وعرفت من أخوي الكبيرين أننا سنذهب في رحلة إلى فلسطين؛ حيفا ويافا واللد و..
لم أكن قرأت رواية "عائد إلى حيفا" لغسان كنفاني فلم تكن كتبت أصلاً، لأقلّد رحلة بطلها، وأغلب الظن أن غسان استوحى الفكرة من زياراتنا نحن.
"هذا هو وادي النسناس".
من وادي النسناس-إن لم تخني الذاكرة- صعدنا في القطار الكهربائي إلى الكرمل، ومن هناك رأيت البحر المتوسط لأول مرة. منظر فتنني وما زلت غير قادر على نسيانه.
نسيت القطار الكهربائي ولم أتذكره إلا حين قرأت لاحقاً في 1989 رواية ثيودور هرتسل "أرض قديمة-جديدة". من سيتذكر في محطة فراكفورت المركزية للقطارات قطاراً في دولة إسرائيل؟
بعد هذه الزيارة لحيفا أظنني انقطعت عن المدينة حتى العام 1977. ما بين 1968 و1977 كنت أزور يافا. أزورها مع أبي أو أزورها حين أبحث عن عمل في مناطق مجاورة لها. أزور الميناء والبلدة القديمة ولا أتذكر إلا الشاطئ ورصيف الميناء والحرش الذي لا يخلو من بائعات الهوى، لعلني نسيت. وأنا أتجوّل في يافا كنت أرى البؤس الذي ظهر في قصيدة راشد حسين "يافا والغيتو" التي سأقرؤها لاحقاً.
منذ 1977 بدأت أزور حيفا. أزورها رفقة أدباء مثل محمد كمال جبر وجمال بنورة وآخرين أو أزورها وحدي. لم أكن أجد صعوبة ولم أكن أشعر بالغربة.
أركب الحافلة العمومية من نابلس وأسافر إلى جنين ومن هناك أواصل الرحلة إلى حيفا، أو إلى الناصرة أو عكا.
الأماكن التي أزورها محدودة. مكتب مجلة "الجديد" وهناك التقيت لأول مرة بالشاعر سميح القاسم، أو جريدة "الاتحاد" وهناك رأيت إميل حبيبي ولم نتعارف، بل اكتفينا بالمصافحة، وجلسنا مع حنا إبراهيم وعفيف صلاح سالم، وفي فترة متأخرة التقيت أنطوان شلحت وسلمان ناطور.
كنت مجايلا لهؤلاء وكنت مشروع كاتب، وكان إميل غدا روائياً مشهوراً، فما صلته بهؤلاء المبتدئين؟ لاحقاً، في تسعينيات القرن الماضي سيعرفني إميل جيداً وسيناديني بـ يا أستاذ عادل، ولسوف ألتقي به مراراً في رام الله ونابلس.
العودة من حيفا إلى نابلس لم تكن مشكلة. السيارات في وادي النسناس تنتظر الركاب لتقلهم إلى جنين. حفظت الدرج المؤدي إلى مكتب مجلة "الجديد" وإلى جريدة "الاتحاد". حفظته عن ظهر قلب. كما لو أنني غدوت حيفاويا.
في مخيمنا كانت حيفا حاضرة باستمرار. نعم كانت حيفا في مخيمنا حاضرة باستمرار.
موظف الوكالة الذي كان يشرف على خزانات المياه وعلى توزيع المياه من خلال فتح أماكن توزيع المياه الثلاثة -عين الماء- كان حيفاوياً وكان جاراً لنا تقريباً وكان أبناؤه أصدقاء لي، بخاصة ابنه الأصغر محمد الذي سكنت أنا وهو معاً في عمان في 1975.
كانت لهجة أبي عوض حيفاوية بامتياز. "اسه"، كنت أسمع اللفظة منه ومن زوجته وأولادهم بل ومن أخته جارتنا أيضاً ومن ابنها الذي كان من جيلي. هكذا عرفت حيفا قبل أن أزورها وكلما سمعت لفظة "اسه" تذكرت حيفا.
هل عرفت حيفا من الأدب أكثر؟ لن أنسى بيتي راشد حسين اللذين كتبهما وهو في المنفى:
أتيت الطب في نيويورك أطلب منه مستشفى
قالوا: أنت مجنون ولن يشفى
أمامك جنة الدنيا
ولست ترى سوى حيفا.
هل عرفت حيفا من راشد قبل أن أعرفها من أشعار محمود درويش؟
في 1974 بدأت أقرأ "محاولة رقم 7" وواصلت قراءته وفيه قصيدة "النزول عن الكرمل" أو "الخروج من ساحل المتوسط". يكتب درويش عن الكرمل وحيفا. يكتب ما سأحفظه عن ظهر قلب وما سأردده كما لو أنني أنا أنا المتكلم في النص.
"أحب البلاد التي سأحب
أحب النساء اللواتي أحب
ولكن غصناً من الكرمل الملتهب
يعادل كل خصور النساء وكل العواصم."
في هذه الأثناء قرأت "عائد إلى حيفا" لغسان كنفاني. هل ألتفت إلى المكان؟ وأنا أعد رسالة الماجستير سافرت إلى حيفا مراراً للإفادة من أرشيف مجلة "الاتحاد". كان الكاتب أنطوان شلحت يستقبلني ويفسح لي المجال للقراءة والكتابة، ومثله الكاتب عفيف صلاح سالم. كنت في مهمة عمل ولهذا لم أتجوّل في المدينة التي سأعرف عنها أكثر من كتاب سلمان ناطور "ستون عاماً: رحلة التيه و..".
من كتاب سلمان عرفت التطورات التي طرأت على المدينة من 1990 حتى 2007 تقريباً. لقد تغيرت المدينة وأخذ سلمان فيها يشعر بالغربة.
هل زرت أنا حيفا منذ 1986؟
30 عاماً وعام مرت على زيارتي حيفا. انقطعت عنها على الرغم من أنني واصلت النشر في جريدة "الاتحاد" في أثناء انتفاضة الأقصى. كانت الدارسة رقية زيدان تدرس في جامعة النجاح الوطنية وكانت تأخذ مقالاتي إلى الجريدة التي كانت رقية تزودني بها. كأنني من خلال "الاتحاد "لم أنقطع عن حيفا. الآن تستبد بي الرغبة لزيارة المدينة. هل ستحل روح راشد حسين في جسدي. كما لو أنني أحمد دحبور. بي مس. بي جنون. كما لو أنني راشد حسين يقول نيابة عني:
"أتيت الطب في نيويورك أطلب منه مستشفى
فقالوا: أنت مجنون ولن يشفى
أمامك جنة الدنيا
ولست ترى سوى حيفا"
مع أنني لست في نيويورك ولست في جنة الدنيا. أنا في نابلس ولست منها أبا عن جد لأقول ما يقوله النابلسيون:
أمامك جنة الدنيا
ولست ترى سوى حيفا.
****
ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا.
لماذا لم نتذكر راشد حسين في مناسبة رحيله؟



تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...