محمد داني - الوصف في قصص عبد الرحيم التدلاوي القصيرة

يُعِدُّ الأديب المغربي عبد الرحيم التدلاوي آخر أعماله القصصية تحت عنوان(هلوسات بلبل سرق صوته)،وتتكون من 17 قصة قصيرة،وهي( لولو- قبور حائرة- فولاذ- مقت- ولولة الكلمة- حصار- دوائر القلق- طز- ندوب- ألواح- سر- حدثنا قائلا- المركبة- هلوسات- بلبل سرق صوته- بلقيس- قشابة)..
ما سنتناوله بالعرض ،هو الجانب الوصفي في الخطاب القصصي عند عبد الرحيم التدلاوي.وكما نعرف لا يمكن أن تستغني القصة القصيرة عن الوصف والتوصيف،وهو عنصر يشكل خطابها القصصي والسردي.
والوصف كمصطلح،هو الإبانة،والإخبار عن الهيئات والموصوفات،ويحضر في كل منجزنا وملفوظنا الكلامي..وجميع الدلالات اللغوية والمعجمية لمادة(و.ص.ف) تدور كلها حول التزيين والجمال والتحلية.ويضيف ابن منظور في معجمه (لسان العرب) الكشف والإظهار،والإبانة.
وفي القرآن الكريم،نجد دلالة مناقضة لما سبق.إذ الوصف في القرآن جاء قرينا بالكذب وما يتعلق له،أي إن الوصف يتضمن خبرا مختلفا،أو قصا يتعلق به .والشاهد في ذلك قوله تعالى في سورة (يوسف- الآية 12):" وجاؤوا على قميصه بدم كذب.قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون".فتصفون في الآية تعني: تكذبون كذبا مفضوحا.
والقاسم المشترك بين المعنى اللغوي وتفسير القرآن،هو الكشف والإيضاح والإبانة والفضح.
وقد اهتم النقد العربي القديم بالوصف،فقد حدده قدامة بن جعفر في كتابه القيم( نقد الشعر) بقوله:" الوصف إنما هو ذكر الشيء بما فيه من الأحوال والهيئات" ..
واعتبره أبو هلال العسكري في كتابه( الصناعتين: الكتابة والشعر)،من الأغراض الأكثر مدارسة بعد المدح والهجاء.كما أن البلاغة العربية القديمة نظرت إلى الوصف من خلال التشبيه،واعتبرته علاقة مقارنة تجمع بين طرفين،لاتحادهما أو اشتراكهما في صفة أو حالة أو مجموعة من الصفات والأحوال .
وقد انتقل الوصف إلى النقد التطبيقي كمبحث نقدي في سياق الحديث عن التشبيه،والاستعارة،والمحاكاة، والخيال.
ولا يمكن أن تخلو الكتابة السردية(القصصية) من الوصف،وهو تقنية وأداة حكائية يحتاجها الخطاب السردي(الروائي والقصصي)،ويتغياها الكاتب في نسيجه القصصي.وهو جزء من التعبير الكلامي إلى جانب السرد والحوار.والنص القصصي لا يخلو من وصف وسرد.
والوصف يقدم الأشياء ،والشخوص، والفضاء(الزماني والمكاني).والسرد يقدم الأحداث والأفعال.
وقد صنف فيليب هامون الوصف إلى:
- وصف الزمن la chronographie.
- وصف الأمكنة la topographie
- وصف المظهر الخارجي للشخصية la prosographie
- وصف الجانب الأخلاقي(المعنوي) للشخصية (الإيتوبيا l’ethopie).
- وصف الكائن المتخيل المجازي la prosopopée
- وصف المظهر الخارجي المادي للشخصية le portrait
- وصف يكون بين الجمع بين وصفين le parallèle
- الوصف الحي ومحرك للأفعال والعواطف والأحداث le tableau hypotyposé
ومن وظائف الوصف:
* التمطيط،وتخفيف سرعة السرد وإيقاعيته.
