تتجاوز قصيدة النثر المحددات والأطر المتاحة والمعدة سلفا، كما تواجه مؤسسية النوع الأدبي بهيمنته وسلطويته وتتيح التعدد واقتراحات الكتابة التي تبدو لا نهائية، وعلى الرغم من حالة السيولة الناتجة عما سبق، والتي تمثل برغم إشكالياتها المتعددة حالة إيجابية؛ وتؤكد على انتشار النص الذي كان إلى عهد قريب يمثل شططا وخروجا عن المألوف، وبالتزامن مع موجة جديدة لقصيدة النثر من جيل الألفية الجديدة الذي يحاول أن يشق مجرى جديدا للنهر، يقدم كمال أبو النور في ديوانه الثاني " قفزة أخيرة لسمكة ميتة" -والصادر حديثا عن دار العين- الترسيخ لتجربته وتعميقها عبر مكونات وآليات بدت إرهاصاتها في ديوانه الأول " موجات من الفوبيا" حيث لا يذهب نحو مساحات الهامش، ولا ينحو باتجاه التفاصيل اليومية، أو المعجم السائد حيث تبدو الملفوظات قادمة من معجم رومانتيكي حيث العصافير والغزالة/ الظبية والفراشة والورود ومفردات عديدة تأتي من الطبيعة التي ذهب إليها الرومانتيكيون، بجانب ما هو واقعي ويومي، واللغة كمكون أساسي للنص الأدبي يواجهها الكاتب من أجل تطويع سلطويتها والحد من هيمنتها، لحساب ابتكار كثافة رمزية متباينة الاحتمالات في سعيه للوصول إلى سعة تأويلية خلاقة، ومن هنا فمفهوم المعجم برغم من أهميته يبدو ضيقا؛ إذ الكلمة المفردة -على نحو ما ارتأى بول إيكور- ليس لها معنى في ذاتها بل تستمد معناها من الكلمات المجاورة لها في السياق وهو ما يشكل المحور التتابعي بجانب المحور التبادلي وهي المفردات الغائبة التي يمكن أن تحل في محلها ومن هنا فالجملة هي وحدة اخرى صحيح أنها تتكون من كلمات، لكنها لا تؤدي الوظائف الاشتقاقية لكلماتها المفردة إنها تتكون من علامات ولكنها ليست علامة فالجملة هي وحدة الخطاب الأساسية وعلى الرغم مما تثيره رؤى ريكور حول السيمياء والدلالة والخطاب والنص من إشكاليات إلا أنه رأي يحمل وجاهته حيث النص لعبة من التوافيق والتباديل -ويعيدنا في اللحظة نفسها إلى مقولات الشراح العرب حول الصياغة والسبيكة وإن ارتبطت مقولاتهم بالمعنى وجودته بعيدا عن الرمز والتأويل- وأن اللفظة في ذاتها وبحمولاتها المعرفية والتاريخية تكتسب وجودها من علائقها داخل النص وتفاعلها مع الكلمات الأخرى التي تشكل معها الخطاب، حيث يمثل العالم الجمالي المتخيل نقيضا للواقع تواجه الذات الشاعرة احباطاتها من خلاله وتبحث عن تحققها عبر الحلم كخلاص من إشكاليات معقدة تعيشها، وفي النص الذي بين أيدينا يبدو الصراع محتدما بين الواقع والمتخيل بين الغفلة والانتياه والحلم واليقظة وهو الصراع الذي يكون فيه للشخصية تأثيرها وللبطل داخل النص تحققه في أحلامه وصراعاته وهزائمه نجد ذلك في
"لماذا وثقت في النهار الأعمى؟
ثمة خفافيش اعتقلت
تحت أجنحتها لتصنع منها وجبات
لهؤلاء الذين امتطوا صهوة جيادنا" ص 102
إن هذا المقطع من قصيدة " لمن تعطي السماء مقاودها" يدفع بنا نحو تصور البطل داخل النص ويعيدنا إلى التراجيديا وهو ما بدا واضحا عبر الديوان في نصوص عديدة مثل
" أنا هنا في مدينة حذفت من قاموسها
كل مفردات البحر والسماء والطيور والشجر
مدينة بلا تاريخ للعشاق المجانين
والمجاذيب والمطاردين والرهبان
مدينة استبدلت الماء بالنار
والمنازل بالسجون" ص 25
