تعبتُ ولكنني راغبُ. أقولها اليوم، بعد أن صدّقت أبا العلاء أربعين سنة، فخفّفت الوطء كأنّ تحت كل خطوة أخطوها، قبراً أو خيط نمال. حتى وطؤوني، بنعالهم الثقيلة، ونواياهم الأثقل. هذا ما جناه أبو العلاء، على مراهق خلو من زخرف الدنيا خلا أربعة جدران وسقف مخزوق، في أحد المخيّمات التي نبتت كالفطر بعد النكبة.
وحين كبرت، كنت أشدّ من أزري، منعزلاً في الأحراش، بأنها "لا تستأهل". أن الخسارات وحدها ذخيرة الشاعر (فالمكاسب لا تؤرّث ناراً). والدنيا كانت ولما تزل أهون من جناح بعوضة، حتى عند كائنٍ خرَجَ عن سلالة إبراهيم.
بعد أربعين عاماً منذ لحظة التعرّف تلك، استيقظت ذات فجر في سكني القديم بحي "إلبورن"، وفتحت الشرفة لأتأمل الملهى الليلي المواجه لي، فرأيتهم على الباب سكارى يدخنون ويتضامّون، وبينهم حوريات في ريق الفتوة.
صفنت حتى انفصلت عن المشهد: عبَرَ عليّ ماضيّ وماضي أهلي وشعبي في شتاته الطويل. استحضرت آلاماً لا تنفد، وقارنتها بما أرى، فصرخت. صرخت، معلّقاً على سيف صحوٍ مباغت، حتى ارتعبت الحوريات من مجنون الفجر هذا وانسحبن.
"خفّف الوطء"، تقول أيها الغلبان؟ وهل تنفع فلسفةُ تسامٍ مع دنيا لا تؤخذ إلا غلابا، كما قال حفيدك نقلاً عن الواقع؟
في عصرية اليوم التالي دق الجرس وفتحت الباب، فإذا أمامي صاحب الملهى يُقرّعني على ما فعلت، ويهددني إن فعلتها ثانية، بتقديم شكوى للبوليس. كان شاباً أرجنتينياً لا يتجاوز الأربعين. وقحاً، كعادة من يكسبون أصفاراً في بضع ساعات، ومعه اثنان من مرافقيه: مُؤهّلة الباب والحارس الأفريقي العملاق. اعتذرت له، وطويت الصفحة.
وبعد أربعة أعوام، لاحظت أن الصفحة لم تُطوَ ولا حاجة. فأين تهرب من قدرك ما دمت لم تتعلم وتصرّ على المقارنات بين الهنا والهناك؟ إنه الحنين حين يُعطب إمكانيات المنفي. وأول نصحية أزجيها لأمثالي ولن أعمل بها قط، هي ألا يستسلموا لأهوال الأخير. فقد انتقلوا ليس من بلد إلى آخر، وإنما من كوكب الغلابا إلى كوكب آكليهم.
طبعاً الصورة ليست هكذا لا تماماً ولا لماماً ولا نصف نصف. ولكنني أراها في لحظة الكتابة هذه هكذا. بعد مرور وقت، طرد صاحبُ الملهى العملاقَ الأفريقي، فوجدته في حديقة سيوتاديا يتلقّط رزقه كعازف إيقاع. جلسنا مع بعض وتبادلنا الأكل والهموم، ولاحظت أن حالينا شبيهان.
قلت له: وأين بدلتك الفاخرة وبابيونك؟
قال: أنت فاكر! استرجعهم صاحبُ الملهى لمّا طردني.
قلت: أحسن. والله إنك بجلبابك الأفريقي، لأجمل مئة مرة.
سألته: هل تعرف أبا العلاء؟
قال: من هذا.
قلت: برضو أحسن، فلو عرفته، لتبهدلت أكثر مما تتوقّع.