* التفسير والإيضاحية.
* التصوير(تقديم الشخصيات- الأماكن).
* وظيفة إخبارية.
* التعبير عن نفسية الشخصيات وأحوالها.
واعتبر ميشيل بوتور أن وصف الأثاث والأعراض،هو نوع من وصف الأشخاص الذي لا غنى عنه.فهناك أشياء لا يمكن أن يفهمها القارئ ويحسها،إلا إذا وضعنا أمام ناظريه الديكور وتوابع العمل ولواحقه .
ويرى آلا نروب غرييه،أن الوصف لم يعد رسما للأشكال والموجودات،وإنما هو آليات مدروسة،لها دلالتها وأثرها على المتلقي مما تثيره من أبعاد تخييلية.وهو يرى أن أهمية الصفحات لا تكمن في الأشياء الموصوفة،ولكن في حركة الوصف نفسها .
وقد استطاع فيليب هامون في كتابه (في الوصفي)،أن يحول الوصف من جزئية مرافقة للسرد إلى تقنية بنائية،ترافق جميع عناصر النص السردي .
والسؤال المطروح هو:
- هل يصبح الوصف معضلة في الكتابة القصصية؟
أحيانا الوصف يحول السرد من بساطته إلى فنيته.وهنا تلعب موهبة المؤلف وفنيته وعبقريته.
إن الوصف يصبح منظومة ثانوية démultiplicateurيعمل على تقلص مساحة الإبهام والغموض،وسوء التقدير والفهم.والسياق هو الذي يبين حسن توظيف واستعمال الوصف،وبالتالي يصبح الوصف يشكل مع السرد ولغة الخطاب لغة idiomes جديدة،في العمل السردي(الروائي أو القصصي)،ومن ثمة تنشأ علاقة ما بين الوصف والخطاب ولغته.ويصبح الوصف في الكتابة القصصية يشكل علامة حضورية constative في المسرود .وهكذا أصبح هذا الوصف في الخطاب القصصي يشكل وظيفة ما دام يقدم التفاصيل.ويعمل على الإبانة والتوضيح.
إن الوصف يشكل في قصص عبد الرحيم التدلاوي وظيفة تأثيرية conative للتواصل ما بين المؤلف والقارئ والنص.
والقاص عبد الرحيم التدلاوي اعتمد الوصف كتقنية في كتابته القصصية،وتجلى ذلك في:
1- وصف المكان:
المكان حيز تقع وتدور فيه الأحداث،فهو ركحها ومرجها وميدانها.تتكشف فيه انفعالات الشخصيات،وسلوكاتها.وهو بدون شخوص حيز وفضاء جامد ساكن لا حركة فيه.
وعبد الرحيم التدلاوي يرسم انفعالاته ومشاعره وعواطفه،ومزاجه على أوصاف المكان .وبالتالي أصبح المكان عنده ليس رسما هندسيا أو نقلا لتفاصيل الواقع،ولكن أصبح عنده وسيلة للكشف عن حقيقة الشخصيات .
وقد ربط باشلار الفن بالمكان الذي يعيش فيه الإنسان،حيث قال:"إن المكان الذي ينجذب له الخيال لا يمكن أن يبقى مكانا لا مباليا ذا أبعاد هندسية وحسب،فهو مكان قد عاش فيه بشر ليس بشكل موضوعي فقط بل بكل ما في الخيال من تحيز،وخاصة أنه يملك جاذبية في أغلب الأحيان،وذلك لأنه يكشف الوجود في حدود تتسم بالجمالية" .
والمكان يرتبط بالزمان.فعلاقات الزمان تظهر في المكان.والمكان يدرك ويقاس بالزمان،ولذا سمي هذا التقاطع الزمني المكاني ب( الزمكان الفني) ..