هل ندعم فكرة أن الإنسان يسهم على نحو ما فيما يحدث، أم نتلافى استخدام عبارة الإرادة الحرة لقد ولدنا في هذا العالم كي نفعل ونفكر ونشعر، إن مشكلة جمالية تواجهنا في الموائمة بين الشعور بحيوية الإنسان وقدراته والإحساس أن كارثة ما قد تم تدبيرها ومن هنا تبرز إشكالية الشخصية بمستوياتها المتعددة فالبطل ليس القائد ولا الملك أو الأمير، نعم إنه يبحث عن الكمال وقبلها يبحث عن وجوده الذي يبدو واضحا من العنوان عتبة النص ومكونه الأول حيث الرغبة في الوجود عبر فعل حيوي وهو القفز الذي هو لسمكة ميتة إنها لحظة فارقة في محاولة العودة إلى الحياة والتي تبدو جلية في قوله " أحتاج بشكل عاجل لصعقات من الكهرباء" ص 21
كان " أرسطو يصر على أن سقطة البطل التراجيدي تكون نتيجة خطأ في الحكم يؤدي إلى وقوع الكارثة وأعتاد النقاد تفسير ذلك باعتباره نوعا من العدالة الشاعرية، وقد أغفل هنا ما تشترك فيه الإنسانية من قدر محتوم، فمن المهم أن نشعر بالعلاقة التي تربط بين الشخصية والظروف ومن هنا يبرز البطل داخل النص في صراعه بحثا عن وجوده الذي لا يتحقق، إنه ليس جلجامش في بحثه عن عشبة الحياة ولا هاملت النبيل الذي يعانده القدر ويقع ضحية للظروف، وبالتأكيد ليس أوديب، إنه يؤكد على عاديته يعيش أزمته وصراعه مع العالم بين أحلام لا تتحقق وواقع قاس عليه أن يحيا داخله، فهو البطل الحالم الذي يؤكد من خلال النص على مركزية الحلم كمهرب ووسيلة للخلاص يصطدم نتيجته مع الواقع.
وتبدو الرومانتيكية الجديدة ملمحا داخل النص حيث الربط بين العاطفة التلقائية والإرادة الواعية يهيمن كمرتكز رئيس داخل الخطاب الشعري – وهذا ليس تحديدا يكشف عن أفق ضيق بقدر ما هو كشف لتوجه داخل الخطاب- فالعاطفة الجامحة التي تبدو من خلال الطفل الذي أحب الغزالة وسأخترع امراة لأقول لها أحبك أو
" أن تفتح النوافذ في الصباح
على زهور بيضاء
تنبت حول المقعد الذي عاد
إلى الخدمة مرة أخرى
شجرة برتقال لا تكف عن الثمار"
إن تلك العاطفة الجامحة تواجه في اللحظة ذاتها واقعا تعسا ووطنا يتعامل مع المواطن كلقيط ويركله كلما طالب بحقه، لم يجد على الأرض إلا فوهة ممتلئة بالكوابيس وقلوبا مفخخة على أبواب الحجرات، وهذه الثنائية هي ما سعى الخطاب الشعري للتأكيد عليها وشكلت حيوية وديناميكية عبر النص في تحولاته المتواصلة بين المتخيل والواقعي ويؤكد من خلاله على قابلية قصيدة النثر لاحتواء رؤى مختلفة وتوجهات متعددة، وأن الرومانتيكية التي شكلت ثورة فكرية وجمالية، واستمر تأثيرها فيما تلاها من توجهات في الفن والكتابة لا تنتهي، فالعواطف الإنسانية ممتدة ومتواصلة بأشكال متعددة مهما كبحت الإرادة جموحها.
ولعل بدايات النصوص داخل الديوان تكشف عن حالة من التنوع حيث لايلتزم بآلية محددة في بدايات القصائد، فلحظة البداية أو كسر الصمت هي لحظة الكشف والانطلاق وترتبط بنهايات النصوص فالعلائق بينهما مع تباينها علائق جوهرية وهو يبدأ بأشكال وطرائق مختلفة من شبه الجملة أو الجملة الأسمية أو الفعلية من الاستفهام أو الأمر دون أن يضع محددات للبداية أو يسعى إلى صدمة المتلقي بقدر ما يكشف عن التنوع في الأساليب اللغوية وأداءاتها من خلال التقديم والتأخير مثل "في بلادنا يعيش الشعراء"، أو الاستفهام مثل "ما جدوى أن تغرس شجرة" أو " ماذا لو وضعنا قبلة " والنفي مثل " لا أريد أن أكتب اليوم" أو " لم يعد لدي يقين" فضلا عن البداية باسم إشارة أو ضمير أو جملة أسمية أو فعلية، إنه ينطلق من أي نقطة دون إعداد مسبق، بحسب طبيعة الخطاب الذي يحمله النص.