ثم تجمع العازفون واندلع الرقص وتجمهر الناس أفواجاً، فعدت لصاحبي القديم: ألا ترى كيف "خطوة قدمهم ع الأرض جبارة" يا عزيزي؟ لو كانوا قرأوا فلسفتك وآمنوا بها، لما اخترعوا القطار السريع والجدلية المادية والبرلمان والفياغرا. أنت تحكمك ـ لا مؤاخذة ـ نزعةُ الثانتوس يا شيخنا المبصر!
وحين كبرت، كنت أشدّ من أزري، منعزلاً في الأحراش، بأنها "لا تستأهل". أن الخسارات وحدها ذخيرة الشاعر (فالمكاسب لا تؤرّث ناراً). والدنيا كانت ولما تزل أهون من جناح بعوضة، حتى عند كائنٍ خرَجَ عن سلالة إبراهيم.
بعد أربعين عاماً منذ لحظة التعرّف تلك، استيقظت ذات فجر في سكني القديم بحي "إلبورن"، وفتحت الشرفة لأتأمل الملهى الليلي المواجه لي، فرأيتهم على الباب سكارى يدخنون ويتضامّون، وبينهم حوريات في ريق الفتوة.
صفنت حتى انفصلت عن المشهد: عبَرَ عليّ ماضيّ وماضي أهلي وشعبي في شتاته الطويل. استحضرت آلاماً لا تنفد، وقارنتها بما أرى، فصرخت. صرخت، معلّقاً على سيف صحوٍ مباغت، حتى ارتعبت الحوريات من مجنون الفجر هذا وانسحبن.
"خفّف الوطء"، تقول أيها الغلبان؟ وهل تنفع فلسفةُ تسامٍ مع دنيا لا تؤخذ إلا غلابا، كما قال حفيدك نقلاً عن الواقع؟
في عصرية اليوم التالي دق الجرس وفتحت الباب، فإذا أمامي صاحب الملهى يُقرّعني على ما فعلت، ويهددني إن فعلتها ثانية، بتقديم شكوى للبوليس. كان شاباً أرجنتينياً لا يتجاوز الأربعين. وقحاً، كعادة من يكسبون أصفاراً في بضع ساعات، ومعه اثنان من مرافقيه: مُؤهّلة الباب والحارس الأفريقي العملاق. اعتذرت له، وطويت الصفحة.
وبعد أربعة أعوام، لاحظت أن الصفحة لم تُطوَ ولا حاجة. فأين تهرب من قدرك ما دمت لم تتعلم وتصرّ على المقارنات بين الهنا والهناك؟ إنه الحنين حين يُعطب إمكانيات المنفي. وأول نصحية أزجيها لأمثالي ولن أعمل بها قط، هي ألا يستسلموا لأهوال الأخير. فقد انتقلوا ليس من بلد إلى آخر، وإنما من كوكب الغلابا إلى كوكب آكليهم.
طبعاً الصورة ليست هكذا لا تماماً ولا لماماً ولا نصف نصف. ولكنني أراها في لحظة الكتابة هذه هكذا. بعد مرور وقت، طرد صاحبُ الملهى العملاقَ الأفريقي، فوجدته في حديقة سيوتاديا يتلقّط رزقه كعازف إيقاع. جلسنا مع بعض وتبادلنا الأكل والهموم، ولاحظت أن حالينا شبيهان.
قلت له: وأين بدلتك الفاخرة وبابيونك؟
قال: أنت فاكر! استرجعهم صاحبُ الملهى لمّا طردني.
قلت: أحسن. والله إنك بجلبابك الأفريقي، لأجمل مئة مرة.
سألته: هل تعرف أبا العلاء؟
قال: من هذا.
قلت: برضو أحسن، فلو عرفته، لتبهدلت أكثر مما تتوقّع.
ثم تجمع العازفون واندلع الرقص وتجمهر الناس أفواجاً، فعدت لصاحبي القديم: ألا ترى كيف "خطوة قدمهم ع الأرض جبارة" يا عزيزي؟ لو كانوا قرأوا فلسفتك وآمنوا بها، لما اخترعوا القطار السريع والجدلية المادية والبرلمان والفياغرا. أنت تحكمك ـ لا مؤاخذة ـ نزعةُ الثانتوس يا شيخنا المبصر!