والسؤال المطروح،هو:
- هل اختار عبد الرحيم أوصاف مكانه،ووظفها في قصصه؟
- هل هناك ترابط أو أثر هذا الوصف على العناصر القصصية الأخرى؟
والوصف المكاني عند عبد الرحيم التدلاوي في قصصه اتخذ بعدين اثنين هما:
1- وصف المكان الخارجي: جل قصصه تبدأ بوصف خارجي للمكان..والجدول التالي يعطينا صورة تقريبية لذلك:
الجدول رقم:1 جدول الوصف للمكان الخارجي
القصة البدء بوصف خارجي للمكان
- لولو:( عدت اصرخ فرحا:وجدتها وأنا أتجول في المدينة القديمة).
- فولاذ:( في صباح مشرق التقى بها،حملها على متن سيارته الجديدة،ذات الدفع الرباعي،وسار بها إلى مطعم فاخر.)
- الكلمة:( الكلمة التي سيلقيها أمام الجمهور الغفير.)
- دوائر القلق:( جو ربيعي رائق بنسائمه،أشعرني بالانتعاش)
- سير:( كل صباح أراه يمشي على الماء،فولد في المشهد فضولا كان لا بد لي من إشباعه.)
- حدثنا قائلا:( انطلقت في هذا الفضاء سابحا أخترق صمته الفاحش الجمال).
وفي كثير من هذه البدايات إشارة زمنية،فالوقائع والأحداث محددة تدل على كلمات مثل:(أتجول- في صباح مشرق- سيلقيها أمام- جو ربيعي- كل صباح- انطلقت)..وهو وصف زمكاني.
وقد اعتمد عبد الرحيم التدلاوي على الوصف الخارجي والذي تمثل في:
1- الوصف للمكان المغلق: كالحي والمقهى والزقاق وغيرها من الفضاءات،ووصف ما يدور فيها،وبين حركيتها وديناميتها ليعطي للمتلقي صورة مجملة عن حركية هذا المكان،وما يعيشه من علاقات وتعاملات وسلوكات..
" حينا العتيق يشهد حركية باكرا،أنتشي بسماع أغنية الفنانة خربوشة وهي تصدح بالتحدي،وترفع سقفه بعيدا بالتحريض على القائد المتجبر .يأتيني صوتها من دكان السي العبدي،بقال الحي وإمام المسجد".
كما يعطينا صورة بانورامية لهذا الفضاء المكاني من خلال محلاته وحوانيته،ومقاهيه،وما يؤثثه كفضاء:" فانسللت إلى المقهى القريبة،كنت أرتادها قبلا.كانت غاصة بالزبائن"
" كل واحد قد انخرط في شغل ما:قراءة الصحف،أو متابعة المارين.اخترت أصدقائي الذين يقضون جل وقتهم في لعب الورق وانغمست كليا في اللعب إلى أن دب تيار التعب في جسمي،حينها كان الوقت ظهرا".
2- الوصف للمكان المفتوح:كالشارع والبحر وغيرهما.وفي الشارع نقف إلى سلوكات الناس،ومعاملاتهم،وما تدب فيه من حركة تدل على القلق أحيانا،وعلى الفراغ الروحي تارة أخرى،وعلى العبث ثالثة.
3- وصف الشخوص: في قصص عبد الرحيم التدلاوي نجد وصف الشخوص هو الأكثر حضورا وتفصيلا،وتدقيقا.
" مرة وقد امتلأت تحديا.خرجت،يملؤها إصرار غريب على اقتحام الصعب بتنورة قصيرة،بيضاء،شفافة،تظهر تبانها الوردي،وتي شورت يظهر مهوى النهدين،وأسدلت شعرها الفاحم والمتموج بنسائم الأحلام،وتعطرت".
واعتمد عبد الرحيم التدلاوي في وصف وتوصيف الشخوص على ثلاث تقنيات:
1- السرد القصصي:وفي هذا السرد يقدم الراوي الشخصيات ويعطي أوصافا لها وأخبارا عنها ليستطيع القارئ من وضع صورة تقريبية لها un portrait repot.أي أن الراوي أثناء السرد يقود بالتقديم والإخبار والوصف.