وتشكل بنية الحلم مكونا اساسيا داخل الخطاب والحلم مكون جمالي في أساسه يحمل فضاءاته الدلالية وإشاراته داخل السرد الشعري ليس باعتباره مهربا من الواقع بقدر ما يمثل واقعا بديلا ومتقاطعا -في آن- مع ما هو كائن في اللحظة ذاتها حيث تسعى الذات لمواجهة المعيش عبر الحلم الذي يمثل زمنا متخيلا يعمد من خلاله إلى خلخلة الواقع والاشتباك معه ويمنح مساحة للتأويل والانفتاح على عوالم بديلة.
وأخيرا ففي الديوان ثمة تباينات متعددة مع الأنماط الشعرية السائدة، حيث المونولوج والإنشاد وبنية الحلم والبوح الشعري ومسائلة العالم وموجوداته، بعيدا عما هو سائد من أنموذج يرتكز على السرد الحكائي تارة وبنية الحكاية داخل السرد الشعري، ولا يحفل بالشفاهية ولا المعجم السائد بل يقدم أنساقه الجمالية والمعرفية بخصوصية وإن توقف على بعد خطوة من نصوص ما بعد الحداثة حيث الثنائية بين الحلم والواقع والمتخيل والمعيش، فضلا عن التراتبية والتحولات المنطقية داخل النص حتى في انتقالاته بين الحلم والواقع، واتخذ في معماره الخارجي شكل السطر غير المكتمل الذي ينتمي إلى الشعر الحر دون اللجوء إلى تجاوز النوع الأدبي والتمرد على سلطويته، وبالرغم من هذا فالديوان يمثل إضافة إلى المنجز الشعري بما يحمله من رؤى جمالية وخطوة لشاعر عاد بعد توقف طويل بمجموعتين شعريتين في زمن قصير وننتظر منه الجديد.
أسامة الحداد . القاهرة
"لماذا وثقت في النهار الأعمى؟
ثمة خفافيش اعتقلت
تحت أجنحتها لتصنع منها وجبات
لهؤلاء الذين امتطوا صهوة جيادنا" ص 102
إن هذا المقطع من قصيدة " لمن تعطي السماء مقاودها" يدفع بنا نحو تصور البطل داخل النص ويعيدنا إلى التراجيديا وهو ما بدا واضحا عبر الديوان في نصوص عديدة مثل
" أنا هنا في مدينة حذفت من قاموسها
كل مفردات البحر والسماء والطيور والشجر
مدينة بلا تاريخ للعشاق المجانين
والمجاذيب والمطاردين والرهبان
مدينة استبدلت الماء بالنار
والمنازل بالسجون" ص 25
هل ندعم فكرة أن الإنسان يسهم على نحو ما فيما يحدث، أم نتلافى استخدام عبارة الإرادة الحرة لقد ولدنا في هذا العالم كي نفعل ونفكر ونشعر، إن مشكلة جمالية تواجهنا في الموائمة بين الشعور بحيوية الإنسان وقدراته والإحساس أن كارثة ما قد تم تدبيرها ومن هنا تبرز إشكالية الشخصية بمستوياتها المتعددة فالبطل ليس القائد ولا الملك أو الأمير، نعم إنه يبحث عن الكمال وقبلها يبحث عن وجوده الذي يبدو واضحا من العنوان عتبة النص ومكونه الأول حيث الرغبة في الوجود عبر فعل حيوي وهو القفز الذي هو لسمكة ميتة إنها لحظة فارقة في محاولة العودة إلى الحياة والتي تبدو جلية في قوله " أحتاج بشكل عاجل لصعقات من الكهرباء" ص 21
كان " أرسطو يصر على أن سقطة البطل التراجيدي تكون نتيجة خطأ في الحكم يؤدي إلى وقوع الكارثة وأعتاد النقاد تفسير ذلك باعتباره نوعا من العدالة الشاعرية، وقد أغفل هنا ما تشترك فيه الإنسانية من قدر محتوم، فمن المهم أن نشعر بالعلاقة التي تربط بين الشخصية والظروف ومن هنا يبرز البطل داخل النص في صراعه بحثا عن وجوده الذي لا يتحقق، إنه ليس جلجامش في بحثه عن عشبة الحياة ولا هاملت النبيل الذي يعانده القدر ويقع ضحية للظروف، وبالتأكيد ليس أوديب، إنه يؤكد على عاديته يعيش أزمته وصراعه مع العالم بين أحلام لا تتحقق وواقع قاس عليه أن يحيا داخله، فهو البطل الحالم الذي يؤكد من خلال النص على مركزية الحلم كمهرب ووسيلة للخلاص يصطدم نتيجته مع الواقع.
وتبدو الرومانتيكية الجديدة ملمحا داخل النص حيث الربط بين العاطفة التلقائية والإرادة الواعية يهيمن كمرتكز رئيس داخل الخطاب الشعري – وهذا ليس تحديدا يكشف عن أفق ضيق بقدر ما هو كشف لتوجه داخل الخطاب- فالعاطفة الجامحة التي تبدو من خلال الطفل الذي أحب الغزالة وسأخترع امراة لأقول لها أحبك أو
" أن تفتح النوافذ في الصباح
على زهور بيضاء
تنبت حول المقعد الذي عاد
إلى الخدمة مرة أخرى
شجرة برتقال لا تكف عن الثمار"
إن تلك العاطفة الجامحة تواجه في اللحظة ذاتها واقعا تعسا ووطنا يتعامل مع المواطن كلقيط ويركله كلما طالب بحقه، لم يجد على الأرض إلا فوهة ممتلئة بالكوابيس وقلوبا مفخخة على أبواب الحجرات، وهذه الثنائية هي ما سعى الخطاب الشعري للتأكيد عليها وشكلت حيوية وديناميكية عبر النص في تحولاته المتواصلة بين المتخيل والواقعي ويؤكد من خلاله على قابلية قصيدة النثر لاحتواء رؤى مختلفة وتوجهات متعددة، وأن الرومانتيكية التي شكلت ثورة فكرية وجمالية، واستمر تأثيرها فيما تلاها من توجهات في الفن والكتابة لا تنتهي، فالعواطف الإنسانية ممتدة ومتواصلة بأشكال متعددة مهما كبحت الإرادة جموحها.
ولعل بدايات النصوص داخل الديوان تكشف عن حالة من التنوع حيث لايلتزم بآلية محددة في بدايات القصائد، فلحظة البداية أو كسر الصمت هي لحظة الكشف والانطلاق وترتبط بنهايات النصوص فالعلائق بينهما مع تباينها علائق جوهرية وهو يبدأ بأشكال وطرائق مختلفة من شبه الجملة أو الجملة الأسمية أو الفعلية من الاستفهام أو الأمر دون أن يضع محددات للبداية أو يسعى إلى صدمة المتلقي بقدر ما يكشف عن التنوع في الأساليب اللغوية وأداءاتها من خلال التقديم والتأخير مثل "في بلادنا يعيش الشعراء"، أو الاستفهام مثل "ما جدوى أن تغرس شجرة" أو " ماذا لو وضعنا قبلة " والنفي مثل " لا أريد أن أكتب اليوم" أو " لم يعد لدي يقين" فضلا عن البداية باسم إشارة أو ضمير أو جملة أسمية أو فعلية، إنه ينطلق من أي نقطة دون إعداد مسبق، بحسب طبيعة الخطاب الذي يحمله النص.
وتشكل بنية الحلم مكونا اساسيا داخل الخطاب والحلم مكون جمالي في أساسه يحمل فضاءاته الدلالية وإشاراته داخل السرد الشعري ليس باعتباره مهربا من الواقع بقدر ما يمثل واقعا بديلا ومتقاطعا -في آن- مع ما هو كائن في اللحظة ذاتها حيث تسعى الذات لمواجهة المعيش عبر الحلم الذي يمثل زمنا متخيلا يعمد من خلاله إلى خلخلة الواقع والاشتباك معه ويمنح مساحة للتأويل والانفتاح على عوالم بديلة.
وأخيرا ففي الديوان ثمة تباينات متعددة مع الأنماط الشعرية السائدة، حيث المونولوج والإنشاد وبنية الحلم والبوح الشعري ومسائلة العالم وموجوداته، بعيدا عما هو سائد من أنموذج يرتكز على السرد الحكائي تارة وبنية الحكاية داخل السرد الشعري، ولا يحفل بالشفاهية ولا المعجم السائد بل يقدم أنساقه الجمالية والمعرفية بخصوصية وإن توقف على بعد خطوة من نصوص ما بعد الحداثة حيث الثنائية بين الحلم والواقع والمتخيل والمعيش، فضلا عن التراتبية والتحولات المنطقية داخل النص حتى في انتقالاته بين الحلم والواقع، واتخذ في معماره الخارجي شكل السطر غير المكتمل الذي ينتمي إلى الشعر الحر دون اللجوء إلى تجاوز النوع الأدبي والتمرد على سلطويته، وبالرغم من هذا فالديوان يمثل إضافة إلى المنجز الشعري بما يحمله من رؤى جمالية وخطوة لشاعر عاد بعد توقف طويل بمجموعتين شعريتين في زمن قصير وننتظر منه الجديد.
أسامة الحداد . القاهرة