"أمي امرأة لم ترتد المدرسة ولا الكتاب.طيبة القلب،بريئة كالأطفال.لم تغادر المنزل إلا مرات معدودات.الآن بلغت من العمر الثمانين،احدودب ظهرها قليلا،لكنها ما زالت تحتفظ ببعض قوتها تمكنها من تهييء طعامها بنفسها والاعتناء بدارها كما كانت تفعل منذ أزمان"...
2- الحوار(الديالوغ): ومن خلال المشاهد الحوارية نقف إلى نفسية الشخصية ونعرف انشغالاتها...
" قال لي المفتش: لمن هذا؟
لا أعرف؟
كيف لا تعرف وهو في بيتك؟
أقسم إني لا أعرف...علمي علمك..
لا تتذاكى ..."
3- المونولوج الداخلي: أحيانا يلجأ عبد الرحيم التدلاوي إلى توظيف المونولوج الداخلي كتقنية من تقنيات تيار الوعي،ليعطي صورة وصفية عن الحالة النفسية التي عليها الشخصية..
"فتساءلت :من أين جاء؟ ومن وضعه هنا،وعلى مكتبي وقرب رواياتي بالأخص؟من له غرض تلبيسي جريمة أنا بريء منها؟".
- لغة الوصف:
إن عبد الرحيم التدلاوي وصاف في كتابته القصصية.يستعمل في هذا الوصف والتوصيف لغة سلسة،سهلة واضحة،خالية من غريب اللفظ، الشيء الذي يجعلنا نجد في كتابة عبد الرحيم التدلاوي لغة توصيفية لا تخلو من فنية وأدبية.وهذا ما يجعل الوصفي في كتابته" صيغة كينونة للنصوص تتجلى فيها نظرية اللغة الضمنية،تظهر بدرجات متفاوتة،وفق إخراج محسوس جدا،وعلى مستويات عدة داخل النص المقروء،ويمر هذا الإخراج مضمونيات متميزة وببنى سردية وعلاقات بين الشخوص نوعية تملأ الملفوظ الوصفي بالأضواء المنبهرة التي تكشف عن الهندسات اللغوية والبنى الإيقاعية والنغمات الختامية وطرق العدول المجازية" .
كما نجده يمزج في لغته الوصفية بين طريقتين: التصوير المباشر لتفاصيل الواقع القصصي،والتصوير البلاغي.
فالتصوير الوصفي المباشر يعمد فيه إلى نقل الواقع كما هو،ورسم الشخصيات كما هي دون أن يقوم بعملية التجميل والتشذيب والحذف أو المبالغة..
" كنت محاصرا بحيطان الزنزانة المظلمة لا يخترقها سوى شعاع ضوء شاحب آت من البهو.
كنت محاصرا بهذه الرائحة النتنة الشبيهة برائحة لحم متفسخ..محاصرا بأسئلتي الوجودية دائخا إلى حد الجنون"..
" شاهدت شابا غائم الملامح مكشرا،يحمل قضيبا حديديا،كان بسير باتجاهها،الشيء الذي أرعبها،فتجمدت في مكانها"..
أما التصوير الشعري أو البلاغي فإن لغته تعتمد على التصوير الاستعاري،والترميز،واللغة الشعرية المعتمدة على الانزياح اللغوي،والمفارقة التصويرية.
إن القصة القصيرة عند عبد الرحيم التدلاوي لا تعتمد على التجميع مثل الرواية ولكن على التركيز..ونسيج قصصه وما فيه من لغة ووصف وحوار وسرد يقوم على خدمة الحدث،فيساهم في تصوير الحدث وتطويره.والوصف جزء من الحدث،يساهم مع غيره من عناصر نسيج القصة في تصوير الحدث وتطويره.لذا يجب أن نرى الشيء الموصوف لا من خلال عين الكاتب بل من خلال عين الشخصية.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى